عقائد الشيعة الإمامية >> الشيخ المفيد

 

 

عقائد الشيخ المفيد قدس سره

الإمامين العسكري والمهدي عليهما السلام

 

 - الخبر المروي عن رسول الله من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية خبر صحيح يشهد له إجماع أهل الآثار ويقوي معناه صريح القرآن

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 1   ص 11:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلاته على عباده الذين اصطفى. وبعد: سأل سائل فقال: أخبروني عما روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: "من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية" هل هو ثابت صحيح أم هو معتل سقيم؟

الجواب وبالله التوفيق والثقة: قيل له: بل هو خبر صحيح يشهد له إجماع أهل الآثار ويقوي معناه صريح القرآن، حيث يقول جل اسمه {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} وقوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا} وأي كثيرة من القران.

- لا مضادة بين معرفة إمام الزمان وبين تغيبه واستتاره وعدم العلم بمكانه

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 1   ص 11، 12:

فإن قال: فإذا كان الخبر صحيحا كيف يصح قولكم في غيبة إمام هذا الزمان وتغيبه واستتاره على الكل الوصول إليه وعدم علمهم بمكانه؟

قيل له: لا مضادة بين المعرفة بالإمام وبين جميع ما ذكرت من أحواله، لان العلم بوجوده في العالم لا يفتقر إلى العلم بمشاهدته لمعرفتنا ما لا يصح إدراكه بشيء من الحواس، فضلا عمن يجوز إدراكه وإحاطة العلم بما لا مكان له، فضلا عمن يخفى مكانه والظفر بمعرفة المعدوم والماضي والمنتظر، فضلا عن المستخفي المستتر. وقد بشر الله تعالى الأنبياء المتقدمين بنبينا محمد صلى الله عليه وآلهقبل وجوده في العالم. فقال سبحانه {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} يعني رسول الله صلى الله عليه وآله {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} يعني عهدي {قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} قال جل اسمه {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} فكان نبينا عليه والله السلام مكتوبا مذكورا في كتب الله الأولى، وقد أوجب على الأمم الماضية معرفته والإقرار به وانتظاره، وهو عليه السلام وديعة في صلب آبائه لم يخرج إلى الوجود، ونحن اليوم عارفون بالقيامة والبعث والحساب وهو معدوم غير موجود، وقد عرفنا آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولم نشاهدهم ولا شاهدنا من أخبر عن مشاهدتهم، ونعرف جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك، الموت عليهم السلام ولست نعرف لهم شخصا ولا نعرف لهم مكانا، فقد فرض الله علينا معرفتهم والإقرار بهم وان كنا لا نجد إلى الوصول إليهم سبيلا، ونعلم أن فرض (المعرفة لشخص في نفسه من المصالح مما لا يتعلق لوجود مشاهدة) المعروف ولا يعرف مستقره ولا الوصول إليه في مكانه، وهذا بين لمن تدبره.

- نفس معرفتنا بوجود إمام الزمان وإمامته وعصمته وكماله نفع لنا في اكتساب الثواب وانتظارنا لظهوره عبادة نستدفع بها عظيم العقاب ونؤدي بها فرضا ألزمناه ربنا المالك للرقاب

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 1   ص 13:

فإن قال: فما ينفعنا من معرفته مع عدم الانتفاع به من الوجه الذي ذكرنا؟.

قيل له: نفس معرفتنا بوجوده وإمامته وعصمته وكماله نفع لنا في اكتساب الثواب، وانتظارنا لظهوره عبادة نستدفع بها عظيم العقاب، ونؤدي بها فرضا ألزمناه ربنا المالك للرقاب، كما كانت المعرفة بمن عددناه من الأنبياء والملائكة من اجل النفع لنا في مصالحنا، واكتسابنا المثوبة في اجلنا؛ وان لم يصح المعرفة لهم على كل حال وكما أن معرفة الأمم الماضية نبينا قبل وجوده مع أنها كانت من أوكد فرائضهم لأجل منافعهم، ومعرفة الباري جل اسمه أصل الفرائض كلها، وهو أعظم من أن يدرك بشيء من الحواس.

- الإمام نصب لأشياء كثيرة أحدها الفصل بين المختلفين والثاني بيان الحكم للمسترشدين

- يجب على الإمام القيام فيما نصب له مع التمكن من ذلك والاختيار وليس يجب عليه شيء لا يستطيعه ولا يلزمه فعل الإيثار مع الاضطرار

- لم يؤت إمام الزمان في التقية من قبل الله عز وجل ولا من جهة نفسه والمؤمنين وإنما من قبل الظالمين الذين أباحوا دمه ودفعوا نسبه وأنكروا حقه وحملوا الجمهور على عداوته ومناصبة القائلين بإمامته

- البلية فيما يضيع من الأحكام ويتعطل من الحدود ويفوت من الصلاح لغيبة إمام الزمان متعلقة بالظالمين وإمام الأنام بريء منها وجميع المؤمنين

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 1   ص13، 14:

فإن قال: إذا كان الإمام عندكم غائبا، ومكانه مجهولا، فكيف يصنع المسترشد؟ وعلى ماذا يعتمد الممتحن فيما ينزل به من حادث لا يعرف له حكما؟ وإلى من يرجع المتنازعون، لاسيما والإمام إنما نصب لما وصفناه؟.

قيل له: هذا السؤال مستأنف لا نسبة له بما تقدم، ولا وصلة بينه وبينه، وقد مضى السؤال الأول في معنى الخبر وفرض المعرفة وجوابه على انتظام، ونحن نجيب عن هذا المستأنف بموجز لا يخل بمعنى التمام منقول وبالله التوفيق:

إنما الإمام نصب لأشياء كثيرة: أحدها: الفصل بين المختلفين. الثاني: بيان الحكم للمسترشدين. ولم ينصب لهذين دون غيرهما من مصالح الدنيا والدين، غير أنه إنما يجب عليه القيام فيما نصب له مع التمكن من ذلك والاختيار، وليس يجب عليه شيء لا يستطيعه، ولا يلزمه فعل الإيثار مع الاضطرار، ولم يؤت الإمام في التقية من قبل الله عز وجل ولا من جهة نفسه وأوليائه المؤمنين، وإنما أتي ذاك من قبل الظالمين الذين أباحوا دمه ودفعوا نسبه، وأنكروا حقه، وحملوا الجمهور على عداوته ومناصبة القائلين بإمامته. وكانت البلية فيما يضيع من الأحكام، ويتعطل من الحدود، ويفوت من الصلاح، متعلقة بالظالمين، وإمام الأنام بريء منها وجميع المؤمنين.

- الممتحن بحادث يحتاج إلى علم الحكم فيه في غيبة الإمام فقد وجب عليه إن يرجع في ذلك إلى العلماء من شيعة الإمام وليعلم ذلك من جهتهم بما استودعوه من أئمة الهدى المتقدمين وإن عدم ذلك ولم يكن فيه حكم منصوص على حال فيعلم انه على حكم العقل

- يجب على المتنازعين عند غيبة الإمام رد ما اختلفوا فيه إلى الكتاب والسنة عن رسول الله من جهة خلفائه الراشدين من عترته الطاهرين ويستعينوا في معرفة ذلك بعلماء الشيعة وفقهائهم وان كان والعياذ بالله لم يوجد فيما اختلفوا فيه نص على حكم سمعي فليعلم أن ذلك مما كان في العقول

- إذا كان الإمام ظاهرا ما وسع الممتحن  بحادث يحتاج إلى علم الحكم ولا المتنازعين غير الرد إلى الأمام والعمل على قوله

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 1   ص14، 15:

فأما الممتحن بحادث يحتاج إلى علم الحكم فيه فقد وجب عليه إن يرجع في ذلك إلى العلماء من شيعة الإمام وليعلم ذلك من جهتهم بما استودعوه من أئمة الهدى المتقدمين، وإن عدم ذلك والعياذ بالله ولم يكن فيه حكم منصوص على حال فيعلم انه على حكم العقل، لأنه  لو أراد الله أن يتعبد فيه بحكم سمعي لفعل ذلك، ولو فعله لسهل السبيل إليه.

وكذلك القول في المتنازعين، يجب عليهم رد ما اختلفوا فيه إلى الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله من جهة خلفائه الراشدين من عترته الطاهرين، ويستعينوا في معرفة ذلك بعلماء الشيعة وفقهائهم، وان كان والعياذ بالله لم يوجد فيما اختلفوا فيه نص على حكم سمعي فليعلم أن ذلك مما كان في العقول، ومفهوم أحكام العقول، مثل: أن من غصب إنسانا شيئا فعليه رده بعينه إن كانت عينه قائمة، فإن لم تكن عينه قائمة كان عليه تعويضه منه بمثله، فان لم يوجد له مثل كان أن يرضي خصمه بما تزول معه ظلامته، فإن لم يستطع ذلك أو لم يفعله مختارا كان في ذمته إلى يوم القيامة. وإن كان جان جنى على غيره جناية لا يمكن تلافيها كانت في ذمته، وكان المجني عليه ممتحنا بالصبر. إلى أن ينصفه الله تعالى يوم الحساب. فان كان الحادث مما لا يعلم بالسمع إباحته من خطره، فانه على الإباحة إلا أن يقوم دليل سمعي على خطره.

وهذا الذي وصفناه إنما جاز للمكلف الاعتماد عليه والرجوع إليه عند الضرورة بفقد الإمام المرشد، ولو كان الإمام ظاهرا ما وسعه غير الرد إليه، والعمل على قوله، وهذا كقول خصومنا كافة: إن على الناس في نوازلهم بعد النبي صلى الله عليه وآله أن يجتهدوا فيها عند فقدهم النص عليها، ولا يجوز لهم الاجتهاد واستعمال الرأي بحضرة النبي صلى الله عليه وآله.

- لا يجوز الاستغناء عن الإمام في حال غيبته

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 1   ص 16:

فإن قال: فإذا كانت عبادتكم تتم بما وصفتموه مع غيبة الإمام فقد استغنيتم عن الإمام.

قيل له: ليس الأمر كما ظننت في ذلك، لان الحاجة إلى الشيء قد تكون قائمة مع فقد ما يسدها، ولو لا ذلك ما كان الفقير محتاجا إلى المال مع فقده، ولا المريض محتاجا إلى الدواء وان بعد وجوده، والجاهل محتاجا إلى العلم وان عدم الطريق إليه، والمتحير محتاجا إلى الدليل وان يظفر به.

ولو لزمنا ما ادعيتموه وتوهمتموه للزم جميع المسلمين إن يقولوا أن الناس كانوا في حال غيبة النبي صلى الله عليه وآله للهجرة وفي الغار أغنياء عنه، وكذلك كانت حالهم في وقت استتاره بشعب أبي طالب عليه السلام، وكان قوم موسى عليه السلام أغنياء عنه في حال غيبته عنهم لميقات ربه، وكذلك أصحاب يونس عليه السلام أغنياء عنه لما ذهب مغضبا والتقمه الحوت وهو مليم، وهذا مما لا يذهب إليه مسلم ولا ملي. فيعلم بذلك بطلان ما ظنه الخصوم وتوهموه على الظنة والرجوم. وبالله التوفيق.

- ثبت عند الشيعة الإمامية بالنقل المتواتر أن الثاني عشر يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 2   ص 11، 12:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد والله وسلم تسليما.

سأل سائل الشيخ المفيد رضي الله عنه فقال: ما الدليل على وجود الإمام صاحب الغيبة عليه السلام، فقد اختلف الناس في وجوده اختلافا ظاهرا؟.

فقال له الشيخ: الدليل على ذلك إنا وجدنا الشيعة الإمامية فرقة قد طبقت الأرض شرقا وغربا مختلفي الآراء والهمم، متباعدي الديار لا يتعارفون، متدينين بتحريم الكذب، عالمين بقبحه، ينقلون نقلا متواترا عن أئمتهم عليهم السلام عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه: أن الثاني عشر يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون ويحكون أن الغيبة تقع على ما هي عليه، فليس تخلوا هذه الأخبار أن تكون صدقا أو كذبا، فان كانت صدقا فقد صح ما نقول، وان كانت كذبا استحال ذلك، لأنه لو جاز على الإمامية وهم على ما هم عليه لجاز على سائر المسلمين في نقلهم معجزات النبي صلى الله عليه وآله مثل ذلك، و لجاز على سائر الأمم والفرق مثله، حتى لا يصح خبر في الدنيا، وكان ذلك إبطال الشرائع كلها.

- في الأخبار الواردة في غيبة أمام الزمان

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 2   ص 12، 14:

قال السائل: فلعل قوما تواطئوا في الأصل فوضعوا هذه الأخبار ونقلتها الشيعة وتدينت بها وهي غير عالمة بالأصل كيف كان.

قال له الشيخ رضي الله عنه: أول ما في هذا أنه طعن في جميع الأخبار، لأن قائلا لو قال للمسلمين في نقلهم لمعجزات النبي صلى الله عليه وآله لعلها في الأصل موضوعة، ولعل قوما تواطئوا عليها فنقلها من لا يعلم حالها في الأصل، وهذا طريق إلى إبطال الشرائع، وأيضا فلو كان الأمر على ما ذكره السائل لظهر وانتشر على ألسن المخالفين -مع طلبهم لعيوبهم وطلب الحيلة في كسر مذاهبهم- وكان ذلك أظهر وأشهر مما يخفى، وفي عدم العلم بذلك ما يدل على بطلان هذه المعارضة.

قال: فأرنا طرق هذه الأخبار، وما وجهها ووجه دلالتها.

قال: الأول ما في هذا الخبر الذي روته العامة والخاصة وهو خبر كميل ابن زياد قال: دخلت على أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو ينكث في الأرض فقلت له: يا مولاي مالك تنكث الأرض أرغبة فيها؟ فقال: والله ما رغبت فيها ساعة قط، ولكني أفكر في التاسع من ولد الحسين هو الذي يملا الأرض قسطا وعدلا كما ملأت ظلما وجورا، تكون له غيبة يرتاب فيها المبطلون، يا كميل بن زياد لا بد لله في أرضه من حجة، إما ظاهر مشهور شخصه، وإما باطن مغمور لكيلا تبطل حجج الله. والخبر طويل، وإنما اقتصرنا على موضع الدلالة.

وما روي عن الباقر عليه السلام: أن الشيعة قالت له يوما: أنت صاحبنا الذي يقوم بالسيف؟ قال: لست بصاحبكم، انظروا من خفيت ولادته فيقول قوم ولد ويقول قوم ما ولد، فهو صاحبكم.

وما روي عن الصادق عليه السلام انه قال: كيف بكم إذا التفتم يمينا فلم تروا أحدا، والتفتم شمالا فلم تروا أحدا، واستولت أقوام بني عبد المطلب، ورجع عن هذا الأمر كثير ممن يعتقده، يمسي أحدكم مؤمنا ويصبح كافرا، فالله الله في أديانكم هنالك فانتظروا الفرج.

وما روي عن موسى بن جعفر عليهما السلام انه قال: إذا توالت ثلاثة أسماء محمد وعلي والحسن فالرابع هو القائم صلوات الله عليه و عليهم.

ولو ذهبنا إلى ما روي في هذا المعنى لطال به الشرح، وهذا السيد ابن محمد الحميري يقول في قصيدة له قبل الغيبة وبخمسين ومائة سنة:

وكذا روينا عن وصي محمد  *   وما كان فيما قاله بالمتكذب

بأن ولي الأمر يفقد لا يرى  *  ستيرا كفعل الخائف المترقب

فيقسم أموال الفقيد كأنما  *  تغيبة تحت الصفيح المنصب

فيمكث حياثم ينبع نبعة  *  كنبعة درى من الأرض يوهب

له غيبة لابد من أن يغيبها  *   فصلى عليه الله من متغيب

 

فانظروا رحمكم الله قول السيد هذا القول وهو (الغيبة) كيف وقع له أن يقوله لولا أن سمعه من أئمته، وأئمته سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله، وإلا فهل يجوز لقائل أن يقول قولا فيقع كما قال ما يخرم منه حرف؟! عصمنا الله وإياكم من الهوى، وبه نستعين، وعليه نتوكل.

- نقل غير الشيعة أخبار غيبة إمام الزمان غير لازم ولا واجب

- إن الله سبحانه إذا نصب دليلا وحجة على سائر خلقه فأخافه الظالمون كانت الحجة على من أخافه لا على الله سبحانه

- أمام الزمان ليس حجة على أهل السماء إنما هو حجة على أهل الأرض والحجة لا تكون إلا بين المحجوجين به وإن كان هذا لا يمتنع في العقل لولا الأخبار الواردة أن الأرض لا تخلو من حجة

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 2   ص 15، 16:

قال السائل: فقد كان يجب أن ينقل هذه الأخبار مع الشيعة غيرهم.

فقال له: هذا غير لازم ولا واجب، ولو وجب وجب أن لا يصح خبر لا ينقله المؤالف والمخالف وبطلت الأخبار كلها.

فقال السائل: فإذا كان الإمام عليه السلام غائبا طول هذه المدة لا ينتفع به، فما الفرق بين وجوده وعدمه.

قال له: إن الله سبحانه إذا نصب دليلا وحجة على سائر خلقه فأخافه الظالمون كانت الحجة على من أخافه لا على الله سبحانه، ولو أعدمه الله كانت الحجة على الله لا على الظالمين، وهذا الفرق بين وجوده وعدمه.

قال السائل: ألا رفعه الله إلى السماء فإذا آن قيامه انزله؟

له: هو حجة على أهل السماء، إنما هو حجة على أهل الأرض، والحجة لا تكون إلا بين المحجوجين به، وأيضا فقد كان هذا لا يمتنع في العقل لو لا الأخبار الواردة أن الأرض لا تخلو من حجة، فلهذا لم يجز كونه في السماء، وأوجبنا كونه في الأرض وبالله التوفيق.

- الأرض لا تخلو من حجة والحجة على صفات من لا يكون عليها لم تكن فيه

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 2   ص 16:

فقام إنسان من المعتزلة وقال للشيخ المفيد: كيف يجوز ذلك منك وأنت نظار منهم قائل بالعدل والتوحيد، وقائل بأحكام العقول، تعتقد إمامة رجل ما صحت ولادته دون إمامته، ولا وجوده دون عدمه، وقد تطاولت السنون حتى أن المعتقد منكم يقول إن له منذ ولد خمسا وأربعين ومائة سنة فهل يجوز هذا في عقل أو سمع؟

قال له الشيخ: قد قلت فافهم، اعلم: إن الدلالة عندنا قامت على أن الأرض لا تخلو من حجة.

قال السائل: مسلم ذلك لك ثم ايش؟

قال له الشيخ: ثم أن الحجة على صفات، ومن لا يكون عليها لم تكن فيه.

قال له السائل: هذا عندي، ولم أر في ولد العباس ولا في ولد علي ولا في قريش قاطبة من هو بتلك الصفات، فعلمت بدليل العقل إن الحجة غيرهم ولو غاب ألف سنة، وهذا كلام جيد في معناه إذا تفكرت فيه، لأنه إذا قامت الدلالة بان الأرض لا تخلو من حجة، وأن الحجة لا يكون إلا معصوما من الخطأ والزلل، لا يجوز عليه ما يجوز على الأمة، وكانت المنازعة فيه لا في الغيبة، فإذا سلم ذلك كانت الحجة لازمة في الغيبة.

- إذا ثبت وجوب الإمامة وصحت الغيبة فالقول في الخبر المروي لو اجتمع للإمام عدة أهل بدر ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا لوجب عليه الخروج بالسيف هو عدم اجتماع هذه الجماعة بصفتها وشروطها

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 3   ص 11، 13:

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ المفيد رضي الله عنه: حضرت مجلس رئيس من الرؤساء، فجرى كلام في الإمامة، فانتهى إلى القول في الغيبة. فقال صاحب المجلس: أليست الشيعة تروي عن جعفر بن محمد عليه السلام: أنه لو اجتمع للإمام عدة أهل بدر ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا لوجب عليه الخروج بالسيف؟. فقلت: قد روي هذا الحديث. قال: أو لسنا نعلم يقينا أن الشيعة في هذا الوقت أضعاف عدة أهل بدر، فكيف يجوز للإمام الغيبة مع الرواية التي ذكرناها؟.

فقلت له: إن الشيعة وان كانت في وقتنا كثيرا عددها حتى تزيد على عدة أهل بدر أضعافا مضاعفة، فان الجماعة التي عدتهم عدة أهل بدر إذا اجتمعت، فلم يسع الإمام التقية ووجب عليه الظهور، لم تجتمع في هذا الوقت، ولا حصلت في هذا الزمان بصفتها وشروطها. وذلك أنه يجب أن يكون هؤلاء القوم معلوم من حالهم الشجاعة، والصبر على اللقاء، والإخلاص في الجهاد، إيثار الآخرة على الدنيا، ونقاء السرائر من العيوب، وصحة العقول، وأنهم لا يهنون ولا ينتظرون عند اللقاء، ويكون العلم من الله تعالى بعموم المصلحة في ظهورهم بالسيف.

وليس كل الشيعة بهذه الصفة، ولو علم الله تعالى أن في جملتهم العدد المذكور على ما شرطناه لظهر الإمام عليه السلام لا محالة، ولم يغب بعد اجتماعهم طرفة عين، لكن المعلوم خلاف ما وصفناه، فلذلك ساغ للإمام الغيبة على ما ذكرناه.

قال: ومن أين لنا أن شروط القوم على ما ذكرت، وان كانت شروطهم هذه فمن أين لنا أن الأمر كما وصفت؟

فقلت: إذا ثبت وجوب الإمامة وصحت الغيبة لم يكن لنا طريق إلى تصحيح الخبر إلا بما شرحناه، فمن حيث قامت دلائل الإمامة والعصمة وصدق الخبر حكمنا بما ذكرناه.

ثم قلت: ونظير هذا الأمر ومثاله ما علمناه من جهاد النبي صلى الله عليه وآله أهل بدر بالعدد اليسير الذين كانوا معه وأكثرهم أعزل راجل، ثم قعد عليه وآله السلام في عام الحديبية ومعه من أصحابه أضعاف أهل بدر العدد، وقد علمنا انه صلى الله عليه وآله مصيبا في الأمرين جميعا، وأنه لو كان المعلوم من أصحابه في عام الحديبية ما كان المعلوم منهم في حال بدر لما وسعه القعود والمهادنة، ولوجب عليه الجهاد كما وجب عليه قبل ذلك ولو وجب عليه ما تركه لما ذكرناه من العلم بصوابه وعصمته على ما بيناه.

