عقائد الشيعة الإمامية >> الشيخ المفيد

 

 

عقائد الشيخ المفيد قدس سره

التقية

 

 - التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس وقد تجوز في حال دون حال وقد تجب أحيانا وتكون فرضا وتجوز أحيانا من غير وجوب وتكون في وقت أفضل من تركها ويكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذورا ومعفوا عنه متفضلا عليه بترك اللوم عليها

- التقية جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح وليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين ولا فيما يعلم أو يغلب إنه استفساد في الدين

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 118، 119:

124 - القول في التقية

وأقول: إن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقد تجوز في حال دون حال للخوف على المال ولضروب من الاستصلاح، وأقول إنها قد تجب أحيانا وتكون فرضا، وتجوز أحيانا من غير وجوب، وتكون في وقت أفضل من تركها ويكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذورا ومعفوا عنه متفضلا عليه بترك اللوم عليها.

فصل: وأقول، إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح، وليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين ولا فيما يعلم أو يغلب إنه استفساد في الدين. وهذا مذهب يخرج عن أصول أهل العدل وأهل الإمامة خاصة دون المعتزلة والزيدية والخوارج والعامة المتسمية بأصحاب الحديث.

- قد يصح النهي عن المناظرة للتقية وغير ذلك ولا يصح النهي عن النظر لأن في العدول عنه المصير إلى التقليد والتقليد مذموم باتفاق العلماء ونص القرآن والسنة

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 68، 73:

فصل: في النهي عن الجدال قال أبو جعفر [في الجدال]: الجدال في الله منهي عنه، لأنه يؤدي إلى ما لا يليق به. وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: يهلك أهل الكلام وينجو المسلمون.

قال أبو عبد الله الشيخ المفيد رحمه الله: الجدال على ضربين: أحدهما بالحق، والآخر بالباطل، فالحق منه مأمور به ومرغب فيه، والباطل منه منهي عنه ومزجور عن استعماله.

قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فأمر بجدال المخالفين وهو الحجاج لهم، إذ كان جدال النبي صلى الله عليه وآله حقا، وقال تعالى لكافة المسلمين: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فأطلق لهم جدال أهل الكتاب بالحسن، ونهاهم عن جدالهم بالقبيح.

وحكى سبحانه عن قوم نوح عليه السلام ما قالوه في جدالهم فقال سبحانه: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} فلو كان الجدال كله باطلا لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله به، ولا استعمله الأنبياء عليهم السلام من قبله، ولا أذن للمسلمين فيه.

فأما الجدال بالباطل فقد بين الله تبارك وتعالى عنه في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} فذم المجادلين في [آيات الله] لدفعها أو قدحها وإيقاع الشبهة في حقها.

وقد ذكر الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه حاج كافرا في الله تعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ}. وقال مخبرا عن حجاجه قومه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء}.

وقال سبحانه آمرا لنبيه صلى الله عليه وآله بمحاجة مخالفيه: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}.

وقال عز اسمه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية. وقال لنبيه صلى الله عليه وآله: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} الآية.

وما زالت الأئمة عليهم السلام يناظرون في دين الله سبحانه ويحتجون على أعداء الله تعالى. وكان شيوخ أصحابهم في كل عصر يستعملون النظر، ويعتمدون الحجاج ويجادلون بالحق، ويدمغون الباطل بالحجج والبراهين، وكان الأئمة عليهم السلام يحمدونهم على ذلك ويمدحونهم ويثنون عليهم بفضل.

وقد ذكر الكليني رحمه الله في كتاب الكافي وهو من أجل كتب الشيعة وأكثرها فائدة حديث يونس بن يعقوب مع أبي عبد الله عليه السلام حين ورد عليه الشامي لمناظرته، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: "وددت أنك يا يونس كنت تحسن الكلام".

فقال له يونس: جعلت فداك، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأهل الكلام، يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله.

