عقائد الشيعة الإمامية | الشيخ المفيد | المقنعة

 

المقنعة

للشيخ المفيد

 

محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي المتوفى 413 ه‍. ق

 

 

 

كتاب الوصية

 

[ 1 ] باب الوصية

ووجوبها قال الله عز وجل: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ". وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الوصية حق على كل مسلم. وقال عليه السلام: ما ينبغي لامرء مسلم أن يبيت ليلة، إلا و وصيته تحت رأسه. وقال عليه السلام: من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية. فينبغي للمرء المسلم أن يتحرز من خلاف الله تعالى وخلاف رسوله صلى الله عليه وآله في ترك الوصية وإهمالها، ويستظهر لدينه، ويحتاط لنفسه بالوصية لأهله وإخوانه بتقوى الله عز وجل، والطاعة له، واجتناب معاصيه، وما يحب أن يصنعوه في غسله، وتحنيطه، وتكفينه عند وفاته، ومواراته، والصدقة عنه، والتدبير لتركته، ويسند ذلك إلى ثقة في نفسه، ليقوم به، ولا يهمل ذلك. ولا يفرط فيه إن شاء الله.

 

[ 2 ] باب الإشهاد على الوصية

وينبغي لمن أراد الوصية أن يشهد عليها شاهدين مسلمين عدلين، لئلا يعترض الورثة على الوصي من بعده. وإن أشهد أكثر من اثنين كان أوكد لعمله. وإذا حضرته الوفاة، وهو مسافر، فلم يجد مسلما يشهده على وصيته، فليشهد رجلين من أهل الذمة مأمونين عند أهل المعرفة بهما من أهل دينهما. وإذا شهد من سميناه على وصية - الحال فيها ما ذكرناه - حكم بشهادتهما. وإذا لم يحضر الوصية إلا امرأة أجيزت شهادتها في الربع مما شهدت به إذا كانت مأمونة. ولا تقبل شهادة أهل الذمة في وصية إنسان مات في بلاد المسلمين. وإنما تقبل مع الضرورة إذا لم يوجد شاهد من المسلمين.

 

[ 3 ] باب وصية الصبي والمحجور عليه

وإذا بلغ الصبي عشر سنين جازت وصيته في المعروف من وجوه البر. وكذلك المحجور عليه لسفهه، إذا وصى في بر ومعروف جازت وصيته، ولم يكن لوليه الحجر عليه في ذلك. ولا يجوز وصية الصبي والمحجور عليه فيما يخرج عن وجوه البر والمعروف. وهبتهما باطلة. ووقفهما وصدقتهما -كوصيتهما- جائزة إذا وقعا موقع المعروف.

 

 4 ] باب الأوصياء

وينبغي أن يكون الوصي عاقلا، مسلما، عدلا، لبيبا، حليما، حرا. ولا بأس بالوصية إلى امرأة كانت عاقلة، مأمونة. ولا يجوز الوصية إلى السفيه، ولا إلى الفاسق. ولا يوصى إلى العبد، لأنه لا يملك مع سيده أمرا. ولا بأس بالوصية إلى المدبر والمكاتب. ولا بأس أن يوصي الإنسان إلى اثنين، أحدهما صبي بعد أن يكون الآخر كاملا عاقلا. ويجعل للعاقل النظر، وللصبي إذا بلغ وإن شرط نظرهما جميعا في شئ، يجوز تأخر النظر فيه إلى عند بلوغ الصبي، جاز ذلك. وإن مات الصبي قبل البلوغ، أو فسد عقله، كان للعاقل الإمضاء والتصرف. وإذا كانت الوصية إلى إنسان كامل وصبي فللكامل إنفاذ الوصية قبل بلوغ الصبي، وليس للصبي عند بلوغه نقض شئ مما أمضاه الكامل، إلا أن يكون باطلا مخالفا لشرط الوصية والإسلام. وإذا أوصى الذمي إلى ذمي مثله مضت وصيته. فإن وصى مسلم إلى ذمي بطلت وصيته.