- الإمام معهود إليه موقف منصوب له أمارات تدله على العواقب في التدبيرات والصالح في الأفعال وإنما حصل له العهد بذلك عن النبي الذي يوحى إليه ويطلع على علم السماء

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 3   ص 13:

فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يوحى إليه فيعلم بالوحي العواقب، ويعرف الفرق من صواب التدبير وخطأه بمعرفة ما يكون، فمن قال في علم الإمام بما ذكرت، وما طريق معرفته بذلك؟.

فقلت له: الإمام عندنا معهود إليه، موقف على ما يأتي وما يذكر، منصوب له أمارات تدله على العواقب في التدبيرات والصالح في الأفعال، وإنما حصل له العهد بذلك عن النبي صلى الله عليه وآله الذي يوحى إليه ويطلع على علم السماء، ولو لم نذكر هذا الباب واقتصرنا على انه متعبد في ذلك بغلبة الظن وما يظهر له من الصلاح لكفى وأغنى وقام مقام الإظهار على التحقيق كائنا ما كان بلا ارتياب، لاسيما على مذهب المخالفين في الاجتهاد. وقولهم في رأي النبي صلى الله عليه وآله وان كان المذهب ما قدمناه.

- لا معنى لظهور الإمام في وقت يحيط العلم فيه بأن ظهوره منه فساد وأنه لا يؤول إلى إصلاح وإنما يكون ذلك حكمة وصوابا إذا كانت عاقبته الصلاح

- إذا علم الإمام أن في ظهوره صلاحا في الدين مع مقامه في العالم أو هلاكه وهلاك جميع شيعته وأنصاره لما  فتر عن المسارعة إلى مرضاة الله جل اسمه

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 3   ص 13، 14:

فقال: لم لا يظهر الإمام وإن أدي ظهوره إلى قتله فيكون البرهان له والحجة في إمامته أوضح، ويزول الشك في وجوده بلا ارتياب؟.

فقلت: إنه لا يجب ذلك عليه السلام، كما لا يجب على الله تعالى معاجلة العصاة بالنقمات وإظهار الآيات في كل وقت متتابعات، وان كنا نعلم انه لو عاجل العصاة لكان البرهان على قدرته أوضح، والأمر في نهيه أوكد، والحجة في قبح خلافه أبين، ولكان بذلك الخلق عن معاصيه ازجر، وإن لم يجب ذلك عليه ولا في حكمته وتدبيره لعلمه بالمصلحة فيه على التفضيل، فالقول في الباب الأول مثله على أنه لا معنى لظهور الإمام في وقت يحيط العلم فيه بأن ظهوره منه فساد، وأنه لا يؤول إلى إصلاح، وإنما يكون ذلك حكمة وصوابا إذا كانت عاقبته الصلاح.

ولو علم عليه السلام أن في ظهوره صلاحا في الدين مع مقامه في العالم أو هلاكه وهلاك جميع شيعته وأنصاره لما أبقاه طرفة عين، ولا فتر عن المسارعة إلى مرضاة الله جل اسمه، لكن الدليل على عصمته كاشف عن معرفته لرد هذه الحال عند ظهوره في هذا الزمان بما قدمناه من ذكر العهد إليه، ونصب الدلائل والحد والرسم المذكورين له في الأفعال.

- الإمامة تجب في كل زمان ولا يجوز الاستغناء عنها في حال بعد النبي

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 3   ص 14:

فقال: لعمري إن هذه الأجوبة على الأصول المقررة لأهل الإمامة مستمرة، والمنازع فيها -بعد تسليم الأصول- لا ينال شيئا ولا يظفر بطائل.

فقلت: من العجب إنا والمعتزلة نوجب الإمامة، ونحكم بالحاجة إليها في كل زمان، ونقطع بخطأ من أوجب الاستغناء عنها في حال بعد النبي صلى الله عليه وآله، وهم دائما يشنعون علينا بالقول في الغيبة ومرور الزمان بغير ظهور إمام، وهم أنفسهم يعترفون بأنهم لا إمام لهم بعد أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا الزمان، ولا يرجون إقامة إمام في قرب هذا من الأوان، فعلى كل حال نحن اعذر في القول بالغيبة وأولى بالصواب عند الموازنة للأصل الثابت من وجوب الإمام، ولدفع الحاجة إليها في كل أوان.

- العذر الحاصل لأئمتنا من ترك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام هو عدم تمكينهم من إقامة الحدود وتنفيذ الإحكام من قبل من جعل لنفسه حق إقامة الإمام من أهل الحل والعقد

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 3   ص 15:

فقال: هؤلاء القوم وإن قالوا بالحاجة إلى الإمام فعذرهم واضح في بطلان الأحكام لعدم غيبة الإمام الذي يقوم بالأحكام، وانتم تقولون إن أئمتكم عليهم السلام قد كانوا ظاهرين إلى وقت زمان الغيبة عندكم، فما عذركم في ترك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام.

فقلت له: إن هؤلاء القوم وان اعتصموا في تضييع الحدود والأحكام بعد الأئمة الذين يقومون بها في الزمان، فأنهم يعترفون بأن في كل زمان طائفة منهم من أهل الحل والعقد قد جعل إليهم إقامة الإمام الذي يقوم بالحدود وتنفيذ الأحكام، فما عذرهم عن كفهم عن إقامة الإمام وهم موجودون معروفو الأعيان، فان وجب عليهم لوجودهم ظاهرين في كل زمان إقامة الإمام المنفذ للأحكام، وعانوا ترك ذلك في طول هذه المدة عاصين ضالين عن طريق الرشاد كان لنا بذلك عليهم ولن يقولوا بهذا أبدا، وأن كان لهم عذر في ترك إقامة الإمام، وان كانوا في كل وقت موجودين، فذلك العذر لأئمتنا عليهم السلام في ترك إقامة الحدود وان كانوا موجودين في كل زمان، على أن عذر أئمتنا عليهم السلام في ترك إقامة الأحكام أوضح واظهر من عذر المعتزلة في ترك نصب الإمام، لأنا نعلم يقينا بلا ارتياب إن كثيرا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله قد شردوا عن أوطانهم، وسفكت دماؤهم، وألزم الباقون منهم الخوف على التوهم عليهم أنهم يرون الخروج بالسيف وأنهم ممن إليهم الأحكام، ولم ير أحد من المعتزلة ولا الحشوية سفك دمه، ولا شرد عن وطنه، ولا خيف على التوهم عليه والتحقيق منه انه يرى في قعود الأئمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هؤلاء القوم يصرحون في المجالس بأنهم أصحاب الاختيار، وان إليهم الحل والعقد والإنكار على الطاعة، وان من مذهبهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضا لازما على اعتقادهم، وهم مع ذلك آمنون من السلطان، غير خائفين من نكره عليهم من هذا المقال. فبان بذلك أنه لا عذر لهم في ترك إقامة الإمام، وان العذر الواضح الذي لا شبهة فيه حاصل لائمتنا عليهم السلام من ترك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام لما بيناه من حالهم ووصفناه وهذا واضح.

فلم يأت بشيء ولله الحمد ولرسوله وآله الصلاة والسلام. والله الموفق للصواب.

- لم يكن احد من الأئمة الطاهرين من آباء إمام الزمان كلف القيام بالسيف مع ظهوره ولا ألزم بترك التقية ولا ألزم الدعاء إلى نفسه حسبما كلفه إمام زماننا هذا بشرط ظهوره

- يكون في آخر الزمان منتظر من الأئمة يكشف الله به الغمة ويحيي ويهدي به الأمة لا تسعه التقية عند ظهوره ينادي باسمه في السماء الملائكة الكرام ويدعوا إلى بيعته جبرئيل وميكائيل في الأنام وتظهر قبله أمارات القيامة في الأرض والسماء ويحيا عند ظهوره أموات وتروع آيات قيامه ونهوضه بالأمر الأبصار

- لا يقوم أمام الزمان بالسيف إلا مع وجود الأنصار واجتماع الحفدة والأعوان ولم يكن أنصاره عند وجوده متهيئين إلى هذا الوقت موجودين ولا على نصرته مجمعين ولا كان في الأرض من شيعته من يصلح للجهاد فلزمته التقية ووجب فرضها عليه كما فرضت على آبائه

- لما ثبت عصمة إمام الزمان وجب استتاره حتى يعلم يقينا لاشك فيه حضور الأعوان له واجتماع الأنصار وتكون المصلحة العامة في ظهوره بالسيف ويعلم تمكنه من إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 4   ص 11، 13:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلاته على سيدنا محمد وآله الطاهرين. وبعد: سأل بعض المخالفين فقال: ما السبب الموجب لاستتار إمام الزمان عليه السلام وغيبته التي قد طالت مدتها وامتدت بها الأيام، ثم قال: فان قلتم: إن سبب ذلك صعوبة الزمان عليه بكثرة أعدائه وخوفه منهم على نفسه، قيل لكم: فقد كان الزمان الأول على آبائه عليهم السلام أصعب، وأعداؤهم فيما مضى أكثر، وخوفهم على نفسهم أشد وأكثر، ولم يستتروا مع ذلك ولا غابوا عن أشياعهم، بل كانوا ظاهرين حتى أتاهم اليقين، وهذا يبطل اعتلالكم في غيبة صاحب الزمان عنكم واستتاره فيما ذكرتموه، وسألتك أدام الله عزك.

الجواب عن ذلك: الجواب وبالله التوفيق: إن اختلاف حالتي صاحب الزمان وآبائه عليه وعليهم السلام فيما يقتضيه استتاره اليوم وظهوره، إذ ذاك يقضي بطلان ما توهمه الخصم وادعاه من سهولة هذا الزمان على صاحب الأمر عليه السلام وصعوبته على آبائه عليهم السلام فيما سلف، وقلة خوفه اليوم وكثرة خوف آبائه فيما سلف، وذلك انه لم يكن احد من آبائه عليهم السلام كلف القيام بالسيف مع ظهوره، ولا ألزم بترك التقية، ولا ألزم الدعاء إلى نفسه حسبما كلفه إمام زماننا، هذا بشرط ظهوره عليه السلام، وكان من مضى من أبائه صلوات الله عليهم قد أبيحوا التقية من أعدائهم، والمخالطة لهم، والحضور في مجالسهم وأذاعوا تحريم إشهار السيوف على أنفسهم، وخطر الدعوة إليها. وأشاروا إلى منتظر يكون في آخر الزمان منهم يكشف الله به الغمة، ويحيي ويهدي به الأمة، لا تسعه التقية، عند ظهوره ينادي باسمه في السماء الملائكة الكرام، ويدعوا إلى بيعته جبرئيل وميكائيل في الأنام، وتظهر قبله أمارات القيامة في الأرض والسماء، ويحيا عند ظهوره أموات، وتروع آيات قيامه ونهوضه بالأمر الأبصار.

فلما ظهر ذلك عن السلف الصالح من آبائه عليهم السلام، وتحقق ذلك عند سلطان كل زمان وملك كل أوان، وعلموا أنهم لا يتدينون بالقيام بالسيف، ولا يرون الدعاء إلى مثله على أحد من أهل الخلاف، وان دينهم الذي يتقربون به إلى الله عز وجل التقية، وكف اليد، وحفظ اللسان، والتوفر على العبادات، والانقطاع إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحات، أمنوهم على أنفسهم مطمئنين بذلك إلى ما يدبرونه من شأنهم، ويحققونه من دياناتهم، وكفوا بذلك عن الظهور والانتشار، واستغنوا به عن التغيب والاستتار.

ولما كان إمام هذا الزمان عليه السلام هو المشار إليه بسل السيف من أول الدهر في تقادم الأيام المذكورة، والجهاد لأعداء الله عند ظهوره، ورفع التقية عن أوليائه، وإلزامه لهم بالجهاد، وانه المهدي الذي يظهر الله به الحق، ويبيد بسيفه الضلال، وكان المعلوم انه لا يقوم بالسيف إلا مع وجود الأنصار واجتماع الحفدة والأعوان، ولم يكن أنصاره عليه السلام عند وجوده متهيئين إلى هذا الوقت موجودين، ولا على نصرته مجمعين، ولا كان في الأرض من شيعته طرا من يصلح للجهاد وان كانوا يصلحون لنقل الآثار وحفظ الأحكام والدعاء له بحصول التمكن من ذلك إلى الله عز وجل، لزمته التقية، ووجب فرضها عليه كما فرضت على آبائه عليهم السلام، لأنه لو ظهر بغير أعوان لألقى بيده إلى التهلكة، ولو أبدى شخصه للأعداء لم يألوا جهدا في إيقاع الضرر به، واستئصال شيعته، وإراقة دمائهم على الاستحلال، فيكون في ذلك أعظم الفساد في الدين والدنيا، ويخرج به عليه السلام عن أحكام الدين وتدبير الحكماء.

ولما ثبت عصمته، وجب استتاره حتى يعلم يقينا لاشك فيه حضور الأعوان له، واجتماع الأنصار، وتكون المصلحة العامة في ظهوره بالسيف، ويعلم تمكنه من إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط ما ظنه المخالف من مناقضة أصحابنا الإمامية فيما يعتقدونه من علة ظهور السلف من أئمة الهدى عليهم السلام وغيبة صاحب زماننا هذا عليه التحية والرضوان وأفضل الرحمة والسلام والصلاة. وبان مما ذكرناه فرق ما بين حاله وأحوالهم فيما جوز لهم الظهور، واوجب حليه الاستتار.

- تقية الأئمة عليهم السلام في سيرة النبي صلى الله عليه وآله

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 4   ص 13، 16:

(فصل) ثم يقال لهذا الخصم: أليس النبي صلى الله عليه وآله قد أقام بمكة ثلاثة عشر سنة يدعو الناس إلى الله تعالى ولا يرى سل السيف ولا الجهاد، ويصبر على التكذيب له والشتم والضرب وصنوف الأذى، حتى انتهى أمره إلى أن القوا على ظهره صلى الله عليه وآله وهو راكع السلى، وكانوا يرضخون قدميه بالأحجار، ويلقاه السفيه من أهل مكة فيشتمه في وجهه ويحثو فيه التراب، ويضيق عليه أحيانا، ويبلغ أعداؤه في الأذى بضروب النكال، وعذبوا أصحابه أنواع العذاب، وفتنوا كثيرا منهم حتى رجعوا عن الإسلام، وكان المسلمون يسألونه الأذن لهم في سل السيف ومباينة الأعداء فيمنعهم عن ذلك، ويكفهم، ويأمرهم بالصبر على الأذى.

وروي: أن عمر بن الخطاب لما أظهر الإسلام سل سيفه بمكة وقال: لا يعبد الله سرا، فزجره رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك. وقال له عبد الرحمن بن عوف الزهري: لو تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله لأخذ كل رجل بيده رجلين إلى جنب رجل منهم فقتله. فنهاه النبي صلى الله عليه وآله عما قال.

ولم يزل ذلك حاله إلى أن طلب من النجاشي -وهو ملك الحبشة- أن يخفر أصحابه من قريش ثم أخرجهم إليه واستتر عليه وآله السلام خائفا على دمه في الشعب ثلاث سنين، ثم هرب من مكة بعد موت عمه أبي طالب مستخفيا بهربه، وأقام في الغار ثلاثة أيام ثم هاجر عليه وآله والسلام إلى المدينة ورأى النهي منه للقيام واستنفر أصحابه وهم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر، ولقي بهم ألف رجل من أهل بدر، ورفع التقية عن نفسه إذ ذاك.

ثم حضر المدينة متوجها إلى العمرة، فبايع تحت الشجرة بيعة الرضوان على الموت، ثم بدا له عليه وآله السلام فصالح قريشا ورجع عن العمرة ونحر هديه في مكانه، وبدا له من القتال، وكتب بينه وبين قريش كتابا سألوه فيه محو (بسم الله الرحمن الرحيم) فأجابهم إلى ذلك، و دعوا إلى محو اسمه من النبوة في الكتاب لاطلاعهم إلى ذلك، فاقترحوا عليه أن يرد رجلا مسلما إليهم حتى يرجع إلى الكفر أو يتركوه فأجابهم إلى ذلك هذا وقد ظهر عليهم في الحرب.

فإذا قال الخصم: بلى ولابد من ذلك إن كان من أهل العلم والمعرفة بالأخبار.

قيل له: فلم لم يقاتل بمكة وما باله صبر على الأذى، ولم منع أصحابه عن الجهاد وقد بذلوا أنفسهم في نصرة الإسلام، وما الذي اضطره إلى الاستجارة بالنجاشي وإخراج أصحابه من مكة إلى بلاد الحبشة خوفا على دمائهم من الأعداء، وما الذي دعاه إلى القتال حين خذله أصحابه وتثاقلوا عليه فقاتل بهم مع قلة عددهم، وكيف لم يقاتل بالحديبية مع كثرة أنصاره وبيعتهم له على الموت، وما وجه اختلاف أفعاله في هذه الأحوال؟ فما كان في ذلك جوابكم فهو جوابنا في ظهور السلف من أباء صاحب الزمان واستتاره وغيبته فلا تجدون من ذلك مهربا. والحمد لله المستعان، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.

- الكتاب في الرد على من دخل عليه شبهة في ولادة الإمام المهدي وغيبته ويقع في عشرة فصول

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 41، 51:

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي ضمن النصر لمن نصره، وأيد بسلطان الحق من عرف سبيله فأبصره، وسلب التوفيق عمن ألحد فيه وأنكره. وإليه الرغبة في إدامة النعمة، وبه نعوذ من العذاب والنقمة. وصلواته على سيدنا محمد وآله الأئمة المهدية، وسلم كثيرا. وبعد، فإني قد خلدت من الكلام في وجوب الإمامة، واختصاص مستحقيها عليهم السلام بالعصمة، وتمييزهم من رعاياهم بالكمال والفضل بمحاسن الأفعال والأعلام الدالة على الصدق منهم في الدعوى إلى ما دعوا إليه من الاعتقادات والأعمال، والنصوص الثابتة عليهم من الله تعالى، بجلي المقال. وأوضحت عن فساد مذاهب المخالفين في ذلك والذاهبين بالجهل والضلال، بما قد ظهر في الخاص من الناس والعام، واشتهرت بين الجمهور من الأنام. وبينت عن أسباب ظهور دعوة الناطقين منهم إلى الدين، وصمت المتقين عن ذلك، لضرورتهم إليه بظلم الجبارين، والإشفاق على مهجهم [من] المبيحين لدمائهم، المعتدين بخلاف قتله النبيين والمرسلين فيما استحلوه من ذلك، بما ضمه الفرقان والقرآن المبين، فيما ثبت في غيبة خاتم الأئمة المهديين عليهم أفضل السلام والتسليم، واستتاره من دولة الظالمين، ما دل على إيجابه إلى ذلك وضرورته إليه. مثمر العلم به واليقين. وتجدد بعد الذي سطرته في هذه الأبواب، وشرحت معانيه على وجه السؤال فيه والجواب، وشواهد الحق فيه بحجة العقل والسنة والكتاب، رغبة ممن أجب له حقا، وأعظم له محلا وقدرا، وأعتقد في قضاء حقه ووفاق مشربه لازما وفرضا، في إثبات نكت من فصول خطرت بباله في مواضع ذكرها، يختص القول فيها بإمامة صاحب الزمان عليه وعلى آبائه أفضل السلام، وآثر أن يكون القول فيها على ترتيب عينه وميزه من جملة ما في بابه وبينه. فاستخرت الله تعالى في رسم ما ذكره من الفصول، والقول فيها بما تعم معرفته ذوي العقول، ولا يحتاج معه إلى فكر يمتد زمانه ويطول، ويستغني به عن الرجوع إلى العمد التي أودعتها كتبي السالفة في ذلك ومهذبه فيها من الأصول، وبالله أستعين.

ذكر الفصول على ترتيبها ونظامها وشرحها ومواضع الشبهات فيها:

الفصل الاول: القول فيما يدعيه الإمامية من وجود خلف لأبي محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا ولد في حياته، مع خفاء ذلك على أهله، واستتاره عن بني عمه وأوليائهم وأعدائهم في وقته إلى هذه الغاية، لم يشرك الإمامية في دعوى ذلك غيرهم من الناس.

الفصل الثاني: إنكار جعفر بن محمد بن علي -أخي الحسن بن علي- دعوى الإمامية ولدا له، وحوزه ميراثه، والتظاهر بتكذيب من أذعن لأخيه ولدا في حياته وبعد وفاته، ورفع خبر المذعين ذلك إلى السلطان، حتى بعثه على حبس جواريه واستبراء حالهم في الحمل، فلم يظهر لواحدة منهن حملا، وصار ذلك شبهة في إبطال دعوى ولد الحسن عليه السلام.

الفصل الثالث: وصية الحسن المشهورة إلى والدته -المسماة بحديث المكناة بأم الحسن- في وقوفه وصدقاته، وامضائها على شروطها، ولم يذكر فيها ولدا له موجودا ولا منتظرا.

الفصل الرابع: ما الداعي إلى ستر ولادته، والسبب إلى خفاء أمره وغيبته؟ مع ظهور نسب آبائه وولادتهم ونشئهم واشتهار وجودهم، وقد كانوا في أزمان التقية فيها أشد من زمن الحسن بن علي بن محمد، وخوفهم فيها من ملوك بني أمية ومن بعدهم أعظم، ولم يغب أحد منهم، ولا خفيت ولادته ووجوده عن الناس.

الفصل الخامس: خروج دعوى الإمامية في غيبة الإمام عن حكم العادة في استتاره عن الخلق طول المدة التي يدعونها لصاحبهم، وانسداد الطرق إلى الوصول إليه، وعدم معرفة مكان له على حال.

الفصل السادس انتقاض العادة في دعوى طول عمره وبقائه منذ ولد على قول الإمامية قبل وفاة أبيه بسنين، وكانت وفاته في سنة ستين ومائتين إلى وقتنا هذا وهو سنة عشرة وأربعمائة.