فقال له أبو عبد الله عليه السلام: "إنما قلت ويل لهم إذا تركوا قولي وصاروا إلى خلافه" ثم دعا حمران بن أعين ومحمد بن الطيار، وهشام بن سالم وقيس الماصر فتكلموا بحضرته، وتكلم هشام بعدهم فأثنى عليه ومدحه وقال له: "مثلك من يكلم الناس"، وقال عليه السلام وقد بلغه موت الطيار: "رحم الله الطيار ولقاه نضرة وسرورا، فلقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت".

وقال أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام لمحمد بن حكيم: "كلم الناس وبين لهم الحق الذي أنت عليه، وبين لهم الضلالة التي هم عليها".

وقال أبو عبد الله عليه السلام لبعض أصحابنا: "حاجوا الناس بكلامي، فإن حجوكم فأنا المحجوج" وقال لهشام بن الحكم وقد سأله عن أسماء الله تعالى واشتقاقها فأجابه عن ذلك، ثم قال له بعد الجواب: "أفهمت يا هشام فهما تدفع به أعداءنا الملحدين في دين الله وتبطل شبهاتهم"؟ فقال هشام: نعم، فقال له: "وفقك الله".

وقال عليه السلام لطائفة من أصحابه: "بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه، وبينوا لهم [ضلالهم الذي هم عليه] وباهلوهم في علي بن أبي طالب عليه السلام" فأمر بالكلام ودعا إليه وحث عليه.

وروي عنه عليه السلام أنه نهى رجلا عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: جعلت فداك، نهيت فلانا عن الكلام وأمرت هذا به؟ فقال: "هذا أبصر بالحجج، وأرفق منه" فثبت أن نهي الصادقين عليهم السلام عن الكلام إنما كان لطائفة بعينها لا تحسنه ولا تهتدي إلى طرقه وكان الكلام يفسدها، والأمر لطائفة أخرى به، لأنها تحسنه وتعرف طرقه وسبله.

فأما النهي عن الكلام في الله عز وجل فإنما يختص بالنهي عن الكلام في تشبيهه بخلقه وتجويره في حكمه.

وأما الكلام في توحيده ونفي التشبيه عنه والتنزيه له والتقديس، فمأمور به ومرغب فيه، وقد جاءت بذلك آثار كثيرة وأخبار متظافرة، وأثبت في كتابي (الأركان في دعائم الدين) منها جملة كافية، وفي كتابي (الكامل في علوم الدين) منها بابا استوفيت القول في معانيه وفي (عقود الدين) جملة منها، من اعتمدها أغنت عما سواها، والمتعاطي لإبطال النظر شاهد على نفسه بضعف الرأي، وموضح عن قصوره عن المعرفة ونزوله عن مراتب المستبصرين، والنظر غير المناظرة، وقد يصح النهي عن المناظرة للتقية وغير ذلك، ولا يصح النهي عن النظر لأن في العدول عنه المصير إلى التقليد والتقليد مذموم باتفاق العلماء ونص القرآن والسنة.

قال الله تعالى ذاكرا لمقلدة من الكفار وذاما لهم على تقليدهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ}.

وقال الصادق عليه السلام: "من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنة زالت الجبال ولم يزل".

وقال عليه السلام: "إياكم والتقليد، فإنه من قلد في دينه هلك" إن الله تعالى يقول: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} فلا والله ما صلوا لهم ولا صاموا، ولكنهم أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا، فقلدوهم في ذلك، فعبدوهم وهم لا يشعرون".

وقال عليه السلام: "من أجاب ناطقا فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله تعالى فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان".

فصل:

ولو كان التقليد صحيحا والنظر باطلا لم يكن التقليد لطائفه أولى من التقليد لأخرى، وكان كل ضال بالتقليد معذورا، وكل مقلد لمبدع غير موزور، وهذا ما لا يقوله أحد، فعلم بما ذكرناه أن النظر هو الحق والمناظرة بالحق صحيحة، وأن الأخبار التي رواها أبو جعفر عليهم السلام وجوهها ما ذكرناه، وليس الأمر في معانيها على ما تخيله فيها، والله ولي التوفيق.

- في التقية

- التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا وفرض ذلك إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن فمتى لم يعلم ضررا بإظهار الحق ولا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 137، 138:

فصل: في التقية

قال أبو جعفر: باب التقية... إلى آخره.