 

[ 5 ] باب الرجوع في الوصية

وللموصي الرجوع في وصيته ما دام حيا، وتغييرها كيف شاء، وليس لوارث ولا غيره معارضته في ذلك. فإذا أوصى الإنسان بوصية، ثم أوصى بأخرى بعدها، نظر فيهما. فإن أمكن العمل بها جميعا فهما بمنزلة وصية واحدة. وإن لم يكن ذلك عمل بالأخرى منهما، وكانت ناسخة للأولى. وللموصي أن يستبدل بالأوصياء ما دام حيا. فإذا مضى لسبيله لم يكن لأحد أن يغير وصيته ولا يستبدل بأوصيائه. فإن ظهر من الوصي بعده خيانة كان للناظر في أمور المسلمين أن يعزله، ويقيم أمينا مقامه. فإن لم تظهر منه خيانة، لكنه ظهر منه ضعف في القيام بالوصية، كان للناظر في أمور المسلمين أن يقيم معه أمينا، متيقضا، ضابطا، يعينه على تنفيذ الوصية، ولم يكن له عزله لضعفه.

 

[ 6 ] باب الوصية بالثلث وأقل منه وأكثر

والوصية بالربع عند آل محمد عليهم السلام أحب إليهم من الوصية بالثلث، وهي بالخمس أحب إليهم من الوصية بالربع. ومن وصى بالثلث فقد بلغ الغاية فيما له أن يوصي به، ولا وصية بأكثر من الثلث. فإن وصى موس بالنصف ونحوه مما زاد على الثلث ردت الوصية إلى الثلث، وبطلت فيما فوقه، إلا أن يمضي ذلك الورثة بعد الموت. فإن أمضوه في الحياة كان لهم الرجوع فيه بعد الموت. وإن أمضوه بعد الموت لم يكن لهم الرجوع فيه بعد ذلك.

 

[ 7 ] باب الوصية للوارث

ولا بأس بالوصية للوارث، قال الله عز وجل: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ". وهذا صريح فيما ذكرناه. وقد زعم قوم من العامة: أنها خاصة في الوالدين والأقربين إذا لم يكونوا ورثة لكفرهم. وهذا تحكم في القرآن، وعموم الآي يبطل التحكم به. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله: أنه قال: لا وصية لوارث. وهذا حديث باطل مصنوع، لم يثبت عند نقاد الآثار، وكتاب الله أولى من الحديث، والحكم به على الأخبار أولى من الحكم بالأخبار عليه. ولا تجوز الوصية للوارث ولا غيره بأكثر من الثلث. ويستحب أن يوصي الرجل لقرابته ممن لا يرث مع ورثته الذين يحجبونه عن الميراث.

 

[ 8 ] باب الوصية والهبة في المرض

والوصية في الصحة والمرض بالثلث فما دونه جائزة. ولا يجوز بأكثر مما ذكرناه في كلا الحالين. وإذا وهب في مرضه، أو تصدق، جاز ذلك له في جميع ماله، ولم يكن لأحد معارضته في ذلك. والبيع في المرض صحيح - كالهبة والصدقة - إذا كان الإنسان عاقلا مالكا لرأيه. فإن كان المرض مضرا بعقله، متهما له في رأيه، جاز منه ما فعله من ذلك في وجوه البر والمعروف، وبطل ما فعله في سواه.

 

[ 9 ] باب الوصية لأهل الضلال

وإذا وصى الإنسان لغيره بشئ من ثلثه وجب أن يدفع ذلك إليه حسب ما وصى به الموصي وإن كان الموصى له كافرا. قال الله عز وجل: " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم ". فإن تصدق بماله على كافر، وكان من ذوي أرحامه، مضت صدقته لما يجب من صلة الرحم. وإن كان المتصدق عليه ليس بينه وبينه رحم وهو كافر بطلت صدقته، وكانت راجعة إلى ماله، ومقسومة بين ورثته. ومن وهب في مرضه، ثم مات، ولم يقبض الموهوب له الهبة حتى مات، رجعت ميراثا.

 

[ 10 ] باب نكاح المريض وطلاقه

وللمريض أن ينكح في مرضه، ويغالي في المهور، ونكاحه جائز. وليس له أن يطلق في المرض. فإن طلق وهو مريض، فللمرأة الميراث منه ما بين طلاقه وبين سنة ما لم يصح في تلك السنة، أو تتزوج المرأة. فإن صح من مرضه ذلك، فلم يراجع، وعاد إليه المرض، أو مرض مرضا آخر، أو مات فجأة، لم يكن لها ميراثه. وإن تزوجت قبل انقضاء السنة فلا ميراث لها منه.