الفصل السابع: إن غيبته متى صحت على الوجه الذي تدعيه الإمامية بطلت الحاجة إليه، إذ كان وجود منعها كعدمه من العالم، ولا تظهر له دعوة، ولا تقوم له حجة، ولا يقيم حدا، ولا ينفذ حكما، ولا يرشد مسترشدا، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ولا يهدي ضالا، ولا يجاهد في الإسلام.

الفصل الثامن: بطلان دعوى الإمامية في الغيبة بما به اعتصموا في إنكار قول الممطورة: إن موسى بن جعفر عليهما السلام حي موجود غائب منتظر، وبما به شنعوا على الكيسانية والناووسية والاسماعيلية في دعواهم حياة أئمتهم محمد بن الحنفية وجعفر بن محمد وإسماعيل بن جعفر، وتناقض مقالهم في ذلك.

الفصل التاسع: اعتراف الإمامية بان الله تعالى أباح للإمام الاستتار عن الخلق، وسوغ له الغيبة عنهم بحيث لا يلقاه أحد منهم فيعرفه بالمشاهدة لطفا له في ذلك ولهم، وإقرارهم بان الله سبحانه لا يبيح إلا ما هو صلاح ولا يسوغ إلا ما هو في التدبير صواب ولا يفعل بعباده، إلا ما بهم حاجة إليه ما دامت المحنة والتكليف باقيا، وهذا ينقض قولهم في مشاهدته وأخذ معالم الدين فيه مصلحة تامة وأن بظهوره تمام المصالح والنظام والتدبير.

الفصل العاشر: اضطرار الإمامية عند قولهم بالغيبة في إثبات الإعلام بالمعجزات لإمامهم عند ظهوره، إذ كان لا يعرفه متى ظهر أحد بشخصه، وإنما يصل إلى معرفته بمعجزه الدال على صدقه بصحة نسبه وثبوت إمامته ووجوب طاعته، وهذا إخراج الآيات عن دلائلها، وإيجاب لظهورها على غير من اختصت به من الأنبياء والرسل عليهم السلام، وفي ذلك إفساد أدلة النبوة وأعلام الرسالة، وذلك باطل باتفاق أهل الملل كلها.

- استتار ولادة المهدي بن الحسن بن علي عن جمهور أهله وغيرهم وخفاء ذلك عليهم واستمرار استتاره عنهم ليس بخارج عن العرف ولا مخالفا لحكم العادات

- ذكر عدد من سترت ولادته من الأنبياء والملوك وسائر الناس

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 53، 58:

الكلام في الفصل الأول: وأقول: إن استتار ولادة المهدي بن الحسن بن علي عليهم السلام عن جمهور أهله وغيرهم، وخفاء ذلك عليهم، واستمرار استتاره عنهم ليس بخارج عن العرف، ولا مخالفا لحكم العادات، بل العلم محيط بتمام مثله في أولاد الملوك والسوقة، لأسباب تقتضيه لا شبهة فيها على العقلاء. فمنها:

أن يكون للإنسان ولد من جارية قد أستر تملكها من زوجته وأهله، فتحمل منه فيخفي ذلك عن كل من يشفق منه أن يذكره ويستره عمن لا يأ من إذاعة الخبر به، لئلا يفسد الأمر عليه مع زوجته بأهلها وأنصارها، ويتم الفساد به ضرر عليه يضعف عن دفاعه عنه، وينشئ الولد وليس أحد من أهل الرجل وبني عمه وإخوانه وأصدقائه يعرفه، ويمر على ذلك إلى أن يزول خوفه من الإخبار عنه، فيعرف به إذ ذاك، وما كان من ستر أمه حملها وإخفاء ولادتها لكيخسرو، وأمه هذه المسماة بوسفا فريد بنت فراسياب ملك الترك، فخفي أمره مع الجد كان من كيقاوس -جده الملك الأعظم- في البحث عن أمره والطلب له، فلم يظفر بذلك حينا طويلا. والخبر بأمره مشهور، وسبب ستره وإخفاء شخصه معروف، قد ذكره علماء الفرس، وأثبته محمد بن جرير الطبري في كتابه التاريخ. وهو نظير لما أنكره الخصوم في خفاء أمر ولد الحسن بن علي عليهما السلام، واستتار شخصه، ووجوده وولادته، بل ذلك أعجب. ومن الناس من يستر ولده عن أهله مخافة شنعتهم في حقه وطمعهم في ميراثه ما لم يكن له ولد، فلا يزال مستورا حتى يتمكن من إظهار على أمان منه عليه ممن سميناه. ومنهم من يستر ذلك ليرغب في العقد له من لا يؤثر مناكحة صاحب الولد من الناس، فيتم له في ستر ولده وإخفاء شخصه وأمره، والتظاهر بأنه لم يتعرض بنكاح من قبل ولا له ولد من حرة ولا أمة، وقد شاهدنا من فعل ذلك، والخبر عن النساء به أظهر منه عن الرجال.

واشتهر من الملوك من ستر ولد وإخفاء شخصه من رعيته لضرب من التدبير، وفي إقامة خليفة له، وامتحان جنده بذلك في طاعته، إذ كانوا يرون أنه لا يجوز في التدبير استخلاف من ليس له بنسيب مع وجود ولده ثم يظهر بعد ذلك أمر الولد عند التمكن من إظهاره برضى القوم، وصرف الأمر عن الولد إلى غيره، أو لعزل مستخلف عن المقام، على وجه ينتظم للملك أمور لم يكن يتمكن من التدبير الذي كان منه على ما شرحناه. وغير ذلك مما يكثر تعداده من أسباب ستر الأولاد وإظهار موتهم، واستتار الملوك أنفسهم، والإرجاف بوفاتهم، وامتحان رعاياهم بذلك، وأغراض لهم معروفة قد جرت من المسلمين بالعمل عليها العادات.

وكم وجدنا من نسيب ثبت بعد موت أبيه بدهر طويل، ولم يكن أحد من الخلق يعرفه بذلك حتى شهد له بذلك رجلان مسلمان، وذلك لداع دعا الأب إلى ستر ولادته عن كل أحد من قريب وبعيد، إلا من شهد به من بعد عليه بإقراره به على الستر لذلك والوصية بكتمانه، أو بالفراش الموجب لحكم الشريعة إلحاق الولد بوالده.

فصل: وقد أجمع العلماء من الملل على ما كان من ستر ولادة أبي إبراهيم الخليل عليه السلام وأمه لذلك، وتدبيرهم في إخفاء أمره عن ملك زمانه لخوفهم عليه منه. وبستر ولادة موسى بن عمران عليه السلام، وبمجيء القرآن بشرح ذلك على البيان، والخبر بأن أمه ألقته في اليم على ثقة منها بسلامته وعوده إليها، وكان ذلك منها بالوحي إليها به بتدبير الله جل وعلا لمصالح العباد. فما الذي ينكر خصوم الإمامية من قولهم في ستر الحسن عليه السلام ولادة ابنه المهدي عن أهله وبني عمه وغيرهم من الناس، وأسباب ذلك أظهر من أسباب ستر من عددناه وسميناه، وسنذكرها عند الحاجة إلى ذكرها من بعد إن شاء الله.

- الخبر بصحة ولد الحسن قد ثبت بأوكد ما تثبت به أنساب الجمهور من الناس

- ثبتت أخبار عن جماعة من أهل الديانة والفقه عن الحسن بن علي أنه اعترف بولده المهدي وآذنهم بوجوده ونص لهم على إمامته من بعده

- ثبتت أخبار عن جماعة من أهل الديانة والفقه بمشاهدة بعضهم للإمام المهدي ابن الحسن طفلا وبعضهم له يافعا وشابا كاملا وإخراجهم إلى شيعته بعد أبيه الأوامر والنواهي والأجوبة عن المسائل وتسليمهم له حقوق الأئمة من أصحابه

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 59، 60:

والخبر بصحة ولد الحسن عليه السلام قد ثبت بأوكد ما تثبت به أنساب الجمهور من الناس، إذ كان النسب يثبت: بقول القابلة، ومثلها من النساء اللاتي جرت عادتهن بحضور ولادة النساء وتولي معونتهم عليه، وباعتراف صاحب الفراش وحده بذلك دون من سواه، وبشهادة رجلين من المسلمين على إقرار الأب بنسب الابن منه.

وقد ثبتت أخبار عن جماعة من أهل الديانة والفضل والورع والزهد والعبادة والفقه عن الحسن بن علي عليهما السلام: أنه اعترف بولده المهدي عليه السلام، وآذنهم بوجوده، ونص لهم على إمامته من بعده، وبمشاهدة بعضهم له طفلا، وبعضهم له يافعا وشابا كاملا، وإخراجهم إلى شيعته بعد أبيه الأوامر والنواهي والأجوبة عن المسائل، وتسليمهم له حقوق الأئمة من أصحابه.

وقد ذكرت أسماء جماعة ممن وصفت حالهم من ثقات الحسن بن علي عليهما السلام وخاصته المعروفين بخدمته والتحقيق به، وأثبت ما رووه عنه في وجود ولده ومشاهدتهم من بعده وسماعهم النص بالإمامة عليه. وذلك موجود في مواضع من كتبي، وخاصة في كتابي المعروف أحدهما: بالإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، والثاني: بالإيضاح في الإمامة والغيبة. ووجود ذلك فيما ذكرت يغني عن تكلف إثباته في هذا الكتاب.

- في الرد على المتعلق بإنكار جعفر بن علي بتولد ولد لأخيه الإمام الحسن بن علي

- لم تكن لجعفر أخي الإمام الحسن العسكري عصمة الأنبياء بل كان من جملة الرعية التي يجوز عليها الزلل ويعتريها السهو ويقع منها الغلط ولا يؤمن منها تعمد الباطل ويتوقع منها الضلال

- أمثلة ودواعي إنكار جعفر بن علي بتولد ولد لأخيه الإمام الحسن بن علي

- اعتراف ولد جعفر بالحق بتولد ولد للإمام الحسن بن علي

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 61، 67:

الكلام في الفصل الثاني: وأما المتعلق بإنكار جعفر بن علي شهادة الإمامية بولد لأخيه الحسن ابن علي عليهما السلام ولد في حياته بعده، والحوز لتركته بدعوى استحقاقها بميراثه مثلا دون ولد له، وما كان منه من حمل أمير الوقت على حبس جواري الحسن عليه السلام واستبذالهن بالاستبراء لهن من الحمل ليتأكد بقية لولد أخيه، إباحته دماء شيعة الحسن بدعواهم خلفا من بعده كان أحق بمقامه من بعده من غيره وأولى بميراثه ممن حواه. فليس بشبهة يعتمدها عاقل في ذلك، فضلا عن حجة، لاتفاق الأمة على أن جعفرا لم تكن له عصمة الأنبياء فيمتنع عليه لذلك إنكار حق ودعوى باطل، بل كان من جملة الرعية التي يجوز عليها الزلل، ويعتريها السهو، ويقع منها الغلط، ولا يؤمن منها تعمد الباطل، ويتوقع منها الضلال.

وقد نطق القرآن بما كان من أسباط يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن -عليه وعلى ولده الأنبياء وآبائه المنتجبين الأصفياء وكافة المرسلين الصلاة الدائمة والتحية والسلام- في ظلم أخيهم يوسف عليه السلام، وإلقائهم له في غيابة الجب، وتغريرهم بدمه بذلك، وبيعهم إياه بالثمن البخس، ونقضهم عهده في حراسته، وتعمدهم معصيته في ذلك وعقوقه، وإدخال الهم عليه بما صنعوه بأحب ولده إليه وأوصلوه إلى قلبه من الغم بذلك، وتمويههم على دعواهم على الذئب أنه أكله بما جاءوا به على قميصه من الدم، ويمينهم بالله العظيم على براءتهم مما اقترفوه في ظلمه من الإثم، وهم لما أنكروه متحققون، وببطلان ما ادعوه في أمر يوسف عليه السلام عارفون. هذا وهو أسباط النبيين، وأقرب الخلق نسبا بنبي الله وخليله إبراهيم. فما الذي ينكر ممن هو دونهم في الدنيا والدين: أن اعتمد باطلا يعلم خطؤه فيه على اليقين، ويدفع حقا قد قامت عليه الحجج الواضحة والبراهين.

فصل: وما أرى المتعلق في إنكار وجود ولد الحسن بن علي بن محمد عليهم السلام وقد قامت بينة العقل والسمع به، ودل الاعتبار الصحيح على صواب معتقده، بدفع عمه لذلك مع دواعيه الظاهرة كانت إليه، بحوز تركة أخيه دونه، مع جلالتها وكثرتها وعظم خطرها، لتعجل المنافع بها، والنهضة بمآربه عند تملكها، وبلوغ شهواته من الدنيا بحوزها، ودعوى مقامه الذي جل قدره عند الكافة، باستحقاقه له دون من عداه من الناس، وبخعت  الشيعة كلها بالطاعة له بما انطوت عليه من اعتقادها ولوجوبه له دون من سواه، وطمعه بذلك في مثل ما كان يصل إليه من خمس الغنائم التي كانت تحملها شيعته إلى وكلائه في حياته، واستمرارها على ذلك بعد وفاته، وزكوات الأموال، لتصل إلى مستحقها من فقراء أصحابه. إلا كتعلق أهل الغفلة من الكفار في إبطال عمه أبي لهب صدق دعوته، وجحد الحق في نبوته، والكفر بما جاء به، ودفع رسالته، ومشاركة أكثر ذوي نسبه من بني هاشم وبني أمية لعمه في ذلك، واجتماعهم على عداوته، وتجريدهم السيف في حربه، واجتهادهم في استئصاله ومتبعيه على ملته.

هذا مع ظهور حجته، ووضوح برهانه في نبوته، وضيق الطريق في معرفة ولادة الحجة بن الحسن على جعفر وأمثاله من البعداء عن علم حقيقته. ومن صار في إنكار شيء أو إثباته أو صحته وفساده إلى مثل التعلق بجعفر بن علي في جحد وجود خلف لأخيه، وما كان من أبي جهل وشركائه من أقارب النبي صلى الله عليه وآله وجيرانه وأهل بلده والناشئين معه في زمانه والعارفين بأكثر سر أمره وجهره وأحواله في دفع نبوته وإنكاره صدقه في دعوته. سقط كلامه عند العلماء ولم يعد في جملة الفقهاء، وكان في أعداد ذوي الجهل والسفهاء.

فصل: وبعد، فإن الشيعة وغيرهم ممن عني بأخبار الناس والجواد من الآراء وأسبابها، والأغراض كانت له فيها، قد ذكروا أخبارا عن أحوال جعفر بن علي في حياة أخيه أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام، وأسباب إنكاره خلفا له من بعده، وجحد ولد كان له في حياته، وحمل السلطان على ما سار به في مخلفيه وشيعته، لو أوردتها على وجهها لتصور الأمر في ذلك على حقيقته، ولم يخف على متأمل بحاله، وعرفه على خطيئته. لكنه يمنعني عن ذلك موانع ظاهرة: أحدها: كثرة من يعترف  بالحق من ولد جعفر بن علي في وقتنا هذا، ويظهر التدين بوجود ولد الحسن بن علي في حياته، ومقامه بعد وفاته في الأمر مقامه، ويكره إضافة خلافه لمعتقده فيه إلى جده، بل لا أعلم أحدا من ولد جعفر بن علي في وقتنا هذا يظهر خلاف الإمامية في وجود ابن الحسن عليهما السلام والتدين بحياته والانتظار لقيامه. والعشرة الجميلة لهؤلاء السادة أيدهم الله بترك إثبات ما سبق به من سميت في الأخبار التي خلدوها  فيما وصفت أولى. مع غناي عن ذلك بما أثبت من موجز القول في بطلان الشبهة، لتعلق ضعفاء المعتزلة والحشوية والزيدية والخوارج والمرجئة في إنكار جعفر بن علي لوجود ابن الحسن بن علي، حسب ما أورده السائل عنهم فيما سأل في الشبهات في ذلك، والله الموفق للصواب.

- في الرد على المتعلق بإنكار ولادة الإمام ابن الحسن بوصية الإمام الحسن في مرضه الذي توفي فيه إلى والدته بوقوفه وصدقاته

- الإمام الصادق أوصى إلى خمسة أفراد حفاظا على ابنه موسى من ضرر يلحقه بوصيته إليه

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 69، 72:

الكلام في الفصل الثالث: وأما تعلقهم بوصية أبي محمد الحسن بن علي بن محمد عليهم السلام في مرضه الذي توفي فيه إلى والدته المسماة بحديث المكناة بأم الحسن رضي الله عنها، بوقوفه وصدقاته، وإسناد النظر في ذلك إليها دون غيرها فليس بشيء يعتمد في إنكار ولد له قائم من بعده مقامه، من قبل أنه أمر بذلك تمام ما كان من غرضه في إخفاء ولادته وستر حاله عن متملك الأمر في زمانه ومن يسلك سبيله في إباحة دم داع إلى الله تعالى منتظر لدولة الحق.

ولو ذكر في وصيته ولدا له وأسندها إليه، لناقض ذلك الغرض منه فيما ذكرناه، ونافى مقصده في تدبير أمره له على ما وصفناه، وعدل عن النظر بولده وأهله ونسبه، ولا سيما مع اضطراره كان إلى شهادة خواص الدولة العباسية عليه في الوصية وثبوت خطوطهم فيهما -كالمعروف بتدبر مولى الواثق وعسكر الخادم مولى محمد بن المأمون والفتح بن عبد ربه وغيرهم من شهود قضاة سلطان الوقت وحكامه- لما قصد بذلك من حراسة قومه، وحفظ صدقاته، وثبوت وصيته عند قاضي الزمان، وإرادته مع ذلك الستر على ولده، وإهمال ذكره، والحراسة لمهجته بترك التنبيه على وجوده، والكف لأعدائه بذلك عن الجد والاجتهاد في طلبه، والتبريد عن شيعته لما يشنع به عليهم من اعتقاد وجوده وإمامته.

ومن اشتبه عليه الأمر فيما ذكرناه، حتى ظن أنه دليل على بطلان مقال الإمامية في وجود ولد للحسن عليه السلام مستور عن جمهور الأنام، كان بعيدا من الفهم والفطنة، بائنا عن الذكاء والمعرفة، عاجزا بالجهل عن التصور أحوال العقلاء وتدبيرهم في المصالح وما يعتمدونه في ذلك من صواب الرأي وبشاهد الحال، ودليله من العرف والعادات.

فصل: وقد تظاهر الخبر فيما كان عن تدبير أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، وحراسته ابنه موسى بن جعفر عليه السلام بعد وفاته من ضرر يلحقه بوصيته إليه، وأشاع الخبر عن الشيعة إذا ذاك باعتقاد إمامته من بعده، والاعتماد في حجتهم على إفراده بوصيته مع نصه عليه بنقل خواصه. فعدل عن إقراره بالوصية عند وفاته، وجعلها إلى خمسة نفر: أولهم المنصور -وقدمه على جماعتهم إذ هو سلطان الوقت ومدبر أهله- ثم صاحبه الربيع من بعده، ثم قاضي وقته، ثم جاريته وأم ولده حميدة البربرية، وختمهم بذكر ابنه موسى بن جعفر عليه السلام، يستر أمره ويحرس بذلك نفسه. ولم يذكر مع ولده موسى أحدا من أولاده، لعلمه بأن منهم من يدعي مقامه من بعده، ويتعلق بإدخاله في وصيته. ولو لم يكن موسى عليه السلام ظاهرا مشهورا في أولاده معروف المكان منه وصحة نسبه واشتهار فضله وعلمه وحكمته وامتثاله وكماله، بل كان مثل ستر الحسن عليه السلام ولده، لما ذكره في وصيته، ولاقتصر على ذكر غيره ممن سميناه، لكنه ختمهم في الذكر به كما بيناه. وهذا شاهد لما وصفناه من غرض أبي محمد عليه السلام في وصيته إلى والدته دون غيرها، وإهمال ذكر ولد له، ونظر له في معناه على ما بيناه.

- في علة ستر الإمام الحسن بن علي ولده وتدبير الأمر في إخفاء شخصه والنهي لشيعته عن البينونة بتسميته وذكره

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 73، 75:

الكلام في الفصل الرابع: فأما الكلام في الفصل الرابع، وهو: الاستبعاد الداع (كذا) للحسن عليه السلام إلى ستر ولده، وتدبير الأمر في إخفاء شخصه، والنهي لشيعته عن البينونة بتسميته وذكره، مع كثرة الشيعة في زمانه وانتشارهم في البلاد وثروتهم بالأموال وحسن الأحوال، وصعوبة الزمان فيما سلف على آبائه عليهم السلام واعتقاد ملوكه فيهم، وشد غلظهم على الدائنين بإمامتهم، واستحلالهم الدماء والأموال، ولم يدعهم ذلك إلى ستر ولدهم ولا مؤهل الأمر من بعدهم. وقول الخصوم: إن هذا متناقض في أحوال العقلاء.

فليس الأمر كما ظنوه، ولا كان على ما استبعدوه. والذي دعا الحسن إلى ستر ولده، وكتمان ولادته، وإخفاء شخصه، والاجتهاد في إهمال ذكره بما خرج إلى شيعته من النهي عن الإشارة إليه، وحظر تسميته، ونشر الخبر بالنص عليه، شيء ظاهر، لم يكن في أوقات آبائه عليهم السلام، فيدعونه من ستر أولادهم إلى ما دعاه إليه، وهو: أن ملوك الزمان إذ ذاك كانوا يعرفون من رأي الأئمة عليهم السلام التقية، وتحريم الخروج بالسيف على الولاة، وعيب من فعل ذلك من بني عمهم ولومهم عليه، وأنه لا يجوز عندهم تجريد السيف حتى تركد الشمس عند زوالها، ويسمع نداء من السماء باسم رجل بعينه، ويخسف بالبيداء، ويقوم آخر أئمة الحق بالسيف ليزيل دولة الباطل. وكانوا لا يكبرون بوجود من يوجد منهم، ولا بظهور شخصه، ولا بدعوة من يدعو إلى إمام، لأمانهم مع ذلك من فتق يكون عليهم به، ولاعتقادهم قلة عدد من يصغي إليهم في دعوى الإمامة لهم، أو يصدقهم فيما يخبرون به من منتظر يكون لهم. فلما جاز وقت وجود المترقب لذلك، المخوف منه القيام بالسيف، ووجدنا الشيعة الإمامية مطبقة على تحقيق أمره وتعيينه والإشارة إليه دون غيره، بعثهم ذلك على طلبه وسفك دمه، ولتزول الشبهة في التعلق به، ويحصل الأمان في الفتنة بالإشارة إليه والدعوة إلى نصرته.

