عقائد الشيعة الإمامية >> الشيخ المفيد

 

 

عقائد الشيخ المفيد قدس سره

القيامة (الحشر والنشور والحساب والميزان والصراط والعقبات)

 

 

- الحساب هو موافقة العبد على ما أمر به في دار الدنيا وإنه يختص بأصحاب المعاصي من أهل الإيمان وأما الكفار فحسابهم جزاؤهم بالاستحقاق والمؤمنون الصالحون يوفون أجورهم بغير حساب

- المتولي للحساب رسول الله وأمير المؤمنين والأئمة من ذريتهما بأمر الله تعالى لهم بذلك وجعله إليهم تكرمة لهم وإجلالا لمقاماتهم وتعظيما على سائر العباد

- الصراط جسر بين الجنة والنار تثبت عليه أقدام المؤمنين وتزل عنه أقدام الكفار إلى النار

- الميزان هو التعديل بين الأعمال والمستحق عليها والمعدلون في الحكم إذ ذاك هم أئمة آل محمد

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 78،79:

56 - القول في الحساب وولاته والصراط والميزان

وأقول: إن الحساب هو موافقة العبد على ما أمر به في دار الدنيا وإنه يختص بأصحاب المعاصي من أهل الإيمان، وأما الكفار فحسابهم جزاؤهم بالاستحقاق والمؤمنون الصالحون يوفون أجورهم بغير حساب.

وأقول: إن المتولي لحساب من ذكرت رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمة من ذريتهما عليهم السلام بأمر الله تعالى لهم بذلك وجعله إليهم تكرمة لهم وإجلالا لمقاماتهم وتعظيما على سائر العباد، وبذلك جاءت الأخبار المستفيضة عن الصادقين عليهم السلام عن الله تعالى، وقد قال الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} يعني الأئمة عليهم السلام على ما جاء في التفسير الذي لا شك في صحته ولا ارتياب.

وأقول: إن الصراط جسر بين الجنة والنار تثبت عليه أقدام المؤمنين وتزل عنه أقدام الكفار إلى النار، وبذلك جاءت أيضا الأخبار.

وأما الميزان فهو التعديل بين الأعمال والمستحق عليها، والمعدلون في الحكم إذ ذاك هم ولاة الحساب من أئمة آل محمد عليهم السلام، وعلى هذا القول إجماع نقلة الحديث من أهل الإمامة، وأما متكلموهم من قبل فلم أسمع لهم في شيء منه كلاما.

- معنى قوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ  يريد به يوم القيامة يكشف فيه عن أمر شديد صعب عظيم

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 28:

[معنى كشف الساق]

قال الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ه‍ في رسالة اعتقاداته في معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} الساق: وجه الأمر وشدته.

قال الشيخ المفيد: معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} يريد به يوم القيامة [يكشف فيه] عن أمر شديد صعب عظيم، وهو الحساب والمداقة على الأعمال، والجزاء على الأفعال، وظهور السرائر وانكشاف البواطن، والمداقة على الحسنات والسيئات، فعبر بالساق عن الشدة، ولذلك قالت العرب فيما عبرت به عن شدة الحرب وصعوبتها: (قامت الحرب على ساق) و (قامت الحرب بنا على ساق) وقال شاعرهم أيضا وهو سعد بن خالد:

كشفت لهم عن ساقها  *  وبدا من الشر الصراح

وبدت عقاب الموت  *  يخفق تحتها الأجل المتاح

ومن ذلك قولهم: قد قامت السوق، إذا ازدحم أهلها واشتد أمرها بالمبايعة والمشاراة، ووقع الجد في ذلك والاجتهاد.

- الصراط

- الصراط في اللغة هو الطريق فلذلك سمي الدين صراطا لأنه طريق إلى الصواب وله سمي الولاء لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته صراطا

- صراط الله تعالى دين الله وصراط الشيطان طريق العصيان

- الصراط يوم القيامة هو الطريق المسلوك إلى الجنة أو النار

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 108، 111:

فصل: في الصراط قال أبو جعفر  اعتقادنا في الصراط أنه حق، وأنه جسر.

قال الشيخ المفيد أبو عبد الله رحمه الله: الصراط في اللغة هو الطريق، فلذلك سمي الدين صراطا، لأنه طريق إلى الصواب، [وله سمي] الولاء لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام صراطا.

ومن معناه قال أمير المؤمنين عليه السلام: أنا صراط الله المستقيم، وعروته الوثقى التي لا انفصام لها. يعني: أن معرفته والتمسك به طريق إلى الله سبحانه.

