عقائد الشيعة الإمامية | الشيخ المفيد | المقنعة

 

المقنعة

للشيخ المفيد

 

محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي المتوفى 413 ه‍. ق

 

 

 

كتاب القضاء والشهادات والقصاص والديات

 

أبواب القضايا والأحكام

قال الله عز وجل: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ". فحذر نبيه من الهوى، لئلا يضل به عن سبيل الله، فيستحق بذلك شديد العذاب. وقال تعالى لنبيه عليه السلام: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ". وقال تعالى آمرا الحكام المسلمين: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ". وقال تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ". وفي موضع آخر: " فأولئك هم الكافرون ". وفي موضع آخر: " فأولئك هم الظالمون ". والقضاء بين الناس درجة عالية، وشروطه صعبة شديدة. ولا ينبغي لأحد أن يتعرض له حتى يثق من نفسه بالقيام به. وليس يثق أحد بذلك من نفسه حتى يكون عاقلا، كاملا، عالما بالكتاب وناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه وندبه وإيجابه ومحكمه ومتشابهه، عارفا بالسنة وناسخها ومنسوخها، عالما باللغة، مضطلعا بمعاني كلام العرب، بصيرا بوجوه الإعراب، ورعا عن محارم الله عز وجل، زاهدا في الدنيا، متوفرا على الأعمال الصالحات، مجتنبا للذنوب والسيئات، شديد الحذر من الهوى، حريصا على التقوى. فقد روي: أنه نودي لقمان الحكيم حين هدأت العيون: ألا نجعلك يا لقمان خليفة في الأرض، تحكم بين الناس بالحق؟ فقال لقمان: يا رب إن أمرتني أفعل، و إن خيرتني اخترت العافية. قال: فنودي: يا لقمان وما عليك أن نجعلك خليفة في الأرض، تحكم بين الناس بالحق؟ فقال لقمان: يا رب إن وليت فعدلت فبالحري أن أنجو، وإن أخط طريق الحق تعرضت لسخطك، ومن ذا يا رب يتعرض لسخطك؟ ! قال: فبعث الله تعالى إليه ملكا، فغطه في الحكمة غطا. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: القضاة أربعة، ثلاثة منهم في النار، وواحد في الجنة. فسئل عليه السلام عن صفاتهم، لتقع المعرفة بهم والتمييز بينهم، قال: قاض قضى بالباطل، وهو يعلم أنه باطل، فهو في النار. وقاض قضى بالباطل، وهو لا يعلم أنه باطل، فهو أيضا في النار. وقاض قضى بالحق، وهو لا يعلم أنه حق، فهو في النار. وقاض قضى بالحق، وهو يعلم أنه حق، فهو في الجنة.

 

[ 1 ] باب أدب القاضي وما يجب أن يكون عليه من الأحوال عند القضاء

ويجب على القاضي إذا كان من الصفات بما تقدم شرحه، وأراد أن يجلس للقضاء، أن ينجز حوائجه التي يتعلق نفسه بها، ليفرغ للحكم، ولا يشغل قلبه بغيره، ثم يتوضأ وضوء الصلاة، ويلبس من ثيابه ما يتمكن من الجمال به وحسن الهيئة بلبسه، ويخرج إلى المسجد الأعظم في البلد الذي يحكم فيه، فيصلي فيه ركعتين عند دخوله، ويجلس مستدبر القبلة، لتكون وجوه الخصوم إذا وقفوا بين يديه مستقبلة القبلة، ولا يجلس وهو غضبان، ولا جائع، ولا عطشان، ولا مشغول القلب بتجارة ولا خوف ولا حزن ولا فكر في شئ من الأشياء، وليجلس وعليه هدى وسكينة ووقار. فإذا جلس تقدم إلى من يأمر كل من حضر للتحاكم أن يكتب اسمه واسم أبيه، وما يعرف به من الصفات الغالبة عليه دون الألقاب المكروهة، فإذا فعلوا ذلك، وكتبوا أسمائهم وأسماء خصومهم في الرقاع، قبض ذلك كله إليه، وخلط الرقاع، وجعلها تحت شئ يسترها به عن بصره، ثم يأخذ منها رقعة، فينظر فيها، ويدعوا باسم صاحبها وخصمه، فينظر بينهما. وإذا جلس للنظر، ودخل الخصمان عليه، فلا يبدأ أحدهما بكلام. فإن سلما، أو سلم أحدهما السواء. فإذا جلسا لم يسألهما ولا أحدهما عن شئ إلا أن يصمتا، فلا يتكلما، فيقول لهما حينئذ: إن كنتما حضرتما لشئ فاذكراه، فإن ابتدأ أحدهما بالدعوى على صاحبه سمعها، ثم أقبل على الآخر، فسأله عما عنده فيما ادعاه خصمه. فإن أقر به، ولم يرتب بعقله واختياره، ألزمه الخروج إليه منه. فإن خرج، وإلا أمر خصمه بملازمته حتى يرضيه. فإن التمس الخصم حبسه على الامتناع من أداء ما أقر به حبسه له. فإن ظهر بعد حبسه إياه أنه معدم فقير لا يرجع إلى شئ، ولا يستطيع الخروج مما أقر به، خلى سبيله، وأمره أن يتمحل حق خصمه، ويسعى في الخروج مما عليه. وإن ارتاب القاضي بكلام المقر، وشك في صحة عقله واختياره للإقرار، توقف عن الحكم عليه حتى يستبرئ حاله. وإن أنكر المدعى عليه ما ادعاه المدعي سأله: ألك بينة على دعواك؟ فإن قال: نعم، هي حاضرة، نظر في بينته. وإن قال: نعم، وليست حاضرة، قال له: أحضرها. فإن قال: نعم، أخره عن المجلس، ونظر بين غيره وبين خصمه إلى أن يحضر الأول بينته. فإن قال المدعي: لست أتمكن من إحضارها، أو قال: لا بينة لي عليه الآن، قال له: فما تريد؟ فإن قال: لا أدري، أعرض عنه. وإن قال: تأخذ لي بحقي من خصمي، قال للمنكر: أتحلف له؟ فإن قال: نعم، أقبل على صاحب الدعوى، فقال له: قف سمعت، أفتريد يمينه؟ فإن قال: لا، أقامهما، ونظر في الحكم مع غيرهما. وإن قال: نعم، أريد يمينه، رجع إليه، فوعظه، وخوفه بالله فإن أقر الخصم بدعواه ألزمه الخروج إليه من الحق. وإن حلف فرق بينهما. وإن نكل عن اليمين ألزمه الخروج إلى خصمه مما ادعاه عليه. وإن قال المنكر عند توجه اليمين عليه: يحلف هذا المدعي على صحة دعواه، وأنا أدفع إليه ما ادعاه، قال الحاكم للمدعي أتحلف على صحة دعواك؟ فإن حلف ألزم خصمه الخروج إليه مما حلف عليه. وإن أبى اليمين بطلت دعواه. فإن أقر المدعى عليه بما ادعاه خصمه، وقال: أريد أن تنظرني حتى أتمحله، قال الحاكم لخصمه: أتسمع ما يقول خصمك؟ فإن قال: نعم، قال له: فما عندك فيه؟ فإن سكت، ولم يجب بشئ، توقف عليه القاضي هنيئة، ثم قال له: فما عندك فيه؟ فإن لم يقل شيئا أقامه، ونظر في أمر غيره. وإن قال: أنظره، فذاك له. وإن أبي لم يكن للحاكم أن يشفع إليه فيه، ولا يشير عليه بإنظاره ولا غيره، ولكن يثبت الحكم فيما بينهما بما ذكرناه. وإن ظهر للحاكم أن المقر عبد أو محجور عليه لسفه أبطل إقراره. وإن كان ظهور ذلك بعد دفعه ما أقر به ألزم الآخذ له رده، وتقدم بحفظه على المحجور عليه، ويرد ذلك على مولى المقر. وإذا أقر الإنسان لإنسان بمال عند حاكم، فسأل المقر له الحاكم أن يثبت إقراره عنده، لم يجز له ذلك، إلا أن يكون عارفا بالمقر بعينه واسمه ونسبه، أو يأتي المقر له ببينة عادلة على أن الذي أقر هو فلان بن فلان بعينه واسمه ونسبه، وذلك أن الحيلة تتم فيما هذا سبيله - فيحضر نفسان قد تواطئا على انتحال اسم إنسان غائب واسم أبيه والانتساب إلى آبائه، ليقر أحدهما لصاحبه بمال ليس له أصل - فإذا أثبت الحاكم ذلك على غير بصيرة كان مخطئا، مغررا، جاهلا. وإذا ادعى الخصمان جميعا في وقت واحد فعلى الحاكم أن يسمع من الذي سبق بالدعوى صاحبه. فإن ادعيا معا فليسمع أولا من الذي هو عن يمين صاحبه، ثم ليسمع من الآخر. وإذا ادعى الخصم على خصمه شيئا، وهو ساكت، فسأله القاضي عما ادعاه الخصم عليه، فلم يجب عن ذلك بشئ، استبرأ حاله، فإن كان أصم أو أخرس عذره في السكوت، وتوصل إلى إفهامه الدعوى، ومعرفة ما عنده فيها من إقرار أو إنكار، فإن أقر بالإشارة، أو أنكر حكم عليه بذلك. وإن كان صحيحا، وإنما يتجاهل، ويعاند بالسكوت، أمر بحبسه حتى يقر، أو ينكر، إلا أن يعفو الخصم عن حقه عليه. وكذلك إن أقر بشئ، ولم يبينه، كأن يقول: " له على شئ " ولا يذكر ما هو، فليزمه الحاكم بيان ما أقر به. فإن لم يفعل حبسه حتى يبين.

