عقائد الشيعة الإمامية >> الشيخ المفيد

 

 

عقائد الشيخ المفيد قدس سره

أمير المؤمنين ومن تقدم عليه: أبو بكر وعمر وعثمان

 

 

 

- إمامة المفضول على الفاضل فاسدة

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 37:

والجواب عن السؤال الثالث: ما قدمناه في فساد نبوة المفضول على الفاضل، ومشاركة الإمامة للنبوة في معنى التقدم والرفعة والرئاسة وفرض الطاعة، وبما يفسد به علو المفضول على الفاضل في الثواب، ودلالة التعظيم الديني على منزلة المعظم في استحقاق الجزاء بالأعمال، وثبوت علو تعظيم الإمام على الرعية في شرعية الإسلام، وفي كل ملة، وعند أهل كل نحلة وكتاب.

- تقدم أبي بكر وعمر وعثمان على أمير المؤمنين في خلافة النبي كان على وجه  الدفع له عن حقه والخلاف عليه في مستحقه وليس ذلك بمستحيل ممن ارتفعت عنه العصمة وإن كان في ظاهر الأمر على أحسن الصفات

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 38، 39:

فإن قال قائل: فإذا كان أمير المؤمنين عليه السلام هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله دون سائر الناس، فعلى أي وجه تقدم عليه أبو بكر وعمر وعثمان، وادعوا الإمامة دونه، وأظهروا أنهم أحق بها على كل حال؟.

قيل له: لقد كان ذلك على وجه الدفع له عليه السلام عن حقه، والخلاف عليه في مستحقه، وليس ذلك بمستحيل ممن ارتفعت عنه العصمة، وإن كان في ظاهر الأمر على أحسن الصفات.

- وجوه الصحابة ورؤساء المهاجرين وأعيان السابقين إلى الإيمان هم أمير المؤمنين وحمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ثم الطبقة التي تليهم كخباب وعمار وأبي ذر والمقداد وزيد بن حارثة ونظرائهم

- لا يوجب الفضل لأبي بكر وعمر وعثمان العصمة لهم من الضلال ولا يرفع عنهم جواز الغلط والسهو والنسيان ولا يحيل منهم تعمد العناد

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 39، 41:

فإن قال: فكيف يجوز ذلك ممن سميناه، وهم وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله والمهاجرين والسابقين إلى الإسلام؟

قيل له: أما وجوه الصحابة ورؤساء المهاجرين وأعيان السابقين إلى الإيمان بواضح الدليل وبين البرهان فهو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أخو رسول الله صلى الله عليه وآله ووزيره وناصره ووصيه وسيد الأوصياء، وعم رسول الله صلى الله عليه وآله حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء رضوان الله عليهم، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله جعفر بن أبي طالب الطيار مع الملائكة في الجنان رضي الله عنه، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله أيضا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه، الذين سبقوا من سميت إلى الإيمان، وخرجوا في مواساة النبي صلى الله عليه وآله عن الديار والأوطان، وأثنى الله عليهم في محكم القرآن، وأبلوا دون أصحابه في الجهاد وبارزوا الأقران، وكافحوا الشجعان، وقتلوا الأبطال، وأقاموا عمود الدين وشيدوا الإسلام. ثم الطبقة التي تليهم، كخباب وعمار وأبي ذر والمقداد وزيد بن حارثة، ونظرائهم في الاجتهاد وحسن الأثر والبلاء والإخلاص لله ولرسوله صلى الله عليه وآله في السر والإعلان.

وبعد: فلو سلمنا لك دعواك لمن ادعيت الفضل لهم على ما تمنيت، لم يمنع مما ذكرناه، لأنه لا يوجب لهم العصمة من الضلال، ولا يرفع عنهم جواز الغلط والسهو والنسيان، ولا يحيل منهم تعمد العناد.

وقد رأيت ما صنع شركاؤهم في الصحبة والهجرة والسبق إلى الإسلام حين رجع الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام باختيار الجمهور منهم والاجتماع، فنكث بيعته طلحة والزبير، وقد كانا بايعاه على الطوع والإيثار، وطلحة نظير أبي بكر، والزبير أجل منهما على كل حال، وفارقه سعد بن أبي وقاص وهو أقدم إسلاما من أبي بكر، وأشرف منه في النسب، وأكرم منه في الحسب، وأحسن آثارا من الثلاثة في الجهاد. وتبعه على فراقه وخذلانه محمد بن مسلمة وهو من رؤساء الأنصار، واقتفى آثارهم في ذلك وزاد عليها بإظهار سبه والبراءة منه حسان، فلو كانت الصحبة مانعة من الضلال لمنعت من ذكرناه ومعاوية ابن أبي سفيان وأبا موسى الأشعري، وله من الصحبة والسبق ما لا يجهل، وقد علمتم عداوتهم لأمير المؤمنين عليه السلام، وإظهارهم البراءة منه، والقنوت عليه، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأميره على أبي بكر وعمر وعثمان.

ولو كانت الصحبة أيضا مانعة من الخطأ في الدين والآثام لكانت مانعة لمالك بن نويرة، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله على الصدقات، ومن تبعه من وجوه المسلمين من الردة عن الإسلام. ولكانت صحبة السامري لموسى بن عمران عليهما السلام وعظم محله منه ومنزلته، تمنعه من الضلال باتخاذ العجل والشرك بالله عز وجل، ولاستحال أيضا على أصحاب موسى نبي الله عليه السلام، وهم ستمائة ألف إنسان، وقد شاهدوا الآيات والمعجزات، وعرفوا الحجج والبينات، أن يجتمعوا على خلاف نبيهم وهو حي بين أظهرهم، وباينوا خليفته وهو يدعوهم ويعظهم ويحذرهم من الخلاف، وينذرهم فلا يصغون إلى شيء من قوله، ويعكفون على عبادة العجل من دون الله عز وجل. ولكان أيضا أصحاب عيسى عليه السلام معصومين من الردة، ولم يكونوا كذلك، بل فارقوا أمره، وغيروا شرعه، وادعوا عليه أنه كان يأمرهم بعبادته، واتخاذه إلها مع الله تعالى تعمدا للكفر والضلال، وإقداما على العناد من غير شبهة ولا سهو ولا نسيان.