ولو لم يكن ما ذكرناه شيئا ظاهرا وعلة صحيحة وجهة ثابتة، لكان غير منكر أن يكون في معلوم الله جل اسمه أن من سلف من آبائه عليهم السلام يأمن مع ظهوره، وأنه هو لو ظهر لم يأمن على دمه، وأنه متى قتل أحد من آبائه عليهم السلام عند ظهوره لم تمنع الحكمة من إقامة خليفة يقوم مقامه. وأن ابن الحسن عليهما السلام لو يظهر لسفك القوم دمه، ولم تقتض الحكمة التخلية بينهم وبينه، ولو كان في المعلوم للحق صلاحي بإقامة إمام من بعده لكفى في الحجة وأقنع في إيضاح المحجة، فكيف وقد بينا عن سبب ذلك بما لا يحيل على ناظر، والمنة لله.

- في استتار الإمام المهدي والرد على من قال بخروج غيبته عن العرف وأنه لم يره أحد

- جماعة من أصحاب الإمام الحسن بن علي شاهدوا خلفه في حياته وكانوا أصحابه وخاصته بعد وفاته والوسائط بينه وبين شيعته دهرا طويلا في استتاره عدّلهم الإمام الحسن في حياته واختصهم أمناء له في وقته وجعل إليهم النظر في أملاكه والقيام بمآربه معروفون بأسمائهم وأنسابهم وأمثالهم

- في منزلة سفراء الإمام المهدي عند الإمام الحسن بن علي والسلطان

- الأخبار عمن تقدم من أئمة آل محمد متناصرة بأنه لا بد للقائم المنتظر من غيبتين إحداهما أطول من الأخرى يعرف خبره الخاص في القصرى ولا يعرف العام له مستقرا في الطولى إلا من تولى خدمته من ثقاة أوليائه ولم ينقطع عنه إلى الاشتغال بغيره

- ذكر استتار وغيبة عدد من الأنبياء والصالحين

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 77، 89:

الفصل الخامس: وأما الكلام في الفصل الخامس، وهو قول الخصوم: إن دعوى الإمامية لصاحبهم أنه منذ ولد إلى وقتنا هذا مع طول المدة وتجاوزها الحد مستتر لا يعرف أحد مكانه ولا يعلم مستقره، ولا يدعي عدل من الناس لقاءه ولا يأتي بخبر عنه ولا يعرف له أثرا. خارجة عن العرف، إذ لم تجر العادة لأحد من الناس بذلك، إذ كان كل من اتفق له الاستتار عن الظالم لخوف منه على نفسه ولغير ذلك من الأغراض، تكون مدة استتاره مرتبة، ولا تبلغ عشرين سنة فضلا عما زاد عليها، ولا يخفى أيضا على الكل في مدة استتاره مكانه، بل لا بد من أن يعرف ذلك بعض أهله وأوليائه بلقائه، وبخبر منه يأتي إليهم عنه. وإذا خرج قول الإمامية في استتار صاحبهم وغيبته عن حكم العادات بطل ولم يرج قيام حجة.

فصل: وليس الأمر كما توهمه الخصوم في هذا الباب، والإمامية بأجمعها تدفعهم عن دعواهم وتقول: إن جماعة من أصحاب أبي محمد الحسن بن علي بن محمد عليهم السلام قد شاهدوا خلفه في حياته، وكانوا أصحابه وخاصته بعد وفاته، والوسائط بينه وبين شيعته دهرا طويلا في استتاره: ينقلون  إليهم عن معالم الدين، ويخرجون إليهم أجوبة عن مسائلهم فيه، ويقبضون منهم حقوقه لديهم. وهم جماعة كان الحسن بن علي عليه السلام عدلهم في حياته، واختصهم أمناء له في وقته، وجعل إليهم النظر في أملاكه والقيام بمآربه، معروفون بأسمائهم وأنسابهم وأمثالهم. كأبي عمر وعثمان بن سعيد السمان، وابنه أبي جعفر محمد بن عثمان، وبني الرحبا من نصيبين، وبني سعيد، وبني مهزيار بالأهواز، وبني الركولي بالكوفة، وبني نوبخت ببغداد، وجماعة من أهل قزوين وقم وغيرها من الجبال، مشهورون بذلك عند الإمامية والزيدية، معروفون بالإشارة إليه به عند كثير من العامة. وكانوا أهل عقل وأمانة وثقة ودراية وفهم وتحصيل ونباهة، وكان السلطان يعظم أقدارهم بجلالة محلهم في الدنيا، ويكرمهم الظاهر أمانتهم واشتهار عدالتهم، حتى أنه كان يدفع عنهم ما يضيفه إليهم خصومهم من أمرهم، ضنا بهم واعتقادا لبطلان قذفهم به، وذلك لما كان من شدة تحرزهم، وستر حالهم، واعتقادهم، وجودة آرائهم، وصواب تدبيرهم. وهذا يسقط دعوى الخصوم وفاق الإمامية لهم: أن صاحبهم لم ير منذ ادعوا ولادته، ولا عرف له مكان، ولا خبر أحد بلقائه.

فأما بعد انقراض من سميناه من أصحاب أبيه وأصحابه عليهما السلام، فقد كانت الأخبار عمن تقدم من أئمة آل محمد عليهم السلام متناصرة: بأنه لا بد للقائم المنتظر من غيبتين، إحداهما أطول من الأخرى، يعرف خبره الخاص في القصرى ولا يعرف العام له مستقرا في الطولى، إلا من تولى خدمته من ثقاة أوليائه، ولم ينقطع عنه إلى الاشتغال بغيره.

والأخبار بذلك موجودة في مصنفات الشيعة الإمامية قبل مولد أبي محمد وأبيه وجده عليهم السلام، وظهر حقها عند مضي الوكلاء والسفراء الذين سميناهم رحمهم الله، وبأن صدق رواتها بالغيبة الطولى، فكان ذلك من الآيات الباهرات في صحة ما ذهبت إليه الإمامية ودانت به في معناه. وليس يمكن أن يخرج عن عادة أزماننا هذه غيبة بشر لله تعالى، في استتاره تدبير لمصالح خلقه لا يعلمها إلا هو، وامتحان لهم بذلك في عبادته، مع أنا لم نحط علما بأن كل غائب عن الخلق مستترا بأمر دينه لأمر يؤمه عنهم -كما ادعاه الخصوم- يعرف جماعة من الناس مكانه ويخبرون عن مستقره. وكم ولي لله تعالى، يقطع الأرض بعبادة ربه تعالى والتفرد من الظالمين بعمله، ونأى بذلك عن دار المجرمين وتبعد بدينه عن محل الفاسقين، لا يعرف أحد من الخلق له مكانا ولا يدعي إنسان له لقاء ولا معه اجتماعا، وهو الخضر عليه السلام، موجود قبل زمان موسى عليه السلام إلى وقتنا هذا، بإجماع أهل النقل واتفاق أصحاب السير والأخبار، سائحا في الأرض، لا يعرف له أحد مستقرا ولا يدعي له اصطحابا، إلا ما جاء في القرآن به من قصته مع موسى عليه السلام، وما يذكره بعض الناس من أنه يظهر أحيانا ولا يعرف، ويظن بعض من رآه أنه بعض الزهاد فإذا فارق مكانه توهمه المسمى بالخضر، وإن لم يكن يعرف بعينه في الحال ولا ظنه، بل اعتقد أنه بعض أهل الزمان.

وقد كان من غيبة موسى بن عمران عليه السلام عن وطنه وفراره من فرعون ورهطه ما نطق به الكتاب، ولم يظهر عليه أحد مدة غيبته عنهم فيعرف له مكانا، حتى ناجاه الله عز وجل وبعثه نبيا، فدعا إليه وعرفه الولي والعدو إذ ذاك.

وكان من قصة يوسف بن يعقوب عليهما السلام ما جاءت به سورة كاملة بمعناه، وتضمنت ذكر استتار خبره عن أبيه، وهو نبي الله تعالى يأتيه الوحي منه سبحانه صباحا ومساء، وأمره مطوي عنه وعن إخوته، وهم يعاملونه ويبايعونه ويبتاعون منه ويلقونه ويشاهدونه فيعرفهم ولا يعرفونه، حتى مضت على ذلك السنون وانقضت فيه الأزمان، وبلغ من حزن أبيه عليه السلام عليه لفقده، ويأسه من لقائه، وظنه خروجه من الدنيا بوفاته ما انحنى له ظهره، وأنهك به جسمه، وذهب لبكائه عليه بصره. وليس في زماننا الآن مثل ذلك، ولا سمعنا بنظير له في سواه.

وكان من أمر يونس نبي الله عليه السلام مع قومه وفراره عنهم عند تطاوله المدة في خلافهم عليه واستخفافهم بحقوقه، وغيبته عنهم لذلك عن كل أحد من الناس حتى لم يعلم بشر من الخلق مستقره ومكانه إلا الله تعالى، إذ كان المتولي لحبسه في جوف الحوت في قرار بحر، وقد أمسك عليه رمقه حتى بقي حيا، ثم أخرجه من ذلك إلى تحت شجرة من يقطين، بحيث لم يكن له معرفة بذلك المكان من الأرض ولم يخطر له ببال سكناه. وهذا أيضا خارج عن عادتنا وبعيد من تعارفنا، وقد نطق به القرآن وأجمع عليه أهل الإسلام وغيرهم من أهل الملل والأديان. وأمر أصحاب الكهف نظير لما ذكرناه، وقد نزل القرآن بخبرهم وشرح أمرهم في فرارهم بدينهم من قومهم وحصولهم في كهف ناء عن بلدهم، فأماتهم الله فيه وبقي كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد، ودبر أمرهم في بقاء أجسامهم على حال أجساد الحيوان لا يلحقها بالموت تغير، فكان يقلبهم ذات اليمين وذات شمال كالحي الذي يتقلب في منامه بالطبع والاختيار، ويقيهم حر الشمس التي تغير الألوان، والرياح التي تمزق الأجساد فبقوا على ذلك ثلاث مائة سنة وتسع سنين على ما جاء به الذكر الحكيم. ثم أحياهم فعادوا إلى معاملة قومهم ومبايعتهم، وأنفذوا إليهم بورقهم ليبتاعوا منهم أحل الطعام وأطيبه وأزكاه بحسب ما تضمن القرآن من شرح قصتهم، مع استتار أمرهم عن قومهم وطول غيبتهم عنهم وخفاء أمرهم عليهم. وليس في عادتنا مثل ذلك ولا عرفناه، ولولا أن القرآن جاء بذكر هؤلاء القوم وخبرهم وما ذكرناه من حالهم لتسرعت الناصبة إلى إنكار ذلك كما يتسرع إلى إنكاره الملحدون والزنادقة والدهريون ويحيلون صحة الخبر به، وقد تقول: لن يكون في المقدور.

وقد كان من أمر صاحب الحمار الذي نزل بذكر قصته القرآن، وأهل الكتاب يزعمون أنه نبي الله تعالى، وقد كان {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} فاستبعد عمارتها وعودها إلى ما كانت عليه ورجوع الموتى منها بعد هلاكهم بالوفاة، ف‍  {قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} وبقي طعامه وشرابه بحاله لم يغيره تغيير طبائع الزمان كل طعام وشراب عن حاله، فجرت بذلك العادة في طعام صاحب الحمار وشرابه، وبقي حماره قائما في مكانه لم ينفق ولم يتغير عن حاله حي يأكل ويشرب، لم يضره طول عمره ولا أضعف ولا غير له صفة من صفاته. فلما أحياه  الله تعالى -المذكور بالعجب من حياة الأموات وقد أماته مائة عام- قال له: {انظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}، يريد به: لم يتغير بطول مدة بقائه، {وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا}، يعني: عظام الأموات من الناس كيف نخرجها من تحت التراب {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} فتعود حيوانا كما كانت بعد تفرق أجزائها واندراسها بالموت {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} ذلك وشاهد الأعجوبة فيه {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وهذا منصوص في القرآن مشروح في الذكر والبيان لا يختلف فيه المسلمون وأهل الكتاب، وهو خارج عن عادتنا وبعيد من تعارفنا، منكر عند الملحدين ومستحيل على مذهب الدهريين والمنجمين وأصحاب الطبائع من اليونانيين وغيرهم من المدعين الفلسفة والمتطببين.

على [أن] ما يذهب إليه الإمامية في تمام استتار صاحبها وغيبته ومقامه على ذلك طول مدته أقرب في العقول والعادات [مما] أوردناه من أخبار المذكورين في القرآن. فأي الطريق للمقر بالإسلام إلى إنكار مذهبنا في ذلك، لولا أنهم بعداء من التوفيق مستمالون بالخذلان.

وأمثال ما ذكرناه -وإن لم يكن قد جاء به القرآن- كثير، قد رواه أصحاب الأخبار وسطره في الصحف أصحاب السير والآثار من غيبات ملوك الفرس عن رعاياهم دهرا طويلا لضروب من التدبيرات، لم يعرف أحد لهم فيها مستقرا ولا عثر لهم على موضع ولا مكان، ثم ظهروا بعد ذلك وعادوا إلى ملكهم بأحسن حال، وكذلك جماعة من حكماء الروم والهند وملوكهم. فكم كانت لهم غيبات وأخبار بأحوال تخرج عن العادات لم نتعرض لذكر شيء من ذلك، لعلمنا بتسرع الخصوم إلى إنكاره، لجهلهم ودفعهم صحة الأخبار به وتعويلهم في إبطاله على بعده من عاداتهم وعرفهم. فاعتمدنا القرآن فيما يحتاج إليه منه، وإجماع أهل الإسلام، الإقرار الخصم بصحة ذلك وأنه من عند الله تعالى، واعترافهم بحجة الإجماع. وإن كنا نعرف من كثير منهم نفاقهم بذلك، ونتحقق استبطانهم بخلافه، لعلمنا بإلحادهم في الدين واستهزائهم به، وأنهم كانوا ينحلون بظاهره خوفا من السيف وتصنعا أيضا، لاكتساب الحطام به من الدنيا، ولولا ذلك لصرحوا بما ينتمون وظاهروا بمذاهب الزنادقة التي بها يدينون ولها يعتقدون. ونعوذ بالله من سيء الاتفاق، ونسأله العصمة من الضلال.

- في طول عمر الإمام المهدي والرد على من تمسك بانتقاض العادة في طول عمره

- ذكر أسماء بعض المعمرين من الأنبياء وبعض شخصيات العرب

- المنكر لتطاول الأعمار هم طائفة من المنجمين وجماعة من الملحدين وأهل الكتب والملل لا يختلفون في صحة ذلك وثبوته

-  المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 91، 103:

الكلام في الفصل السادس: تعلق الخصوم بانتقاض العادة في دعوى طول عمره، وبقائه على تكامل أدواته منذ ولد على قول الإمامية في سني عشر الستين والمائتين وإلى يومنا هذا وهو سنة أحد عشر وأربعمائة، وفي حملهم في بقائه وحاله وصفته التي يدعونها له بخلاف حكم العادات، وأنه يدل على فساد معتقدهم فيه.

فصل: والذي تخيله الخصوم هو: فساد قول الإمامية بدعواهم لصاحبهم طول العمر، وتكامل أدواته فيه، وبقائه إلى يومنا هذا وإلى وقت ظهوره بالأمة، على حال الشبيبة، ووفارة العقل والقوة والمعارف بأحوال الدين والدنيا. وإن خرج عما نعهده نحن الآن من أحوال البشر، فليس بخارج عن عادات سلفت لشركائه في البشرية وأمثالهم في الإنسانية. وما جرت به عادة في بعض الأزمان لم يمتنع وجوده في غيرها، وكان حكم مستقبلها كحكم ماضيها على البيان. ولو لم تجر عادة بذلك جملة لكانت الأدلة على أن الله تعالى قادر على فعل ذلك تبطل توهم المخالفين للحق فساد القول به وتكذبهم في دعواهم. وقد أطلق العلماء من أهل الملل وغيرهم أن آدم أبا البشر عليه السلام عمر نحو الألف، لم يتغير له خلق، ولا انتقل من طفولية إلى شبيبة، ولا عنها إلى هرم، ولا عن قوة إلى عجز، ولا عن علم إلى جهل، وأنه لم يزل على صورة واحدة إلى أن قبضه الله عز وجل إليه.

هذا مع الأعجوبة في حدوثه من غير نكاح، واختراعه من التراب من غير بدو وانتقاله من طين لازب إلى طبيعة الإنسانية، ولا واسطة في صنعته على اتفاق من ذكرناه من أهل الكتب حسب ما بيناه. والقرآن في ذلك ناطق ببقاء نوح نبي الله عليه السلام في قومه تسعمائة سنة وخمسين سنة للإنذار لهم خاصة، وقبل ذلك ما كان له من العمر الطويل إلى أن بعث نبيا من غير ضعف كان به ولا هرم ولا عجز ولا جهل، مع امتداد بقائه وتطاول عمره في الدنيا وسلامة حواسه. وأن الشيب أيضا لم يحدث في البشر قبل حدوثه في إبراهيم الخليل عليه السلام بإجماع من سميناه من أهل العلم من المسلمين خاصة كما ذكرناه. وهذا ما لا يدفعه إلا الملحدة من المنجمين وشركاؤهم في الزندقة من الدهريين، فأما أهل الملل كلها فعلى اتفاق منهم على ما وصفناه. والأخبار متناصرة بامتداد أيام المعمرين من العرب والعجم والهند، وأصناف البشر أحوالهم التي كانوا عليها مع ذلك، والمحفوظ من حكمهم مع تطاول أعمارهم، والمأثور من تفصيل قصاتهم من أهل أعصارهم وخطبهم وأشعارهم، لا يختلف أهل النقل في صحة الأخبار عنهم بما ذكرناه وصدق الروايات في أعمارهم وأحولهم كما وصفناه. وقد أثبت أسماء جماعة منهم في كتابي المعروف ب‍ الإيضاح في الإمامة، وأخبار كافتهم مجموعة مؤلفة حاصلة في خزائن الملوك وكثير من الرؤساء وكثير من أهل العلم وحوانيت الوراقين، فمن أحب الوقوف على ذلك فليلتمسه من الجهات المذكورة، يجدها على ما يثلج صدره ويقطع بتأمل أسانيدها في الصحة له عذره، إن شاء الله تعالى.

وأنا أثبت من ذكر بعضهم ها هنا جملة تقنع، وإن كان الوقوف على أخبار كافتهم أنجع فيما نؤمه بذكر البعض إن شاء الله.

فمنهم: لقمان بن عاد الكبير. وكان أطول الناس عمرا بعد الخضر عليه السلام، وذلك أنه عاش على رواية العلماء بالأخبار ثلاثة آلاف سنة وخمسمائة سنة، وقيل: إنه عاش عمر سبعة أنسر، وكان يأخذ فرخ النسر فيجعله في الجبل فيعيش النسر منها ما عاش، فإذا مات أخذ آخر فرباه، حتى كان آخرها لبد، وكان أطولها عمرا، فقيل: طال الأمد على لبد. وفيه يقول الأعشى:

لنفسك إذ تختار سبعة أنسر  *  إذا ما مضى نسر خلدت إلى نسر

فعمر حتى خال أن نسوره  *  خلود وهل تبقى النفوس على الدهر

وقال لأدناهن إذ حل ريشه  *  هلكت وأهلكت ابن عاد وما تدري

ومنهم: ربيع بن ضبيع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة. عاش ثلاثمائة سنة وأربعين سنة، وأدرك النبي صلى الله عليه وآله ولم يسلم. وهو الذي يقول وقد طعن في ثلاثمائة سنة:

أصبح مني الشباب قد حسرا  *   إن ينأ عني فقد ثرى عصرا

والأبيات معروفة. وهو الذي يقول أيضا منه:

إذا كان الشتاء فأدفئوني  *  فإن الشيخ يهدمه الشتاء

وأما حين يذهب كل قر  *  فسربال خفيف أو رداء

إذا عشا الفتى مأتين عاما  *  فقد أودى المسرة والفتاء

ومنهم: المستوغر بن ربيعة بن كعب. عاش ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين سنة. وهو الذي يقول:

ولقد سئمت من الحياة وطولها  *  وعمرت من عدد السنين مئينا

مائة حدتها بعدها مائتان لي  *  وعمرت من عدد الشهور سنيا

ومنهم: أكثم بن صيفي الأسدي. عاش ثلاثمائة سنة وثمانين سنة، وكان ممن أدرك النبي صلى الله عليه وآله وآمن به ومات قبل أن يلقاه، وله أحاديث كثيرة وحكم وبلاغات وأمثال. وهو القائل:

وإن امرأ قد عاش تسعين حجة  *  إلى مائة لم يسأم العيش جاهل

خلت مائتان بعد عشر وفائها  *  وذلك من عدى ليال قلائل

وكان والده صيفي بن رياح بن أكثم أيضا من المعمرين. عاش مائتين وستة وسبعين سنة، ولا ينكر من عقله شيء، وهو المعروف بذي الحلم الذي قال فيه المتلمس اليشكري:

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا  *  وما علم الإنسان إلا ليعلما

ومنهم: ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو. عاش مائتي سنة وعشرين سنة، فلم  يشب قط، وأدرك الإسلام ولم يسلم. وروى أبو حاتم [و] الرياشي، عن العتبي، عن أبيه أنه قال: مات ضبيرة السهمي وله مائتا سنة وعشرون سنة، وكان أسود الشعر صحيح الأسنان. ورثاه ابن عمه قيس بن عدي فقال:

من يأمن الحدثان بعد  *  ضبيرة السهمي ماتا

سبقت منيته المشيب  *  وكان ميتته افتلاتا

فتزودوا لا تهلكوا  *  من دون أهلكم خفاتا

ومنهم: دريد بن الصمة الجشمي. عاش مائتي سنة، وأدرك الإسلام فلم يسلم، وكان أحد قواد المشركين يوم حنين ومقدمهم، حضر حرب النبي صلى الله عليه وآلهفقتل يومئذ.