 

[ 2 ] باب البينات

والبينة تقوم بالشهود إذا كانوا عدولا. والعدل من كان معروفا بالدين والورع عن محارم الله عز وجل. ولا تقبل شهادة الفاسق، ولا ذي الضغن والحسد، والعدو في الدنيا والخصم فيها، ولا تقبل شهادة المتهم، ولا الظنين. وتقبل شهادة أهل الحق على أهل البدع. ولا تقبل شهادة بدعي على محق. وإقرار العقلاء على أنفسهم بما يوجب حكما في الشريعة عليهم مقبول، وإن كانوا على ظاهر كفر أو إسلام، وهدى أو ضلال، وطاعة أو عصيان. ولا تقبل شهادتهم على غيرهم وإن كانوا من الاعتقاد على مثل ما هم عليه، أو على خلاف ذلك، إلا أن يكونوا على ظاهر الإيمان والعدالة حسب ما ذكرناه. وليس حكم الإقرار على النفس حكم الشهادة لها ولغيرها وعليها فيما يقتضيه دين الإسلام. وتقبل شهادة الوالد لولده وعليه. وتقبل شهادة الولد لوالده، ولا تقبل شهادته عليه. وتقبل شهادة الرجل لامرأته إذا كان عدلا، وشهد معه آخر من العدول، أو حلفت المرأة مع الشهادة لها في الديون والأموال. وتقبل شهادة العبيد لساداتهم إذا كانوا عدولا، وتقبل على غيرهم ولهم، ولا تقبل على ساداتهم وإن كانوا عدولا. ولا تقبل شهادة شراب الخمور ولا شئ من الأشربة المسكرة، سواء شربوها على الاستحلال بالتأويل، أو التحريم. ولا تقبل شهادة مقامر ولا لاعب نرد وشطرنج وغيره من أنواع القمار. وتقبل شهادة الأعمى إذا أثبت ولم يرتب بما شهد به. وإذا شهد الكافر على شئ في حال كفره، ثم أسلم، وتورع، قبلت شهادته التي شهدها في الكفر. وكذلك الفاسق إذا شهد على شئ، وهو فاسق، ثم تاب، وأصلح، وعرفت منه العفة، قبلت شهادته بعد توبته فيما شهد في حال فسقه. ولا تقبل في الزنا واللواط والسحق شهادة أقل للمن أربعة رجال مسلمين عدول. وتقبل في القتل والسرق وغيرهما مما يوجب القصاص والحدود شهادة رجلين عدلين من المسلمين. وتقبل شهادة امرأتين مسلمتين مستورتين فيما لا يراه الرجال، كالعذرة، وعيوب النساء، والنفاس، والحيض، والولادة، والاستهلال، والرضاع. وإذا لم يوجد على ذلك إلا شهادة امرأة واحدة مأمونة قبلت شهادتها فيه. وتقبل شهادة رجل وامرأتين في الديون والأموال خاصة. ولا تقبل شهادة النساء في النكاح، والطلاق، والحدود. ولا تقبل شهادتهن في رؤية الهلال. ويجب الحكم بشهادة الواحد مع يمين المدعي في الأموال، بذلك قضى رسول الله صلى الله عليه وآله. وتقبل شهادة رجلين من أهل الذمة على الوصية خاصة إذا لم يكن حضر الميت أحد من المسلمين، وكان الذميان من عدول قومهما. ولا تقبل شهادتهما مع وجود المسلمين. وتقبل شهادة امرأة واحدة في ربع الوصية. ولا تقبل في جميعها. وتقبل شهادة الصبيان في الشجاج والجراح إذا كانوا يعقلون ما يشهدون به، ويعرفونه. ويؤخذ بأول كلامهم، ولا يؤخذ بآخره. وإذا لم يوجد في الدم رجلان عدلان يشهدان بالقتل، وأحضر ولي المقتول خمسين رجلا من قومه، يقسمون بالله تعالى على قاتل صاحبهم، قضى بالدية عليه. فإن حضر دون الخمسين حلف ولي الدم بالله من الأيمان ما يتم بها الخمسين يمينا، وكان له الدية. فإن لم تكن له قسامة حلف هو خمسين يمينا، ووجبت له الدية. ولا تكون القسامة إلا مع التهمة للمطالب بالدم والشبهة في ذلك. والقسامة فيما دون النفس بحساب ذلك. وسأبين القول في معناه عند ذكر أحكام الديات والقصاص إن شاء الله. وليس [ يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسئل. ولا ] يجوز له كتمان الشهادة إذا سئل، إلا أن يكون شهادته تبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين الله عز وجل أو يجني جناية لا يستحقها المشهود عليه. وليس لأحد أن يدعى إلى شئ ليشهد به أو عليه فيمتنع من الإجابة إلى ذلك، إلا أن يكون حضوره يضر بالدين، أو بأحد من المسلمين ضررا لا يستحقه في الحكم، فله الامتناع من الحضور. وإذا نسي الشاهد الشهادة، أو شك فيها، لم يجز له إقامتها. وإن أحضر كتاب فيه خط يعتقد أنه خطه، ولم يذكر الشهادة، لم يشهد بذلك، إلا أن يكون معه رجل عدل يقيم الشهادة، فلا بأس أن يشهد معه. وإذا شهد نفسان على شهادة رجل عدل ثقة كانت شهادتهما جميعا بشهادة رجل واحد. ولا يجوز لأحد أن يشهد على شهادة غيره إلا أن يكون عدلا عنده مرضيا. وإذا شهد فليذكر شهادته على شهادة غيره. ولا يقول: " أشهد على فلان بكذا " من غير أن يبين كيف شهد، وعلى أي وجه كانت شهادته. وليستظهر الشاهد فيما شهد به، ويعلم أنه مسؤول عنه. وليتق الله في الشهادة بما يضر بأهل الإيمان ضررا لا يستحقونه، أو يقيم شهادة عند الظالمين والقضاة الفجرة الفاسقين.

 

[ 3 ] باب كيفية سماع القضاة البينات

وينبغي للحاكم أن يفرق بين الشهود عند شهادتهم، فيسمع قول كل واحد منهم على انفراده، ويأمر من يكتبها بحضرته، وهو ينظر في كتابه، لئلا يغلط فيها، ثم يقيم الشاهد الأول، ويحضر الثاني، فيسمع شهادته، ويكتبها كما فعل في الشهادة الأولى، ثم يقابل دعوى المدعي وشهادة الشهود بعد أن يكون قد كتب الدعوى، فإن اتفقت الشهادة والدعوى أنفذ الحكم. وإن اختلفت أبطل الشهادة. وإذا تتعتع الشاهد أو تلعثم في الشهادة لم يلقنه الحاكم شيئا، ولم يسدد كلامه. فإن استقامت شهادته بعد ذلك، وإلا أبطلها. وكذلك يصنع في الشهادة على الزنا واللواط والسرق والقذف وجميع ما يوجب الحدود: يفرق بين الشهود فيه، ويكتب شهادة كل امرء منهم على حياله بغير محضر من صاحبه، ويكون الكاتب لذلك جالسا بين يديه، وهو ينظر فيما يكتب، فإذا كتب الشهادات قابل بعضها ببعض، فإن اختلفت في المعنى أبطلها، وإن اتفقت أمضاها. وإذا شهد عند الحاكم من لا يخبر حاله، ولم يتقدم معرفته به، وكان الشاهد على ظاهر العدالة، يكتب شهادته، ثم ختم عليها، ولم ينفذ الحكم بها، حتى يستثبت أمره ويتعرف أحواله من جيرانه ومعامليه، ولا يؤخر ذلك، فإن عرف له ما يوجب جرحه، أو التوقف في شهادته، لم يمض الحكم بها، وإن لم يعرف شيئا ينافي عدالته وإيجاب الحكم بها أنفذ الحكم، ولم يتوقف. ويفرق أيضا بين الصبيان في الشهادة، فإن اتفقت شهادتهم وجب بها القصاص فيما دون النفس. ويؤخذ بقولهم الأول، ولا يؤخذ بقول رجعوا إليه عنه. والقسامة خمسون رجلا على ما قدمناه في النفس، وفيما دونها بحساب ذلك في الديات. ولا يعتبر في القسامة مما يعتبر في الشهود من العدالة والأمانة. وإذا لم يوجد خمسون رجلا في الدم وغيره من الجراح، ووجد دون عددهم، كررت عليهم الأيمان حتى تبلغ العدد. ويقسم مدعى الدم إذا لم يكن معه غيره خمسين يمينا بالله عز وجل على ما ذكرناه. وإذا تنازع نفسان في شئ، وأقام كل واحد منهما بينة على دعواه بشاهدين عدلين لا ترجيح لبعضهم على بعض بالعدالة، حكم لكل واحد من النفسين بنصف الشئ، وكان بينهما جميعا نصفين. وإن رجح بعضهم على بعض في العدالة حكم لأعدلهما شهودا. وإن كان الشئ في يد أحدهما، واستوى شهودهما في العدالة، حكم للخارج اليد منه، ونزعت يد المتشبث به منه. وإن كان لأحدهما شهود أكثر عددا من شهود صاحبه مع تساويهم في العدالة حكم لأكثرهما شهودا مع يمينه بالله عز وجل على دعواه.

 

[ 4 ] باب الأيمان وكيف يستحلف بها الحكام

و ينبغي للحاكم أن يخوف الخصم عند استحلافه بالله تعالى، ويذكره عقاب اليمين الكاذبة، والوعيد عليها من الله تعالى فإن أقام على الإنكار واليمين استحلفه بالله، فقال له: قل: " والله العظيم، الطالب، الغالب، الضار، النافع، المهلك، المدرك، الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية، ما لهذا المدعي على ما ادعاه، وما له قبلي حق بدعواه ". وإن اقتصر على استحلافه بالله عز وجل، ولم يؤكدها بشئ مما ذكرناه من أسماء الله تعالى جاز، وذلك على حسب الحالف، وما يراه الحاكم في التغليظ والتشديد عليه، والتسهيل إن شاء الله. ولا يستحلف أحد بالطلاق، ولا بالعتاق، ولا بالبراءة من الله ورسوله والأئمة عليهم السلام. ولا يستحلف بغير أسماء الله عز وجل. ويستحلف أهل الكتاب بما يرون في دينهم الاستحلاف به من أسماء الله تعالى ويغلظ عليهم ذلك. ويدبر أمرهم في الأيمان بحسب أحوالهم في الخوف من اليمين والجرأة عليها إن شاء الله. ويستحب للحاكم أن يستحلف في المواضع المعظمة كالقبلة وعند المنبر، ويرهب من الجرأة على اليمين بالله تعالى ما استطاع. واستحلاف الأخرس بالإشارة والإيماء إلى أسماء الله عز وجل. وتوضع يده على اسم الله في المصحف. وتعرف يمينه على الإنكار، كما يعرف إقراره بما يقر به وإنكاره إياه. فإن لم يكن في الوقت مصحف موجود كتب له في شئ أسماء الله تعالى، ووضعت يده في الاستحلاف عليها. ويحضر يمينه من يعرف عادته في فهم ما يفهم من الأشياء، ليؤكد عليه اليمين بالإشارة التي قد اعتاد بها فهم المراد. وإذا توجه على النساء يمين استحلفهن الحاكم في مجلس القضاء، وعظم عليهن الأيمان. فإن كانت المرأة ممن لم تجر لها عادة بالخروج عن منزلها إلى مجمع الرجال، أو كانت مريضة، أو بها زمانة تمنعها من الخروج إلى مجلس القضاء، أنفذ الحاكم إليها من ينظر بينها وبين خصمها من ثقات عدوله، فإن توجه عليها يمين استحلفها في منزلها، ولم يكلفها الخروج منه إلى ما سواه. ولا يرخص لأحد في التخلف عن مجلس الحكم إذا كان له خصم يلتمس ذلك، إلا أن يكون عاجزا عن الخروج بمرض لا يستطيع معه الحركة. وللحاكم أن ينفذ إليه من ينظر بينه وبين خصمه في مكانه إذ ذاك

 

[ 5 ] باب قيام البينة على الحالف بعد اليمين، أو إقراره بما أنكره بعدها

وإذا التمس المدعي يمين المنكر فحلف له، وافترقا، وجاء بعد ذلك ببينة تشهد له بحقه الذي حلف له عليه خصمه، ألزمه الحاكم الخروج منه إليه، اللهم إلا أن يكون المدعي قد اشترط للمدعى عليه أن يمحو عنه كتابه عليه، أو يرضى يمينه في إسقاط دعواه، فإن اشترط له ذلك لم تسمع بينته من بعد، وإن لم يشترط له ذلك سمعت على ما ذكرناه. وإن اعترف المنكر بعد يمينه بالدعوى عليه، وندم على إنكاره، لزمه الحق، والخروج منه إلى خصمه. فإن لم يخرج إليه منه كان له حبسه عليه. فإن ذكر إعسارا وضرورة، وأنه حلف خوفا من الحبس، ثم خاف الله عز وجل من بعد كشف الحاكم عنه، فإن كان على ما ادعاه لم يحبسه، وأنظره. وإن لم يعلم صحة دعواه في الإعسار كان له حبسه حتى يرضى خصمه. ولو ابتدأ المنكر باليمين قبل استحلاف الحاكم له كان متكلفا، ولم يبره ذلك من الدعوى. وإذا بعدت بينة المدعي كان له تكفيل المدعى عليه إلى أن يحضر بينته. ولم يكن له حبسه ولا ملازمته. وليس له تكفيل المدعى عليه ما لم يجعل لحضور بينته أجلا معلوما. ولا تكون الكفالة إلا بأجل معلوم.