قال الشيخ المفيد: التقية: كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا، وفرض ذلك إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن، فمتى لم يعلم ضررا بإظهار الحق ولا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية.

وقد أمر الصادقون عليهم السلام جماعة من أشياعهم بالكف والإمساك عن إظهار الحق، والمباطنة والستر له عن أعداء الدين، والمظاهرة لهم بما يزيل الريب عنهم في خلافهم.

وكان ذلك هو الأصلح لهم، وأمروا طائفة أخرى من شيعتهم بمكالمة الخصوم ومظاهرتهم ودعائهم إلى الحق، لعلمهم بأنه لا ضرر عليهم في ذلك، فالتقية تجب بحسب ما ذكرناه، ويسقط فرضها في مواضع أخرى على ما قدمناه، وأبو جعفر أجمل القول في هذا ولم يفصله على ما بيناه وقضى بما أطلقه فيه من غير تقية على نفسه لتضييع الغرض في التقية، وحكم بترك الواجب في معناها، إذ قد كشف نفسه فيما اعتقده من الحق بمجالسه المشهورة، ومقاماته التي كانت معروفة، وتصنيفاته التي سارت في الآفاق، ولم يشعر بمناقضته بين أقواله وأفعاله، ولو وضع القول في التقية موضعه، وقيد من لفظه فيه ما أطلقه لسلم من المناقضة، وتبين للمسترشدين حقيقة الأمر فيها، ولم يرتج عليهم بابها، ويشكل بما ورد فيها معناها، لكنه على مذهب أصحاب الحديث في العمل على ظواهر الألفاظ، والعدول عن طريق الاعتبار. وهذا رأي يضر صاحبه في دينه، ويمنعه المقام عليه عن الاستبصار.

- ما خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم كما تكثر رواية المعمول به بل لا بد من الرجحان في أحد الطرفين على الآخر من جهة الرواة ولم تجمع العصابة على شيء كان الحكم فيه تقية ولا شيء دلس فيه ووضع متخرصا عليهم وكذب في إضافته إليهم

- لا يجوز أن يفتي الإمام على وجه التقية في حادثة فيسمع ذلك المختصون بعلم الدين من أصحابهم ولا يعلمون مخرجه على أي وجه كان القول فيه ولو ذهب عن واحد منهم لم يذهب عن الجماعة

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 146، 150:

فصل: في الأحاديث المختلفة

قال أبو جعفر في الحديثين المختلفين... إلى آخره.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: لم يوضح أبو جعفر رحمه الله عن الطريق التي توصل إلى علم ما يجب العمل عليه مما لا يجب، بل أجمل القول في ذلك إجمالا مع صدق الحاجة إلى التفصيل والتفرقة بين ما يلزم مما لا يلزم بما يتميز به كل واحد منهما ويعرف بذلك حق الحديث من باطله. والذي أثبته أبو جعفر رحمه الله من مجمل القول فيه لم يجد نفعا.

وقد تكلمنا على اختلاف الأحاديث وبينا فرق ما بين صحيحها من سقيمها، وحقها من باطلها، وما عليه العمل منها مما لا يعمل عليه، وما تتفق معانيه مع اختلاف ألفاظه، وما خرج مخرج التقية في الفتيا، وما الظاهر منه كالباطن في مواضع من كتبنا وأمالينا، وبينا ذلك بيانا يرفع الإشكال فيه لمن تأمل، والمنة لله تعالى، فمن أراد معرفة هذا الباب فليرجع إلى كتابنا المعروف ب‍  (التمهيد) وإلى كتاب (مصابيح النور) وأجوبة مسائل أصحابنا من الآفاق، يجد ذلك على ما ذكرناه.

فصل: وجملة الأمر أنه ليس كل حديث عزي إلى الصادقين عليهم السلام حقا عليهم، وقد أضيف إليهم ما ليس بحق عنهم ومن لا معرفة له لا يفرق بين الحق والباطل.