ومنهم: محصن بن عتبان بن ظالم الزبيدي. عاش مائتي سنة وخمسة وخمسين سنة.

ومنهم: عمرو بن حممة الدوسي. عاش أربعمائة سنة. وهو الذي يقول:

كبرت وطال العمر حتى كأنني  *  سليم أفاع ليله غير مودع

فما الموت أفناني ولكن تتابعت  *  علي سنون من مصيف ومربع

ثلاث مئات قد مررن كواملا  *  وها أنا هذا أرتجي نيل  أربع

ومنهم: الحرث بن مضاض الجرهمي. عاش أربعمائة سنة. وهو القائل:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا  *  أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا  *  صروف الليالي والجدود العواثر

وفي غير من ذكرت يطول بإثباته جزء الكتاب. والفرس تزعم أن قدماء ملوكها جماعات طالت أعمارهم وامتدت وزادت في الطول على أعمار من أثبتنا اسمه من العرب، ويذكرون أن من جملتهم الملك الذي استحدث المهرجان، عاش ألفي سنة وخمسمائة سنة. لم نتعرض لشرح أخبارهم، لظهور ما قصصته من أمر العرب من أعمارهم على ما تدعيه الفرس، ولقرب عهدها منا وبعد عهد أولئك، وثبوت أخبار معمري العرب في صحف أهل الإسلام وعند علمائهم.

وقد أسلفت القول بأن المنكر لتطاول الأعمار إنما هم طائفة من المنجمين وجماعة من الملحدين، فأما أهل الكتب والملل فلا يختلفون في صحة ذلك وثبوته. فلو لم يكن من جملة المعمرين إلا من التنازع في طول عمره مرتفع، وهو سلمان الفارسي رحمه الله، وأكثر أهل العلم يقولون: بأنه رأى المسيح، وأدرك النبي صلوات الله عليه وآله، وعاش بعده، وكانت وفاته في وسط أيام عمر بن الخطاب، وهو يومئذ القاضي بين المسلمين في المدائن، ويقال: إنه كان عاملها وجابي خراجها، وهذا أصح. وفيما أسلفناه في هذا الباب كفاية فيما قصدناه، والحمد لله.

- رد على من تمسك ببطلان الحاجة إلى الإمام المهدي باستمرار غيبته

- غيبة الإمام المهدي لا تخلّ بما صدقت الحاجة إليه من حفظ الشرع والملة

- فيما يقوم مقام الإمام في غيبته في حفظ الشرع والملة

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 105، 107:

الكلام في الفصل السابع: فأما قول الخصوم: إنه إذا استمرت غيبة الإمام على الوجه الذي تعتقده الإمامية -فلم يظهر له شخص، ولا تولى إقامة حد، ولا إنفاذ حكم، ولا دعوة إلى حق، ولا جهاد العدو- بطلت الحاجة إليه في حفظ الشرع والملة، وكان وجوده في العالم كعدمه.

فصل: فإنا نقول فيه: إن الأمر بخلاف ما ظنوه، وذلك أن غيبته لا تخل بما صدقت الحاجة إليه من حفظ الشرع والملة، واستيداعها له، وتكليفها التعرف في كل وقت لأحوال الأمة، وتمسكها بالديانة أو فراقها لذلك إن فارقته، وهو الشيء الذي ينفرد به دون غيره كافة رعيته.

ألا ترى أن الدعوة إليه إنما يتولاها شيعته وتقوم الحجة بهم في ذلك، ولا يحتاج هو إلى تولي ذلك بنفسه، كما كانت دعوة الأنبياء عليهم السلام تظهر نايبا عنهم والمقرين بحقهم، وينقطع العذر بها فيما يتأتى عن علتهم (كذا) ومستقرهم، ولا يحتاجون إلى قطع المسافات لذلك بأنفسهم، وقد قامت أيضا نايبا عنهم بعد وفاتهم، وتثبت الحجة لهم في ثبوتهم بامتحانهم في حياتهم وبعد موتهم، وكذلك  إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، وقد يتولاها أمراء الأئمة وعمالهم دونهم، كما كان يتولى ذلك أمراء الأنبياء عليهم السلام وولاتهم ولا يخرجونهم إلى تولي ذلك بأنفسهم، وكذلك القول في الجهاد، ألا ترى أنه يقوم به الولاة من قبل الأنبياء والأئمة دونهم، ويستغنون بذلك عن توليه بأنفسهم.

فعلم بما ذكرناه أن الذي أحوج إلى وجود الإمام ومنع من عدمه ما اختص به من حفظ الشرع، الذي لا يجوز ائتمان غيره عليه ومراعاة الخلق في أداء ما كلفوه من أدائه (آدابه). فمن وجد منهم قائما بذلك فهو في سعة من الاستتار والصموت، ومتى وجدهم قد أطبقوا على تركه وضلوا عن طريق الحق فيما كلفوه من نقله ظهر لتولي ذلك بنفسه ولم يسعه إهمال القيام به، فلذلك ما وجب في حجة العقل وجوده وفسد منها عدمه المباين لوجوده أو موته المانع له من مراعاة الدين وحفظه. وهذا بين لمن تدبره.

وشيء آخر، وهو: أنه إذا غاب الإمام للخوف على نفسه من القوم الظالمين، فضاعت لذلك الحدود وانهملت به الأحكام ووقع به في الأرض الفساد، فكان السبب لذلك فعل الظالمين دون الله عز أسمه، وكانوا المأخوذين بذلك المطالبين به دونه. فلو أماته الله تعالى وأعدم ذاته، فوقع لذلك الفساد وارتفع بذلك الصلاح، كان سببه فعل الله دون العباد، ولن يجوز من الله تعالى سبب الفساد ولا رفع  ما يرفع الصلاح. فوضح بذلك الفرق بين [موت] الإمام وغيبته واستتاره وثبوته، وسقط ما اعترض المستضعفون فيه من الشبهات، والمنة لله.

- الرد على من قال أن الشيعة الإمامية قد ساوت في غيبة الإمام المهدي المذاهب القائلة بغيبة أئمتها

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 109، 112:

الكلام في الفصل الثامن: فأما قول المخالفين: إنا قد ساوينا بمذهبنا في غيبة صاحبنا عليه السلام السبائية في قولهم: إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يقتل وأنه حي موجود، وقول الكيسانية: في محمد بن الحنفية، ومذهب الناووسية: في أن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام لم يمت، وقول الممطورة: في موسى بن جعفر عليه السلام أنه لم يمت وأنه حي إلى أن يخرج بالسيف، وقول أوائل الإسماعيلية وأسلافها: أن إسماعيل بن جعفر هو المنتظر وأنه حي لم يمت، وقول بعضهم: مثل ذلك في محمد بن إسماعيل، وقول الزيدية: مثل ذلك فيمن قتل من أئمتها حتى قالوه في يحيى بن عمر المقتول بشاهي. وإذا كانت هذه الأقاويل باطلة عند الإمامية، وقولها في غيبة صاحبها نظيرها، فقد بطلت أيضا ووضح فسادها.

فصل: فإنا نقول: إن هذا توهم من الخصوم لو تيقظوا لفساد ما اعتمدوه في حجاج أهل الحق وظنوه نظيرا لمقالهم: وذلك أن قتل من سموه قد كان محسوسا مدركا بالعيان، وشهد به أئمة قاموا بعدهم ثبتت إمامتهم بالشيء الذي به ثبتت إمامة من تقدمهم، والإنكار للمحسوسات باطل عند كافة العقلاء، وشهادة الأئمة المعصومين بصحة موت الماضين منهم مزيلة لكل ريبة، فبطلت الشبهة فيه ما بيناه. وليس كذلك قول الإمامية في دعوى وجود صاحبهم عليه السلام، لأن دعوى وجود صاحبهم عليه السلام لا تتضمن دفع المشاهد، ولا له إنكار المحسوس، ولا قام بعد الثاني عشر من أئمة الهدى عليهم السلام إمام عدل معصوم يشهد بفساد دعوى الإمامية أو وجود إمامها وغيبته. فأي نسبة بين الأمرين، لولا التحريف في الكلام، والعمل على أول خاطر يخطر للإنسان من غير فكر فيه ولا إثبات.

فصل: ونحن فلم ننكر غيبة من سماه الخصوم لتطاول زمانها، فيكون ذلك حجة علينا في تطاول مدة غيبة صاحبنا، وإنما أنكرناها بما ذكرناه من المعرفة واليقين بقتل من قتل منهم وموت من مات من جملتهم، وحصول العلم بذلك من جهة الإدراك بالحواس. ولأن في جملة من ذكروه من لم يثبت له إمامة من الجهات التي تثبت لمستحقها على حال، فلا يضر لذلك دعوى من ادعى له الغيبة والاستتار. ومن تأمل ما ذكرناه عرف الحق منه، ووضح له الفرق بيننا وبين الضالة من المنتسبين إلى الإمامية والزيدية ولم يخف الفصل بين مذهبنا في صاحبنا عليه السلام ومذاهبهم الفاسدة بما قدمناه، والمنة لله.

- لا تناقض بين القول بشمول المصلحة للأنام بوجود الإمام وظهوره وبين إباحة الله تعالى له الغيبة عن الخلق وسوغ له الاستتار عنهم

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 113، 119:

وأما الكلام في الفصل التاسع، وهو قول الخصوم: إن الإمامية تناقض مذهبها في إيجابهم الإمامة، وقولهم بشمول المصلحة للأنام بوجود الإمام وظهوره وأمره ونهيه وتدبيره، واستشهادهم على ذلك بحكم العادات في عموم المصالح بنظر السلطان العادل وتمكنه من البلاد والعباد. وقولهم مع ذلك: إن الله تعالى قد أباح للإمام الغيبة عن الخلق وسوغ له الاستتار عنهم، وأن ذلك هو المصلحة وصواب التدبير للعباد. وهذه مناقضة لا تخفى على العقلاء.

فصل: وأقول: إن هذه الشبهة الداخلة على المخالف إنما استولت عليه لبعده عن سبيل الاعتبار ووجوه الصلاح وأسباب الفساد، وذلك أن المصالح تختلف باختلاف الأحوال، ولا تتفق مع تضادها، بل يتغير تدبير الحكماء في حسن النظر والاستصلاح بتغير آراء المستصلحين وأفعالهم وأغراضهم في الأعمال.

ألا ترى أن الحكيم من البشر يدبر ولده وأحبته وأهله وعبيده وحشمه بما يكسبهم  المعرفة والآداب، ويبعثهم على الأعمال الحسنات، ليستثمروا بذلك المدح وحسن الثناء والإعظام من كل أحد والإكرام، ويمكنوهم من المتاجر والمكاسب للأموال، لتتصل مسارهم بذلك، وينالوا بما يحصل لهم من الأرباح الملذات، وذلك هو الأصلح لهم، مع توقرهم على ما دبرهم به من أسباب ما ذكرناه. فمتى أقبلوا على العمل بذلك والجد فيه، أداموا لهم ما يتمكنون به منه، وسهلوا عليهم سبيله، وكان ذلك هو الصلاح العام، وما أخذوا بتدبيرهم إليه وأحبوه منهم وأبروه لهم. وإن عدلوا عن ذلك إلى السفه والظلم، وسوء الأدب والبطالة، واللهو واللعب، ووضع المعونة على الخيرات في الفساد، كانت المصلحة لهم قطع مواد السعة عنهم في الأموال، والاستخفاف بهم، والإهانة والعقاب. وليس في ذلك تناقض بين أغراض العاقل، ولا تضاد في صواب التدبير والاستصلاح. وعلى الوجه الذي بيناه كان تدبير الله تعالى لخلقه، وإرادته عمومهم بالصلاح.

ألا ترى أنه خلقهم فأكمل عقولهم وكلفهم الأعمال الصالحات، ليكسبهم بذلك حالا في العاجلة، ومدحا وثناء حسنا وإكراما وإعظاما وثوابا في الآجل، ويدوم نعيمهم في دار المقام. فإن تمسكوا بأوامر الله ونواهيه وجب في الحكم إمدادهم بما يزدادون به منه، وسهل عليهم سبيله، ويسره لهم. وإن خالفوا ذلك وعصوه تعالى وارتكبوا نواهيه، وتغيرت الحال فيما يكون فيه استصلاحهم، وصواب التدبير لهم، يوجب قطع مواد التوفيق عنهم، وحسن منه وذمهم وحربهم، ووجب عليهم به العقاب، وكان ذلك هو الأصلح لهم والأصوب في تدبيرهم مما كان يجب في الحكمة لو أحسنوا ولزموا السداد. فليس ذلك بمتناقض في العقل ولا متضاد في قول أهل العدل، بل هو ملتئم على المناسب والاتفاق.

فصل: ألا ترى أن الله تعالى دعا الخلق إلى الإقرار به وإظهار التوحيد والإيمان برسله عليهم السلام لمصلحتهم، وأنه لا شيء أصوب في تدبيرهم من ذلك، فمتى اضطروا إلى إظهار كلمة الكفر للخوف على دمائهم كان الأصلح لهم والأصوب في تدبيرهم ترك الإقرار بالله والعدول عن إظهار التوحيد والمظاهرة بالكفر بالرسل، وإنما تغيرت المصلحة بتغير الأحوال، وكان في تغير التدبير الذي دبرهم الله به فيما خلقهم له مصلحة للمتقين، وإن كان ما اقتضاه من فعل الظالمين قبيحا منهم ومفسدة يستحقون به العقاب الأليم. وقد فرض الله تعالى الحج والجهاد وجعلهما صلاحا للعباد، فإذا تمكنوا منه عمت به المصلحة، وإذا منعوا منه بإفساد المجرمين كانت المصلحة لهم تركه والكف عنه، وكانوا في ذلك معذورين وكان المجرمون به ملومين. فهذا نظير لمصلحة الخلق بظهور الأئمة عليهم السلام وتدبيرهم إياهم متى أطاعوهم وانطووا على النصرة لهم والمعونة، وإن عصوهم وسعوا في سفك دمائهم تغيرت الحال فيما يكون به تدبير مصالحهم، وصارت المصلحة له ولهم غيبته وتغييبه واستتاره، ولم يكن عليه في ذلك لوم، وكان الملوم هو المسبب له بإفساده وسوء اعتقاده. ولم يمنع كون الصلاح باستتاره وجوب وجوده وظهوره، مع العلم ببقائه وسلامته وكون ذلك هو الأصلح والأولى في التدبير، وأنه الأصل الذي أجرى بخلق العباد إليه وكلفوا من أجله حسبما ذكرناه.

فصل: فإن الشبهة الداخلة على خصومنا في هذا الباب، واعتقادها أن مذهب الإمامية في غيبة إمامها مع عقدها في وجوب الإمامة متناقض، حسبما ظنوه في ذلك وتخيلوه، لا يدخل إلا على عمى منهم مضعوف بعيد عن معرفة مذهب سلفه وخلفه في الإمامة، ولا يشعر بما يرجع إليه في مقالهم به: وذلك أنهم بين رجلين: أحدهما: يوجب الإمامة عقلا وسمعا، وهم البغداديون من المعتزلة وكثير من المرجئة. والآخر: يعتقد وجوبها سمعا وينكر أن تكون العقول توجبها، وهم البصريون من المعتزلة وجماعة المجبرة وجمهور الزيدية. وكلهم وإن خالف الإمامية في وجوب النص على الأئمة بأعيانهم، وقال بالاختيار أو الخروج بالسيف والدعوة إلى الجهاد، فإنهم يقولون: إن وجوب اختيار الأئمة إنما هو لمصالح الخلق، والبغداديون من المعتزلة خاصة يزعمون أنه الأصلح في الدين والدنيا معا، ويعترفون بأن وقوع الاختيار وثبوت الإمامة هو المصلحة العامة، لكنه متى تعذر ذلك بمنع الظالمين منه كان الذين إليهم العقد والنهوض بالدعوة في سعة من ترك ذلك وفي غير حرج من الكف عنه، وأن تركهم له حينئذ يكون هو الأصلح، وإباحة الله تعالى لهم التقية في العدول عنه هو الأولى في الحكمة وصواب التدبير في الدنيا والدين.

وهذا هو القول الذي أنكره المستضعفون منهم على الإمامية: في ظهور الإمام وغيبته، والقيام بالسيف وكفه عنه وتقيته، وإباحة شيعته عند الخوف على أنفسهم ترك الدعوة إليه على الإعلان، والإعراض عن ذلك للضرورة إليه، والإمساك عن الذكر له باللسان. فيكف خفي الأمر فيه على الجهال من خصومنا، حتى ظنوا بنا المناقضة وبمذهبنا في معناه التضاد، وهو قولهم بعينه على السواء، لولا عدم التوفيق لهم وعموم الضلالة لقلوبهم بالخذلان، والله المستعان.

- الأخبار قد جاءت عن أئمة الهدى من آباء الإمام المنتظر بعلامات تدل عليه قبل ظهوره وتؤذن بقيامه بالسيف قبل سنته

- من علامات ظهور الإمام المهدي خروج السفياني وظهور الدجال وقتل رجل من ولد الحسن بن علي يخرج بالمدينة داعيا إلى إمام الزمان وخسف بالبيداء

- العلامات التي تسبق ظهور الإمام المهدي معجز يبرهن به عن صحة نسبه ودعواه

- ظهور الآيات على الأئمة لا توجب لهم الحكم بالنبوة لأنها ليست بأدلة تختص بدعوة الأنبياء من حيث دعوا إلى نبوتهم لكنها أدلة على صدق الداعي إلى ما دعا إلى تصديقه فيه على الجملة دون التفصيل

- ذكر أمثلة من القرآن الكريم في ظهور الآيات على غير الأنبياء

 - المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 121، 125:

الكلام في الفصل العاشر: فأما قول الخصوم: إنه إذا كان الإمام غائبا منذ ولد وإلى أن يظهر داعيا إلى الله تعالى، ولم يكن رآه على قول أصحابه أحد إلا من مات قبل ظهوره، فليس للخلق طريق إلى معرفته بمشاهدة شخصه ولا التفرقة بينه وبين غيره بدعوته. وإذا لم يكن الله تعالى يظهر الأعلام والمعجزات على يده ليدل بها على أنه الإمام المنتظر، دون من ادعى مقامه في ذلك النبوة له، إذ كانت المعجزات دلائل النبوة والوحي والرسالة، وهذا نقض مذهبهم وخروج عن قول الأمة كلها: أنه لا نبي بعد نبينا عليه وآله السلام.

فصل: فإنا نقول: إن الأخبار قد جاءت عن أئمة الهدى من آباء الإمام المنتظر عليه السلام بعلامات تدل عليه قبل ظهوره وتؤذن بقيامه بالسيف قبل سنته: منها:

خروج السفياني، وظهور الدجال، وقتل رجل من ولد الحسن بن علي عليه السلام يخرج بالمدينة داعيا إلى إمام الزمان، وخسف بالبيداء. وقد شاركت العامة الخاصة في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله بأكثر هذه العلامات، وأنها كائنة لا محالة على القطع بذلك والثبات، وهذا بعينه معجز يظهر على يده، يبرهن به عن صحة نسبه ودعواه.

فصل: مع أن ظهور الآيات على الأئمة عليهم السلام لا توجب لهم الحكم بالنبوة، لأنها ليست بأدلة تختص بدعوة الأنبياء من حيث دعوا إلى نبوتهم، لكنها أدلة على صدق الداعي إلى ما دعا إلى تصديقه فيه على الجملة دون التفصيل. فإن دعا إلى اعتقاد نبوتهم كانت دليلا على صدقه في دعوته، وإن دعا الإمام إلى اعتقاد إمامته كانت برهانا له في صدقه في ذلك، وإن دعا المؤمن الصالح إلى تصديق دعوته إلى نبوة نبي أو إمامة إمام أو حكم سمعه من نبي أو إمام كان المعجزة على صحة دعواه. وليس يختص ذلك بدعوة النبوة دون ما ذكرناه، وإن كان مختصا بذوي العصمة من الضلال وارتكاب كبائر الآثام، وذلك مما يصح اشتراك أصحابه مع الأنبياء عليهم السلام في صحيح النظر والاعتبار.

وقد أجرى الله تعالى آية إلى مريم ابنة عمران، الآية الباهرة برزقها من السماء، وهو خرق للعادة وعلم باهر من أعلام النبوة. فقال جل من قائل: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}. ولم يكن لمريم عليها السلام نبوة ولا رسالة، لكنها كانت من عباد الله الصالحين المعصومين من الزلات.

وأخبر سبحانه أنه أوحى إلى أم موسى {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. والوحي معجز من جملة معجزات الأنبياء عليهم السلام، ولم تكن أم موسى عليها السلام نبية ولا رسولة، بل كانت من عباد الله البررة الأتقياء. فما الذي ينكر من إظهار علم يدل على عين الإمام ليتميز به عمن سواه، ولولا أن مخالفينا يعتمدون في حجاجهم لخصومهم الشبهات المضمحلات.

فصل: وقد أثبت في كتابي المعروف بالباهر من المعجزات ما يقنع من أحب معرفة دلالتها والعلم بموضوعها والغرض في إظهارها على أيدي أصحابها، ورسمت منه جملة مقنعة في آخر كتابي المعروف بالإيضاح. فمن أحب الوقوف على ذلك فليلتمسه في هذين الكتابين، يجده على ما يزيل شبهات الخصوم في معناه إن شاء الله تعالى.

فهذه جملة الفصول التي ضمنت إثبات معانيها، ليتضح بذلك الحق فيها، ليعتبر به ذوي الألباب، وقد وفيت بضماني في ذلك، والله الموفق للصواب. وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله، وسلم كثيرا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحده وحده.

- الله تعالى يرد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها فيعز منهم فريقا ويذل فريقا ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين وذلك عند قيام مهدي آل محمد

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 77، 78:

55- القول في الرجعة

وأقول: إن الله تعالى يرد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها فيعز منهم فريقا ويذل فريقا ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليهم السلام و عليه السلام.