 

[ 6 ] باب القضاء في الديات والقصاص

قال الله عز وجل: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ". فجعل سبحانه لولي المقتول القود بالقتل، ونهاه عن الإسراف فيه. والقتل على ثلاثة أضرب: فضرب منه العمد المحض، وهو الذي فيه القود. والضرب الثاني الخطأ المحض، وفيه الدية، وليس فيه قود، قال الله عز وجل: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ". والضرب الثالث خطأ شبيه العمد، وفيه الدية مغلظة، وليس فيه قود أيضا. فأما العمد المحض فهو القتل بالحديد في المقتل الذي قد جرت العادة بتلف النفس به والضرب أيضا بما يتلف النفس معه على العادة والأغلب عليها، كضرب الإنسان بالسياط على المقاتل منه، أو إدامة ضربه حتى يموت، أو شدخ رأسه بحجر كبير، أو وكزه باليد في قلبه، أو خنقه، وما أشبه ذلك. والخطأ المحض أن يرمي الإنسان صيدا فيصيب إنسانا لم يرده، أو يرمي عدوا له فيصيب غيره، أو يرمي غرضا فيصيب إنسانا وهو لم يرد ذلك. والخطأ شبيه العمد ضرب الرجل عبده للتأديب في غير مقتل ضربا يسيرا فيموت لذلك، ولن يموت أحد بمثله في أغلب العادات، أو يتعدى إنسان على غيره بضرب يسير في غير مقتل فيموت، وكعلاج الطبيب للإنسان بما جرت العادة بالنفع به فيموت لذلك، أو يفصده فيوافق ذلك نزف دمه، وهو لم يقصد إلى إتلافه، بل قصد على حكم العادة إلى نفعه، وما أشبه ذلك. فأما قتل العمد ففيه القود على ما قدمناه إن اختار ذلك أولياء المقتول. وإن اختاروا العفو فذلك لهم. وإن اختاروا الدية فهي مائة من مسان الإبل إن كان القاتل من أصحاب الإبل، أو ألف من الغنم إن كان من أصحاب الغنم، أو مأتا بقرة إن كان من أصحاب البقر، أو مأتا حلة إن كان من أصحاب الحلل، أو ألف دينار إن كان من أصحاب العين، أو عشرة آلاف درهم فضة إن كان من أصحاب الورق. وتستأدى منه في سنة لا أكثر من ذلك. وليس لهم الدية ما بذل لهم القاتل من نفسه القود. وإنما لهم ذلك إن اختاره القاتل، وافتدى به نفسه. وفي الخطأ المحض الدية، وهي مائة من الإبل: منها ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون ابن لبون ذكر. وتؤخذ من عاقلة القاتل، وهم عصبته الرجال دون النساء. ولا يؤخذ من إخوته لأمه منها شئ، ولا من أخواله، لأنه لو قتل، وأخذت ديته، ما استحق إخوته وأخواله منها شيئا، فلذلك لم يكن عليهم منها شئ. وتستأدى دية قتل الخطأ في ثلاث سنين. وليس في قتل الخطأ قود. وفي الخطأ شبيه العمد مائة من الإبل: منها ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية، كلها طروقة الفحل. ويؤخذ من أصحاب الغنم ألف كأسنان ما ذكرناه من الإبل. وإن أخذ في دية الخطأ البقر من أصحابها كانت من الأسنان على صفة ما قدمنا ذكره من الإبل. وكذلك في دية الخطأ شبيه العمد. ويكون البقر كأسنان الإبل فيه. ويؤخذ من أصحاب الذهب ألف دينار لا يختلف. ومن أصحاب الفضة عشرة آلاف درهم جيادا لا يختلف الحكم في ذلك، سواء كان القتل خطأ، أو عمدا، أو خطأ شبيه عمد، وبذلك ثبتت السنة عن نبي الهدى عليه السلام. وتستأدى دية الخطأ المشبه للعمد في سنتين. ولا قود أيضا في هذا الضرب من القتل وإنما هو في العمد المحض على ما ذكرناه.

 

[ 7 ] باب البينات على القتل

ولا تقوم البينة بالقتل إلا بشاهدين مسلمين عدلين، أو بقسامة. وهي خمسون رجلا من أولياء المقتول، يحلف كل واحد منهم بالله، يمينا، أنه قتل صاحبهم. ولا تصح القسامة إلا مع التهمة للمدعى عليه. فإن لم تكن قسامة على ما ذكرناها أقسم أولياء المقتول خمسين يمينا، ووجبت لهم الدية بعد ذلك. وإذا قامت البينة على رجل بأنه قتل رجلا مسلما عمدا، واختار أولياء المقتول القود بصاحبهم، تولى السلطان القود منه بالقتل له بالسيف دون غيره. ولو أن رجلا قتل رجلا بالضرب حتى مات، أو شدخ رأسه، أو خنقه، أو طعنه بالرمح، أو رماه بالسهام حتى مات، أو حرقه بالنار، أو غرقه في الماء. وأشباه ذلك، لم يجز أن يقاد منه إلا بضرب عنقه بالسيف دون ما سواه. ولا يعذب أحد في قود وإن عذب المقتول على ما بيناه. وإن لم يكن لأولياء المقتول بينة على دعواهم بشاهدي عدل، ووجد المدعى عليه رجلين مسلمين عدلين يشهدان له بما ينفي عنه الدعوى، لم تسمع منهم قسامة، وبرئ المدعى عليه من الدم بشاهديه اللذين شهدا له بالبراءة منه، كأنهما شهدا بأنه كان غائبا عن المصر في وقت قتل الرجل، أو محبوسا، أو كانا معه في عبادة الله تعالى، أو شغل يمنعه من القتل في الوقت الذي ادعى عليه ذلك فيه. وإذا قامت البينة على الإنسان بأنه قتل خطأ ألزمت عاقلته الدية على ما بيناه. وترجع العاقلة على القاتل، فإن كان له مال أخذت منه ما أدته عنه، وإن لم يكن له مال فلا شئ لها عليه. ويجب على قاتل الخطأ بعد الدية الكفارة. وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يستطع أن يعتق رقبة فليصم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا إن شاء الله. وإذا تكافأت البينات في القتل، فشهد رجلان مسلمان عدلان على إنسان بأنه تولى قتل شخص بعينه، وشهد آخران عدلان على أن المتولي لقتله شخص غير ذلك، بطل القود في هذا المكان، وكان دية المقتول على النفسين اللذين اختلف الشهود فيهما بالسوية. وقضى الحسن بن علي عليهما السلام في حياة أمير المؤمنين عليه السلام في رجل اتهم بالقتل، فاعترف به، وجاء آخر فنفى عنه ما اعترف به من القتل، وأضافه إلى نفسه، وأقر به، فرجع المقر الأول عن إقراره، بأن يبطل القود فيهما و الدية، وتكون دية المقتول من بيت مال المسلمين. وقال: إن يكن الذي أقر ثانيا قد قتل نفسا فقد أحيى بإقراره نفسا، و الإشكال واقع، فالدية على بيت المال. فبلغ أمير المؤمنين عليه السلام ذلك، فصوبه، وأمضى الحكم فيه.

 

[ 8 ] باب القضاء في اختلاف الأولياء

وإذا كان للمقتول عمدا وليان، فاختار أحدهما الدية، واختار الآخر القود، كان للذي اختار القود أن يقتل القاتل، ويسلم إلى الولي الآخر نصف الدية من ماله، فإن اختار أحدهما القتل، وعفى الآخر، كان له أن يقتل، وعليه أن يؤدي إلى ورثة المقاد منه نصف الدية. فإن لم يؤد ذلك لم يكن له القتل مع عفو صاحبه. وكذلك إن اختار أحدهما الدية، واختار الآخر العفو، كان على القاتل أن يؤدي نصف الدية خاصة، وقد سقط عنه النصف الآخر بعفو الولي الثاني على ما بيناه. وإن كان للميت أولياء، بعضهم صغار، وبعضهم كبار، فعفى الكبار، كان للصغار إذا بلغوا مطالبتهم بأقساطهم من الدية، إلا أن يختاروا العفو، كما اختاره الكبار

 