وقد جاء عنهم عليهم السلام ألفاظ مختلفة في معان مخصوصة، فمنها ما تتلازم معانيه وإن اختلفت ألفاظه، لدخول الخصوص فيه والعموم والندب والإيجاب، ولكون بعضه على أسباب لا يتعداها الحكم إلى غيرها، والتعريض في بعضها بمجاز الكلام لموضع التقية والمداراة، وكل من ذلك مقترن بدليله، غير خال من برهانه، والمنة لله سبحانه.

وتفصيل هذه الجملة يصح ويظهر عند إثبات الأحاديث المختلفة، والكلام عليها ما قدمناه، والحكم في معانيها ما وصفناه، إلا أن المكذوب منها لا ينتشر بكثرة الأسانيد انتشار الصحيح المصدوق على الأئمة عليهم السلام فيه، وما خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم كما تكثر رواية المعمول به، بل لا بد من الرجحان في أحد الطرفين على الآخر من جهة الرواة حسب ما ذكرناه، ولم تجمع العصابة على شيء كان الحكم فيه تقية، ولا شيء دلس فيه ووضع متخرصا عليهم وكذب في إضافته إليهم.

فإذا وجدنا أحد الحديثين متفقا على العمل به دون الآخر علمنا أن الذي اتفق على العمل به هو الحق في ظاهره وباطنه، وأن الآخر غير معمول به، إما للقول فيه على وجه التقية، أو لوقوع الكذب فيه.

وإذا وجدنا حديثا يرويه عشرة من أصحاب الأئمة عليهم السلام يخالفه حديث آخر في لفظه ومعناه ولا يصح الجمع بينهما على حال رواه اثنان أو ثلاثة، قضينا بما رواه العشرة ونحوهم على الحديث الذي رواه  الاثنان أو الثلاثة، وحملنا ما رواه القليل على وجه التقية أو توهم ناقله.

وإذا وجدنا حديثا قد تكرر العمل به من خاصة أصحاب الأئمة عليهم السلام في زمان بعد زمان وعصر إمام بعد إمام قضينا به على ما رواه غيرهم من خلافه ما لم تتكرر الرواية به والعمل بمقتضاه حسب ما ذكرناه.

فإذا وجدنا حديثا رواه شيوخ العصابة ولم يرووا على أنفسهم خلافه علمنا أنه ثابت، وإن روى غيرهم ممن ليس في العدد وفي التخصيص بالأئمة عليهم السلام مثلهم إذ ذاك علامة الحق فيه، وفرق ما بين الباطل وبين الحق في معناه، وأنه لا يجوز أن يفتي الإمام عليه السلام على وجه التقية في حادثة فيسمع ذلك المختصون بعلم الدين من أصحابهم ولا يعلمون مخرجه على أي وجه كان القول فيه، ولو ذهب عن واحد منهم لم يذهب عن الجماعة، لاسيما وهم المعروفون بالفتيا والحلال والحرام، ونقل الفرائض والسنن والأحكام.

ومتى وجدنا حديثا يخالفه الكتاب ولا يصح وفاقه له على حال أطرحناه، لقضاء الكتاب بذلك وإجماع الأئمة عليهم السلام عليه.

وكذلك إن وجدنا حديثا يخالف أحكام العقول أطرحناه لقضية العقل بفساده، ثم الحكم بذلك على أنه صحيح خرج مخرج التقية أو باطل أضيف إليهم موقوف على لفظه، وما تجوز الشريعة فيه القول بالتقية وتحظره وتقضي العادات بذلك أو تنكره.

فهذه جملة ما انطوت عليه من التفصيل تدل على الحق في الأخبار المختلفة، والصريح فيها لا يتم إلا بعد إيراد الأحاديث، والقول في كل واحد منها ما بينا طريقه.

وأما ما تعلق به أبو جعفر رحمه الله من حديث سليم الذي رجع فيه إلى الكتاب المضاف إليه برواية أبان بن أبي عياش، فالمعنى فيه صحيح، غير أن هذا الكتاب غير موثوق به، ولا يجوز العمل على أكثره، وقد حصل فيه تخليط وتدليس، فينبغي للمتدين أن يجتنب العمل بكل ما فيه، ولا يعول على جملته والتقليد لرواته وليفزع إلى العلماء فيما تضمنه من الأحاديث ليوقفوه على الصحيح منها والفاسد، والله الموفق للصواب.