- لم يقر جميع المسلمين دفع القوم أمير المؤمنين عن حقه ولا تبعهم عليه سائر الأنصار والمهاجرين

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 42، 46:

فإن قال: فإذا كان الأمر على ما ذكرتموه، وكان القوم قد دفعوا حقا لأمير المؤمنين عليه السلام كما وصفتموه، فلم أقرهم على ذلك أمير المؤمنين عليه السلام، واتبعهم عليه الأنصار والمهاجرون، وما بال أمير المؤمنين عليه السلام لم يجاهدهم كما جاهد الناكثين والقاسطين والمارقين؟

قيل له: لم يقرهم على ذلك جميع المسلمين، ولا تبعهم عليه سائر الأنصار والمهاجرين، وإن كان الراضي بذلك منهم الجمهور، والمؤثر في العدد هم الأكثرون، وليس ذلك علامة على الصواب، بل هو في الأغلب دليل على الضلال، وقد نطق بذلك القرآن، قال الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}. وقال تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}. وقال تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}. وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. وقال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} في آيات يطول بإثباتها الكتاب.

على أن هذا القول، وإن كان حجة فيما ذكرناه، فالوجود شاهد به لصحته على ما وصفناه، ألا ترى أن أكثر الخلق على مرور الأيام والأوقات عصاة لله تعالى، والقليل منهم مطيعون له على الإخلاص، والجمهور الأكثر منهم جهال على كل حال، والعلماء قليل يحصرهم العدد بلا ارتياب، وأهل التصون والمروءة من بين الخلق أفراد، وأهل المناقب في الدين والدنيا آحاد، فيعلم بذلك أن الأكثر لا معتبر بهم في صحيح الأحكام.

وبعد: فإنه لم يتمكن قط متملك إلا وكان حال الخلق معه حالهم مع أبي بكر وعمر وعثمان، وهذه عادة جارية إلى وقتنا هذا وإلى آخر الزمان، ألا ترى إلى اجتماع الأمة على متاركة معاوية بن أبي سفيان حين ظهر أمره عند مهادنة الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام. وسكوت الكافة عنه وهو يلعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على المنابر، ويقنت عليه في الصلوات، ويضرب رقاب المسلمين على الولاية له، ويجيز على البراءة منه بالأموال.

وكذلك كانت حالهم مع يزيد لعنه الله، وقد قتل الحسين بن علي عليه السلام ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وحبيبه وقرة عينه ظلما وعدوانا، وسبي أهله ونساءه وذراريه، وهتكهم بين الملأ، وسيرهم على الأقتاب في الفلوات، واستباح حرم رسول الله صلى الله عليه وآله في وقعة الحرة، وسفك دماء أهل الإيمان، وأظهر الردة عن الإسلام، فلم يجاهره أحد من الأمة بنكيرة، وأطبقوا على إظهار التسليم له والائتمام به، والاتباع له والانقياد. ولم يزل الأمر يجري في الأمة بعد يزيد لعنه الله مع الجبارين من بني أمية ومروان على ما وصفناه، وكذلك كانت صورتهم على عهد آدم عليه السلام وإلى وقت من سميناه، ومن بعدهم إلى الآن، وإنما ينظر الناس إلى من حصل له الاتفاق في الرئاسة والسلطان، وينقادون له كما ذكرناه، ويجتنبون خلافه على ما بيناه، سواء كان من الله أو من الشيطان، أو كان عادلا في الرعية أو كان ظالما من الفجار. بل قد وجدنا الجمهور في كثير الأحوال يتحيزون عن أولياء الله تعالى، ويخالفون أنبياءه، ويسفكون في العناد لهم الدماء، ويطبقون على طاعة أعداء الله عز وجل، ويسلمون لهم على الطوع والإيثار، وربما اتفق للظالم المتغلب والناقص الغبي الجاهل من الجماعة الرضا به والاتباع، فانقادت الأمور له على منيته فيها والمحاب، واختلفت على العادل المستحق الكامل الحكيم العالم، واضطربت عليه الأمور، وكثرت له المعارضات، وحصلت في ولايته الفتن والمنازعات، والخصومات والمدافعات. وقد عرف أهل العلم ما جرى على كثير من أنبياء الله صلى الله عليه وآله من الأذى والتكذيب، والرد لدعواهم، والاستخفاف بحقوقهم، والانصراف عن إجابتهم، والاجتماع على خلافهم، والاستحلال لدمائهم. فأخبر الله تعالى بذلك فيما قص به من نبأهم في القرآن، فكان من الأتباع للفراعنة والنماردة وملوك الفرس والروم على الضلال، ما لا يحيل على ذي عقل ممن سمع الكتاب، ليعلم بما شرحناه أنه لا معتبر في الحق بالاجتماع، ولا معتمد في الباطل على الاختلاف، وإنما مدار الأمر في هذين البابين على الحجج والبينات، لما وصفناه من وجود الاجتماع على الظلال، والاختلاف والتباين في الهدى، والصواب بما بيناه، ولا سبيل إلى دفعه إلا بالعناد.

- ترك أمير المؤمنين جهاد الأولين لعدم الأنصار وجاهد الناكثين والقاسطين والمارقين لوجود الأعوان وكان ذلك هو الصلاح الشامل على معلوم الله تعالى وشرائط حكمته في التدبيرات

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 46 :

فصل فأما قوله: فلم لا يجاهدهم أمير المؤمنين عليه السلام كما جاهد الناكثين والقاسطين والمارقين؟

فقد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام فيما تظاهر عنه من الأخبار، فكان من الجواب حيث يقول: "أما والله، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة  ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها". فدل على أنه عليه السلام إنما ترك جهاد الأولين لعدم الأنصار، وجاهد الآخرين لوجود الأعوان، وكان ذلك هو الصلاح الشامل على معلوم الله تعالى وشرائط حكمته في التدبيرات.

- لا نحكم بإجماع أمة الإسلام على الرضا بما صنعه المتقدمون على أمير المؤمنين فقد خالفت الأنصار في عقد الإمامة على المهاجرين وأنكرته بنو هاشم وأتباعهم على الجميع في تفردهم بالأمر دون أمير المؤمنين

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 47، 48:

فإن قال: أفليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "ما كان الله ليجمع أمتي على ضلال" فكيف يصح اجتماع الأمة على دفع المستحق عن حقه والرضا بخلاف الصواب، وذلك ضلال بلا اختلاف؟

قيل له: أول ما في هذا الباب أن الرواية لما ذكرت غير معلومة عن النبي صلى الله عليه وآله، وإنما جاءت بها الأخبار على اختلاف من المعاني والألفاظ، وقد دفع صحتها جماعة من رؤساء أهل النظر والاعتبار، وأنكرها إمام المعتزلة وشيخها إبراهيم بن سيار النظام.