[ 9 ] باب القود بين النساء والرجال والمسلمين والكفار، والعبيد والأحرار

وإذا قتل الرجل المرأة عمدا، فاختار أوليائها الدية، كان على القاتل إن رضي بذلك أن يؤدي إليهم خمسين من الإبل إن كان من أربابها، أو خمسمأة من الغنم، أو مأة من البقر، أو الحلل، أو خمسمأة دينار، أو خمسة آلاف درهم جيادا، لأن دية الأنثى على النصف من دية الذكر، وإن اختاروا القود كان لهم ذلك على أن يؤدوا إلى ورثة المستقاد منه نصف الدية فإن لم يفعلوا ذلك لم يكن لهم القود. وإذا قتلت المرأة الرجل فاختار أولياؤه الدية، وأجابت المرأة إلى ذلك حقنا لدمها، كان عليها أن تدفع إليهم ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم من الورق، أو مأة من الإبل - على ما شرحناه - وإن اختاروا القود كان لهم قتلها، وليس لهم أكثر من نفسها. وإذا قتل المسلم الذمي لم يكن لأوليائه القود، وكان لهم الدية. ودية الذمي ثمانمأة درهم جيادا، أو عدلها من العين. فإن كان المسلم معتادا لقتل أهل الذمة جريئا على ذلك، والتمس أولياء الذمي قتله، قتله الإمام، ورجع عليهم، فأخذ منهم ما بين دية المسلم والذمي. فإن لم يدفعوا ذلك أو يضمنوه لم يكن لهم القود منه. وللسلطان أن يعاقب من قتل ذميا عمدا عقوبة تنهكه، ويأخذ الدية من ماله، فيدفعها إلى أولياء المقتول على ما شرحناه. ودية نساء أهل الذمة على النصف من ديات رجالهم، كما أن ديات نساء المسلمين على النصف من ديات رجالهم. وإذا خرج الذمي من الذمة بتظاهره بين المسلمين بشرب الخمور، وارتكاب الفجور، أو الاستخفاف بالإسلام، أو بأحد من أهل الملة، فقد خرج عن الذمة، وحل للسلطان العادل دمه. وليس للرعية ولا لسلطان الجور ذلك. وإذا قتل الذمي المسلم عمدا دفع برمته إلى أولياء المقتول، فإن اختاروا قتله كان السلطان يتولى ذلك منه. وإن اختاروا استعباده كان رقا لهم. وإن كان له مال فهو لهم، كما يكون مال العبد لسيده. وإذا قتل الحر العبد لم يكن لمولاه القود، وكان له على القاتل الدية. وهي قيمة العبد ما لم تتجاوز دية الرجل المسلم. فإن تجاوزت ذلك ردت إلى الدية. وعلى السلطان أن يعاقب قاتل العبد عقوبة تؤلمه، لينزجر عن مثل ما أتاه، ولا يعود إليه. فإن اختلف في قيمة العبد وقت قتله كانت البينة على سيده فيما يدعيه من ذلك. فإن لم تكن له بينة كانت اليمين على القاتل المنكر لدعوى السيد. وإن رد القاتل اليمين على السيد فيما يدعيه فحلف قامت يمينه مقام البينة له. وإن قتل العبد الحر كان على مولاه أن يسلمه برمته إلى أولياء المقتول. فإن شاؤوا استرقوه، وإن شاؤوا قتلوه. ومتى اختاروا قتله كان السلطان هو المتولي لذلك دونهم، إلا أن يأذن لهم فيه، فيقتلونه بالسيف من غير تعذيب ولا مثلة على ما قدمناه. وإن أرضى سيد العبد أولياء المقتول بديته، أو افتدى عبده منهم بدونها أو فوقها، جاز على حسب ما يصطلحون عليه من ذلك، كائنا ما كان. ودية الإماء قيمتهن، ولا يتجاوز بها ديات الأحرار من النساء.

 

[ 10 ] باب القضاء في قتيل الزحام، ومن لا يعرف قاتله ومن لا دية له، ومن ليس لقاتله عاقلة ولا له مال تؤدى منه الدية

وقتيل الزحام في أبواب الجوامع، وعلى القناطر والجسور، والأسواق، وعلى الحجر الأسود، وفي الكعبة، وزيارات قبور الأئمة عليهم السلام لا قود له. ويجب أن تدفع الدية إلى أوليائه من بيت مال المسلمين. وإن لم يكن له ولي يأخذ ديته فلا دية له على بيت المال. ومن وجد قتيلا في أرض بين قريتين، ولم يعرف قاتله، كانت ديته على أهل أقرب القريتين من الموضع الذي وجد فيه. فإن كان الموضع وسطا ليس يقرب إلى إحدى القريتين إلا كما يقرب من الأخرى كانت ديته على أهل القريتين بالسوية. وإذا وجد قتيل في قبيلة قوم، أو دارهم، ولم يعرف له قاتل بعينه، كانت ديته على أهل القبيلة، أو الدار، دون من بعد منهم، إلا أن يعفو أولياؤه عن الدية، فتسقط عن القوم. وإذا وجد قتيل في مواضع متفرقة قد فرق جسده فيها، ولم يعرف قاتله، كانت ديته على أهل الموضع الذي وجد قلبه وصدره فيه، إلا أن يتهم أولياء المقتول أهل موضع آخر، فتكون الشبهة فيهم قائمة، فيقسم على ذلك، ويكون الحكم في القسامة ما ذكرناه. وإذا دخل صبي دار قوم للعب مع صبيانهم، فوقع في بئر، فمات، كانت ديته على أصحاب الدار إن كانوا متهمين بعداوة لأهله، أو بسبب يحملهم على رميه في البئر. فإن لم يكونوا متهمين لم يكن له دية عليهم ولا على غيرهم. ومن هجم على قوم في دارهم، فرموه بحجر، ليخرج عنهم، أو طردوه، فلم يخرج، فضربوه بعمود، أو سوط، ليخرج عنهم، فمات من ذلك، لم يكن له دية عليهم. وكذلك من اطلع على قوم، لينظر عوراتهم، فزجروه، فلم ينزجر، فرموه، فانقلعت عينه، أو مات من الرمية، لم يكن له دية ولا قصاص. وكل من تعدى على قوم، فدفعوه عن أنفسهم، فمات من ذلك، لم يكن له عليهم دية ولا قصاص. ومن سقط من علو على غيره، فمات الأسفل، لم يكن على الأعلى ديته. وكذلك إن ماتا، أو أحدهما. فإن كان الأعلى سقط بإفزاع غيره له، أو بسبب من سواه، كانت دية المقتول على المفزع له، والمسبب لفعله الذي كان به تلف الهالك. ومن غشيته دابة، فخاف منها، فزجرها، فألقت راكبها، فجرحته، أو قتلته، لم يكن عليه في ذلك ضمان. ومن كان يرمي غرضا، فمر به إنسان، فحذره، فلم يحذر، فأصابه السهم، فمات منه، لم يكن عليه في ذلك تبعة ولا ضمان. ومن جلده إمام المسلمين حدا في حق من حقوق الله عز وجل، فمات، لم يكن له دية. فإن جلده حدا، أو أدبا في حقوق الناس، فمات، كان ضامنا لديته. ومن قتله القصاص من غير تعد فيه فلا دية له. ومن سب رسول الله صلى الله عليه وآله، أو أحدا من الأئمة عليهم السلام فهو مرتد عن الإسلام، ودمه هدر، يتولى ذلك منه إمام المسلمين. فإن سمعه منه غير الإمام، فبدر إلى قتله، غضبا لله، لم يكن عليه قود ولا دية، لاستحقاقه القتل - على ما ذكرناه - لكنه يكون مخطئا بتقدمه على السلطان. ومن قتل خطأ، ولم تكن له عاقلة تؤدي عنه الدية، أداها هو من ماله. فإن لم يكن له مال ولا حيلة فيه أداها عنه السلطان من بيت المال. وإذا لم يكن لقاتل العمد مال لم يكن لأولياء المقتول الدية، وكانوا مخيرين بين القود والعفو. ومن قتل ولا ولي له إلا السلطان كان له أن يقتل قاتله به، أو يأخذ منه الدية، ولم يكن له العفو عن الأمرين جميعا. وكذلك ليس له العفو عن دية قتل الخطأ إذا لم يكن للمقتول أولياء.

 

[ 11 ] باب القاتل في الحرم، وفي الشهر الحرام

ومن قتل في الحرم فديته دية كاملة وثلث، لانتهاك حرمته في الحرم. وكذلك المقتول في الأشهر الحرم - وهن رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم - يجب على القاتل فيها دية كاملة وثلث، لحرمة الشهر الحرام. ومن قتل على العمد في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم، لم يقتل فيه، لكن يمنع الطعام والشراب، ولا يكلم، ولا يبايع، ولا يشارى، حتى يخرج من الحرم، فيقام فيه حد الله عز وجل، ويقاد منه كما صنع. وكذلك كل من جنى جناية يجب عليه بها حد، فلجأ إلى الحرام، لم يؤخذ فيه، لكن يضيق عليه بما وصفناه، حتى يخرج من الحرم، فيقام فيه الحد. فإن قتل في الحرم، أو جنى في الحرم، قتل فيه، وأقيم عليه الحد فيه، لأنه انتهك حرمة الحرم، فعوقب بجنايته فيه. ومن جنى ما يستحق عليه عقابا، فلجأ إلى مشهد من مشاهد أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام، صنع به كما يصنع بمن يلجأ إلى الحرم، مستعصما من إقامة الحدود عليه. فإن كانت الجناية منه في المشهد أقيم عليه حد الله عز وجل فيه، لأنه انتهك حرمته، ولم يعرف حقها.

 

[ 12 ] باب المقتول إذا اختلف الإقرار في قتله، والاثنين إذا قتلا واحدا والثلاثة يشتركون في القتل بالإمساك والرؤية والقتل، والواحد يقتل الاثنين

وإذا وجد مقتول فاعترف إنسان أنه قتله عمدا، واعترف آخر أنه قتله خطأ، فولى المقتول بالخيار: إن شاء طالب المقر بالعمد، وإن شاء طالب المقر بقتل الخطأ، وليس له مطالبتهما جميعا. وإذا اشترك اثنان في قتل نفس على العمد كان أولياء المقتول مخيرين بين أن يقتلوا الاثنين، ويؤدوا إلى ورثتهما دية كاملة يقتسمونها بينهم نصفين، أو يقتلوا واحدا منهما، ويؤدي الباقي إلى ورثة صاحبه نصف الدية. وكذلك القول في الثلاثة إذا قتلوا الواحد، وأكثر من ذلك، إن اختار أولياء المقتول قتل الجميع قتلوهم، وأدوا فضل الديات على دية صاحبهم إلى ورثة الجميع. وإن اختاروا قتل واحد منهم قتلوه، وأدى الباقون إلى ورثة صاحبهم بحساب أقساطهم من الدية. وإن اختار أولياء المقتول أخذ الدية كانت على القاتلين بحسب عددهم: إن كانوا اثنين فهي عليهما نصفان. وإن كانوا ثلاثة فهي عليهم أثلاث. وإن كانوا أربعة فهي عليهم أرباع. ثم على هذا الحساب بالغا ما بلغ عددهم. وإذا قتل واحد منهم بالمقتول أدى الباقون إلى ورثته ما كان يجب عليهم لو طولبوا بحساب قسط كل واحد منهم على ما ذكرناه. وإذا اجتمع ثلاثة نفر على إنسان، فأمسكه واحد منهم، وتولى الآخر قتله، وكان الثالث عينا لهم ينذرهم ممن يصير إليهم أو يراهم، قتل القاتل به، وخلد الممسك له الحبس حتى يموت بعد أن ينهك بالعقوبة، وتسهل عين الثالث. وإذا قتل الواحد اثنين أو أكثر من ذلك، وكان له مال، فاختار أولياء المقتولين الديات، كان عليه ديات الجماعة. وإن لم يكن له مال فليس لهم إلا نفسه. وإذا قتل كان مستقادا بجميع من قتل، ولم يكن لأولياء المقتولين رجوع على ورثته بشئ. وإذا اشترك اثنان في رمي غرض، فأصابا مسلما خطأ، كانت الدية على عاقلتهما جميعا نصفين. وعلى كل واحد منهما الكفارة على الكمال. وهي عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين - كما ذكره الله عز وجل - فمن لم يستطع الصيام تصدق على ستين مسكينا، لكل مسكين بمد من طعام، بما ثبت من السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله. وكفارة قتل العمد - إذا أدى القاتل الدية - عتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين، وإطعام ستين مسكينا على الاجتماع. فإن لم يجد هذه الثلاث كفارات كان عليه منها واحدة ما وجد، والباقي في ذمته إلى أن يموت، أو يقدر عليه إن شاء الله.