وقد جاء الخبر بأن الطريق يوم القيامة إلى الجنة كالجسر يمر به الناس، وهو الصراط الذي يقف عن يمينه رسول الله صلى الله عليه وآله وعن شماله أمير المؤمنين عليه السلام ويأتيهما النداء من قبل الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} وجاء الخبر أنه لا يعبر الصراط يوم القيامة إلا من كان معه براءة من علي بن أبي طالب عليه السلام من النار.

وجاء الخبر بأن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف على الكافر. والمراد بذلك أنه لا تثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدة ما يلحقهم من أهوال يوم القيامة ومخاوفها، فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشيء الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف. وهذا مثل مضروب لما يلحق الكافر من الشدة في عبوره على الصراط، وهو طريق إلى الجنة وطريق إلى النار، يشرف العبد منه إلى الجنة ويرى منه أهوال النار.

وقد يعبر به عن الطريق المعوج فلهذا قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} فميز بين طريقه الذي دعا إلى سلوكه من الدين، وبين طرق الضلال.

وقال الله تعالى فيما أمر به عباده من الدعاء وتلاوة القرآن: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} فدل على أن ما سواه صراط غير مستقيم.

وصراط الله تعالى دين الله، وصراط الشيطان طريق العصيان، والصراط في الأصل على ما بيناه هو الطريق، والصراط يوم القيامة هو الطريق المسلوك إلى الجنة أو النار على ما قدمناه.

- في العقبات على طريق المحشر

- العقبات على طريق المحشر عبارة عن الأعمال الواجبات والمسألة عنها والمواقفة عليها وليس المراد بها جبال في الأرض تقطع وإنما هي الأعمال شبهت بالعقبات وجعل الوصف لما يلحق الإنسان في تخلصه من تقصيره في طاعة الله تعالى كالعقبة التي يجهد صعودها وقطعها

- في قوله تعالى فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ سمى سبحانه الأعمال التي كلفها العبد عقبات تشبيها لها بالعقبات والجبال لما يلحق الإنسان في أدائها من المشاق كما يلحقه في صعود العقبات وقطعها

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 112، 113:

فصل: في العقبات على طريق المحشر

قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله في العقبات: اسم كل عقبة اسم فرض أو أمر أو نهي.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: العقبات عبارة عن الأعمال الواجبات والمسألة عنها والمواقفة عليها، وليس المراد بها جبال في الأرض تقطع وإنما هي الأعمال شبهت بالعقبات، وجعل الوصف لما يلحق الإنسان في تخلصه من تقصيره في طاعة الله تعالى كالعقبة التي يجهد صعودها وقطعها.

قال الله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} الآية، فسمى سبحانه الأعمال التي كلفها العبد عقبات تشبيها لها بالعقبات والجبال لما يلحق الإنسان في أدائها من المشاق، كما يلحقه في صعود العقبات وقطعها.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إن أمامكم عقبة كؤودا، ومنازل مهولة، لا بد من الممر بها، والوقوف عليها، فإما برحمة من الله نجوتم، وإما بهلكة ليس بعدها انجبار".

أراد عليه السلام بالعقبة: تخلص الإنسان من التبعات التي عليه، وليس كما ظنه الحشوية من أن في الآخرة جبالا وعقبات يحتاج الإنسان إلى قطعها ماشيا وراكبا، وذلك لا معنى له فيما توجبه الحكمة من الجزاء، ولا وجه لخلق عقبات تسمى بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من الفرائض، يسأم الإنسان أن يصعدها، فإن كان مقصرا في طاعة الله حال ذلك بينه وبين صعودها، إذ كان الغرض في القيامة المواقفة على الأعمال والجزاء عليها بالثواب والعقاب، وذلك غير مفتقر إلى تسمية عقبات وخلق جبال، وتكليف قطع ذلك وتصعيبه أو تسهيله مع أنه لم يرد خبر صحيح بذلك على التفصيل فيعتمد عليه وتخرج له الوجوه، وإذا لم يثبت بذلك خبر كان الأمر فيه ما ذكرناه.