وأقول: إن الراجعين إلى الدنيا فريقان: أحدهما من علت درجته في الإيمان، وكثرت أعماله الصالحات، وخرج من الدنيا على اجتناب الكبائر الموبقات، فيريه الله عزوجل دولة الحق ويعزه بها ويعطيه من الدنيا ما كان يتمناه والآخر من بلغ الغاية في الفساد وانتهى في خلاف المحقين إلى أقصى الغايات وكثر ظلمه لأولياء الله واقترافه السيئات، فينتصر الله تعالى لمن تعدى عليه قبل الممات، ويشفي غيظهم منه بما يحله من النقمات، ثم يصير الفريقان من بعد ذلك إلى الموت ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من دوام الثواب والعقاب، وقد جاء القرآن بصحة ذلك وتظاهرت به الأخبار والإمامية بأجمعها عليه إلا شذاذا منهم تأولوا ما ورد فيه مما ذكرناه على وجه يخالف ما وصفناه.

- يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا وما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 79، 93:

فصل: في النفوس والأرواح

قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله: اعتقادنا في النفوس أنها هي الأرواح، وأنها الخلق الأول، وأنها خلقت للبقاء، وأنها في الأرض غريبة، وفي الأبدان مسجونة.

قال الشيخ أبو عبد الله: كلام أبي جعفر في النفس والروح على مذهب الحدس دون التحقيق، ولو اقتصر على الأخبار ولم يتعاط ذكر معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه.

[قال الشيخ أبو عبد الله: النفس عبارة] عن معان: أحدها: ذات الشيء، والثاني الدم السائل، والثالث: النفس الذي هو الهواء، والرابع: الهوى وميل الطبع.

فأما شاهد المعنى الأول، فهو قولهم: هذا نفس الشيء أي: ذاته وعينه، وشاهد الثاني قولهم: كل ما كانت [له نفس] سائلة فحكمه كذا وكذا، وشاهد الثالث قولهم: فلان هلكت نفسه، إذا انقطع نفسه ولم يبق في جسمه هواء يخرج من جوانبه، وشاهد الرابع قول الله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} يعني: الهوى داع إلى القبيح، وقد يعبر بالنفس عن النقم، قال الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} يريد به: نقمه وعقابه.

فصل: [قال الشيخ المفيد: وأما الروح] فعبارة عن معان: أحدها: الحياة، والثاني القرآن، والثالث: ملك من ملائكة الله تعالى، والرابع: جبرئيل عليه السلام.

فشاهد الأول قولهم: كل ذي روح فحكمه كذا وكذا، يريدون: كل ذي حياة، وقولهم في من مات: قد خرجت منه الروح، يعنون به الحياة، وقولهم في الجنين صورة لم تلجه الروح، يريدون: لم تلجه  الحياة. وشاهد الثاني قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} يعني به: القرآن. وشاهد الثالث قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ} الآية. وشاهد الرابع قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} يعني: جبرئيل عليه السلام.

فأما ما ذكره الشيخ أبو جعفر ورواه: أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد بألفي عام؟ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، فهو حديث من أحاديث الآحاد وخبر من طرق الأفراد، وله وجه غير ما ظنه من لا علم له بحقائق الأشياء، وهو أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بألفي عام، فما تعارف منها قبل خلق البشر ائتلف عند خلق البشر، وما لم يتعارف منها إذ ذاك اختلف بعد خلق البشر، وليس الأمر كما ظنه أصحاب التناسخ ودخلت الشبهة فيه على حشوية الشيعة فتوهموا أن الذوات الفعالة المأمورة والمنهية كانت مخلوقة في الذر تتعارف وتعقل وتفهم وتنطق، ثم خلق الله لها أجسادا من بعد ذلك فركبها فيها، ولو كان ذلك كذلك لكنا نعرف نحن ما كنا عليه، وإذا ذكرنا به ذكرناه ولا يخفى علينا الحال فيه، ألا ترى أن من نشأ ببلد من البلاد فأقام فيه حولا ثم انتقل إلى غيره لم يذهب عنه علم ذلك وإن خفي عليه لسهوه عنه فذكر به ذكره، ولولا أن الأمر كذلك لجاز أن يولد إنسان منا ببغداد وينشأ بها ويقيم عشرين سنة فيها ثم ينتقل إلى مصر آخر فينسى حاله ببغداد ولا يذكر منها شيئا، وإن ذكر به وعدد عليه علامات حاله ومكانه ونشوئه أنكرها، وهذا ما لا يذهب إليه عاقل، وكذا ما كان ينبغي لمن لا معرفة له بحقائق الأمور أن يتكلم فيها على خبط عشواء. والذي صرح به أبو جعفر رحمه الله في معنى الروح والنفس هو قول التناسخية بعينه من غير أن يعلم أنه قولهم فالجناية بذلك على نفسه وعلى غيره عظيمة.

فأما ما ذكره من أن الأنفس باقية فعبارة مذمومة ولفظ يضاد ألفاظ القرآن.

قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} والذي حكاه من ذلك وتوهمه هو مذهب كثير من الفلاسفة الملحدين الذين زعموا أن الأنفس لا يلحقها الكون والفساد، وأنها باقية، وإنما تفنى وتفسد الأجسام المركبة، وإلى هذا ذهب بعض أصحاب التناسخ، وزعموا أن الأنفس لم تزل تتكرر في الصور والهياكل لم تحدث ولم تفن ولن تعدم، وأنها باقية غير فانية، وهذا من أخبث قول وأبعده من الصواب، وبما دونه في الشناعة والفساد شنع به الناصبة على الشيعة ونسبوهم إلى الزندقة، ولو عرف مثبته ما فيه لما تعرض له، لكن أصحابنا المتعلقين بالأخبار أصحاب سلامة وبعد ذهن وقلة فطنة يمرون على وجوههم فيما سمعوه من الأحاديث ولا ينظرون في سندها، ولا يفرقون بين حقها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها، ولا يحصلون معاني ما يطلقونه منها.

والذي ثبت من الحديث في هذا الباب أن الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين: منها ما ينقل إلى الثواب والعقاب، ومنها ما يبطل فلا يشعر بثواب ولا عقاب.

وقد روي عن الصادق عليه السلام ما ذكرناه في هذا المعنى وبيناه، فسئل عمن مات في هذه الدار أين تكون روحه؟ فقال عليه السلام: من مات وهو ماحض للإيمان محضا أو ماحض للكفر محضا نقلت روحه من هيكله إلى مثله في الصورة، وجوزي بأعماله إلى يوم القيامة، فإذا بعث الله من في القبور أنشأ جسمه ورد روحه إلى جسده وحشره ليوفيه أعماله، فالمؤمن تنتقل روحه من جسده إلى مثل جسده في الصورة، فيجعل في جنة من جنان الله يتنعم فيها إلى يوم المآب، والكافر تنتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه فتجعل في نار فيعذب بها إلى يوم القيامة، وشاهد ذلك في المؤمن قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} وشاهد ما ذكرناه في الكافر قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فأخبر سبحانه أن مؤمنا قال بعد موته وقد ادخل الجنة: يا ليت قومي يعلمون، وأخبر أن كافرا يعذب بعد موته غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة يخلد في النار.

والضرب الآخر: من يلهى عنه وتعدم نفسه عند فساد جسمه، فلا يشعر بشيء حتى يبعث، وهو من لم يمحض الإيمان محضا، ولا الكفر محضا.

وقد بين الله تعالى ذلك عند قوله: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} فبين أن قوما عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتى يظن بعضهم أن ذلك كان عشرا، ويظن بعضهم أن ذلك كان يوما، وليس يجوز أن يكون ذلك عن وصف من عذب إلى بعثه أو نعم إلى بعثه، لأن من لم يزل منعما أو معذبا لا يجهل عليه حاله فيما عومل به، ولا يلتبس عليه الأمر في بقائه بعد وفاته.

وقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إنما يسأل في قبره من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا، فأما ما سوى هذين فإنه يلهى عنه.

وقال في الرجعة: إنما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا، فأما ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب.

وقد اختلف أصحابنا رضي الله عنهم فيمن ينعم ويعذب بعد موته، فقال بعضهم: المعذب والمنعم هو الروح التي توجه إليها الأمر والنهي والتكليف، وسموها (جوهرا).

وقال آخرون: بل الروح الحياة، جعلت في جسد كجسده في دار الدنيا، وكلا الأمرين يجوزان في العقل، والأظهر عندي قول من قال إنها الجوهر المخاطب، وهو الذي يسميه الفلاسفة (البسيط).

وقد جاء في الحديث أن الأنبياء صلوات الله عليهم خاصة والأئمة عليهم السلام من بعدهم ينقلون بأجسادهم وأرواحهم من الأرض إلى السماء، فيتنعمون في أجسادهم التي كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا. وهذا خاص بحجج الله تعالى دون من سواهم من الناس. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي من بعيد بلغته، وقال صلى الله عليه وآله: من صلى علي مرة صليت عليه عشرا، ومن صلى علي عشرا صليت عليه مائة، فليكثر امرؤ منكم الصلاة علي أو فليقل. فبين أنه صلى الله عليه وآله بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه، ولا يكون كذلك إلا وهو حي عند الله تعالى، وكذلك أئمة الهدى عليهم السلام يسمعون سلام المسلم عليهم من قرب، ويبلغهم سلامه من بعد، وبذلك جاءت الآثار الصادقة عنهم عليهم السلام. وقد قال الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء} الآية.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه وقف على قليب بدر فقال للمشركين الذين قتلوا يومئذ وقد القوا في القليب: لقد كنتم جيران سوء لرسول الله، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فقال له عمر يا رسول الله، ما خطابك لهام قد صديت؟ فقال له: مه يا ابن الخطاب! فوالله ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم.

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه ركب بعد انفصال الأمر من حرب البصرة فصار يتخلل بين الصفوف حتى مر على كعب بن سورة وكان هذا قاضي البصرة ولاه إياها عمر بن الخطاب، فأقام بها قاضيا بين أهلها زمن عمر وعثمان، فلما وقعت الفتنة بالبصرة علق في عنقه مصحفا وخرج بأهله وولده يقاتل أمير المؤمنين، فقتلوا بأجمعهم فوقف عليه أمير المؤمنين عليه السلام وهو صريع بين القتلى، فقال: أجلسوا كعب بن سورة، فأجلس بين نفسين، وقال له: يا كعب بن سورة، قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال: أضجعوا كعبا. وسار قليلا فمر بطلحة بن عبد الله صريعا، فقال: أجلسوا طلحة، فأجلسوه، فقال: يا طلحة، قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال: أضجعوا طلحة، فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين، ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟ فقال: مه يا رجل، فوالله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله. وهذا من الأخبار الدالة على أن بعض من يموت ترد إليه روحه لتنعيمه أو لتعذيبه، وليس ذلك بعام في كل من يموت، بل هو على ما بيناه.

- روي في تأويل قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ الآية إنها نزلت في عترة النبي وذريته الأئمة الأطهار وتضمنت البشارة لهم بالاستخلاف والتمكن في البلاد وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي منهم

- عترة النبي وذريته الأئمة الأطهار أحق بالاستخلاف على الأنام ممن عداهم لفضلهم على سائر الناس وهم المدالون على أعدائهم في آخر الزمان حتى يتمكنوا في البلاد ويظهر دين الله تعالى بهم ظهورا لا يستخفي على أحد من العباد ويأمنون بعد طول خوفهم من الظالمين المرتكبين في أذاهم الفساد

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 90، 106:

فصل: فإن قال: قد فهمت ما ذكرتموه في هذه وما قبلها من الآي، ولست أرى لأحد حجة في دفعه لوضوحه في البيان، ولكن خبروني عن قوله تعالى في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. أليس قد ذكر المفسرون أنها في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب عليه السلام؟! واستدل المتكلمون من مخالفيكم على صحة ذلك، بما حصل لهم من جميع هذه الصفات: فأولها: أنهم كانوا حاضرين لنزولها بدليل كاف المواجهة بلا اختلاف، ثم أنهم كانوا ممن خاف في أول الإسلام، فآمنهم الله تعالى، ومكن لهم في البلاد، وخلفوا النبي صلى الله عليه وآله وأطاعهم العباد، فثبت أنها نزلت فيهم بهذا الضرب من الاعتبار، وإلا فبينوا لنا الوجه في معناها، إن لم يكن الأمر على ما ذكرناه.

قيل له: إن تفسير القرآن لا يؤخذ بالرأي، ولا يحمل على اعتقادات الرجال والأهواء، وما حكيته من ذلك عن المفسرين فليس هو إجماعا منهم، ولا مرجوعا به إلى ثقة ممن تعاطاه ومن ادعاه، ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله، ولا إلى من تجب طاعته على الأنام. وممن فسر القرآن عبد الله بن عباس، والمحكي عنه في تأويل هذه الآية غير ما وصفت بلا تنازع بين حملة الآثار، وكذلك المروي عن محمد بن علي عليهما السلام، وعن عطاء ومجاهد، وإنما ذكر ذلك برأيه وعصبيته مقاتل بن سليمان، وقد عرف نصبه لآل محمد صلى الله عليه وآله وجهله وكثرة تخاليطه في الجبر والتشبيه، وما ضمنته كتبه في معاني القرآن.

على أن المفسرين للقرآن طائفتان: شيعة ، وحشوية، فالشيعة لها في هذه الآية تأويل معروف تسنده إلى أئمة الهدى عليهم السلام، والحشوية مختلفة في أقاويلها على ما ذكرناه، فمن أين يصح إضافة ما ادعوه من التأويل إلى مفسري القرآن جميعا على الإطلاق، لولا عمى العيون وارتكاب العناد؟! فأما ما حكوه في معناها عن المتكلمين منهم، فقد اعتمده جميعهم على ما وصفوه بالاعتبار الذي ذكروه، وهو ضلال عن المراد، وخطأ ظاهر الفساد، من وجوه لا تخفى على من وفق للرشاد: أحدها:

أن الوعد مشترط بالإيمان على التحقيق بالأعمال الصالحات، وليس على ما يذهب إليه مخالفونا من إيمان أصحابهم على الحقيقة، وأنهم كانوا من أصحاب الصالحات بإجماع، ولا دليل يقطع به على الحق عند الله، بل الخلاف في ذلك ظاهر بينهم وبين خصومهم، والمدافعة عن الأدلة على ذلك موجودة كالعيان.

والثاني: أن المراد في الآية بالاستخلاف إنما هو توريث الأرض والديار، والتبقية لأهل الإيمان بعد هلاك الظالمين لهم من الكفار، دون ما ظنه القوم من الاستخلاف في مقام النبوة، وتملك الإمامة وفرض الطاعة على الأنام.

ألا ترى أن الله سبحانه قد جعل ما وعد به من ذلك مماثلا لما فعله بالمؤمنين وبالأنبياء عليهم السلام قبل هذه الأمة في الاستخلاف، وأخبر بكتابه عن حقيقة ذلك وصورته ومعناه، وكان بصريح ما أنزله من القرآن مفيدا لما ذكرناه، من توريث الديار والنعم والأموال عموم المؤمنين دون خصوصهم ومعنى ما بيناه، دون الإمامة التي هي خلافة للنبوة والإمرة والسلطان.

قال الله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. فبشرهم بصبرهم على أذى الكافرين بميراث أرضهم، والملك لديارهم من بعدهم، والاستخلاف على نعمتهم، ولم يرد بشيء من ذلك تمليكهم مقام النبوة والإمامة على سائر الأمة، بل أراد ما بيناه. ونظير هذا الاستخلاف من الله سبحانه لعباده، ومما هو في معناه، قوله جل اسمه في سورة الأنعام: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} وليس هذا الاستخلاف من الإمامة وخلافة النبوة في شيء وإنما هو ما قدمنا ذكره ووصفناه. وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فإنما أراد بذلك تبقيتهم بعد هلاك الماضين، وتوريثهم ما كانوا فيه من النعم، فجعله من مننه عليهم ولطفه بهم ليطيعوه ولا يكفروا به كما فعل الأولون. ومنه قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} وقد علم كل ذي عقل أن هذا الاستخلاف مباين للعامة في معناه، وقد وفى الله الكريم موعده لأصحاب نبيه صلى الله عليه وآله جميعا في حياته وبعد وفاته، ففتح لهم البلاد، وملكهم رقاب العباد، وأحلهم الديار، وأغنمهم الأموال، فقال عز من قائل: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا}.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ثبت أن المراد بالآية من الاستخلاف ما ذكرناه، ولم يتضمن ذلك الإمامة وخلافة النبوة على ما بيناه، وكان الوعد به عموما لأهل الإيمان بما شرحناه، وبطل ما تعلق به خصومنا في إمامة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ووضح جهلهم في الاعتماد على التأويل الذي حكيناه عنهم للآية لما تلوناه من كتاب الله تعالى وفصلنا وجهه وكشفناه.

وقد حكى هذا المعنى بعينه في تأويل هذه الآية الربيع عن أبي العالية، والحسين بن محمد، عن الحكم، وغيرهما، عن جماعات من التابعين، ومفسري القرآن.

فصل: على أن عموم الوعد بالاستخلاف للمؤمنين الذي عملوا الصالحات من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، على ما اختصوا به من الصفات في عبادتهم لله تعالى على الخوف والأذى والاستسرار بدين الله جل اسمه، على ما نطق به القرآن، يمنع مما ادعاه أهل الخلاف من تخصيص أربعة منهم دون الجميع، لتناقض اجتماع معاني العموم على الاستيعاب والخصوص، ووجوب دفع أحدهما صاحبه بمقتضى العقول. وإذا ثبت عموم الوعد، وجب صحة ما ذكرناه في معنى الاستخلاف من توريث الديار والأموال، وظهور عموم ذلك لجميعهم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وبعده بلا اختلاف، بطل ما ظنه الخصوم في ذلك وتأولوه على المجازفة، والعدول عن النظر الصحيح.

فصل: فإن قال منهم قائل: إن الآية وإن كان ظاهرها العموم، فالمراد بها الخصوص، بدليل وجود الخلافة فيمن عددناه دون الجميع. وعلى هذا يعتمد متكلموهم.

قيل له: أحلت في ذلك من قبيل أنك إنما أوجبت لأصحابك الإمامة، وقضيت لهم بصحة الخلافة بالآية، وجعلتها ملجأ لك في حجاج خصومك، ودفعهم عما وصفوا به من فساد عقلك، فلما لم يتم لك مرادك من الآية، بما أوجبه عليك عمومها بظاهرها، ودليل متضمنها، عدلت إلى تصحيح تأويلك منها، بادعاء ما تورعت فيه من خلافة القوم، وثبوت إمامتهم، الذي أفقرك عدم البرهان عليه إلى تصحيحه عندك بالآية، فصرت دالا على وجوده معنى تنازع فيه بوجود شيء تتعلق صحة وجوده بوجود ما دفعت عن وجوده، وهذا تناقض من القول، وخبط أوجبه لك الضلال، وأوقعك فيه التقليد والعصبية للرجال، نعوذ بالله من الخذلان.

ثم يقال له: خبرنا عما تدعيه من استخلاف الله تعالى لأئمتك على الأنام، وصحة إمامتهم على ما زعمت فيما سلف لك من الكلام، أبظاهر أمرهم ونهيهم وتملكهم علمت ذلك، وحكمت به على القطع والثبات، أم بظاهر الآية ودليلها على ما قدمت من الاعتبار، أم بغير ذلك من ضروب الاستدلال؟.

فإن قال: بظاهر أمرهم ونهيهم في الأمة، ورئاستهم الجماعة، ونفوذ أمرهم وأحكامهم في البلاد، علمت ذلك وقطعت به على أنهم خلفاء الله تعالى: والأئمة بعد رسوله عليه السلام. وجب على وفور هذه العلة القطع بصحة إمامة كل من ادعى خلافة الرسول صلى الله عليه وآله، ونفذت إحكامه وقضاياه في البلاد، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإيمان.

وإن قال: إنما علمت صحة خلافتهم بالآية ودلائلها على الاعتبار.

قيل له: ما وجه دلالة الآية على ذلك، وأنت دافع لعمومها في جميع أهل الإيمان، وموجب خصوصها بغير معنى في ظاهرها، ولا في باطنها، ولا مقتضاها على الأحوال؟ فلا يجد شيئا يتعلق به فيما ادعاه.

وإن قال: إن دلالتي على ما ادعيت من صحة خلافتهم معنى غير الآية نفسها، بل من الظاهر من أمر القوم ونهيهم، وتأمرهم على الأنام. خرجت الآية عن يده، وبانت فضيحته فيما قدره منها وظنه في تأويلها وتمناه، وهذا ظاهر بحمد الله.

فصل: مع أنا لو سلمنا لهم في معنى الاستخلاف أن المراد في الآية ما ذكروه من إمامة الأنام، لما وجب به ما ذهبوا إليه من صحة خلافة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام بل كانت الآية نفسها شاهدة بفساد أمرهم وانتقاضه على البيان، وذلك أن الله جل اسمه وعد المؤمنين من أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله بالاستخلاف، ثوابا لهم على الصبر والإيمان، والاستخلاف من الله تعالى للأئمة لا يكون استخلاف من العباد، ولما ثبت أن أبا بكر كان منصوبا باختيار عمر وأبي عبيدة بن الجراح، وعمر باستخلاف أبي بكر دون النبي صلى الله عليه وآله، وعثمان باختيار عبد الرحمن، فسد أن يكونوا داخلين تحت الوعد بالاستخلاف، لتعريهم من النص بالخلافة من الله تعالى، وإقرار مخالفينا إلا من شذ منهم أن إمامتهم كانت باختيار، وثبت أن الآية كانت مختصة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام دونهم، لإجماع شيعته على أن إمامته باستخلاف الله تعالى له، ونصه عليه، وأقامه عليه السلام نبيه صلى الله عليه وآله علما للأمة وإماما لها بصريح المقال.