وبعد: فلو ثبت ما ضرنا فيما وصفناه، لأنا لا نحكم بإجماع أمة الإسلام على الرضا بما صنعه المتقدمون على أمير المؤمنين عليه السلام فكيف نحكم بذلك ونحن نعلم يقينا كالاضطرار خلاف الأنصار في عقد الإمامة على المهاجرين، وإنكار بني هاشم وأتباعهم على الجميع في تفردهم بالأمر دون أمير المؤمنين عليه السلام، وقد جاءت الأخبار مستفيضة بأقاويل جماعة من وجوه الصحابة في إنكار ما جرى، وتظلم أمير المؤمنين عليه السلام من ذلك برفع الصوت والإجهار؟!

وكان من قول العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله ما قد عرفه الناس، ومن أبي سفيان بن حرب والزبير بن العوام أيضا ما لا يخفى على من سمع الأخبار، وكذلك من عمار بن ياسر وسلمان وأبي ذر والمقداد وبريدة الأسلمي وخالد بن سعيد بن العاص في جماعات يطول بذكرها الكلام.

وهذا يبطل ما ظنه الخصم من اعتقاد الإجماع على إمامة المتقدم على أمير المؤمنين عليه السلام على أنه لا شبهة تعرض في إجماع الأمة على أبي بكر وعمر وعثمان إلا وهي عارضة في قتل عثمان بن عفان، وإمامة معاوية من بعد صلح الحسن عليه السلام، وطاعة يزيد بعد الحرة، وإمامة بني أمية وبني مروان.

فإن وجب لذلك القطع بالإجماع على الثلاثة المذكورين حتى تثبت إمامتهم ويقضى لهم بالصواب ليكون جميع من ذكرناه شركاءهم في الإمامة، وثبوت الرئاسة الدينية والسلطان، إذ العلة واحدة فيما أوجب لهم ذلك، فهو ظاهر التسليم والانقياد على الاجتماع، وترك النكير والخلاف، وهذا ما يأباه أهل العلم كافة، ولا يذهب إليه أحد من أهل التمييز لتناقضه في الاعتقاد.

- الرد على الروايات التي استدل بها المخالفون على تنزيه كافة الصحابة

- حديث خير القرون وأصحابي كالنجوم وأهل بدر أحاديث آحاد مضطربة الطرق والأسناد والخلل ظاهر في معانيها  والفساد ولا تعارض الإجماع وحجج الله تعالى وبيناته الواضحات ومعارضة بصحيح الأخبار

- آيات وروايات دالة على خطأ دعوى عصمة الصحبة

- من الأصحاب من حصروا عثمان وشهدوا عليه بالردة وخلعوه عن إمامة الأنام وسفكوا دمه على استحلال وكذا نكثوا بيعة أمير المؤمنين وحاربوه وسفكوا دماء أهل الإسلام

- من الأصحاب من نطق القرآن بكراهتهم للجهاد ومجادلتهم لرسول الله في تركه وضنهم بأنفسهم من نصره ورغبتهم في الدنيا وزهدهم في الثواب

- من الأصحاب من زجرهم الله تعالى عن شقاق رسول الله وأمرهم بالطاعة والإخلاص وضرب لهم فيما أنبأ به من بواطن أخبارهم وسرائرهم الأمثال وحذرهم من الفتنة بارتكابهم قبائح الأعمال وعدد عليهم نعمه ليشكروه ويطيعوه فيما دعاهم إليه من الأعمال وأنذرهم العقاب من الخيانة لله جلت عظمته

- آيات وأخبار تحكي أفعال وصفات مشينة في الكثير ممن صدق عليه أنه صاحب رسول الله

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 49، 63:

فإن قال: أليس قد روى أصحاب الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "خير القرون القرن الذي أنا فيه، ثم الذين يلونه". وقال عليه السلام: "إن الله تعالى اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وقال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" فكيف يصح مع هذه الأحاديث أن يقترف أصحابه السيئات، أو يقيموا على الذنوب والكبائر الموبقات؟!

قيل له: هذه أحاديث آحاد، وهي مضطربة الطرق والإسناد، والخلل ظاهر في معانيها والفساد، وما كان بهذه الصورة لم يعارض الإجماع ولا يقابل حجج الله تعالى وبيناته الواضحات، مع أنه قد عارضها من الأخبار التي جاءت بالصحيح من الإسناد، ورواها الثقات عند أصحاب الآثار، وأطبق على نقلها الفريقان من الشيعة والناصبة على الاتفاق، ما ضمن خلاف ما انطوت عليه فأبطلها على البيان: فمنها:

ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم" فقالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن إذن؟!".

وقال صلى الله عليه وآله في مرضه الذي توفي فيه: "أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة  شر من الأولى".

وقال صلى الله عليه وآله في حجة الوداع لأصحابه: "ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إني قد شهدت وغبتم".

وقال عليه السلام لأصحابه أيضا: "إنكم محشورون إلى الله تعالى يوم القيامة حفاة عراة، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم".

وقال عليه السلام "أيها الناس، بينا أنا على الحوض إذ مر بكم زمرا، فتفرق بكم الطرق، فأناديكم: ألا هلموا إلى الطريق، فيناديني مناد من ورائي: إنهم بدلوا بعدك، فأقول: ألا سحقا، ألا سحقا".

وقال عليه السلام: "ما بال أقوام يقولون: إن رحم رسول الله صلى الله عليه وآله لا تنفع يوم القيامة، بلى والله إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرطكم على الحوض، فإذا جئتم، قال الرجل منكم: يا رسول الله أنا فلان بن فلان، وقال الآخر: أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب فقد عرفته، ولكنكم أحدثتم بعدي فارتددتم القهقري".

وقال عليه السلام وقد ذكر عنده الدجال: "أنا لفتنة بعضكم أخوف مني لفتنة الدجال".

وقال عليه السلام "إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني". في أحاديث من هذا الجنس يطول شرحها، وأمرها في الكتب عند أصحاب الحديث أشهر من أن يحتاج فيه إلى برهان، على أن كتاب الله عز وجل شاهد بما ذكرناه، ولو لم يأت حديث فيه لكفى في بيان ما وصفناه:

قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}، فأخبر تعالى عن ردتهم بعد نبيه صلى الله عليه وآله على القطع والثبات.

وقال جل اسمه: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}  فأنذرهم الله سبحانه من الفتنة في الدين، وأعلمهم أنها تشملهم على العموم، إلا من خرج بعصمة الله من الذنوب.

وقال سبحانه وتعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ} وهذا صريح في الخبر عن فتنتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله بالاختبار، وتمييزهم بالأعمال.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} إلى آخر الآية، دليل على ما ذكرناه.

وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} يزيد ما شرحناه. ولو ذهبنا إلى استقصاء ما في هذا الباب من آيات القرآن، والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله، لانتشر القول فيه، وطال به الكتاب. وفي قول أنس بن مالك: دخل رسول الله صلى الله عليه وآلهالمدينة، فأضاء منها كل شيء، فلما مات عليه السلام أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وآله الأيدي ونحن في دفنه حتى أنكرنا قلوبنا، شاهد عدل على القوم بما بيناه.

مع أنا نقول لهذا السائل المتعلق بالأخبار الشواذ المتناقضة ما قدمنا حكايته، وأثبتنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذين توهمت أنهم لا يقارفون الذنوب، ولا يكتسبون السيئات، هم الذين حصروا عثمان ابن عفان، وشهدوا عليه بالردة عن الإسلام، وخلعوه عن إمامة الأنام، وسفكوا دمه على استحلال، وهم الذين نكثوا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد العهود والإيمان، وحاربوه بالبصرة، وسفكوا دماء أهل الإسلام، وهم القاسطون بالشام، ومنهم رؤساء المارقة عن الدين والإيمان، ومن قبل منع جمهورهم الزكاة حتى غزاهم إمام عدل عندكم، وسبي ذراريهم، وحكم عليهم بالردة والكفر والضلال.

فإن زعمت أنهم فيما قصصناه من أمرهم على الصواب، فكفاك خزيا بهذا المقال، وإن حكمت عليهم أو على بعضهم بالخطأ وارتكاب الآثام بطلت أحاديثك، ونقضت ما بينته من الاعتلال.

ويقال له أيضا: وهؤلاء الصحابة الذين رويت ما رويت فيهم من الأخبار، وغرك منهم التسمية لهم بصحبة النبي صلى الله عليه وآله، وكان أكابرهم وأفاضلهم أهل بدر، الذين زعمت أن الله قطع لهم المغفرة والرضوان، هم الذي نطق القرآن بكراهتهم للجهاد، ومجادلتهم للنبي صلى الله عليه وآله في تركه، وضنهم بأنفسهم من نصره، ورغبتهم في الدنيا، وزهدهم في الثواب، فقال جل اسمه: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.

ثم زجرهم الله تعالى عن شقاق نبيهم صلى الله عليه وآله، لما علم من خبث نياتهم وأمرهم بالطاعة والإخلاص، وضرب لهم فيما أنبأ به من بواطن أخبارهم وسرائرهم الأمثال، وحذرهم من الفتنة بارتكابهم قبائح الأعمال، وعدد عليهم نعمه ليشكروه ويطيعوه فيما دعاهم إليه من الأعمال، وأنذرهم العقاب من الخيانة لله جلت عظمته، ولرسوله صلى الله عليه وآله، فقال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

ومن قبيل هذا ما أكده عليهم من فرض الصبر في الجهاد، وتوعدهم بالغضب على الهزيمة، لما علم من ضعف بصائرهم ، فلم يلتفتوا إلى وعيده، وأسلموا نبيه صلى الله عليه وآله إلى عدوه في مقام بعد مقام.

فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

هذا وقد أخبر جل اسمه عن عامة من حضر بدرا من القوم، ومحبتهم للحياة، وخوفهم من الممات، وحضورهم ذلك المكان طمعا في الغنائم والأموال، وأنهم لم يكن لهم نية في نصرة الإسلام. فقال تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

وقال في القوم بأعيانهم، وقد أمرهم نبيهم صلى الله عليه وآله بالخروج إلى بدر، فتثاقلوا عنه، واحتجوا عليه، ودافعوه عن الخروج معه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} الآية.

وقال تعالى فيهم وقد كان لهم في الأسرى من الرأي: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. فأخبر سبحانه بالنص الذي لا يحتمل التأويل أنهم أرادوا الدنيا دون الآخرة، وآثروا العاجلة على الآجلة، وتعمدوا من العصيان ما لولا سابق علم الله وكتابه، لعجل لهم العقاب.

وقال تعالى فيما قص من نبأهم في يوم أحد، وهزيمتهم من المشركين، وتسليم النبي صلى الله عليه وآله: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

وقال جل اسمه في قصتهم بحنين، وقد ولوا الأدبار ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله أحد غير أمير المؤمنين عليه السلام، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وسبعة من بني هاشم ليس معهم غيرهم من الناس: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ...} يعني أمير المؤمنين عليه السلام، والصابرين معه من بني هاشم دون سائر المنهزمين.

وقال سبحانه في نكثهم عهود النبي صلى الله عليه وآله وهو حي بين أظهرهم موجود: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}.

وقد سمع كل من سمع من الأخبار، ما كان يصنعه كثير منهم، والنبي صلى الله عليه وآله حي بين أظهرهم، والوحي ينزل عليه بالتوبيخ لهم والتعنيف والإيعاد، ولا يزجرهم ذلك عن أمثال ما ارتكبوه من الآثام:  فمن ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخطب على المنبر في يوم الجمعة، إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت من الشام، ومعها من يضرب بالدف ويصفر، ويستعمل ما حظره الإسلام، فتركوا النبي صلى الله عليه وآله قائما على المنبر، وانفضوا عنه إلى اللهو واللعب، رغبة فيه، وزهدا في سماع موعظة النبي صلى الله عليه وآله، وما يتلوه عليهم من القرآن. فأنزل الله عز وجل فيهم: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم يصلي بهم، إذ أقبل رجل ببصره سوء يريد المسجد للصلاة، فوقع في بئر كانت هناك فضحكوا منه واستهزؤوا به، وقطعوا الصلاة، ولم يوقروا الدين، ولا هابوا النبي صلى الله عليه وآله، فلما سلم النبي صلى الله عليه وآله، قال: "من ضحك فليعد وضوءه والصلاة".

ولما تأخرت عائشة وصفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق، أسرعوا إلى رميها بصفوان، وقذفوها بالفجور، وارتكبوا في ذلك البهتان. وكان منهم في ليلة العقبة من التنفير لناقته صلى الله عليه وآله، والاجتهاد في رميه عنها وقتله بذلك ما كان. ثم لم يزالوا يكذبون عليه صلى الله عليه وآله في الأخبار حتى بلغه ذلك، فقال: "كثرت الكذابة علي فما أتاكم عني من حديث فاعرضوه على القرآن".

فلو لم يدل على تهاونهم بالدين، واستخفافهم بشرع نبيهم صلى الله عليه وآله، إلا أنهم كانوا قد تلقوا عنه أحكام الإسلام على الاتفاق، فلما مضى صلى الله عليه وآله من بينهم جاؤوا بجميعها على غاية الاختلاف، لكفى في ظهور حالهم ووضح به أمرهم وبان، فكيف وقد ذكرنا من ذلك طرفا يستبصر به أهل الاعتبار، وإن عدلنا عن ذكر الأكثر إيثارا للاختصار.