- لم يؤت إمام الزمان في التقية من قبل الله عز وجل ولا من جهة نفسه والمؤمنين وإنما من قبل الظالمين الذين أباحوا دمه ودفعوا نسبه وأنكروا حقه وحملوا الجمهور على عداوته ومناصبة القائلين بإمامته

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 1   ص13، 14:

فإن قال: إذا كان الإمام عندكم غائبا، ومكانه مجهولا، فكيف يصنع المسترشد؟ وعلى ماذا يعتمد الممتحن فيما ينزل به من حادث لا يعرف له حكما؟ وإلى من يرجع المتنازعون، لاسيما والإمام إنما نصب لما وصفناه؟.

قيل له: هذا السؤال مستأنف لا نسبة له بما تقدم، ولا وصلة بينه وبينه، وقد مضى السؤال الأول في معنى الخبر وفرض المعرفة وجوابه على انتظام، ونحن نجيب عن هذا المستأنف بموجز لا يخل بمعنى التمام منقول وبالله التوفيق:

إنما الإمام نصب لأشياء كثيرة: أحدها: الفصل بين المختلفين. الثاني: بيان الحكم للمسترشدين. ولم ينصب لهذين دون غيرهما من مصالح الدنيا والدين، غير أنه إنما يجب عليه القيام فيما نصب له مع التمكن من ذلك والاختيار، وليس يجب عليه شيء لا يستطيعه، ولا يلزمه فعل الإيثار مع الاضطرار، ولم يؤت الإمام في التقية من قبل الله عز وجل ولا من جهة نفسه وأوليائه المؤمنين، وإنما أتي ذاك من قبل الظالمين الذين أباحوا دمه ودفعوا نسبه، وأنكروا حقه، وحملوا الجمهور على عداوته ومناصبة القائلين بإمامته. وكانت البلية فيما يضيع من الأحكام، ويتعطل من الحدود، ويفوت من الصلاح، متعلقة بالظالمين، وإمام الأنام بريء منها وجميع المؤمنين.

- لم يكن احد من الأئمة الطاهرين من آباء إمام الزمان كلف القيام بالسيف مع ظهوره ولا ألزم بترك التقية ولا ألزم الدعاء إلى نفسه حسبما كلفه إمام زماننا هذا بشرط ظهوره

- يكون في آخر الزمان منتظر من الأئمة يكشف الله به الغمة ويحيي ويهدي به الأمة لا تسعه التقية عند ظهوره ينادي باسمه في السماء الملائكة الكرام ويدعوا إلى بيعته جبرئيل وميكائيل في الأنام وتظهر قبله أمارات القيامة في الأرض والسماء ويحيا عند ظهوره أموات وتروع آيات قيامه ونهوضه بالأمر الأبصار

- لا يقوم أمام الزمان بالسيف إلا مع وجود الأنصار واجتماع الحفدة والأعوان ولم يكن أنصاره عند وجوده متهيئين إلى هذا الوقت موجودين ولا على نصرته مجمعين ولا كان في الأرض من شيعته من يصلح للجهاد فلزمته التقية ووجب فرضها عليه كما فرضت على آبائه

- لما ثبت عصمة إمام الزمان وجب استتاره حتى يعلم يقينا لاشك فيه حضور الأعوان له واجتماع الأنصار وتكون المصلحة العامة في ظهوره بالسيف ويعلم تمكنه من إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 4   ص 11، 13:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلاته على سيدنا محمد وآله الطاهرين. وبعد: سأل بعض المخالفين فقال: ما السبب الموجب لاستتار إمام الزمان عليه السلام وغيبته التي قد طالت مدتها وامتدت بها الأيام، ثم قال: فان قلتم: إن سبب ذلك صعوبة الزمان عليه بكثرة أعدائه وخوفه منهم على نفسه، قيل لكم: فقد كان الزمان الأول على آبائه عليهم السلام أصعب، وأعداؤهم فيما مضى أكثر، وخوفهم على نفسهم أشد وأكثر، ولم يستتروا مع ذلك ولا غابوا عن أشياعهم، بل كانوا ظاهرين حتى أتاهم اليقين، وهذا يبطل اعتلالكم في غيبة صاحب الزمان عنكم واستتاره فيما ذكرتموه، وسألتك أدام الله عزك.