- في الحساب والموازين

- الحساب هو المقابلة بين الأعمال والجزاء عليها والمواقفة للعبد على ما فرط منه والتوبيخ له على سيئاته والحمد له على حسناته ومعاملته في ذلك باستحقاقه

- الموازين هي التعديل بين الأعمال والجزاء عليها ووضع كل جزاء في موضعه وإيصال كل ذي حق إلى حقه

- الخبر الوارد في أن أمير المؤمنين والأئمة من ذريته هم الموازين المراد أنهم المعدلون بين الأعمال فيما يستحق عليها والحاكمون فيها بالواجب والعدل

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 114:

فصل: في الحساب والموازين

قال الشيخ أبو جعفر اعتقادنا في الحساب أنه حق.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: الحساب هو المقابلة بين الأعمال والجزاء عليها، والمواقفة للعبد على ما فرط منه، والتوبيخ له على سيئاته، والحمد له على حسناته، ومعاملته في ذلك باستحقاقه. وليس هو كما ذهبت العامة إليه من مقابلة الحسنات بالسيئات والموازنة بينهما على حسب استحقاق الثواب والعقاب عليهما، إذ كان التحابط بين الأعمال غير صحيح، ومذهب المعتزلة فيه باطل غير ثابت، وما اعتمده الحشوية في معناه غير معقول.

والموازين هي التعديل بين الأعمال والجزاء عليها، ووضع كل جزاء في موضعه، وإيصال كل ذي حق إلى حقه. فليس الأمر في معنى ذلك على ما ذهب إليه أهل الحشو، من أن في القيامة موازين كموازين الدنيا، لكل ميزان كفتان توضع الأعمال فيها، إذ الأعمال أعراض، والأعراض لا يصح وزنها، وإنما توصف بالثقل والخفة على وجه المجاز، والمراد بذلك أن ما ثقل منها هو ما كثر واستحق عليه عظيم الثواب، وما خف منها ما قل قدره ولم يستحق عليه جزيل الثواب.

والخبر الوارد في أن أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام هم الموازين، فالمراد أنهم المعدلون بين الأعمال فيما يستحق عليها، والحاكمون فيها بالواجب والعدل. ويقال فلان عندي في ميزان فلان، ويراد به نظيره. ويقال: كلام فلان عندي أوزن من كلام فلان، والمراد به أن كلامه أعظم وأفضل قدرا، والذي ذكره الله تعالى في الحساب والخوف منه إنما هو المواقفة على الأعمال، لأن من وقف على أعماله لم يتخلص من تبعاتها، ومن عفى الله تعالى عنه في ذلك فاز بالنجاة: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ -بكثرة استحقاقه الثواب- فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ -بقلة أعمال الطاعات- فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} والقرآن إنما أنزل بلغة العرب وحقيقة كلامها ومجازه، ولم ينزل على ألفاظ العامة وما سبق إلى قلوبها من الأباطيل.

- قوله تعالى وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ وقوله تعالى فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ تحمل على التعظيم لأمر الآخرة والإخبار عن شدته وأهواله

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 108، 109:

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه: سئل عن قول الله عز وجل: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وقوله في موضع آخر: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} وقوله تعالى في موضع آخر {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وما الوجه في هذه الآيات مع اختلاف ظواهرها؟.

فقال الشيخ أدام الله عزه: أما معنى الأولة والثانية فإنه تحمل على التعظيم لأمر الآخرة والإخبار عن شدته وأهواله، فاليوم الواحد من أيامها على أهل العذاب كألف سنة من سني الدنيا لشدته وعظم بلائه وما يحل بالكافرين فيه من أنواع العذاب.

واليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة فهو يوم المحشر وإنما طال على الكافرين حتى صار قدره عندهم ذلك لما يشاهدون فيه من شدة الحساب وعذاب جهنم وصعوبته، والممر على الصراط، والمعاينة للسعير وإسماعهم زفرات النار وصوت سلاسلها وأغلالها، وصياح خزنتها، ورؤيتهم لاستطارة شررها.

ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} وقد وصف الله عز وجل ذلك اليوم وقال: {إِنَّ هَؤُلاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً} وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} وقال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وهذا الذي ذكرناه معروف في اللسان يقول القائل (كانت ليلتي البارحة شهرا) وقال امرؤ القيس:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجل   *  بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأن نجومه  *   بكل مغار الفتل شدت بيذبل

والليل لم يطل في نفسه ولكن طال عليه لما قاسى فيه من الهم والسهر، والعرب تقول ليوم الشر (هذا يوم أطول من عمر النسر).

وأما قوله عز وجل: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} فالمعنى فيه على ما ذكر أنه يعرج في يوم مقداره لو رام بشر قطعه، لما قطعه إلا في ألف سنة، وإذا كان الأمر على ما بيناه لم يكن بين المعاني تفاوت على ما وصفناه.