 

[ 13 ] باب ضمان النفوس

ومن أخرج إنسانا من منزله ليلا إلى غيره فهو ضامن لنفسه إلى أن يرده إليه، أو يرجع هو بعد خروجه. فإن لم يرجع، ولم يعرف له خبر، كان ضامنا لديته. فإن وجد مقتولا كان لأوليائه القود منه، إلا أن يفتدي نفسه بالدية، ويختار القوم قبولها منه. وإن وجد ميتا، فادعى أنه مات حتف أنفه، لزمته الدية دون القود. فإن ادعى أن إنسانا عرض له، فقتله، طولب بإحضار القاتل، وإقامة البينة عليه. فإن فعل ذلك برئ من دمه، وإن لم يفعل قيد به، ولم يلتفت إلى دعواه. وقد قيل: إنه إذا أنكر القتل، ولم تقم به بينة عليه، لم يقتل به، لكنه يضمن الدية. وهذا أحوط في الحكم إن شاء الله. ومن ائتمن على صبي له ظئرا، أو غيرها، فسلمه المؤتمن إلى غيره، فلم يعرف له خبر، كان ضامنا لديته. فإن وجد مقتولا، وعرف قاتله قيد به. وإن لم يعرف كانت الظئر ضامنة لديته، أو غيرها ممن سلم إليه إن كان مؤتمنا عليه. وإذا سلم الإنسان صبيا إلى ظئر لترضعه، فغابت به دهرا، ثم جاءت بصبي لم يعرفه أبواه، وقالت لهما هذا ابنكما، فعليهما تصديقها، لأنها مؤتمنة، اللهم إلا أن تأتي بمن يعلمان أنه ليس بولدهما، فلا يجب قبول قولها، وتضمن الدية حتى تأتي به بعينه، أو بمن يشكل الأمر فيه، وتزعم أنه ولد القوم، فحينئذ تبرأ من الضمان على ما ذكرناه. وإذا نام الصبي إلى جنب الظئر، فانقلبت عليه في النوم، فقتلته، لم يجب عليها بذلك القود، وكانت ضامنة لديته. وكذلك من انقلب في منامه على طفل، فقتله على غير تعمد، لم يقد به، لكنه يفديه بالدية المغلظة حسب ما بيناه. والرجل إذا أعنف على امرأته، فماتت من ذلك، كان عليه ديتها مغلظة، ولم يقد بها. وإن أعنفت هي على زوجها، فضمته إليها، ونحو ذلك من الفعل الذي لا يقصد به فاعله إلى إتلاف النفس، فمات الزوج من ذلك، كان عليها ديته مغلظة، ولم يكن عليها القود. والرجل إذا جامع الصبية، ولها دون تسع سنين، فأفضاها، كان عليه دية نفسها، والقيام بها حتى يفرق الموت بينهما. ومن ركب دابة، فأصابت يدها إنسانا، فمات من ذلك، كان ضامنا لديته. فإن رمحته برجلها لم يكن عليه ضمان، إلا أن يكون ضربها، فرمحت، فيضمن ما جنته حينئذ. وإذا جرحت بيدها إنسانا، أو كسرت له عظما، أو هشمته، ضمن راكبها دية ذلك. فإن أصابته برجلها من غير أن يكون ضربها لم يلزمه شئ. وحكم البعير، والحمار، والبقرة، وكل ما يركب من الدواب هذا الحكم. ومن هجمت دابته على دابة غيره في مأمنها، فقتلتها، أو جرحتها، كان صاحبها ضامنا لذلك. وإن دخلت عليها الدابة إلى مأمنها، فأصابتها بسوء، لم يضمن صاحبها ذلك. والبعير إذا اغتلم وجب على صاحبه حبسه وحفظه. فإن لم يفعل ذلك، أو فرط فيه، فتعدى ضرره إلى أحد، ضمن صاحبه جنايته. ومن نفر براكب، فعقرت الدابة راكبها، أو جنت على غيره، كان ضامنا لجنايتها. والمجنون إذا قتل فهو على ضربين: إن كان المقتول تعرض له بأذى فقتله المجنون فدمه هدر. وإن لم يكن تعرض له كانت الدية على عاقلته. فإن لم تكن له عاقلة كانت الدية على بيت المال. ولا يقاد المجنون بأحد، ولا يقتص منه. وإن قتل عاقل مجنونا عمدا كانت عليه الدية في ماله. ولا يقاد العاقل بالمجنون، وإن قتله خطأ فديته على عاقلته - حسب ما قدمناه - وعليه الكفارة، كما بيناه. والصبي إذا قتل كانت الدية على عاقلته، لأن خطأه وعمده سواء. فإذا بلغ الصبي خمسة أشبار اقتص منه. ومن أحرق دار قوم، فهلك فيها مال وأنفس، كان عليه القود بمن قتله، وغرم ما أهلكته النار من متاع القوم. فإن لم يتعمد الإحراق، لكنه أضرم نارا لحاجة له، فتعدت النار إلى إحراق الدار ومن فيها، كان عليه دية الأنفس على التغليظ، وغرم ما هلك بالنار من المتاع، اللهم إلا أن يكون إضرامه النار، في مكان له التصرف فيه نحو ملك، أو إجارة، فتعدت النار إلى ملك قوم، فأصابتهم مضرتها، فلا ضمان عليه. ومن أحدث في طريق المسلمين شيئا لحق أحدا منهم به ضرر كان ضامنا لجناية ذلك عليه. فإن أحدث فيه ما أباحه الله تعالى إياه، وجعله وغيره من الناس فيه سواء، فلا ضمان عليه، لأنه لم يتعد واجبا بذلك.

 

[ 14 ] باب قتل السيد عبده، والوالد ولده

وإذا قتل السيد عبده خطأ كان عليه الكفارة - كما تكون عليه إذا قتل الحر - ولا دية عليه له. وإذا قتله عمدا عاقبه السلطان، وأغرمه ثمنه، وتصدق به على المساكين. وكان على السيد كفارة صنيعه عتق رقبة مؤمنة. وإن أضاف إليه صيام شهرين متتابعين، و إطعام ستين مسكينا، فهو أفضل، وأحوط له في كفارة ذنبه إن شاء الله. والأب إذا قتل ولده خطأ كانت ديته عليه في ماله، يقاصص منها بحق ميراثه منه، والباقي لوارثه سوى الإخوة من الأم والأخوال - على ما قدمناه - وعليه الكفارة في قتله - كما وصفناه - وإذا قتله عمدا عاقبه السلطان عقوبة موجعة وألزمه الدية على الكمال لورثته سوى الأب القاتل على ما شرحناه. وإذا قتل الابن أباه عمدا قتل به، وهو صاغر. وتقتل الأم بابنها إذا قتلته عمدا، ويقتل بها إذا قتلها عمدا. وعلى كل واحد منهما في قتل صاحبه خطأ من الحكم ما قدمنا ذكره، ووصفناه.

 

[ 15 ] باب الاشتراك في الجنايات

وإذا وقف جماعة على نهر، أو بئر، أو أشرفوا من علو، فوقع أحدهم، فتشبث بالذي يليه، وتعلق الذي يليه بمن يليه، كان الحكم فيهم ما قضى به أمير المؤمنين صلوات الله عليه في الذين سقطوا في زبية الأسد، وكانوا أربعة نفر، سقط أحدهم، فتعلق بالثاني، وتعلق الثاني بالثالث، وتعلق الثالث بالرابع، فهلكوا جميعا، فقضى عليه السلام أن الأول فريسة الأسد، وعليه ثلث الدية للثاني، وعلى الثاني ثلثا الدية للثالث، وعلى الثالث الدية كاملة للرابع. وقضى عليه السلام في جارية ركبت عنق أخرى، فجاءت جارية ثالثة، فقرصت المركوبة، فقمصت لذلك، فوقعت الراكبة، فاندق عنقها، فألزم القارصة ثلث الدية، والقامصة ثلثها الآخر، وأسقط الثلث الباقي، لركوب الواقصة عبثا للقامصة. وقضى عليه السلام - في ستة نفر كانوا يسبحون في الفرات، فغرق واحد منهم، فشهد ثلاثة على اثنين بأنهما غرقاه، وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه - أن على الاثنين ثلاثة أخماس ديته، وعلى الثلاثة خمسي الدية. وقضى عليه السلام - في أربعة نفر شربوا المسكر، فتباعجوا بالسكاكين، فمات اثنان، وجرح اثنان - أن على المجروحين دية المقتولين يقاصصان بأرش الجراح منها.

 

[ 16 ] باب اشتراك الأحرار والعبيد، والنساء والرجال والخناثى والصبيان والمجانين في القتل