الجواب عن ذلك: الجواب وبالله التوفيق: إن اختلاف حالتي صاحب الزمان وآبائه عليه وعليهم السلام فيما يقتضيه استتاره اليوم وظهوره، إذ ذاك يقضي بطلان ما توهمه الخصم وادعاه من سهولة هذا الزمان على صاحب الأمر عليه السلام وصعوبته على آبائه عليهم السلام فيما سلف، وقلة خوفه اليوم وكثرة خوف آبائه فيما سلف، وذلك انه لم يكن احد من آبائه عليهم السلام كلف القيام بالسيف مع ظهوره، ولا ألزم بترك التقية، ولا ألزم الدعاء إلى نفسه حسبما كلفه إمام زماننا، هذا بشرط ظهوره عليه السلام، وكان من مضى من أبائه صلوات الله عليهم قد أبيحوا التقية من أعدائهم، والمخالطة لهم، والحضور في مجالسهم وأذاعوا تحريم إشهار السيوف على أنفسهم، وخطر الدعوة إليها. وأشاروا إلى منتظر يكون في آخر الزمان منهم يكشف الله به الغمة، ويحيي ويهدي به الأمة، لا تسعه التقية، عند ظهوره ينادي باسمه في السماء الملائكة الكرام، ويدعوا إلى بيعته جبرئيل وميكائيل في الأنام، وتظهر قبله أمارات القيامة في الأرض والسماء، ويحيا عند ظهوره أموات، وتروع آيات قيامه ونهوضه بالأمر الأبصار.

فلما ظهر ذلك عن السلف الصالح من آبائه عليهم السلام، وتحقق ذلك عند سلطان كل زمان وملك كل أوان، وعلموا أنهم لا يتدينون بالقيام بالسيف، ولا يرون الدعاء إلى مثله على أحد من أهل الخلاف، وان دينهم الذي يتقربون به إلى الله عز وجل التقية، وكف اليد، وحفظ اللسان، والتوفر على العبادات، والانقطاع إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحات، أمنوهم على أنفسهم مطمئنين بذلك إلى ما يدبرونه من شأنهم، ويحققونه من دياناتهم، وكفوا بذلك عن الظهور والانتشار، واستغنوا به عن التغيب والاستتار.

ولما كان إمام هذا الزمان عليه السلام هو المشار إليه بسل السيف من أول الدهر في تقادم الأيام المذكورة، والجهاد لأعداء الله عند ظهوره، ورفع التقية عن أوليائه، وإلزامه لهم بالجهاد، وانه المهدي الذي يظهر الله به الحق، ويبيد بسيفه الضلال، وكان المعلوم انه لا يقوم بالسيف إلا مع وجود الأنصار واجتماع الحفدة والأعوان، ولم يكن أنصاره عليه السلام عند وجوده متهيئين إلى هذا الوقت موجودين، ولا على نصرته مجمعين، ولا كان في الأرض من شيعته طرا من يصلح للجهاد وان كانوا يصلحون لنقل الآثار وحفظ الأحكام والدعاء له بحصول التمكن من ذلك إلى الله عز وجل، لزمته التقية، ووجب فرضها عليه كما فرضت على آبائه عليهم السلام، لأنه لو ظهر بغير أعوان لألقى بيده إلى التهلكة، ولو أبدى شخصه للأعداء لم يألوا جهدا في إيقاع الضرر به، واستئصال شيعته، وإراقة دمائهم على الاستحلال، فيكون في ذلك أعظم الفساد في الدين والدنيا، ويخرج به عليه السلام عن أحكام الدين وتدبير الحكماء.

ولما ثبت عصمته، وجب استتاره حتى يعلم يقينا لاشك فيه حضور الأعوان له، واجتماع الأنصار، وتكون المصلحة العامة في ظهوره بالسيف، ويعلم تمكنه من إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط ما ظنه المخالف من مناقضة أصحابنا الإمامية فيما يعتقدونه من علة ظهور السلف من أئمة الهدى عليهم السلام وغيبة صاحب زماننا هذا عليه التحية والرضوان وأفضل الرحمة والسلام والصلاة. وبان مما ذكرناه فرق ما بين حاله وأحوالهم فيما جوز لهم الظهور، واوجب حليه الاستتار.