- المقدم في قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ و قوله تعالى يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ هو ما عمله في حياته مما لم يكن له أثر بعد وفاته والمؤخر ما سنه في حياته فاقتدى به بعد وفاته

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 136 :

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في تفسير القران، سئل عن قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} وعن قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، وقيل له ما هو المقدم هاهنا والمؤخر؟ فقال: أما ما قدمه الإنسان فهو ما عمله في حياته مما لم يكن له أثر بعد وفاته، وأما الذي أخره فهو ما سنه في حياته فاقتدي به بعد وفاته. وهذا مبين في قول النبي صلى الله عليه وآله: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". وقد قال سبحانه: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} يريد به عقاب إضلالهم لمن أضلوه من الناس، والأصل في هذا تعاظم العقاب عليهم بما يفعل من القبيح في الاقتداء بهم، وتعاظم الثواب لهم بما يصنع من الجميل بالإتباع لسنتهم الحسنة في الناس.

- الحشر حشران عام وخاص

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 30، 36:

المسألة الأولى: في المتعة والرجعة: ما قول الشيخ المفيد أطال الله بقاءه، وأدام تأييده وعلاه، وحرس معالم الدين بحياطة مهجته، وأقر عيون الشيعة بنضارة أيامه فيما يروى عن مولانا جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام في الرجعة؟ وما معنى قوله عليه السلام "ليس منا من لم يقل بمتعتنا، ويؤمن برجعتنا" أهي حشر في الدنيا مخصوص للمؤمنين، أو لغيرهم من الظلمة الجائرين قبل يوم القيامة؟

الجواب: وبالله التوفيق. إن المتعة التي ذكرها الصادق عليه السلام هي النكاح المؤجل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله أباحها لامته في حياته، ونزل القرآن بإباحتها أيضا، فتأكد ذلك بإجماع الكتاب والسنة فيه. حيث يقول الله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}. فلم تزل على الإباحة بين المسلمين، لا يتنازعون فيها، حتى رأى عمر بن الخطاب النهي عنها، فحظرها وشدد في حظرها، وتوعد على فعلها فاتبعة الجمهور على ذلك، وخالفهم جماعة من الصحابة والتابعين فأقاموا على تحليلها إلى أن مضوا لسبيلهم.

واختص بإباحتها جماعة أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام، فلذلك أضافها الصادق عليه السلام إلى نفسه بقوله: "متعتنا".

وأما قوله عليه السلام: "من لم يقل برجعتنا فليس منا" فإنما أراد بذلك ما يختصه من القول به في أن الله تعالى يحيي قوما من أمة محمد صلى الله عليه وآله بعد موتهم، قبل يوم القيامة، وهذا مذهب يختص به آل محمد صلى الله عليه وآله وعليهم. وقد أخبر الله عز وجل في ذكر الحشر الأكبر يوم القيامة: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}. وقال سبحانه في حشر الرجعة قبل يوم القيامة: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} فأخبر أن الحشر حشران: عام وخاص.

وقال سبحانه مخبرا عمن يحشر من الظالمين أنه يقول يوم الحشر الأكبر: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}.

وللعامة في هذه الآية تأويل مردود، وهو: أن المعني بقوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} أنه خلقهم أمواتا ثم أماتهم بعد الحياة. وهذا باطل لا يجري على لسان العرب، لأن الفعل لا يدخل إلا على ما كان بغير  الصفة التي انطوى اللفظ على معناها، ومن خلقه الله مواتا لا يقال إنه أماته، وإنما يقال ذلك فيمن طرأ عليه الموت بعد الحياة. كذلك لا يقال أحيا الله ميتا إلا أن يكون قد كان قبل إحيائه ميتا. وهذا بين لمن تأمله. وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمسألة، فتكون الأولى قبل الإقبار، والثانية بعده. وهذا أيضا باطل من وجه آخر، وهو أن الحياة للمسألة ليست للتكليف فيندم الإنسان على ما فاته في حاله، وندم القوم على ما فاتهم في حياتهم المرتين يدل على أنه لم يرد حياة المسألة، لكنه أراد حياة الرجعة التي تكون لتكليفهم والندم على تفريطهم، فلا يفعلون ذلك فيندمون يوم العرض على ما فاتهم من ذلك.

- ورد عن أئمة الهدى أن الله تعالى يجعل روح من محض الكفر بعد موته يجعل في قالب كقالبه في الدنيا في محل عذاب يعاقب به ونار يعذب بها حتى الساعة ثم ينشأ جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه ثم يعذب به في الآخرة عذاب الأبد

- جسد أهل الجنة لا يكون على تركيبه في الدنيا بل يعدل طباعه ويحسن صورته فلا يهرم مع تعديل الطباع ولا يمسه نصب في الجنة ولا لغوب

- جسد أهل النار لا يكون على تركيبه في الدنيا بل يركب تركيبا لا يفنى معه

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 62:

المسألة الخامسة: عذاب القبر ما قوله أدام الله تأييده في عذاب القبر وكيفته؟ ومتى يكون؟ وهل ترد الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا؟ وهل يكون العذاب في القبر، أو يكون بين النفختين؟.