وإذا اشترك الحر والعبد في قتل حر على العمد دون الخطأ كان أولياء المقتول مخيرين بين أن يقتلوهما جميعا بصاحبهم، ويؤدوا إلى سيد العبد قيمته، أو يقتلوا الحر، ويؤدي سيد العبد إلى ورثته خمسة آلاف درهم، أو يسلم إليهم عبده، فيكون رقا لهم، أو يقتلوا العبد بصاحبهم خاصة، فذلك لهم، وليس لسيد العبد على الحر سبيل. فإن رضوا بالدية واصطلحوا عليها كان على الحر النصف منها، وعلى سيد العبد النصف الآخر، أو تسليم عبده إليهم يكون رقا لهم. وإن قتلت امرأة وعبد رجلا حرا على العمد فلأولياء الحر قتلهما جميعا إن أحبوا ذلك، ويردون على سيد العبد فضل قمية عبده إن كانت أكثر من خمسة آلاف درهم وإن كانت خمسة آلاف درهم، أو أقل من ذلك، لم يرجعوا عليه بشئ. وإن قتل العبد والمدبر رجلا حرا خطأ فديته على سيديهما. وإن لم يدياه دفع العبد والمدبر إلى أولياء المقتول، فاسترقوا العبد، واستخدموا المدبر حتى يموت سيده الذي دبره، فإذا مات سيده خرج عن الرق إلى الحرية، ولم يكن لأحد عليه سبيل. وإذا قتل المكاتب الحر خطأ فهو على ضربين: إن كان اشترط عليه مولاه - حين كاتبه - أنه إن عجز كان ردا في الرق، فعليه أن يدي المقتول، أو يسلم العبد المكاتب إلى أولياءه، ليسترقوه، أو يبيعوه إن اختاروا ذلك. وإن لم يكن اشترط عليه ما ذكرناه كان على الإمام أن يودي عنه بقدر ما عتق منه بحساب أداءه من مكاتبته، ويستخدمه أولياء المقتول، في باقي ما عليه حتى يوفيه، أو يموت قبل ذلك. وإذا قتل المدبر و المكاتب حرا عمدا كان عليهما القود، كما يكون على الحر إذا قتل. وإذا اجتمع رجل وامرأة على قتل رجل حر عمدا كان لأولياء الحر قتلهما جميعا، ويؤدون إلى ورثتهما خمسة آلاف درهم، يقتسمونها على ثلاثة أسهم: لورثة الرجل الثلثان، ولورثة المرأة الثلث. فإن كان معهما خنثى لم يبن أمره، ولا يعلم أذكر هو أم أنثى، كان لهم قتل الثلاثة، وعليهم أن يؤدوا اثني عشر ألف درهم وخمسمائة درهم إلى ورثتهم جميعا، تقسم بينهم - على حساب ما تقدم ذكره - لورثة كل واحد منهم بحساب ديته في الأصل، فيكون للرجل ثلث وتسع من اثني عشر ألف درهم وخمسمائة درهم، وهو خمسة آلاف وخمسمائة درهم وخمسة وخمسون درهما ونصف وحبتان وثلثا حبة، للخنثى الثلث، وهو أربعة آلاف ومائة وستة وستون درهما وثلثا درهم. وللمرأة خمس وتسع خمس، فيكون ألفي درهم وسبع مائة وسبعة وسبعين درهما وأربعة دوانيق وخمس حبات وثلث حبة. فذلك تكملة الاثني عشر ألف درهم وخمسمائة درهم. ثم على هذا الحساب في جميع ما يأتي في هذا الباب إن شاء الله. وكذلك إن كان مع الرجل والمرأة شخص ليس له ما للرجال ولا ما للنساء. فإن قتل من هذه سبيله فديته نصف دية الرجال ونصف دية النساء، سبعة آلاف وخمسمائة درهم. ولو اصطلحوا مع الأولياء على الدية كان ذلك جائزا حسب ما يصطلحون عليه. ولو قتلوا خطأ، كانت الدية على عاقلتهم أثلاثا متساوية. وإذا اجتمعت امرأتان على قتل رجل حر مسلم عمدا كان لأوليائه قتلهما جميعا، وليس عليهم رد فضل من دية. وإذا اجتمع مملوكان، أو ثلاثة، أو أكثر من ذلك على قتل رجل حر مسلم عمدا، كان لأوليائه قتلهم جميعا، فإن فضلت قيمتهم عن دية المسلم ردوا الفضل على ساداتهم، يقتسمونها بالسوية بينهم. وإن اختاروا استرقاقهم كان لهم ذلك، والحكم في فضل القيمة ما ذكرناه، إلا أن يفتديهم السادة بشئ من القتل والاسترقاق يقع الصلح به بينهم وبين الأولياء، وإن كانت قيمتهم أقل من دية الحر لم يكن على ساداتهم أكثر من تسليمهم إلى أولياء المقتول. والذمي إذا قتل المسلم خطأ فديته على عاقلته. وإن قتله عمدا سلم بماله وولده إن كانوا صغارا إلى ورثته على ما تقدم به القول فيما سلف. وإن شارك مسلما في قتل العمد كان لأولياء المقتول قتله مع المسلم، ولم يكن عليهم رد فضل دية على ورثته، لأنه بتعمده قتل المسلمين الأحرار قد خرج عن الذمة، وحل دمه على كل حال. وإذا اشترك الصبي والمجنون في قتل الحر المسلم لم يختلف الحال في الحكم عليهما، لأن خطأ المجانين والصبيات وعمدهم سواء، تؤخذ دية المقتول من عاقلتهما، ولا يجوز القود منهما بالمقتول. ولو قتل المجنون إنسان على التعمد لم يقد به، لأنه لا قود لمن لا يستقاد منه. لكنه تؤخذ منه ديته على ما قدمناه. فإن كان قاتل المجنون المحكوم له بالإسلام ذميا ضربت عنقه، لخروجه عن الذمة بقتل من له حكم الإسلام فإن كان المجنون بحكم أهل الذمة ألزم القاتل الذمي ديته لأهله، وعوقب بما جناه، ولم يقد به.

 

[ 17 ] باب ديات الأعضاء والجوارح، والقصاص فيها

وكل شئ من الأعضاء في الإنسان منه واحد ففيه الدية كاملة إذا قطع من أصله. وفيما كان من الأعضاء في الإنسان منه اثنان ففيهما جميعا الدية بحسب دية المصاب: إن كان ذكرا مسلما حرا فحساب ديته - على ما تقدم ذكره - ألف دينار. وإن كان امرأة مسلمة حرة فديتها خمسمائة دينار. وقد بينا القول في دية العبد والذمي بما أغنى عن تكراره في هذا المكان. فدية أعضاء هؤلاء المذكورين بحساب دياتهم. في اليد إذا استوصلت نصف دية النفس. وفي اليدين جميعا إذا استوصلتا الدية كاملة. وكذلك في الذارع والذراعين، والعضد والعضدين. وفي الذكر الدية كاملة. وفي بعضه بحسابه. وفي الأنثيين الدية كاملة. وفي كل واحد منهما نصف الدية. وقد قيل: إن في اليسرى منهما ثلثي الدية، وفي اليمنى ثلث الدية. واعتل من قال ذلك بأن اليسرى من الأنثيين يكون منها الولد، وبفسادها يكون العقم. ولم أتحقق ذلك برواية صحت عندي. وفي الشفة العليا ثلث الدية. وفي الشفة السفلى ثلثا الدية، لأنها تمسك الطعام والشراب. وشينها أقبح من شين العليا. وبهذا ثبتت الآثار عن أئمة الهدى عليهم السلام. وفي شفر العين الأعلى إذا أصيب وذهب ثلث دية العين مائة وستة وستون دينارا وثلثا دينار. وفي شفر العين الأسفل نصف دية العين مأتا دينار وخمسون دينارا. وهذان العضوان يختصان بهذا الحكم من سواهما. وفي الحاجبين إذا أصيبا فذهب شعرهما خمسمائة دينار. وإذا أصيب أحدهما فذهب شعره كله نصف دية العين مأتان وخمسون دينارا. وإذا جنى على الإنسان جناية، فصار بها أدر الخصيتين، فديتهما أربعمائة دينار. فإن فحج، فلم يقدر على المشي إلا بقدر ما لا ينتفع به، فدية ذلك ثمانمائة دينار. وفي الصلب إذا كسر فأحدب الإنسان دية النفس ألف دينار. وفي شعر الرأس إذا أصيب فلم ينبت مائة دينار. وفي شعر اللحية كذلك إذا ذهب فلم ينبت. وفي الأسنان - وهي ثمانية وعشرون سنا في الخلقة المستقيمة. اثنتا عشرة سنا في مقاديم الفم، وست عشرة سنا في مآخيره - ألف دينار. وفي كل سن من مقاديم الفم خمسون دينار. فذلك في اثنتي عشرة سنا ستمائة دينار. وفي كل ضرس خمسة وعشرون دينارا. فذلك في ستة عشر ضرسا أربعمائة دينار. وما زاد على هذه الأسنان في العدد فليس له دية موظفة، لكنه ينظر فيما ينقص من قيمة صاحبه بذهابه منه أن لو كان عبدا، ويعطى بحساب دية الحر منه إن شاء الله. وفي أصابع اليدين جميعا الدية كاملة. وفي كل إصبع عشر الدية. وهو ألف درهم، أو مائة دينار، أو عشر من الإبل. وفي أصابع الرجلين مثل ذلك سواء. وفي الإصبع الزائدة إذا قطعت ثلث دية الإصبع الصحيحة. وإذا ضربت السن فلم تسقط لكنها اسودت أو تصدعت ففيها ثلثا دية سقوطها. وكذلك اليد إذا ضربت فيبس منها شئ ولم ينفصل من الإنسان كان فيها ثلثا دية انفصالها. ومن ضرب سن صبي فسقطت انتظر به، فإن نبتت لم يكن فيها قصاص، وكان فهيا الأرش: ينظر فيما ينقص من قيمة صاحبها بذلك أن لو كان عبدا، ويعطى بحساب دية الحر منه إن شاء الله. ومن كسر يد إنسان ثم برأت وصلحت لم يكن فيها قصاص، لكن فيها الأرش على ما ذكرناه. وفي قطع بعض اليد والرجل يسقط من دية قطع جميعها بحساب ديتها، يقاس ذلك بالخيط وشبهه. وكذلك، في قطع بعض الشفتين من ديتهما يقسط من دية قطعهما. وفي اللسان إذا قطع من أصله الدية كاملة. وفي قطع بعضه بحساب ذلك. والعبرة فيما ينقص من اللسان بحساب حروف المعجم - وهي ثمانية وعشرون حرفا - لكل حرف منها جزء من الدية بحساب الجمل: في ألف واحد، وفي باء اثنان، وفي جيم ثلاثة، تجزأ الدية على حساب الجمل، ثم يعطى المصاب منها بحساب ما نقص من لسانه بعبرة الحروف على ما ذكرناه. وفي العينين إذا فقئتا ألف دينار. وفي إحديهما خمسمائة دينار. وفيما ينقص من نظرهما بذهاب نورهما بحساب ديتهما. وكذلك فيما ينقص من نظر واحدة منهما بذهاب نورهما بحساب ديتهما. والطريق في معرفة حقيقة ما ينقص من نور العينين بقياس نظرهما إلى نظر من هو في سنه من الناس، فيمد حبل لغيره ممن يساويه في عمره وحال ناظره، وينظر به غاية مدى إبصاره، فيعلم عليه، ثم يقاس بجانب آخر، ويعلم عليه، فإذا استوت المسافة في نظره اعتبر بالجانبين الآخرين حتى يكون قد اعتبر بالأربع الجهات، فإذا استوى وتساوت مسافاته، ولم يختلف قوله في نظره علم بذلك مقدار نظره، ثم يمد الحبل للذي أصيب، وينظر به غاية مدى إبصاره، ويعلم عليه، ثم يدار إلى جانب آخر، وينظر به مدى إبصاره، فإذا تساوت المسافة اعتبر بالجهتين الأخريين، فإن اختلف قوله باختلاف المسافة لم يصدق، وإن اتفق قوله باتفاق المدى في الأربع الجهات صدق، ونظر فيما بين مدى عين صاحبه الصحيحة وما بين مدى عينه المصابة، فأعطي من الدية بحساب ذلك. ولا تقاس العين في يوم الغيم، ولا في جهات مختلفة الضياء والاستواء. واعتبار إحدى العينين إذا ادعى صاحبها نقصان نظر فيها بأن تشد عينه المصابة، يمد له حبل، فينظر منتهى نظر عينه الصحيحة، ويحقق ذلك بمد الحبل، في الجهات الأربع، فإذا عرف صدقه باستواء المدى بالمسافات المتساوية حلت عينه المصابة، وشدت عينه الصحيحة ومد الحبل تلقاء وجهه، وأعلم مدى نظر عينه المصابة، ثم مد من جانب آخر، ونظر منتهى نظره منه، فإن خالفه لم يصدق، وإن ساواه حقق ذلك باعتبار مد الحبل في الجهتين الآخرتين، فإذا استوى نظره في الأربع الجهات نظر فيما بين مدى عينه الصحيحة وعينه المصابة، فأعطي من ديتها بحساب ذلك إن شاء الله. ومن ادعى نقصا في سمعه اعتبر بالصوت من أربع جهات، وقيس إلى سماع غيره من أبناء سنه. فإن ادعى نقصا في السماع من إحدى أذنيه شدت أذنه المصابة، وصيح به في مكان بعيد، وعرف مدى سمعه، ثم تحل الأذن المصابة، وتشد الصحيحة، ويصاح به من أربع جهات، ثم يستحلف على ذلك، ويعطى دية ما نقص من سمعه بحساب دية سمعه كله. وينبغي أن يكون الموضع الذي يعتبر به السمع معتدل الهواء، ولا يعتبر مع تغير الرياح واختلاف الأجرام. فإن اشتبه الأمر في ذلك استظهر بامتحانه مرارا، واستظهر عليه بالأيمان إن شاء الله.