- تقية الأئمة عليهم السلام في سيرة النبي صلى الله عليه وآله

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 4   ص 13، 16:

(فصل) ثم يقال لهذا الخصم: أليس النبي صلى الله عليه وآله قد أقام بمكة ثلاثة عشر سنة يدعو الناس إلى الله تعالى ولا يرى سل السيف ولا الجهاد، ويصبر على التكذيب له والشتم والضرب وصنوف الأذى، حتى انتهى أمره إلى أن القوا على ظهره صلى الله عليه وآله وهو راكع السلى، وكانوا يرضخون قدميه بالأحجار، ويلقاه السفيه من أهل مكة فيشتمه في وجهه ويحثو فيه التراب، ويضيق عليه أحيانا، ويبلغ أعداؤه في الأذى بضروب النكال، وعذبوا أصحابه أنواع العذاب، وفتنوا كثيرا منهم حتى رجعوا عن الإسلام، وكان المسلمون يسألونه الأذن لهم في سل السيف ومباينة الأعداء فيمنعهم عن ذلك، ويكفهم، ويأمرهم بالصبر على الأذى.

وروي: أن عمر بن الخطاب لما أظهر الإسلام سل سيفه بمكة وقال: لا يعبد الله سرا، فزجره رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك. وقال له عبد الرحمن بن عوف الزهري: لو تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله لأخذ كل رجل بيده رجلين إلى جنب رجل منهم فقتله. فنهاه النبي صلى الله عليه وآله عما قال.

ولم يزل ذلك حاله إلى أن طلب من النجاشي -وهو ملك الحبشة- أن يخفر أصحابه من قريش ثم أخرجهم إليه واستتر عليه وآله السلام خائفا على دمه في الشعب ثلاث سنين، ثم هرب من مكة بعد موت عمه أبي طالب مستخفيا بهربه، وأقام في الغار ثلاثة أيام ثم هاجر عليه وآله والسلام إلى المدينة ورأى النهي منه للقيام واستنفر أصحابه وهم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر، ولقي بهم ألف رجل من أهل بدر، ورفع التقية عن نفسه إذ ذاك.

ثم حضر المدينة متوجها إلى العمرة، فبايع تحت الشجرة بيعة الرضوان على الموت، ثم بدا له عليه وآله السلام فصالح قريشا ورجع عن العمرة ونحر هديه في مكانه، وبدا له من القتال، وكتب بينه وبين قريش كتابا سألوه فيه محو (بسم الله الرحمن الرحيم) فأجابهم إلى ذلك، و دعوا إلى محو اسمه من النبوة في الكتاب لاطلاعهم إلى ذلك، فاقترحوا عليه أن يرد رجلا مسلما إليهم حتى يرجع إلى الكفر أو يتركوه فأجابهم إلى ذلك هذا وقد ظهر عليهم في الحرب.

فإذا قال الخصم: بلى ولابد من ذلك إن كان من أهل العلم والمعرفة بالأخبار.

قيل له: فلم لم يقاتل بمكة وما باله صبر على الأذى، ولم منع أصحابه عن الجهاد وقد بذلوا أنفسهم في نصرة الإسلام، وما الذي اضطره إلى الاستجارة بالنجاشي وإخراج أصحابه من مكة إلى بلاد الحبشة خوفا على دمائهم من الأعداء، وما الذي دعاه إلى القتال حين خذله أصحابه وتثاقلوا عليه فقاتل بهم مع قلة عددهم، وكيف لم يقاتل بالحديبية مع كثرة أنصاره وبيعتهم له على الموت، وما وجه اختلاف أفعاله في هذه الأحوال؟ فما كان في ذلك جوابكم فهو جوابنا في ظهور السلف من أباء صاحب الزمان واستتاره وغيبته فلا تجدون من ذلك مهربا. والحمد لله المستعان، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.