فأما من كان منهم يظاهر النبي صلى الله عليه وآله بالإيمان، ممن يقيم معه الصلاة، ويؤتي الزكاة، وينفق في سبيل الله، ويحضر الجهاد، ويباطنه بالكفر والعدوان، فقد نطق بذكره القرآن كما نطق بذكر من ظهر منه النفاق:

قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}.

وقال جل اسمه فيهم: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ}.

وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}. وقال سبحانه: {وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}.

وقال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.

وقال فيهم وقد أحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله، وجعلوا مجالسهم منه عن يمينه وشماله، ليلبسوا بذلك على المؤمنين: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ}. ثم دل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآلهعلى جماعة منهم وأمره بتألفهم، والاغضاء عمن ظاهره بالنفاق منهم، فقال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.

وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.

وقال تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }.

وجعل لهم في الصدقة سهما منصوصا، وفي الغنائم جزءا مفروضا، وكان من عددناه، وتلونا فيه القرآن، وروينا في أحواله الأخبار، قد كانوا من جملة الصحابة، وممن شملهم اسم الصحبة، ويتحقق إلى الاعتزاء إلى النبي صلى الله عليه وآله على طبقاتهم في الخطأ والعمد والضلال والنفاق بحسب ما شرحناه، فهل يتعلق عاقل بعد هذا بذكر الصحبة، ومشاهدة النبي صلى الله عليه وآله في القطع على فعل الصواب، وهل يوجب بذلك العصمة والتأييد، إلا بأنه مخذول مصدود عن البيان؟!.

- الرد على ما استدل بها المخالفون على تنزيه أهل السقيفة ومن اتبعهم خاصة

- أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح في جملة من انهزم يوم أحد وتوجه إليهم الوعيد من الله عز وجل ولحقهم التوبيخ والتعنيف على ما اكتسبوه بذلك من الآثام في قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ الآية

- لم يثبت أحد ممن تقدم أمير المؤمنين يوم حنين

- أبو بكر هو الذي أعجبته في يوم حنين كثرة الناس فقال لم نغلب اليوم من قلة فاختص من التوبيخ به لمقاله بما لم يتوجه إلى غيره، وشارك الباقين في الذم على نقض العهد والميثاق

- أبو بكر وعمر ردا راية رسول الله يوم خيبر على أقبح ما يكون من الانهزام حتى وصفهما رسول الله بالفرار وأخرجهما من محبة الله عز وجل ومحبة رسوله بفحوى مقاله لأمير المؤمنين

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 65، 69:

فصل: فإن قال قائل: لسنا ندفع أنه قد كان في وقت رسول الله صلى الله عليه وآله طوائف من أهل النفاق يستترون بالإسلام، وأن منهم من كان أمره مطويا عن النبي صلى الله عليه وآله، منهم من فضحه الوحي وعرفه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله، ولا ندفع أيضا أنه قد وقع من جماعة من الصحابة الأخيار ذلك سهوا عن الصواب، وخطأ في الهزيمة من الذي فرض عليهم مصابرته في الجهاد، فإن الله تعالى قد عفا عنهم بما أنزله في ذلك من القرآن. لكنا ندفعكم عن تخطئة أهل السقيفة، ومن اتبعهم من أهل السوابق والفضائل، ومن قطع له رسول الله صلى الله عليه وآله بالسلامة، وحكم له بالصواب، وأخبر عنه أنه من أهل الجنان، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليه السلام، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف الزهري وأبي عبيدة بن الجراح، الذين قال النبي صلى الله عليه وآله فيهم: "عشرة من أصحابي في الجنة" على ما جاء به الثابت في الأخبار، ومن قاربهم في الفضائل، وماثلهم في استحقاق الثواب، فيجب أن يكون الكلام في هؤلاء القوم على الخصوص، دون العموم في الأتباع والأصحاب.

قيل لهم: لو كان سؤالكم فيما سلف عن خاصة من عممتموه على الإطلاق، لصدر جوابنا عنه بحسب ذلك على التمييز والإفراد، لكنكم تعلقتم بالاسم الشامل، فاغتررتم باستحقاق التسمية بالصحبة والاتباع على الإطلاق، فأوضحنا لكم عن غلطكم فيما ظننتموه منه بما لا يستطاع دفعه على الوجوه كلها والأسباب.

وإذا كنتم الآن قد رغبتم عن ذلك السؤال، واعتمدتم في المسألة عمن ذكرتموه على الخصوص دون كافة الأصحاب، فقد سقطت أعظم أصولكم في الكلام، وخرجت الصحبة والاتباع والمشاهدة وسماع الوحي والقرآن، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق والجهاد من إيجاب الرحمة والرضوان، وسقط الاحتجاج في الجملة، بالعصمة من كبائر الآثام والردة عن الإسلام بذلك، وبما رويتموه عن النبي صلى الله عليه وآله من الأخبار، ولم يبق لكم فيمن تتولونه وتدينون بإمامته إلا الظن والعصبية للرجال، والتقليد في الاعتقاد، والاعتماد على ما يجري مجرى الأسمار والخرافات، وما لا يثبت على السير والامتحان ، وسنقفكم على حقيقة ذلك فيما نورده من الكلام، إن شاء الله تعالى.

فصل: وعلى أن الذي تلوناه في باب الأسرى، وإخبار الله تعالى عن إرادة المشير به لعرض الدنيا، وحكمه عليه باستحقاق تعجيل العقاب، لولا ما رفع عن أمة رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك، وأخره للمستحقين منهم إلى يوم المآب، لخص أبا بكر ومن شاركه في نيته وإرادته فيه، لأنه هو المشير في الأسرى بما أشار على الإجماع من الأمة والاتفاق، فما عصمته السوابق والفضائل على ما ادعيتموه له من الأخبار بعاقبته، والقطع له بالجنان، حسبما اختلفتموه من الغلط في دين الله عز وجل، والتعمد لمعصية الله، وإيثار عاجل الدنيا على ثواب الله تعالى، حتى وقع من ذلك ما أبان الله به عن سريرته، وأخبر لأجله عن استحقاقه لعقابه، وهو وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح في جملة من انهزم يوم أحد، وتوجه إليهم الوعيد من الله عز وجل، ولحقهم التوبيخ والتعنيف على ما اكتسبوه بذلك من الآثام في قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ} الآية.