فصل آخر: ويقال لهم: ما تنكرون أن يكون خروج أبي بكر وعمر وعثمان من الخوف في أيام النبي صلى الله عليه وآله يخرجهم عن الوعد بالاستخلاف، لأنه إنما توجه إلى من كان يلحقه الخوف من أذى المشركين، وليس له مانع منهم، كأمير المؤمنين عليه السلام وما مني به النبي صلى الله عليه وآله وعمار وأمه وأبيه، والمعذبين بمكة، ومن أخرجهم النبي صلى الله عليه وآله، مع جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة لما كان ينالهم من الفتنة والأذى في الدين.

فأما أبو بكر فإن الشيعة تذكر أنه لم يكن خائفا في حياة النبي صلى الله عليه وآله لأسباب نحن أغنياء عن شرحها، وأنتم تزعمون أن الخوف مرتفع عنه لعزته في قريش ومكانه منهم وكثرة ماله واتساع  جاهه، وإعظام القوم له لسنه وتقدمه، حتى أنه كان يجير ولا يجار عليه، ويؤمن ولا يحتاج إلى أمان، وزعمتم إنه اشترى تسعة نفر من العذاب.

وأن عمر بن الخطاب لم يخف قط، ولا هاب أحدا من الأعداء، وأنه جرد سيفه عند إسلامه، وقال: لا يعبد الله اليوم سرا. ثقة بنفسه، وطمأنينة إلى سلامته، وأمنا من الغوائل، وأنه لن يقدم عليه أحد بسوء، لعظم رهبة الناس منه وإجلالهم لمكانه.

وأن عثمان بن عفان كان آمنا ببني أمية، وهم ملاك الأمر إذ ذاك. فكيف يصح لكم مع هذا القول أن تستدلوا بالآية على صحة خلافتهم ودخولهم تحت الوعد بالاستخلاف، وهم من الوصف المنافي لصفات الموعودين بالاستخلاف على ما ذكرناه، لولا أنكم تخبطون فيما تذهبون إليه خبط عشواء؟!.

فصل: ويقال لهم: أليس يمكنكم إضافة ما تلوتموه من هذه الآية في أئمتكم إلى صادق عن الله تعالى فيجب العمل به، وإنما أسندتم قولكم فيه إلى ضرب من الرأي والاعتبار الفاسد بما أوضحناه.

وقد ورد عن تراجمة القرآن من آل محمد صلى الله عليه وآله في تأويلها ما هو أشبه من تأويلكم وأولى بالصواب، فقالوا: إنها نزلت في عترة النبي صلى الله عليه وآله وذريته الأئمة الأطهار عليهم السلام وتضمنت البشارة لهم بالاستخلاف، والتمكن في البلاد، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي منهم، فكانوا عليهم السلام هم المؤمنين العاملين الصالحات، بعصمتهم من الزلات.

وهم أحق بالاستخلاف على الأنام ممن عداهم، لفضلهم على سائر الناس، وهم المدالون على أعدائهم في آخر الزمان، حتى يتمكنوا في البلاد، ويظهر دين الله تعالى بهم ظهورا لا يستخفي على أحد من العباد، ويأمنون بعد طول خوفهم من الظالمين المرتكبين في أذاهم الفساد، وقد دل القرآن على ذلك وجاءت به الأخبار: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. وقال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. وقال تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}. وكل هذه أمور منتظرة، غير ماضية ولا موجودة في الحال. ومثلهم فيما بشرهم الله تعالى به من ذلك ما تضمنه قوله تعالى: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} وقوله تعالى في بني إسرائيل: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}. ومما أنزله فيهم سوى المثل لهم عليه السلام قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.

فصار معاني جميع ما تلوناه راجعا إلى الإشارة إليهم عليهم السلام بما ذكرناه. ويحقق ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله على الاتفاق من قوله: "لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا".

وأما ما تعلقوا به من كاف المواجهة، فإنه لا يخل بما شرحناه في التأويل من آل محمد عليهم السلام لأن القائم من آل محمد والموجود من أهل بيته في حياته هم من المواجهين في الحقيقة والنسب والحسب، وإن لم يكن من أعيانهم، فإذا كان منهم بما وصفناه، فقد دخل تحت الخاطب، وبطل ما توهم أهل الخلاف.

فصل: على أنه يقال لهم: ما الفصل بينكم فيما تأولتم به هذه الآية وبين من تأولها خلاف تأويلكم، فأوجب حكمها في غير من سميتم، ولجأ في صحة مقاله إلى مثل عيوبكم، فقال: إن الله جل اسمه بشر في هذه الآية بالاستخلاف أبا سفيان صخر بن حرب، ومعاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وذلك أني قد وجدتهم انتظموا صفات الموعودين بالاستخلاف، وكانوا من الخائفين عند قوة الإسلام لخلافهم على النبي صلى الله عليه وآله، فتوجه إليهم الوعد من الله سبحانه بالأمن من الخوف، بشرط الانتقال إلى الإيمان، واستئناف الأعمال الصالحات، والاستخلاف بعد ذلك، والتمكين لهم في البلاد، ثوابا لهم على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله، وترغيبا لهم في الإيمان، فأجابوا الله تعالى إلى ما دعاهم إليه، وأذعنوا بالإسلام، وعملوا الصالحات، فأمنوا من المخوفات. واستخلفهم النبي صلى الله عليه وآله في حياته، كانوا من بعده خلفاء لخلفائه الراشدين، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف أبا سفيان على سبي الطائف، وهم يومئذ ستة آلاف إنسان، واستعمله من بعد ذلك على نجران فلم يزل عامله عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو خليفته فيها من غير عزل له ولا استبدال. واستعمل أيضا صلوات الله عليه يزيد بن أبي سفيان على صدقات أخواله بني فراس بن غنم، فجباها وقدم بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فلقيه أبوه أبو سفيان فطلب منه مال الصدقات، فأبى أن يعطيه، فقال: إذا صرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، فأخبره فقال له: "خذ المال فعد به إلى أبيك". فسوغه مال الصدقات كله، صلة لرحمه، وإكراما له، وتمييزا له من كافة أهل الإسلام.

واستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله على كتابته معاوية، وكان والي خليفتيه من بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وولى أبو بكر يزيد ابن أبي سفيان ربع أجناد الشام، وتوفي وهو خليفته على ذلك، فأقره عمر بن الخطاب إلى أن مات خلافته.

وإذا كان أبو سفيان ومعاوية ويزيد ابناه على ظاهر الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وكان لهم من الخلافة في الإسلام ما وصفناه، ثم الذي حصل لمعاوية من الإمرة بعد أمير المؤمنين عليه السلام، وبيعة الحسن بن علي عليه السلام، وتسليم الأمر إليه، حتى سمي عامه (عام الجماعة) للاتفاق، ولم يسم عام أحد من الخلفاء قبله بذلك، ثبت أنهم المعنيون في الآية ببشارة الاستخلاف، دون من ادعيتم له ذلك بمعنى الاستدلال على ما انتظمتموه من الاعتبار. وهذا أشبه من تأويل المعتزلة للآية في أبي بكر وعمر وعثمان، وهو ناقض لمذاهبهم، ومضاد لاعتقاداتهم، ولا فضل لأحد منهم فيه إلا أن يرجع في العبرة إلى ما شرحناه، أو يعتمد في التفسير على الأثر حسبما قدمناه، فيبطل حينئذ توهمه فيما تأوله على ما بيناه، والحمد لله.

فصل: ثم يقال لهم أيضا: ألستم تعلمون أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أبي سرح قد كانا واليين على المسلمين من قبل عثمان بن عفان، وهو إمام عدل عندكم مرضي الفعال، وقد كان مروان ابن الحكم كذلك، ثم خطب له على المنابر في الإسلام بإمرة المؤمنين، كما خطب لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وكذلك أيضا ابنه عبد الملك، ومن بعده من بني أمية، قد حكموا في العباد وتمكنوا في البلاد، فبأي شيء تدفعون صرف معنى الآية إليهم، والوعد بالاستخلاف لهم، وإدخالهم في جملة من سميتموه، وزعمتم أنهم أئمة عدل خلفاء، واعتمدتم في صحة ذلك على ما ذكرناه في أمر أبي سفيان ومعاوية ويزيد ابنيه حسبما شرحناه؟!. فلا يجدون مهربا من ذلك بما قدمناه على الترتيب الذي رسمناه، وكذلك السؤال عليهم في عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، فإنهما ممن كان على ظاهر الإسلام، والعمل الصالح عند الجمهور من الناس، وكانا من المواجهين بالخطاب، وممن خاف في صدر الإسلام، وحصلت لهما ولآيات في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وخلافة له، ولخلفائه على أصولهم بغير إشكال، وليس يمكن لخصومنا دفع التأويل فيهما بما يتعلقون به في أمية وبني مروان من الخروج عن الخوف في صدر الإسلام، وهذا كله تخليط ورطهم الجهل فيه بدين الله تعالى، والعداوة لأوليائه عليهم السلام.

- في غيبة الإمام المهدي

- الإمام المهدي في تقية من أعدائه لا محالة ومن كثير من الجاهلين به ممن لا يعرفه ولا سمع به فيعاديه أو يواليه على غالب الظن والعرف ولست أنكر أن يكون في تقية من جماعة ممن يعتقد إمامته الآن

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 110، 117:

فصل: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه، وكلامه في الغيبة قال: قال لي شيخ من حذاق المعتزلة وأهل التدين بمذهبه منهم: أريد إن أسالك عن مسألة كانت خطرت ببالي وسألت عنها جماعة ممن لقيت من متكلمي الإمامية بخراسان وفارس والعراق فلم يجيبوا فيها بجواب مقنع.

فقلت: سل على اسم الله إن شئت.

فقال: خبرني عن الإمام الغائب عندكم أهو في تقية منك كما هو في تقية من أعدائه؟ أم هو في تقية من أعدائه خاصة؟.

فقلت له: الإمام عندي في تقية من أعدائه لا محالة، وهو أيضا في تقية من كثير من الجاهلين به ممن لا يعرفه ولا سمع به فيعاديه أو يواليه، هذا على غالب الظن والعرف، ولست أنكر أن يكون في تقية من جماعة ممن يعتقد إمامته الآن، فأما أنا فانه لا تقية عليه مني بعد معرفته بي على حقيقة المعرفة والحمد لله.

فقال: هذا والله جواب طريف لم أسمعه من أحد قبلك، فأحب أن تفصل لي وجوهه وكيف صار في تقية ممن لا يعرفه وفي تقية من جماعة تعتقد إمامته الآن وليس هو في تقية منك إذ عرفك؟.

فقلت له: أما تقيته من أعدائه فلا حاجة لي إلى الكلام فيها لظهور ذلك وأما تقيته ممن لا يعرفه فإنما قلت ذلك على غالب الظن وظاهر الحال وذلك أنه ليس يبعد أن لو ظهر لهم لكانوا بين أمور، إما أن يسفكوا دمه بأنفسهم لينالوا بذلك المنزلة عند المتغلب على الزمان ويحوزوا به المال والرياسة، أو يسعوا به إلى من يحل هذا الفعل به أو يقبضوا عليه ويسلموه إليه فيكون في ذلك عطبه وفي عطبه وهلاكه عظيم الفساد.

وإنما غلب في الظن ذلك لأن الجاهل لحقه ليس يكون معه المعرفة التي تمنعه من السعي على دمه ولا يعتقد في الكف عنه ما يعتقده المتدين بولايته وهو يرى الدنيا مقبلة إلى من أوقع الضرر به فلم يبعد منه ما وصفناه بل قرب وبعد منه خلافه.

وأما وجه تقيته من بعض من يعتقد إمامته الآن، فان المعتقدين بذلك ليسوا بمعصومين من الغلط ولا مأمونا عليهم الخطأ بل ليس مأمونا عليهم العناد والارتداد، فلا ينكر أن يكون المعلوم منهم أنه لو ظهر لهم الإمام عليه السلام أو عرفوا مكانه أن تدعوهم دواعي الشيطان إلى الإغراء به والسعي عليه والإخبار بمكانه طمعا في العاجلة ورغبة فيها وإيثارا لها على الآجلة كما دعت دواعي الشيطان أمم الأنبياء إلى الارتداد عن شرايعهم حتى غيرها جماعة منهم وبدلها أكثرهم، وكما عاند قوم موسى نبيهم وإمامهم هارون وارتدوا عن شرعه الذي جاء به هو وأخوه موسى عليهما السلام واتبعوا السامري، فلم يلتفتوا إلى أمر هارون ونهيه ولا فكروا في وعظه وزجره وإذا كان ذلك على ما وصفت، لم ينكر أن تكون هذه حال جماعة من منتحلي الحق في هذا الزمان لارتفاع العصمة عنهم.

وأما حكمي لنفسي فانه ليس يختصني لأنه يعم كل من شاركني في المعنى الذي من أجله حكمت وإنما خصصت نفسي بالذكر لأنني لا أعرف غيري عينا على اليقين مشاركا لي في الباطن فأدخله معي في الذكر.

والمعنى الذي من أجله نفيت أن يكون صاحب الأمر عليه السلام متقيا مني عند المعرفة بحالي لأنني أعلم أني عارف بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وآله وبالأئمة عليهم السلام، وهذه المعرفة تمنعني من إيقاع كفر غير مغفور والسعي على دم الإمام عليه السلام، بل إخافته عندي كفر غير مغفور.

وإذا كنت على ثقة تعصمني من ذلك لما أذهب إليه في الموافاة، فقد أمنت أن يكون الإمام في تقية مني أو ممن شاركني فيما وصفت من إخواني، وإذا تحقق أمورنا على ما ذكرت فلا يكون في تقية مني بعد معرفته أني على حقيقة المعرفة إذ التقية إنما هي الخوف على النفس والإخافة للإمام لا تقع من عارف بالله عز وجل على ما قدمت.

فقال: فكأنك إنما جوزت تقية الإمام من أهل النفاق من الشيعة، فأما المعتقدون للتشيع ظاهرا وباطنا فحالهم كحالك وهذا يؤدي إلى المناقضة لان المنافق ليس بمعتقد للتشيع في الحقيقة، وأنت قد أجزت ذلك على بعض الشيعة في الحقيقة فكيف يكون هذا؟.

فقلت له: ليس الأمر كما ظننت، وذلك أن جماعة من معتقدي التشيع عندي غير عارفين في الحقيقة وإنما يعتقدون الديانة على ظاهر القول بالتقليد والاسترسال دون النظر في الأدلة والعمل على الحجة، ومن كان بهذه المنزلة لم يحصل له الثواب الدائم المستحق للمعرفة المانع بدلالة الخبر به عن إيقاع كفر من صاحبه فيستحق به الخلود في الجحيم فتأمل ذلك.

قال: فقد اعترض الآن هاهنا سؤال في غير الغيبة أحتاج إلى معرفة جوابك عنه، ثم أرجع إلى المسألة في الغيبة، خبرني عن هؤلاء المقلدين من الشيعة الإمامية أنهم كفار يستحقون الخلود بالنار؟ فإن قلت ذلك فليس في الجنة من الشيعة الإمامية إذا غيرك لأنا لا نعرف أحدا منهم على تحقيق النظر سواك بل إن كان فيهم فلعلهم لا يكونون عشرين نفسا في الدنيا كلها، وهذا ما أظنك تذهب إليه، وإن قلت إنهم ليسوا بكفار وهم يعتقدون التشيع ظاهرا وباطنا فهم مثلك وهذا مبطل لما قدمت.

فقلت له: لست أقول إن جميع المقلدة كفار لان فيهم جماعة لم يكلفوا المعرفة ولا النظر في الأدلة لنقصان عقولهم عن الحد الذي به يجب تكليف ذلك، وإن كانوا مكلفين عندي للقول والعمل، وهذا مذهبي في جماعة من أهل السواد والنواحي الغامضة والبوادي والأعراب والعجم والعامة، فهؤلاء إذا قالوا وعملوا كان ثوابهم على ذلك كعوض الأطفال والبهائم والمجانين وكان ما يقع منهم من عصيان يستحقون عليه العقاب في الدنيا وفي يوم المآب طول زمان الحساب أو في النار أحقابا، ثم يخرجون إلى محل الثواب. وجماعة من المقلدة عندي كفار لأن فيهم من القوة على الاستدلال ما يصلون به إلى المعارف فماذا انصرفوا عن النظر في طرقها فقد استحقوا الخلود في النار. فأما قولك إنه ليس في الدنيا أحد من الشيعة ينظر حق النظر إلا عشرون نفسا أو نحوهم فإنه لو كنت صادقا في هذا المقال ما منع أن يكون جمهور الشيعة عارفين لأن طرق المعرفة قريبة يصل إليها كل من استعمل عقله وإن لم يكن يتمكن من العبارة عن ذلك ويسهل عليه الجدل ويكون من أهل التحقيق في النظر وليس عدم الحذق في الجدل وإحاطة العلم بحدوده والمعرفة بغوامض الكلام ودقيقه ولطيف القول في المسألة دليلا على الجهل بالله عزوجل.

فقال: ليس أرى أن أصل معك الكلام في هذا الباب الآن لأن الغرض هو القول في الغيبة ولكن لما تعلقت بمذهب غريب أحببت أن أقف عليه وأنا أعود إلى مسألتي الأولى وأكلمك في هذا المذهب بعد هذا يوما آخر.

أخبرني الآن إذا لم يكن الإمام في تقية منك فما باله لا يظهر لك فيعرفك نفسه بالمشاهدة ويريك معجزة ويبين لك كثيرا من المشكلات ويؤنسك بقربه ويعظم قدرك بقصده ويشرفك بمكانه إذا كان قد أمن منك الإغراء به وتيقن ولايتك له ظاهرة وباطنة؟.

فقلت له: أول ما في هذا الباب أنني لا أقول لك إن الإمام عليه السلام يعلم السرائر وإنه مما لا يخفى عليه الضمائر فتكون قد أخذت رهني بأنه يعلم مني ما أعرفه من نفسي، وإذا لم يكن ذلك مذهبي وكنت أقول إنه يعلم الظواهر كما يعلم البشر وإن علم باطنا فبإعلام الله عز وجل له خاصة على لسان نبيه عليه السلام بما أودعه آباؤه عليهم السلام من النصوص على ذلك أو بالمنام الذي يصدق ولا يخلف أبدا أو بسبب أذكره غير هذا، فقد سقط سؤالك من أصله لأن الإمام إذا فقد علم ذلك من جهة الله عز وجل أجاز علي ما يجيزه على غيري ممن ذكرت فأوجبت الحكمة تقيته مني، وإنما تقيته مني على الشرط الذي ذكرت آنفا ولم أقطع على حصوله لا محالة، ولم أقل إن الله عز وجل قد أطلع الإمام على باطني وعرفه حقيقة حالي قطعا فتفرغ الكلام عليه.

على أنني لو قطعت على ذلك لكان لترك ظهوره لي وتعرفه إلي وجه واضح غير التقية، وهو أنه عليه السلام قد علم أنني وجميع من شاركني في المعرفة نزول عن معرفته ولا نرجع عن اعتقاد إمامته ولا نرتاب في أمره ما دام غائبا، وعلم أن اعتقادنا ذلك من جهة الاستدلال، ومع عدم ظهوره لحواسنا أصلح لنا في تعاظم الثواب وعلو المنزلة باكتساب الأعمال، إذ كان ما يقع من العمل بالمشاق الشديدة أعظم ثوابا مما يقع بالسهولة مع الراحة، فلما علم عليه السلام ذلك من حالنا، وجب عليه الاستتار عنا لنصل إلى معرفته وطاعته على حد يكسبنا من المثوبة أكثر مما يكسبنا العلم به والطاعة له مع المشاهدة وارتفاع الشبهة التي تكون في حال الغيبة والخواطر، وهذا ضد ما ظننت. مع أن أصلك في اللطف يؤيد ما ذكرناه ويوجب ذلك وإن علم أن الكفر يكون مع الغيبة والإيمان مع الظهور لأنك تقول: إنه لا يجب على الله تعالى فعل اللطف الذي يعلم أن العبد إن فعل الطاعة مع عدمه كانت أشرف منها إذا فعلها معه، فكذلك يمنع الإمام من الظهور إذا علم أن الطاعة للإمام تكون عند غيبته أشرف منها عند ظهوره وليس يكفر القوم به في كلا الحالين وهذا بين لا إشكال.

فلما ورد عليه الجواب سكت هنيئة، ثم قال: هذا لعمري جواب يستمر على الأصول التي ذكرتها والحق أولى ما استعمل.

فقلت له: أنا أجيبك بعد هذا الجواب بجواب آخر أظنه مما قد سمعته لأنظر كلامك عليه.

فقال: هات ذلك فإني أحب أن أستوفي ما في هذه المسالة.

فقلت له: إن قلت إن الإمام في تقية مني وفي تقية ممن خالفني ما يكون كلامك عليه؟.

قال: أفتطلق أنه في تقية منك كما هو في تقية ممن خالفك؟

قلت: لا.

قال: فما الفرق بين القولين؟

قلت: الفرق بينهما أنني إذا قلت إنه في تقية مني كما هو في تقية ممن خالفني، أوهمت أن خوفه مني على حد خوفه من عدوه وأن الذي يحذره مني هو الذي يحذره منه أو مثله في القبح، فإذا قلت: إنه يتقي مني وممن خالفني ارتفع هذا الإيهام.

قال: فمن أي وجه اتقى منك ومن أي وجه اتقى من عدوه؟ فصل لي الأمرين حتى أعرفهما.

فقلت له: تقيته من عدوه هي لأجل خوفه من ظلمه له وقصده الإضرار به وحذره من سعيه على دمه، وتقيته مني لأجل خوفه من إذاعتي على سبيل السهو أو للتجمل والتشرف بمعرفته بالمشاهدة، أو على التقية مني بمن أوعزه إليه من إخواني في الظاهر فيعقبه ذلك ضررا عليه فبان الفرق بين الأمرين.

فقال: ما أنكرت أن يكون هذا يوجب المساواة بينك وبين عدوه، لأنه ليس يثق بك كما لا يثق بعدوه، فقلت له: قد بينت الفرق وأوضحته وهذا سؤال بين قد سلف جوابه وتكراره لا فائدة فيه على أنني أقلبه عليك فأقول لك: أليس قد هرب رسول الله صلى الله عليه وآله من أعدائه واستتر عنهم في الغار خوفا على نفسه منهم، قال: بلى، قلت له: فهل عرف عمر بن الخطاب حال هربه ومستقره ومكانه كما عرف ذلك أبو بكر لكونه معه؟.