 

[ 18 ] باب دية عين الأعور، ولسان الأخرس، واليد الشلاء والعين العمياء وقطع رأس الميت وأبعاضه

وفي عين الأعور الدية كاملة، إلا أن يكون قد فقئت إحدى عينيه فاستحق ديتها، ففي عينه الأخرى إذا فقئت نصف الدية. وفي لسان الأخرس إذا قطع ثلث الدية. وفي قطع بعضه بحساب ذلك، يقاس بالميل والخيط وأشباههما. وليست العبرة فيه كعبرة لسان الصحيح على ما ذكرناه، لأن اللسان الصحيح يعتبر بالكلام، والأخرس يتعذر ذلك فيه. وفي اليد الشلاء إذا قطعت ثلث دية اليد الصحيحة. ومن كانت عينه ذاهبة، وهي قائمة غير مخسوفة، فلطمه إنسان، فانخسفت بذلك، أو كانت مفتوحة فانطبقت، أو كان سوادها باقيا فذهب، فعليه ربع دية العين الصحيحة، لذهابه بجمالها. وفي العينين إذا أصابهما ذلك ربع ديتهما إذا كانتا صحيحتين. ومن قطع رأس ميت فعليه مائة دينار، يقبضها إمام المسلمين منه، أو من نصبه للحكم في الرعية، ويتصدق عن الميت بها، ولا يعطى ورثته منها شيئا. وفي قطع عضو من أعضائه بحساب مائة دينار في قطع رأسه، كما يكون في أعضاء الحي بحساب دية نفسه، وهي ألف دينار.

 

[ 19 ] باب القصاص

وفي الجناية على الإنسان في جوارحه على التعمد لذلك القصاص. وفي الجناية عليه خطأ الديات دون القصاص. ولا قصاص فيما يكون هلاك النفوس به على الأغلب، وإنما يكون فيما يصح مع سلامة النفس في أغلب الأحوال، إلا القصاص في الأنفس خاصة، فإن المقصود به إتلافها كما أتلف الجاني نفس المتقول على العمد لذلك دون الخطأ حسب ما بيناه. وكل ما لا يمكن فيه القصاص ففيه الدية على ما ذكرناه. وليس لأحد أن يتولى القصاص بنفسه دون إمام المسلمين، أو من نصبه لذلك من العمال الأمناء في البلاد والحكام. ومن اقتص منه فذهبت نفسه بذلك من غير تعد في القصاص فلا قود له، ولا دية على حال. وإذا فقأ أعور عين صحيح على التعمد لذلك كان له أن يقلع عينه وإن عمى، فإن الحق أعماه. وإذا قلع صحيح عينه الباقية كان مخيرا بين ديتها - على ما قدمناه - أو يقلع إحدى عيني صاحبه. وليس له مع قلعها شئ سواه. وليس في كسر اليد، وشئ من العظام، وقطع شئ من الأعضاء التي تصلح بالعلاج، قصاص. وإنما القصاص فيما لا يصلح من ذلك بشئ من العلاج. ولو أن رجلا قطع شحمة أذن رجل، ثم طلب القصاص، فاقتص له منه، فعالج أذنه حتى التصق المقطوع بما انفصل منه، كان للمقتص منه أن يقطع ما اتصل به من شحمة أذنه، حتى يعود إلى الحال التي استحق بها القصاص. وكذلك القول فيما سوى شحمة الأذن من العظام والجوارح كلها إذا وقع فيها القصاص، ويعالج صاحبها، حتى عادت إلى الصلاح. وينبغي أن ينتظر الحاكم بالمجروح والمكسور حتى يعالج ويستبرئ حاله بأهل الصناعة، فإن صلح بالعلاج لم يقتص له، لكنه يحكم على الجاني بالأرش فيما جناه. فإن لم يصلح بعلاج حكم له بالقصاص. ومن ضرب إنسانا سوطا، أو أكثر من ذلك ظلما، كان عليه القصاص، يضرب كما ضرب. ومن داس بطن إنسان حتى أحدث من الشدة كان له أن يدوس بطنه حتى يحدث، أو يفتدي نفسه من ذلك بثلث الدية. وإذا جرح إنسان إنسانا في غير مقتل، فمرض، ثم مات من الجراح، اعتبرت حاله، فإن كان مرضه بالجراح دون غيرها من الأعراض كان على الجارح القود، إلا أن يختار ورثة الميت الدية، ويرضى القاتل بذلك، فيلزمه دية قتل العمد - على ما قدمناه - وإن كان مرضه بعرض لم تولده الجراح لم يكن على الجارح القود، وكان عليه القصاص، أو أرش الجراح إن وقع على ذلك بين الأولياء اصطلاح. ومتى اشتبه الأمر فيما فيه مات المجروح حكم عليه بالقصاص دون القود، لموضع الاشتباه.

 

[ 20 ] باب الحوامل والحمول، وجوارح النساء والرجال، والعبيد والأحرار والمسلمين والكفار، والقصاص بينهم في الجنايات

والمرأة إذا قتلت، وهي حامل متم، ولم يعلم بحال ولدها: هو ذكر أو أنثى، فإن على قاتلها ديتها خمسة آلاف درهم، ودية ولدها بحساب دية الرجال والنساء نصفين: سبعة آلاف وخمسمائة درهم، نصف دية الرجال ونصف دية النساء، فذلك اثنا عشر ألف درهم وخمسمائة درهم، وهي ألف دينار ومأتان وخمسون دينارا. وإذا ضربت المرأة، وهي حامل، فألقت نطفة، كان على ضاربها دية النطفة، عشرون دينارا. فإن ألقت علقة - وهي شبيه المحجمة من الدم - كان عليه أربعون دينارا. فإن ألقت مضغة - وهي كقطعة لحم فيها كالعروق - كان عليه ستون دينارا. فإن ألقت عظما - وهو أن يكون في المضغة كالعقد والخطط اليابسة - كان عليه ثمانون دينار. فإن ألقت جنينا - وهو الصورة قبل أن تلجه الروح - كان عليه مائة دينار. وفي قطع جوارح الجنين بحساب ديته - وهي مائة دينار - كما شرحنا ذلك، في باب قطع الأعضاء من الميت وبيناه. وإذا شربت المرأة دواء فألقت حملها كان عليها دية ما ألقته بحساب ما ذكرناه في النطفة إلى الجنين، فإن قتلته بعد ولوج الروح فيه فعليها دية كاملة لأبيه، ولا ترث هي من الدية شيئا، لأنها قاتلة، والقاتل لا يرث المقتول عمدا كما ذكرناه. ومن أفزع امرأة، فألقت شيئا مما وصفناه، كان عليه من دية ذلك ما على ضاربها حسب ما ذكرناه. ودية كل ما ذكرناه من أهل الذمة بحساب دياتهم، وهي ثمان مائة درهم. ومن أفزع رجلا، وهو على حال جماع، فعزل عن امرأته، كان عليه دية ضياع النطفة، عشر دية الجنين، وهي عشرة دنانير. وكذلك إذا عزل الرجل عن زوجته الحرة بغير اختيارها فإن عليه عشر دية الجنين يسلمه إليها، وهي عشرة دنانير. وفي جنين الأمة إذا ألقته عشر قيمتها. وكذلك في جنين البهيمة. وفيما يلقيانه من النطفة والعلقة والمضغة بحساب ذلك. والمرأة تساوي الرجل، في ديات الأعضاء والجوارح حتى تبلغ ثلث الدية. فإذا بلغتها رجعت إلى النصف من ديات الرجال. مثال ذلك: إن في إصبع الرجل إذا قطعت عشرا من الإبل، وكذلك في إصبع المرأة سواء. وفي إصبعين من أصابع الرجل عشرون من الإبل، وفي إصبعين من أصابع المرأة كذلك. وفي ثلاث أصابع الرجل ثلاثون من الإبل، وكذلك في ثلاث أصابع من أصابع المرأة سواء. وفي أربع أصابع من يد الرجل أو رجله أربعون من الإبل، وفي أربع أصابع من أصابع المرأة عشرون من الإبل، لأنها زادت على الثلث، فرجعت بعد الزيادة إلى أصل دية المرأة - وهي النصف من ديات الرجال - ثم على هذا الحساب كلما زادت أصابعها وجوارحها وأعضائها على الثلث رجعت إلى النصف، فيكون في قطع خمس أصابع لها خمس وعشرون من الإبل، وفي خمس أصابع الرجل خمسون من الإبل، بذلك ثبتت السنة عن نبي الهدى عليه السلام، وبه تواترت الأخبار عن الأئمة من آله عليهم السلام. والمرأة تقاص الرجل فيما تساويه في ديته من الأعضاء والجوارح والأسنان. ولا قصاص بينها وبينه فيما زاد على ذلك، لكنها تستحق به الأرش والديات. وديات أعضاء العبيد بحساب قيمتهم، لا يزاد في قيمة العبد على دية الحر، ولا تساويها. وديات أعضاء أهل الذمة بحساب ديات أنفسهم - وهي ثمانمائة درهم للرجال منهم، وأربعمائة للنساء - والحكم في حواملهم، وما يلقونه من الحمول بحساب دياتهم، كما بيناه من العبرة في أحكام أهل الإسلام، وحساب ديات ذلك منهم. وليس بين العبيد وأهل الذمة والأحرار من المسلمين في الجراح قصاص. وإذا جنى العبد على الحر المسلم جناية تحيط ديتها وأرشها بقيمته كان على مولاه أن يسلمه إلى المجني عليه، إلا أن يرضيه بشئ يتفقان عليه. وإن كانت دية الجناية و أرشها أكثر من قيمة العبد لم يكن على سيده أكثر من تسليمه إلى المجني عليه، إلا أن يصطلحا على شئ سواه، فالصلح بينهما على ذلك جائز. فإن رضي المجني عليه بالقصاص منه لم يكن له أكثر من ذلك. ولا يتعد في القصاص.