 

[ 11 ] باب قبول الوصية

وإذا أوصى الإنسان إلى غيره كان بالخيار في قبول الوصية وردها إلا أن يكون بين الموصي والموصى إليه مسافة، فله أن يردها ما كان الموصي حيا. فإن لم يبلغه خبره حتى مات، وقد كان وصى إليه، فليس له رد الوصية بعد موته.

 

[ 12 ] باب وصية القاتل لنفسه

ومن أحدث في نفسه حدث القتل من جراح، أو شرب سم، ونحو ذلك، ثم وصى كانت وصيته مردودة. فإن وصى قبل أن يحدث في نفسه شيئا من أسباب القتل، ثم أحدث بعد الوصية ذلك، كانت وصيته ممضاة. فإن فعل به غيره فعلا يسري إلى هلاك نفسه كانت وصيته مقبولة في ثلثه، سواء كانت بعد فعل غيره به، أو قبله، وليس يجري الحكم في هذا الباب مجرى حكم القاتل نفسه، لفرق ما بين الأمرين.

 

[ 13 ] باب اختلاف الأوصياء

وإذا كانت الوصية إلى نفسين وأكثر من ذلك على الاجتماع دون الانفراد لم يجز لأحدهم أن ينفرد بشئ منها دون الشركاء. فإن تشاحوا في الانفاذ، وتصرف واحد منهم، نظر فيما تصرف فيه، فإن كان تصرفه في ابتياع مأكول للورثة، أو كسوة، أو ما لا بد منه، جاز تصرفه. فإن كان في ما لهم منه بد، وعنه غناء في الحال، لم يمض تصرفه. فإن آل أمرهم، في المشاحة إلى الإضرار بالورثة، ومنعهم ما يحتاجون إليه، استبدل بهم الناظر في أمور المسلمين، واقتصر منهم على ما يرى في نظره الصلاح دون ما عداه.

 

[ 14 ] باب الوصية المبهمة

وإذا وصى الإنسان بجزء من ماله، ولم يسمه، كان السبع من المال، قال الله عز وجل: " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ". وإن وصى بسهم من ماله، ولم يبين ما الذي أراد حتى مات، كان الثمن من ماله، قال الله عز وجل: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ". وهم ثمانية أصناف، لكل صنف منهم سهم من الصدقات. والسهام ثمانية، واحدها الثمن. وإن وصى بشئ من ماله، ولم يسم، كان السدس من ماله، قال الله عز وجل: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين - إلى قوله - ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ". فخلق الإنسان من ستة أشياء، فالشئ واحد من ستة، وهو السدس. وإن وصى بإخراج ثلثه في سبيل الله أخرج في معونة المجاهدين لأهل الضلال والكافرين. فإن لم يحضر مجاهد في سبيل الله وضع في أبواب البر من معونة الفقراء، والمساكين، وابن السبيل، وصلة آل الرسول عليهم السلام، بل يصرف أكثره في فقراء آل محمد عليهم السلام، ومساكينهم، وأبناء سبيلهم، ويصرف ما بقي بعد ذلك في وجوه البر. وإن أوصى رجل إلى رجل بوصية، وجعلها أبوابا، فنسي الوصي بابا من الأبواب، فليجعل ذلك السهم في وجوه البر. وإذا أوصى الإنسان لإنسان بصندوق مقفل، وكان في الصندوق متاع، فالصندوق بما فيه للموصى له، إلا إن يستثنيه الموصي. وكذلك إن وصى له بسفينة فيها طعام فالسفينة بما فيها للموصى له، إلا أن يستثني ما فيها. وكذلك إن وصى له بجراب مشدود ووعاء مختوم فالجراب والوعاء وما فيهما للموصى له، حسب ما قدمناه. وإذا أوصى الإنسان بثلث ماله لقرابته، ولم يسم أحدا، كان في جميع ذوي نسبه الراجعين إلى آخر أب له وأم في الإسلام، ولا يرجع على من يتعلق بمن نأى عنهم في الجاهلية، ويكون ذلك بين الجماعة بالسوية. وقد ذكرنا الحكم في الجيران والقوم والعشيرة فيما سلف. فأغنى عن تكراره في هذا المكان. فإن أوصى لمنتظر غير موجود كانت الوصية باطلة. فإن وصى للحمل كانت الوصية ماضية. فإن أسقط بالحمل رجع ما وصى به ميراثا. فإن وضعته أمه حيا، ثم مات، كان ما وصى له به راجعا إلى أقرب الناس منه، وأحقهم بميراثه.