وكذلك كانت حاله يوم حنين، بلا اختلاف بين نقلة الآثار، ولم يثبت أحد منهم مع النبي صلى الله عليه وآله، وكان أبو بكر هو الذي أعجبته في ذلك اليوم كثرة الناس، فقال: لم نغلب اليوم من قلة.

ثم كان أول المنهزمين، ومن ولى من القوم الدبر، فقال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} فاختص من التوبيخ به لمقاله بما لم يتوجه إلى غيره، وشارك الباقين في الذم على نقض العهد والميثاق.

وقد كان منه ومن صاحبه يوم خيبر ما لا يختلف فيه من أهل العلم اثنان، وتلك أول حرب حضرها المسلمون بعد بيعة الرضوان، فلم يفيا لله تعالى بالعقد مع قرب العهد، وردا راية رسول الله صلى الله عليه وآله على أقبح ما يكون من الانهزام، حتى وصفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بالفرار، وأخرجهما من محبة الله عز وجل، ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله بفحوى مقاله لأمير المؤمنين عليه السلام، أو ما يدل عليه الخطاب حيث يقول: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه" فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام. هذا وقد دخل القوم كافة سوى أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}.

- فيما تعلقوا به في العفو عمن تقدم على أمير المؤمنين في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 69، 71:

فأما ما تعلقوا به في العفو عنهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} الآية، فإنه طريف، يدل على جهلهم، وضعف عقولهم، وذلك أنهم راموا بما تعلقوا به من السوابق التي زعموا لأئمتهم، والقضايا والأخبار عن العواقب دفعا عن إضافة الظلم إليهم، والخطأ في دفع النص على أمير المؤمنين عليه السلام، وجحد حقوقه بعد النبي صلى الله عليه وآله، بما جلب عليهم إيجاب التخطئة لهم في حياة الرسول صلى الله عليه وآله، والحكم عليهم بنقض العهود، وارتكاب كبائر الذنوب، وتوجه الذم إليهم من أجل ذلك والوعيد، ثم اشتغلوا بطلب الحيل في تخليصهم من ذلك وتمحل وجوه العفو عنهم فيما لا يمكنهم دفاعه من خلافهم على الله تعالى، وعلى نبيه صلى الله عليه وآله وهو بين أظهرهم، وما كان أغناهم عن هذا التخليط والتهور لو سلكوا طريق  الرشاد، ولم تحملهم العصبية على تورطهم ، وتدخلهم في العناد!.

وبعد: فإن العفو من الله سبحانه قد يكون عن العاجل من العقاب، وقد يكون عن الآجل من العذاب، وقد يكون عنهما جميعا إذا شاء، وليس في الآية أنه عفا عنهم على كل حال، ولا أنه يعفو عنهم في يوم المآب، بل ظاهرها يدل على الماضي دون المستقبل، ويؤيده قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}. فقد ثبت أنه لا يكون العفو في كل حال، وإن عفا فقد عفا عن السؤال، فإذن لا بد أن يكون معنى العفو على ما قلناه في الدنيا عن العاجل دون الآجل، كما عفا سبحانه عنهم في يوم بدر، لما كان منهم من الرأي في الأسرى، وقد أخبر أنه لولا ما سبق في كتابه، من دفع العقاب عن أمة محمد صلى الله عليه وآله، وترك معاجلتهم بالنقمات، لمسهم منه جل جلاله عذاب عظيم، أو يكون العفو عن خاص من القوم دون العموم، وإلا لتناقض القرآن.

وعلى أي الوجهين ثبت العفو عن المذكورين، فقد خرج الأمر عن يد خصومنا في براءة ساحة من يذهبون إلى إمامته وتعظيمه والولاية له لأنه لا تتميز الدعوى إلا بدليل، ولا دليل للقوم إلا ما تلوناه في العفو، وذلك غير موجب بنفسه التغيير والتمييز بخروجه عن الاستيعاب، وعن الوقوع على كل حال.

على أنا لو سلمنا لهم العفو عنهم على ما تمنوه، لما أوجب ذلك لهم العفو عما اكتسبوه من بعد من الذنوب، ولا دل على عصمتهم فيما يستقبل من الأوقات، ولا خروجهم عن العمد في المعاصي والشبهات، فأين وجه الحجة لهم فيما اعتمدوه لولا ضعف الرأي واليقين؟!

- حديث العشرة المبشرين بالجنة ساقط من غير وجه

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 71، 75:

فأما ما ادعوه على النبي صلى الله عليه وآله من قوله: "عشرة من أصحابي في الجنة" ثم سموا أبا بكر وعمر وعثمان ومن تقدم ذكره فيما حكيناه، فإنه ساقط من غير وجه: أحدها: أن الذي رواه فيما زعموا عن النبي صلى الله عليه وآله سعيد بن زيد ابن نفيل، وهو أحد العشرة بما تضمنه لفظ الحديث على شرحهم إياه، وقد ثبت أن من زكى غيره بتزكية نفسه لم تثبت تزكيته لذلك في شريعة الإسلام، ومن شهد لغيره بشهادة له فيها نصيب لم تقبل شهادته باتفاق.

ومنها: أن سعيدا واحد، ورواية الواحد لا يقطع بها على الحق عند الله سبحانه.

ومنها: أن دليل العقل يمنع من القطع بالجنة والأمان من النار لمن تجوز منه مواقعة قبائح الأعمال، ومن ليس بمعصوم من الزلل والضلال، لأنه متى قطع له بما ذكرناه، وهو من العصمة خارج بما وصفناه، كان مغرى بمواقعة الذنوب والسيئات، مرحا في ارتكاب ما تدعوه إليه الطبائع والشهوات، لأنه يكون آمنا من العذاب، مطمئنا إلى ما أخبر به من حسن عاقبته، وقطع له به من الثواب في الجنات، وذلك فاسد لا يجوز على الحكيم سبحانه، ولا يصح منه تدبير العباد.

وإذا وجب ما ذكرناه، وكانت الأمة مجمعة على ارتفاع العصمة عمن ضمن الخبر أسماءهم، سوى أمير المؤمنين عليه السلام، لما تذهب إليه الشيعة من عصمته، ومفارقته للجماعة في التوفيق للصواب، ثبت أن الحديث باطل مختلق، مضاف إلى النبي صلى الله عليه وآله.

فصل: على أنه يقال لهم لو كان الخبر كما زعمتم صحيحا، وكان الاتفاق عليه من الجماعة ما تدعون واقعا، لكان الأمان من عذاب الله لأبي بكر وعمر وعثمان به حاصلا، وكان الذم عنهم في حقيقة ذلك زائلا، ولو كان الأمر كذلك لما جزع القوم عند احتضارهم من لقاء الله تعالى، ولا اضطربوا من قدومهم على أعمالهم، مع اعتقادهم أنها مرضية لله سبحانه، ولا شكوا بالظفر في ثواب الله عز وجل.