الجواب: الجواب عن هذا السؤال قد تقدم في المسألة التي سبقت هذه المسالة. والكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل. وقد ورد عن أئمة الهدى عليهم السلام أنهم قالوا: "ليس يعذب في القبر كل ميت، وإنما يعذب من جملتهم من محض الكفر، ولا ينعم كل ماض لسبيله، وإنما ينعم منهم من محض الإيمان محضا، فأما سوى هذين الصنفين فإنه يلهى عنهم". وكذلك روي أنه لا يسأل في قبره إلا هذان الصنفان خاصة. فعلى ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه.

وأما كيفية عذاب الكافر في قبره، ونعيم المؤمن فيه، فإن الأثر أيضا قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا، في جنة من جنانه، ينعمه فيها إلى يوم الساعة، فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي بلي في التراب وتمزق، ثم أعاده إليه وحشره إلى الموقف، وأمر به إلى جنة الخلد، فلا يزال منعما ببقاء الله عز وجل. غير أن جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا، بل يعدل طباعه ويحسن صورته فلا يهرم مع تعديل الطباع، ولا يمسه نصب في الجنة ولا لغوب. والكافر يجعل في قالب كقالبه في الدنيا، في محل عذاب يعاقب به، ونار يعذب بها حتى الساعة، ثم ينشأ جسده الذي فارقه في القبر، ويعاد إليه، ثم يعذب به في الآخرة عذاب الأبد، ويركب أيضا جسده تركيبا لا يفنى معه. وقد قال الله عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}. وقال في قصة الشهداء: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وهذا قد مضى فيما تقدم. فدل على أن العذاب والثواب يكون قبل القيامة وبعدها، والخبر وارد بأنه يكون مع فراق الروح الجسد في الدنيا.

والروح هاهنا عبارة عن انفعال الجوهر البسيط، وليس بعبارة عن الحياة التي يصح معها العلم والقدرة، لأن هذه الحياة عرض لا يبقى، ولا يصح عليه الإعادة. فهذا ما عول عليه أهل النقل، وجاء به الخبر على ما بيناه.

- حياة الشهداء

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 66، 68:

المسألة السادسة: حياة الشهداء: ما قوله أدام الله تعالى تمكينه في قول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} أهم أحياء في الحقيقة على ما تقتضيه الآية الشريفة، أم الآية مجاز؟ وهل أجسادهم الآن في قبورهم، أم في الجنة؟ فإن المعتزلة من أصحاب أبي هاشم يقولون: إن الله تعالى ينزع من جسد كل واحد منهم أجزاء قدر ما تتعلق به الروح، وأنه تعالى يرزقهم على ما نطقت به الآية، وما سوى هذا من أجزاء أبدانهم فهي في قبورهم كأجساد سائر الموتى.

الجواب: هو ما قدمنا ذكره في المسالة السابقة، وقد ثبت ما فيه ببيان يستغنى بوضوحه عن تكراره وإعادته. فأما هذا المحكي في أصحاب أبي هاشم فلان المحفوظ عنه: أن الإنسان المخاطب المأمور المنهي هو البنية التي لا تصح الحياة إلا بها، وما سوى ذلك من الجسد فليس بإنسان، ولا يتوجه إليه أمر ولا نهي ولا تكليف. وإن كان القوم يزعمون أن تلك البنية لا تفارق ما جاورها من الجسد فيعذب أو ينعم، فهو مقال يستمر على أصلهم إذا كانت البنية التي ذكروها هو المكلف المأمور المنهي، وباقي جسده في القبر. إلا أنهم لم يذكروا كيف يعذب من يعذب، ويثاب من يثاب: أفي دار غير الدنيا، أم فيها؟ وهل يحيى بعد الموت، أو يفارق الجملة في الدنيا فلا يلحقة موت؟ ثم لم يحك عنهم في أي محل يعذبون ويثابون. وما قالوه من ذلك فليس به أثر، ولا يدل عليه العقل، وإنما هو مخرج منهم على الظن والحسبان. ومن بنى مذهبه على الظن في مثل هذا الباب كان بمقاله مضطربا.

ثم إنه يفسد قولهم من بعد: ما دل على أن الإنسان المأمور المنهي هو الجوهر البسيط، وأن الأجزاء المؤلفة لا يصح أن تكون فعالة. ودلائل ذلك يطول بإثباتها الكتاب، وفيما أومأنا إليه منها كفاية فيما يتعلق به السؤال. وبالله التوفيق.