قال: لا أدري.

قلت: فهب عرف عمر ذلك، أعرف ذلك جميع أصحابه والمؤمنين به؟.

قال: لا.

قلت: فأي فرق كان بين أصحابه الذين لم يعلموا بهربه ولا عرفوا بمكانه وبين أعدائه الذين هرب منهم و هلا أبانهم من المشركين بإيقافهم على أمره، ولم ستر ذلك عنهم كما ستره عن أعدائه؟ وما أنكرت أن يكون لا فرق بين أوليائه وأعدائه وأن يكون قد سوى بينهم في الخوف منهم والتقية وإلا فما الفصل بين الأمرين، فلم يأت بشيء أكثر من أنه جعل يومي إلى معتمدي في الفرق بينما ألزم ولم يأت به على وجهه وعلم من نفسه العجز عن ذلك.

قال الشريف أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي: واستزدت الشيخ أدام الله عزه على هذا الفصل من هذا المجلس حيث اعتل بان غيبة الإمام عليه السلام عن أوليائه إنما هي لطف لهم في وقوع الطاعة منهم على وجه يكون به أشرف منها عند مشاهدته، فقلت له: فكيف يكون حال هؤلاء الأولياء عند ظهوره عليه السلام، أليس يجب أن يكون القديم تعالى قد منعهم اللطف في شرف طاعاتهم وزيادة ثوابهم؟.

فقال الشيخ أدام الله عزه: ليس في ذلك منع لهم من اللطف على ما ذكرت من قبل أنه لا ينكر أن يعلم سبحانه وتعالى منهم أنه لو أدام ستره عنهم وإباحة الغيبة في ذلك الزمان بدلا من الظهور، لفسق هؤلاء الأولياء فسقا يستحقون به من العقاب ما لا يفي أضعاف ما يفوتهم من الثواب فأظهره سبحانه لهذه العلة، وكان ما يقتطعهم به عنه من العذاب، أرد عليهم وأنفع لهم مما كانوا يكتسبونه من فضل الثواب على ما تقدم به الكلام.

قال الشيخ أيده الله: ووجه آخر وهو أنه لا يستحيل أن يكون الله تعالى قد علم من حال كثير من أعداء الإمام عليه السلام أنهم يؤمنون عند ظهوره ويعترفون بالحق عند مشاهدته ويسلمون له الأمر وأنه إن لم يظهر في ذلك الزمان أقاموا على كفرهم وازدادوا طغيانا بزيادة الشبهة عليهم فوجب في حكمته تعالى إظهاره لعموم الصلاح. ولو أباحه الغيبة لكان قد خص بالصلاح ومنع من اللطف في ترك الكفر، وليس يجوز على مذهبنا في الأصلح أن يخص الله تعالى بالصلاح، ولا يجوز أيضا أن يفعل لطفا في اكتساب بعض خلقه منافع تزيد على منافعه إذ كان في فعل ذلك اللطف، رفع لطفه لجماعة في ترك القبح والانصراف عن الكفر به سبحانه والاستخفاف بحقوق أوليائه عليهم السلام، لأن الأصل والمدار على إنقاذ العباد من المهالك، وزجرهم من القبائح، وليس الغرض زيادتهم في المنافع خاصة إذ كان الاقتطاع بالألطاف عما يوجب دوام العقاب أولى من فعل اللطف فيما يستزاد به من الثواب لأنه ليس يجب على الله تعالى أن يفعل بعبده ما يصل معه إلى نفع يمنعه من أضعافه من النفع.

وكذلك لا يجب عليه أن يفعل اللطف له في النفع بما يمنع غيره من أضاف ذلك النفع، وهو إذا سلبه هذا اللطف لم يستدرجه به إلى فعل القبيح، ومتى فعله حال بين غيره وبين منافعه ومنعه من لطف ما ينصرف به عن القبيح، وإذا كان الأمر على ما بيناه كان هذان الفصلان يسقطان هذه الزيادة.

- في الرد على  المشككين بإمامة الجواد والإمام المهدي لصغر السن

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 149، 153:

فصل: ومن كلام الشيخ أيده الله: فيما يختص مذاهب أهل الإمامة، قال الشيخ أدام الله عزه: إن قال قائل: كيف يصح لكم معشر الإمامية القول بإمامة الإثني عشر عليهم السلام وأنتم تعلمون أن فيهم من خلفه أبوه وهو صبي صغير لم يبلغ الحلم ولا قارب بلوغه، كأبي جعفر محمد بن علي بن موسى عليهم السلام وقد توفي أبوه وله عند وفاته سبع سنين، وكقائمكم الذي تدعونه وسنه عند وفاة أبيه عند المكثرين خمس سنين.

وقد علمنا بالعادات التي لم تنتقض في زمان من الأزمنة أن من كان له من السنين ما ذكرناه، لم يكن من بالغي الحلم ولا مقاربيه، والله تعالى يقول: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وإذا كان الله تعالى قد أوجب الحجر على هذين النفسين في أموالهما لإيجابه ذلك في جملة الأيتام، بطل أن يكونا إمامين لان الإمام هو الوالي على الخلق في جميع أمر الدين والدنيا.

وليس يصح أن يكون الوالي على أموال الله تعالى كلها من الصدقات والأخماس والمأمون على الشريعة والأحكام وإمام الفقهاء والقضاة والحكام والحاجز على كثير من ذوي الألباب في ضروب من الأعمال، من لا ولاية له على درهم واحد من مال نفسه ولا يؤمن على النظر لنفسه ومن هو محجور عليه لصغر سنه ونقصان عقله لتناقض ذلك واستحالته، وهذا دليل على بطلان مذاهب الإمامية خاصة.

فالجواب: عن ذلك وبالله التوفيق قال الشيخ أدام الله عزه: هذا كلام يوهم الضعفة ويوقع الشبهة لمن لا بصيرة له، ويروع بظاهره قبل الفحص عن معناه والعلم بباطنه. وجملة القول فيه أن الآية التي اعتمدها هؤلاء القوم في هذا الباب، خاصة وليست بعامة بدلالة توجب خصوصها وتدل على بطلان الاعتقاد لعمومها. وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد قطع العذر في كمال من أوجب له الإمامة ودل على عصمة من نصبه للرئاسة، وقد وضح بالبرهان القياسي والدليل السمعي إمامة هذين الامامين عليهما السلام فاوجب ذلك خروجهما من جملة الأيتام الذين توجه نحوهم الكلام. كما أوجب العقل خصوص قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقام الدليل على عدم العموم من قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} و {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}. وكما خص الإجماع قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، فأفرد النبي بغير هذا الحكم ممن انتظمه الخطاب. وكما خص العقل قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} وقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} وقوله تعالى: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} فاخرج آدم وموسى وذا النون وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام والصالحين الذين وقع منهم ظلم صغير فذكرهم الله في صريح التنزيل إذ لم يذكرهم على التفصيل. وكما اختصت الآية في السراق من قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فجعلت في سارق دون سارق ولم يعم السراق، وكما اختصت آية القتل قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. وأشباه ذلك مما يطول شرحه.

وإذا كان المستدل بما حكيناه على الإمامية معترفا بخصوص ما هو على الظاهر عموم بدليل يدعيه ربما ووفق فيه وربما خولف فيه، كانت الإمامية غير حرجة في اعتقادها خصوص آية الحجر بدليل يوجبه العقل ويحصل عليه الإجماع على التنزيل الذي أذكره والبيان، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن هذه الآية يختص انتظامها لنواقص العقول عن حد الإكمال الذي يوجب الإيناس فلم تك منتظمة لمن حصل له من العقل ما هو حاصل لبالغي الحلم من أهل الرشاد فبطل أن تكون منتظمة للائمة عليهم السلام.

والذي يكشف لك عن وهن هذه الشبهة التي أوردها هؤلاء الضعفاء هو أن المحتج بهذه الآية لا يخلو من أن يكون مسلما للشيعة إمامة هذين النفسين عليهما السلام تسليم جدل أو منكرا لإمامتهما غير معترف بها على حال، فإن كان مسلما لذلك فقد سقط احتجاجه لضرورته إلى الاعتراف بخروج من أكمل الله عز وجل عقله وكلفه المعارف وعصمه من الذنوب والمآثم، من عموم هذه الآية ووجوب ما وصفناه للإمام. وإن كان منكرا لم يكن لكلامه في تأويل هذه الآية معنى لأن التأويل للقران فرع لا يتم إلا بأصله. ولأن إنكاره لإمامة من ذكرناه بغير الآية التي تعلق بها يغنيه عن الاعتماد عليها ولا يفقره إليها فإن اعتمد عليها فإنما يعتمد على ضرب من الرجحان، مع أن كلامه حينئذ يكون كلام من احتج بعموم قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مع منازعته في المخلوق، وإنكاره القول بالتعديل وككلام من تعلق بعموم قوله: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} مع إنكاره عصمة الأنبياء من الكبائر والقطع على أنهم من أهل الثواب، وهذا تخليط لا يصير إليه ناظر مع أن الخصوص قد يقع في القول ولا يصح وقوعه في عموم العقل والعقل موجب لعموم الأئمة عليهم السلام بالكمال والعصمة فإذا دل الدليل على إمامة هذين النفسين عليهما السلام وجب خصوص الآية فيمن عداهما بلا ارتياب.

مع أن العموم لا صيغة له عندنا فيجب استيعاب الجنس بنفس اللفظ وإنما يجب ذلك بدليل يقترن إليه، فمتى تعرى عن الدليل وجب الوقف فيه ولا دليل على عموم هذه الآية، وهذا خلاف ما توهموه.

على أن خصومنا قد نسوا في هذا الباب شيئا لو ذكروه لصرفهم عن هذا الاحتجاج، وذلك أنهم يخصون قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ويخرجون ولد رسول الله صلى الله عليه وآله من عموم هذه الآية بخبر واحد ينقضه القرآن ويرده اتفاق آل محمد عليهم السلام ولا يقنعون من خصومهم أن يخصوا آية الأيتام بدليل العقل وبرهان القياس وتواتر الأخبار بالنص على هؤلاء الأئمة عليهم السلام، فمن رأى أعجب من هؤلاء القوم! ولا أظلم ولا أشد جورا في الأحكام، والله نسأل التوفيق للصواب بمنه.

- بعد وفاة الإمام الهادي علي بن محمد قال جمهور الإمامية بإمامة العسكري الحسن بن علي ونقلوا النص عليه وأثبتوه

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 317، 318:

فلما توفي تفرقوا بعد ذلك: فقال الجمهور منهم بإمامة أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام ونقلوا النص عليه وأثبتوه.

وقال فريق منهم: إن الإمام بعد أبي الحسن، محمد بن علي أخو أبي محمد عليه السلام وزعموا أن أباه عليا عليه السلام نص عليه في حياته، وهذا محمد كان قد توفي في حياة أبيه فدفعت هذه الفرقة وفاته وزعموا أنه لم يمت وأنه حي وهو الإمام المنتظر.

وقال نفر من الجماعة شذوا أيضا عن الأصل: إن الإمام بعد محمد بن علي بن محمد بن علي بن موسى عليهم السلام أخوه جعفر بن علي وزعموا أن أباه نص عليه بعد مضي محمد وأنه القائم بعد أبيه.

فيقال للفرقة الأولى: لم زعمتم أن الإمام بعد أبي الحسن عليه السلام ابنه محمد وما الدليل على ذلك؟ فان ادعوا النص طولبوا بلفظه والحجة عليه ولن يجدوا لفظا يتعلقون به في ذلك ولا تواتر يعتمدون عليه، لأنهم في أنفسهم من الشذوذ والقلة على حد ينفى عنهم التواتر القاطع للعذر في العدد مع أنهم قد انقرضوا ولا بقية لهم وذلك مبطل أيضا لما ادعوه.

ويقال لهم في ادعاء حياته، ما قيل للكيسانية والناووسية والواقفة، ويعارضون بما ذكرناه ولا يجدون فصلا.

فأما أصحاب جعفر فان أمرهم مبني على إمامة محمد، وإذا سقط قول هذا الفريق لعدم الدلالة على صحته وقيامها على إمامة أبي محمد عليه السلام فقد بان فساد ما ذهبوا إليه.

- بعد وفاة الإمام العسكري الحسن بن علي قال جمهور الإمامية بإمامة ابنه القائم المنتظر وأثبتوا ولادته وصححوا النص عليه

- تعتقد الإمامية بأن الإمام المهدي هو سمي رسول الله ومهدي الأنام له غيبتان إحداهما أطول من الأخرى والأولى منهما هي القصرى وله فيها الأبواب والسفراء

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 318، 321:

فصل: قال الشيخ أيده الله: ولما توفي أبو محمد الحسن بن علي بن محمد عليهم السلام افترق أصحابه بعده على ما حكاه أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي رضي الله عنه أربع عشرة فرقة: فقال الجمهور منهم بإمامة ابنه القائم المنتظر عليه السلام وأثبتوا ولادته وصححوا النص عليه وقالوا هو سمي رسول الله ومهدي الأنام، واعتقدوا أن له غيبتين إحداهما أطول من الأخرى، والأولى منهما هي القصرى، وله فيها الأبواب والسفراء، ورووا عن جماعة من شيوخهم وثقاتهم أن أبا محمد الحسن عليه السلام أظهره لم وأراهم شخصه، واختلفوا في سنه عند وفاة أبيه فقال كثير منهم: كان سنه إذ ذاك خمس سنين لان أباه توفي سنة ستين ومائتين، وكان مولد القائم عليه السلام سنة خمس وخمسين ومائتين وقال بعضهم بل كان مولده سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكان سنه عند وفاة أبيه ثماني سنين، وقالوا إن أباه لم يمت حتى أكمل الله عقله وعلمه الحكمة وفصل الخطاب وأبانه من سائر الخلق بهذه الصفة إذ كان خاتم الحجج ووصي الأوصياء وقائم الزمان. واحتجوا في جواز ذلك بدليل العقل من حيث ارتفعت إحالته ودخل تحت القدرة، وبقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} وفي قصة يحيى عليه السلام {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}، وقالوا: إن صاحب الأمر عليه السلام حي لم يمت ولا يموت ولو بقي ألف عام حتى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، وأنه يكون عند ظهوره شابا قويا في صورة ابن نيف وثلاثين سنة، وأثبتوا ذلك في معجزاته وجعلوه من جملة دلائله وآياته عليه السلام.

- احتجاج في وجه غياب الإمام المهدي استتارا من أعدائه دون رسول الله

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 327، 330:

فصل: سئل الشيخ أيده الله فقيل له: أليس رسول الله صلى الله عليه وآله قد ظهر قبل استتاره ودعا إلى نفسه قبل هجرته وكانت ولادته معروفة ونسبه مشهورا وداره معلومة، هذا مع الخبر عنه في الكتب الأولى والبشارة به في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام وإدراك قريش وأهل الكتاب علاماته ومشاهدتهم لدلائل نبوته وأعلام عواقبه، فكيف لم يخف مع ذلك على نفسه ولا أمر الله أباه بستر ولادته وفرض عليه إخفاء أمره كما زعمتم أنه فرض ذلك على أبي الإمام لما كان المنتظر عندكم من بين الأئمة والمشار إليه بالقيام بالسيف دون آبائه، فأوجب ذلك على ما ادعيتموه واعتللتم به في الفرق بين آبائه وبينه في الظهور على خبره وكتم ولادته والستر عن الأنام شخصه، وهل قولكم في الغيبة مع ما وصفناه من حال النبي صلى الله عليه وآله إلا فاسد متناقض.

جواب: يقال إن المصلحة لا تكون من جهة القياس ولا تعرف أيضا بالتوهم ولا يتوصل إليها بالنظائر والأمثال، وإنما تعلم من جهة علام الغيوب المطلع على الضمائر العالم بالعواقب الذي لا تخفى عليه السرائر، فليس ننكر أن يكون الله سبحانه قد علم من حال رسول الله صلى الله عليه وآله مع جميع ما شرحتم أنه لا يقدم عليه أحد ولا يؤثر ذلك منه إما لخوف من الإقدام على ذلك أو لشك فيما قد سمعوه من وصفه أو لشبهة عرضت لهم في الرأي فيه، فتدبير الله سبحانه له في الظهور على خلاف تدبير الإمام المنتظر لاختلاف الحالين.

ويدل على ما بيناه ويوضح عما ذكرناه أنه لم يتعرض أحد من عبدة الأوثان ولا أهل الكتاب ولا أحد من ملوك العرب والفرس مع ما قد اتصل بهم من البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله لأحد من آباء رسول الله صلى الله عليه وآله بالإخافة، ولا لاستبراء واحدة من أمهاته لمعرفة الحمل به، ولا قصدوا الإضرار به في حال الولادة ولا طول زمانه إلى أن صدع بالرسالة.

ولا خلاف أن الملوك من ولد العباس لم يزالوا على الإخافة لآباء الإمام وخاصة ما جرى من أبي جعفر المنصور مع الصادق عليه السلام، وما صنعه هارون بأبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام حتى هلك في حبسه ببغداد، وما قصد المتوكل بأبي الحسن العسكري عليه السلام جد الإمام حتى أشخصه من الحجاز فحبسه عنده بسر من رأى، وكذلك جرى أمر أبي محمد الحسن عليه السلام بعد أبيه إلى أن قبضه الله تعالى. ثم كان من أمر المعتمد بعد وفاة أبي محمد عليه السلام ما لم يخف على أحد من حبسه لجواريه والمسألة عن حالهن في الحمل، واستبراء أمرهن عندما اتفقت كلمة الإمامية على أن القائم هو ابن الحسن عليه السلام فظن المعتمد أنه يظفر به فيقتله ويزيل طمعهم في ذلك فلم يتمكن من مراده وبقي بعض جواري أبي محمد عليه السلام في الحبس أشهرا كثيرة، فدل بذلك على الفرق بين حال النبي صلى الله عليه وآله في مولده وبين الإمام عليه السلام على ما قدمناه بما ذكرناه وشرحناه.

وشيء آخر وهو أن الخوف قد كان مأمونا على رسول الله صلى الله عليه وآله من بني هاشم وبني عبد المطلب وجمع أهل بيته وأقاربه، لأن الشرف المتوقع له بالنبوة كان شرفهم والمنزلة التي تحصل له بذلك فهي تختص بهم، وعلمهم بهذه الحال يبعثهم على صيانته وحفظه وكلاءته ليبلغ الرتبة التي يرجونها له فينالون بها أعلى المنازل ويملكون بها جميع العالم. وأما البعداء منهم في النسب فيعجزون عن إيقاع الضرر به لموضع أهل بيته ومنعهم منه وعلمهم بحالهم وأنهم أمنع العرب جانبا وأشدهم بأسا وأعزهم عشيرة، فيصدهم ذلك عن التعرض له ويمنع من خطوره ببالهم، وهذا فصل بين حال النبي صلى الله عليه وآله فيما يوجب ظهوره مع انتشار ذكره والبشارة به، وبين الإمام فيما يجوز استتاره وكتم أمر ولادته، وهذا بين لمن تدبره.

وشيء آخر وهو أن ملوك العجم في زمان مولد النبي صلى الله عليه وآله لم يكونوا يكرهون مجيء نبي يدعو إلى شرع مستأنف ولا يخافون بمجيئه على أنفسهم ولا على ملكهم لأنهم كانوا ينوون الإيمان به والاتباع له، وقد كانت اليهود تستفتح به على العرب وترجو ظهوره كما قال الله عزوجل: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} وإنما حصل للقوم الخلاف عليه والآباء له بنية تجددت لهم عند مبعثه. ولم يجر أمر الإمام المنتظر عليه السلام هذا المجرى بل المعلوم من حال جميع ملوك زمان مولده ومولد آبائه، خلاف ذلك من اعتقادهم فيمن ظهر منهم يدعو إلى إمامة نفسه أو يدعو إليه داع، سفك دمه واستئصال أهله وعشيرته وهذا أيضا فرق بين الأمرين.

وشيء آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وآله مكث ثلاث عشرة سنة يدعو بمكة إلى دينه والاعتراف بالوحدانية وبنبوته ويسفه جميع من خالفه ويضللهم ويسب آلهتهم، فلم يقدم أحد منهم على قتله ولا رام ذلك ولا استقام لهم نفيه عن بلادهم ولا حبسه ولا منعه من دعوته، ونحن نعلم علما يقينا لا يتخالجنا فيه الشك بأنه لو ظن أحد من ملوك هذه الأزمان ببعض آل أبي طالب أنه يحدث نفسه بادعاء الإمامة بعد مدة طويلة، لسفك دمه دون أن يعلم ذلك ويتحققه فضلا عن أن يراه ويجده. وقد علم أهل العلم كافة أن أكثر من حبس في السجون من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وقتل بالغيلة إنما فعل به ذلك على الظنة والتهمة دون اليقين والحقيقة، ولو لم يكن أحد منهم حل به ذلك إلا موسى بن جعفر عليه السلام لكان كافيا. ومن تأمل هذه الأمور وعرفها وفكر فيما ذكرناه وتبينه انكشف له الفرق بين النبي وبين الإمام فيما سأل عنه هؤلاء القوم ولم يتخالجه فيه ارتياب والله الموفق للصواب.

وبهذا النحو يجب أن يجاب من سأل فقال: أليس الرسول قد ظهر في أول أمره وعرفت العامة والخاصة وجوده ثم استتر بعد ذلك عند الخوف على نفسه فقد كان يجب أن يكون تدبير الإمام في ظهوره واستتاره كذلك، مع أن الاتفاقات ليس عليها قياس، والألطاف والمصالح تختلف في أنفسها ولا تدرك حقائقها إلا بسمع يرد عن عالم الخفيات جلت عظمته فلا يجب أن نسلك في معرفتها طريق الاعتبار. وليس يستتر هذا الباب إلا على من قل علمه بالنظر وبعد عنه الصواب والله نستهدي إلى سبيل الرشاد.