ولجروا في الطمأنينة لعفو الله تعالى، لثقتهم بخبر الرسول صلى الله عليه وآله، مجرى أمير المؤمنين عليه السلام في التضرع إلى الله عز وجل في حياته أن يقبضه الله تعالى إليه، ويعجل له السعادة بما وعده من الشهادة، وعند احتضاره أظهر من سروره بقرب لقائه برسول الله صلى الله عليه وآله، واستبشاره بالقدوم على الله عز وجل، لمعرفته بمكانه منه، ومحله من ثوابه، وقد سبق من كلام الصالحين أن من أطاع الله أحب لقاءه، ومن عصاه كره لقاءه.

والخبر الظاهر أن أبا بكر جعل يدعو بالويل والثبور عند احتضاره، وأن عمر تمنى أن يكون ترابا عند وفاته، وود لو أن أمه لم تلده، وأنه نجا من أعماله كفافا، لا له ولا عليه، وما ظهر من جزع عثمان ابن عفان عند حصر القوم له، وتيقنه بهلاكه، دليل على أن القوم لم يعرفوا من رسول الله صلى الله عليه وآله ما تضمنه الخبر من استحقاقهم الجنة على كل حال، ولا أمنوا من عذاب الله سبحانه لقبيح ما وقع منهم الأعمال.

وبعد: فكيف ذهب عن عثمان بن عفان الاحتجاج بهذا الخبر إن كان حقا على حاصريه في يوم الدار، وما الذي منعه من الاحتجاج به عليهم في استحلال دمه، وقد ثبت في الشرع حظر دماء أهل الجنان، وما باله تعلق في دفعهم عن نفسه بكل ما وجد إليه السبيل من الاحتجاج، ولم يذكر هذا الخبر في جملة ما اعتمده في هذا المقال؟! كلا لو كان الأمر على ما ظنه الجهال من صحة هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله، أو روايته في وقت عثمان، لما ذهب عليه التعلق به على ما بيناه.

مع أنا لو سلمنا لهم ما يتمنونه من ثبوت الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله، لما أمكنهم به دفع ما ذكرناه من إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وجحد القوم لفرض طاعته على الشبهة والعناد، لأنهم قد علموا ما جرى بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين طلحة والزبير من المباينة في الدين، والتخطئة من بعضهم لبعض والتضليل والحرب، وسفك الدم على الاستحلال به دون التحريم، وخروج الجميع من الدنيا على ظاهر التدين بذلك، دون الرجوع عنه بما يوجب العلم واليقين. فإن كان ما وقع من الفريقين صوابا مع ما ذكر ناه لم ينكر أن يعتقد أمير المؤمنين عليه السلام أنه الإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل، ويرى أبو بكر وعمر وعثمان خلاف ذلك، وكونهم على صواب. وإن كان أحد الفريقين على خطأ، لم ينكر أيضا أن يكون المتقدمون على المؤمنين عليه السلام في النص وإنكاره على خلاف الصواب، وإن كانوا جميعا من أهل الثواب. وإن كان الفريقان في حرب البصرة على ضلال، وذلك لا يضرهما في استحقاق النعيم والأمان من الجحيم، كان المتقدمون في الإمامة ودفعها على خطأ، وإن كانوا من أهل النعيم، ولم يضر ذلك بأمانهم من عذاب السعير، وهذا أقرب لأنه جرى ما جرى من أهل البصرة، وفي ذلك زيادة عليه بالحرب وسفك الدماء، وإظهار البراءة والتفسيق. وإن زعم مخالفونا أن المحق من الفريقين أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه دون من خالفهم، غير أن المخالفين تابوا قبل خروجهم من الدنيا فيما بينهم وبين الله عز وجل، بدلالة الخبر وما تضمنه من استحقاقهم لثواب الله تعالى على التحقيق. فكذلك يقال لهم: إن المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام كانوا بذلك ضالين، ولكنهم تابوا قبل خروجهم من الدنيا في سرائر هم وفيما بينهم وبين خالقهم، وإن لم يكن ذلك منهم على الظهور، بدلالة الخبر على ما رتبوه، وهذا يدمر معتمدهم فيما تعلقوا به من الحديث في دفع النص على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام لتقدم من سموه، وزعموا أنه من أهل الجنة، ولا يجوز لهم دفع الحق على كل الوجوه، والله الموفق.

- في مناقشة استدلال المخالفين بآية وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ على فضل من تقدم على أمير المؤمنين

- الله سبحانه لا يعد أحدا بالثواب إلا على شرط الإخلاص والموافاة بما يتوجه الوعد بالثواب عليه

- وعد الله الصادقين مثلما وعد السابقين من المهاجرين والأنصار فقطع لهم بالمغفرة والرضوان ولم يوجب ذلك نفي الغلط عن كل من استحق اسم الصدق ولا إيجاب العصمة له من الضلال ولا القطع له بالجنة

- الشيعة تذهب إلى تخطئة المتقدمين على أمير المؤمنين

- في قوله تعالى وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 77، 84:

فصل: فإن قال قائل: فإني أترك التعلق بالخبر عن النبي صلى الله عليه وآله بأن القوم في الجنة لما طعنتم به فيه، مما لا أجد منه مخلصا، ولكن خبروني عن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. أليس قد أوجب لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد جنات عدن، ومنع بذلك من تجويز الخطأ عليهم في الدين والزلل عن الطريق المستقيم، فكيف يصح القول مع ذلك بأن الإمامة كانت دونهم لأمير المؤمنين عليه السلام وأنهم دفعوه بالتقدم عليه عن حق وجب له على اليقين، وهل هذا إلا متناقض؟!.

قيل له: إن الله سبحانه لا يعد أحدا بالثواب إلا على شرط الإخلاص والموافاة بما يتوجه الوعد بالثواب عليه، وأجل من أن يعري ظاهر اللفظ بالوعد عن الشروط، لما في العقل من الدليل على ذلك والبرهان. وإذا كان الأمر على ما وصفناه، فالحاجة ماسة إلى ثبوت أفعال من ذكرت في السبق والطاعة لله تعالى في امتثال أوامره ظاهرا على وجه الإخلاص، ثم الموافاة بها على ما ذكرناه حتى يتحقق لهم الوعد بالرضوان والنعيم المقيم وهذا لم يقم عليه دليل، ولا تثبت لمن ذكرت حجة توجب العلم واليقين، فلا معنى للتعلق بظاهر الآية فيه، مع أن الوعد من الله تعالى بالرضوان إنما توجه إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، دون أن يكون متوجها إلى التالين الأولين. والذين سميتهم من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ومن ضممت إليهم في الذكر، لم يكونوا من الأولين في السبق، وإنما كانوا من التالين للأولين، والتالين للتالين.