 

[ 21 ] باب ديات الشجاج، وكسر العظام والجنايات في الوجوه والرؤوس والأعضاء

والشجاج ثمان: الخارصة - وهي الخدش الذي يشق الجلد - وفيها بعير. والدامية - وهي التي تصل إلى اللحم، ويسيل منها الدم - ففيها بعيران. والباضعة - وهي التي تبضع اللحم، وتزيد في الجناية على الدامية - ففيها ثلاثة أبعرة. والسمحاق - وهي التي تقطع اللحم حتى تبلغ إلى الجلدة الرقيقة المغشية للعظم - ففيها أربعة أبعرة. والموضحة - وهي التي تقشر الجلدة، وتوضح عن العظم - ففيها خمسة أبعرة. والهاشمة - وهي التي تهشم العظم - ففيها عشرة أبعرة. والناقلة - وهي التي تكسر العظم كسرا يفسده، فيحتاج معه الإنسان إلى نقله من مكانه - ففيها خمسة عشر بعيرا. والمأمومة - وهي التي تبلغ إلى أم الدماغ - وفيها ثلث الدية، ثلاثة وثلاثون بعيرا، أو ثلث الدية من العين أو الورق على السواء، لأن ذلك يتحدد فيه الثلث، ولا يتحدد في الإبل والبقر والغنم على السلامة في العدد. وحكم الشجاج، في الوجه كحكمها في الرأس سواء. والقصاص في جميع الشجاج، إلا المأمومة، فإنه لا قصاص فيها، للخطر بذلك، والتغرير بتلف النفس، ولكن فيها الدية على ما ذكرناه. ولا قصاص في الجائفة - وهي الجراحة التي تصل إلى الجوف - وفيها الدية، كدية المأمومة في الشجاج. وفي لطمة الوجه إذا احمر موضعها دينار واحد ونصف. فإن اخضر، أو اسود، ففيها ثلاثة دنانير. وأرشها في الجسد النصف من أرشها في الوجه بحساب ما ذكرناه. وفي كسر عظم من عضو خمس دية ذلك العضو. وفي موضحته ربع دية كسره. وإذا كسر العظم، فجبر على غير عثم ولا عيب، كان ديته أربعة أخماس كسره وفي كسر الصلب ألف دينار. فإن جبر، فبرئ على غير عثم ولا عيب، فديته مائة دينار، عشر دية كسره. وفي الأنف إذا كسر، أو قطع، فاستوصل، ألف دينار. فإن كسر، فجبر، فصلح على غير عثم ولا عيب، فديته مائة دينار. فإن قطعت روثة الأنف، فاستوصلت، فديتها خمسمائة دينار. فإن نفذت في الأنف نافذة لا تسند فديتها ثلث الدية: ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون دينارا وثلث دينار، فإن عولجت، فصلحت، وانسدت، فديتها خمس دية الأنف، مأتا دينار. فإن كانت النافذة في أحد المنخرين إلى الخيشوم - وهو الحاجز بين المنخرين - فعولجت، وبرأت، والتأمت، فديتها عشر دية الأنف، مائة دينار. وإذا شقت الشفتان حتى بدت الأسنان، ولم تبرأ، فدية شقها ثلث دية النفس: ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون دينارا وثلث دينار. فإن عولجت، فبرأت، والتأمت، فديتها خمس دية النفس. وفي شق إحديهما بحساب ديتهما. فإن التأمت، وصلحت، ففيها خمس ديتها خاصة. وحكم العظم إذا كسر، فلم ينجبر ما قدمناه. وديته إذا جبر، فصلح على غير عيب فيه، ولا قطع شئ منه، أربعة أخماس كسره. وفي رضه ثلث دية عضوه. فإن صلح على غير عيب فديته أربعة أخماس رضه. فإن فك عظم من عضو، فتعطل به العضو، فديته ثلثا دية العضو. فإن جبر، فصلح، والتأم، فديته أربعة أخماس دية فكه. وعلى هذا المثال، في جميع كسر الأعضاء ورضها وفكها يكون الحكم إن شاء الله. وفي نقل عظام الأعضاء لفسادها مثل ما في نقل عظام الرأس بحساب دية العضو الذي نقل منه إن شاء الله. ولتفصيل أحكام الديات كتب مصنفة، قد شرح فيها القول، وبسط على الاستقصاء فيها، منها كتاب ظريف بن ناصح، وكتاب علي بن رئاب، وغيرهما من المشايخ الفقهاء، مأثورة عن الصادقين عليهم السلام، لم يحتمل كتابنا هذا نقل جميع ما فيها إليه. وفيما أثبتناه منه مقنع في معرفة ما أردنا بيانه إن شاء الله.

 

[ 22 ] باب الجنايات على الحيوان من البهائم وغيرها

والإتلاف لأنفس الحيوان على ضربين: أحدهما يمنع من الانتفاع به بعده، والثاني لا يمنع من ذلك. فالضرب الذي يمنع من الانتفاع قتل ما يقع عليه الذكاة على غير وجه الذكاة، كقتله بالحجارة، أو الخشب، أو تقطيعه بالسيف قبل تذكيته بالذبح أو النحر، أو قتلة بالماء، أو إمساك النفس منه، أو منعه من العلف أو الماء، أو ذبحه بيد كافر لا تقع بذبحه الذكاة، ومن ذلك قتل ما لا يقع عليه الذكاة، ولا يحل أكله مع الاختيار، كالبغال، والحمير الأهلية، والهجن من الدواب، والسباع من الطير، وغيره. والضرب الذي لا يمنع من الانتفاع به كذبح الشاة والبقرة، ونحر البعير، وذبح الطائر، وما أشبه ذلك. فإذا أتلف الإنسان حيوان غيره على وجه لا يحصل معه الانتفاع به كان عليه قيمته حيا يوم أتفله. وكذلك إن أتلف عليه ما لا يقع عليه الذكاة. فإن أتلف ما يحصل مع تلف نفسه لصاحبه الانتفاع به على وجه من الوجوه كان صاحبه مخيرا بين أن يأخذ منه قيمته حيا يوم أتلفه ويدفعه إليه، أو يأخذ منه أرش إتلافه - وهو ما بين قيمته حيا ومتلفا - وينتفع هو به. والمسلم لا يملك شيئا محرما عليه كالخمور، والخنزير، والقرد، والدب وما أشبه ذلك مما لم يجعل للمسلمين به نفع. فإن أتلف إنسان خمرا قد تملكها مسلم , أو خنزيرا , أو قردا , أو دبا، وأشباه ذلك، لم يكن عليه للمسلم قيمة ولا غرم. وإن أتلف خمرا لذمي، أو خنزيرا له، أو شيئا قد أباحته ملته تملكه، كان عليه غرمه، وقيمته بين مستحليه من أهل الكتاب. وكذلك من أتلف على مسلم شيئا من سباع الطير وغيرها مما قد جعل للمسلمين الانتفاع به، كالبازي، والصقر، والكلب السلوقي، وكلب الحائط والماشية، والفهد، وما أشبه ذلك، كان عليه غرم قيمته حيا يوم أتلفه، إلا الكلب خاصة، فإنه قد وظف في قيمة السلوقي منها، المعلم للصيد، أربعون درهما. وفي قيمة كلب الحائط والماشية عشرون درهما. وليس في شئ من الكلاب سوى ما سميناه غرم ولا لها قيمة. والقول في جراح ما عددناه، كسر عظامه، بحسب ما بيناه: إن كان مما يتملك ففيه أرش. وإن كان مما لا يتملك فحكم جراحه وكسره كحكم إتلاف نفسه. ومن كسر عظم بعير لغيره، أو شاة، أو بقرة، أو طائر، أو جرح شيئا من ذلك، كان عليه أرشه - وهو ما بين قيمته صحيحا ومعيبا - وليس له خيار في أخذ قيمته وتسليمه إلى الجاني عليه كما ذكرنا ذلك في إتلاف النفوس. فإن فعل ذلك بخنزير المسلم، أو قرد، أو دب، وأشباهها، لم يكن عليه أرش، كما لم يكن عليه قيمة ما أتلف منه. فإن فعله بخنزير ذمي، وأشباهه مما يملكه أهل الذمة في مللهم، كان عليه أرشه، وهو ما بين قيمته صحيحا ومعيبا عند متملكيه من أهل الكتاب. والحكم فيما يتملكه الإنسان المسلم من آلات اللهو المحظورة في الإسلام كالحكم في الخمور و الخنازير. وإذا جنت بهيمة الإنسان على بهيمة غيره، أو ملك له من الأشياء، فهو على ضربين: إن كانت الجناية منها بتفريط وقع منه في حفظها، ومنعها من الجناية، أو بتعد في استعمالها، فهو ضامن لما أفسدته بجنايتها. وإن كانت بغير ذلك لم يكن عليه ضمان. فمن ذلك جناية غنم الإنسان على زرع غيره، فإنه إن كان ترك حفاظها ليلا حتى دخلت زرع غيره، فأكلته، أو أفسدته، فهو ضامن لذلك، أو إن كان رعاها فيه، و أدخلها إليه بغير إذن مالكه. وإن كان إفسادها له نهارا من غير سبب بأحد ما ذكرناه فليس عليه ضمان، وذلك إن على صاحب الزرع مراعاته وحفظه نهارا، وعلى صاحب الغنم حفظ غنمه ليلا. قال الله عز وجل: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتيناه حكما وعلما ". وكانت الغنم رعت كرم القوم ليلا، فأكلت ورقه، وأفسدته، فحكم داود عليه السلام لأرباب الكرم برقاب الغنم، وحكم سليمان عليه السلام على أرباب الغنم بسقي الكرم وإصلاحه، وأن يأخذ أرباب الكرم أصواف الغنم وألبانها إلى أن يرجع كرمهم إلى حالته التي كانت عليه في الصلاح، ثم تعود منافع أصواف الغنم وألبانها على أربابها، كما كان لهم ذلك قبل فسادها. وكان هذا الحكم ناسخا لحكم داود عليه السلام، ولم يكن مخالفا له من جهة قياس ولا تخطئة في اجتهاد، كما تظنه العامة الجهال. والبعير إذا صال، فقتل، أو كسر، أو جرح، كان صاحبه ضامنا لجنايته، لأنه يجب عليه حبسه ومنعه من الفساد، وقد قضى أمير المؤمنين عليه السلام - في بعير كان بين أربعة شركاء، فعقل أحدهم يده، فتخطى إلى بئر، فوقع فيها، فاندق -: أن على الشركاء الثلاثة غرم الربع من قيمته لشريكهم، لأنه حفظ حقه، وضيعه عليه الباقون بترك عقال حقوقهم، وحفظه بذلك من الهلاك. وهذا باب من عرف الحكم فيما ذكرناه منه على التفصيل أغناه عن تعداد ما في معناه و إطالة الخطب فيه إن شاء الله.