 

[ 15 ] باب الوصي يوصي إلى غيره

وليس للوصي أن يوصي إلى غيره إلا أن يشترط له ذلك الموصي. فإن لم يشترط له ذلك لم يكن له الإيصاء في الوصية. فإن مات كان الناظر في أمور المسلمين يتولى إنفاذ الوصية على حسب ما كان يجب على الوصي أن ينفذها. وليس للورثة أن يتولوا ذلك بأنفسهم. وإذا عدم السلطان العادل - فيما ذكرناه من هذه الأبواب - كان لفقهاء أهل الحق العدول من ذوي الرأي والعقل والفضل أن يتولوا ما تولاه السلطان. فإن لم يتمكنوا من ذلك فلا تبعة عليهم فيه. وبالله التوفيق.

 

[ 16 ] باب وصية الإنسان لعبده وعتقه له قبل موته

وإذا وصى الإنسان لعبده بثلث ماله نظر في قيمة العبد، فإن كانت أقل من الثلث أعتق، وأعطي ما فضل عن قيمته من جملة ما وصى له به. وإن كانت قيمته أكثر من الثلث بمقدار السدس والربع والثلث ونحو ذلك أعتق منه بمقدار ما وصى له به، واستسعى في الباقي. وإن كان قيمته على الضعف من الثلث الذي وصى له به بطلت الوصية له، وكان ميراثا بين الورثة. وإن وصى الرجل بعتق ثلث عبده أو نصفه عند الموت مضت وصيته، واستسعى العبد فيما بقي منه. وإن وصى إنسان بعتق ثلث عبيده، ولم يبين، أعتق ثلثهم بالقرعة. وإذا كان على الإنسان دين، ولم يخلف إلا عبدا أو عبيدا، فأعتقهم عند الموت، نظر في قيمة العبد أو العبيد وما عليه من الدين، فإن كان أكثر من قيمة العبيد بطل العتق، وبيع العبيد، وتحاص الغرماء بثمنهم. وكذلك إن استوت القيمة والدين. فإن كانت قيمة العبيد أكثر من الدين بالسدس أو الثلث ونحو ذلك بيع العبيد، وبطل العتق. فإن كانت قيمة العبيد ضعف الدين كان للغرماء النصف منهم، وللورثة الثلث، وعتق منهم السدس، لأن لصاحبهم الثلث من تركته يصنع به ما شاء، فوصيته نافذة في ثلث ما يملكه - وهو السدس - بهذا جاء الأثر عن آل محمد عليهم السلام. وإذا وصى لعبد له كاتبه جاز مما أوصى له بحساب ما عتق منه، ورجع الباقي إلى مال الورثة. ومن وصى بحجة الإسلام، وعتق عبد، وصدقة، فلم يبلغ الثلث من ماله ذلك، بدأ بالحج، لأنه فريضة من فرائض الله عز وجل، وجعل ما يبقى على سهمين: أحدهما في العتق، والآخر في الصدقة. فإن وصى بثلث ماله لجماعة سماهم، وجعل لكل واحد منهم قسطا عينه، فلم يبلغ الثلث ذلك، بدأ بالأول فالأول منهم، وجعل النقصان لآخرهم. فإن لم يسمهم على التفصيل فض النقصان على جماعتهم. وبالله التوفيق.

 

[ 17 ] باب الموصى له بشئ يموت قبل الموصي

وإذا وصى الإنسان لغيره بشئ من ماله، فمات الموصى له قبل الموصي بذلك، كان ما وصى به راجعا على ورثته. فإن لم يكن له ورثة رجع إلى مال الموصي وتركته في الحكم، وكان ميراثا بين ورثة الموصي من جملة ما خلف. وليس لأحد منع ورثة الموصى له مما وصى لصاحبهم به إلا أن يكون صاحب الوصية رجع عنها فرجوعه حينئذ يغير حكمها. ولصاحب الوصية إذا مات الموصى له قبله أن يرجع فيما وصى له به. فإن لم يرجع كان ميراثا لمخلفي الموصى له.