والسابقون الأولون من المهاجرين، هم: أمير المؤمنين عليه السلام، وجعفر بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وخباب، وزيد بن حارثة، وعمار وطبقتهم. ومن الأنصار النقباء المعروفون، كأبي أيوب، وسعد بن معاذ، وأبي الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ومن كان في طبقتهم من الأنصار. فأما أصحابك فهم الطبقة الثانية ممن ذكرناه، والوعد إنما حصل للمتقدمين في الإيمان دونهم على ما بيناه، وهذا يسقط ما توهمت.

فصل: ثم يقال له: قد وعد الله المؤمنين والمؤمنات في الجملة مثل وعد به السابقين من المهاجرين والأنصار، ولم يوجب ذلك نفي الغلط عن كل من استحق اسم الإيمان، ولا إيجاب العصمة له من الضلال، ولا القطع له بالجنة على كل حال. قال الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. فإن وجب للمتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام الثواب على كل حال، لاستحقاقهم الوصف بأنهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على ما ادعيت لهم في المقال، فإنه يجب مثل ذلك لكل من استحق اسم الإيمان في حال من الأحوال، بما تلوناه، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإسلام.

ويقال له أيضا: قد وعد الله الصادقين مثل ذلك، فقطع لهم بالمغفرة والرضوان، فقال سبحانه: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. فهل يجب لذلك أن يقطع على كل من صدق في مقاله بالعصمة من الضلال، ويوجب له الثواب المقيم، وإن ضم إلى فعله قبائح الأفعال؟!. فإن قال: نعم. خرج عن ملة الإسلام، وإن قال: لا يجب ذلك لعلة من العلل. قيل له في آية السابقين مثل ما قال، فإنه لا يجد فرقا.

ويقال له أيضا: ما تصنع في قول الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}؟! أتقول أن كل من صبر على مصاب فاسترجع مقطوع له بالعصمة والأمان من العذاب، وإن كان مخالفا لك في الاعتقاد، بل مخالفا للإسلام؟! فإن قال: نعم ظهر خزيه، وإن قال: لا يجب ذلك. وذهب في الآية إلى الخصوص دون الاشتراط، سقط معتمده من عموم آية السابقين، ولم يبق معه ظاهر فيما اشتبه به الأمر عليه في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وخطأ المتقدمين عليه حسب ما ذكرناه.

وهذا باب إن بسطنا القول فيه ، واستوفينا الكلام في معانيه، طال به الخطاب، وفيما اختصرناه كفاية لذوي الألباب.

فصل: فإن قال في أصل الجواب أنه لا يجوز تخصيص السابقين الأولين، ولا الاشتراط فيهم، لأنه سبحانه قد اشترط في التابعين، وخصهم بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ}. فلو كان في السابقين الأولين من يقع منه غير الحسن الجميل، لما أطلق الرضا عنهم في الذكر ذلك الإطلاق، واشترط فيمن وصله بهم من التابعين.

قيل له: أول ما في هذا الباب، أنك أوجبت للسابقين بهذا الكلام العصمة من الذنوب، ورفعت عنهم جواز الخطأ وما يلحقهم به من العيوب، والأمة مجمعة على خلاف ذلك لمن زعمت أن الآية فيه صريحة، لأن الشيعة تذهب إلى تخطئة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام، والمعتزلة والشيعة وأكثر المرجئة وأصحاب الحديث يضللون طلحة والزبير في قتالهم أمير المؤمنين عليه السلام، والخوارج تخطئ أمير المؤمنين عليه السلام وتبرأ منه ومن عثمان، وطلحة والزبير ومن كان في حيزهما، وتكفرهم بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام، وولايتهم عثمان بن عفان، فيعلم أن إيجاب العصمة لمن يزعم أن الله تعالى عناه في الآية بالرضوان باطل، والقول به خروج عن الإجماع.

على أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} ليس هو شرطا في التابعين، وإنما هو وصف للاتباع، وتمييز له من ضروبه التي لا يوجب شيء منها الرحمة والغفران، وهذا مما لا يبطل الخصوص في السابقين، والشرط في أفعالهم على ما ذكرناه.

مع أنا قد بينا أن المراد بالسابقين الأولين، هم الطبقة الأولى من المهاجرين والأنصار، وذكرنا أعيانهم وليس من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام والمخالفين عليه من كان من الأولين، وإن كان فيهم جماعة من التالين، ولسنا ندفع ظاهر الأولين من القوم، وأنهم من أهل الثواب وجنات النعيم على عمومهم دون الخصوص، وهذا أيضا يسقط تعلقهم بما ذكروه في التابعين، على أنه لا يمتنع أن يكون الشرط في التابعين شرطا في السابقين، ويكتفى به بذكر السابقين للاختصار، ولأن وروده في الذكر على الاقتران. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

ويقال له أيضا: أليس الله تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ }. وفي الأنفس من لم يرده، ولم يستثنه لفظا، وهم: الأطفال والبله والبهائم والمجانين؟! وإنما يدل استثناؤهم لفظا على استثناء أهل العقول. فبم ينكر أن يكون الشرط في السابقين مثل الشرط في التابعين، وأن اللفظ من ذكر السابقين موجود في التابعين؟ وهذا بين لمن تدبره. على أن الذي ذكرناه في الخبر، وبينا أنه لا يجوز من الحكيم تعالى أن يقطع بالجنة إلا على شرط الإخلاص، لما تحظره الحكمة من الاغراء بالذنوب، يبطل ظنهم في تأويل هذه الآية، وكل ما يتعلقون به من غيرها في القطع على أمان أصحابهم من النار، للإجماع على ارتفاع العصمة عنهم، وأنهم كانوا ممن يجوز عليه اقتراف الآثام، وركوب الخلاف لله تعالى على العمد والنسيان، وقد تقدم ذلك فيما سلف، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه.

فصل آخر: ويمكن أيضا مما ذكرناه من أمر طلحة والزبير وقتالهما لأمير المؤمنين عليه السلام، وهما عند المخالفين من السابقين الأولين، ويضم إليه ما كان من سعد بن عبادة، وهو سيد الأنصار ومن السابقين الأولين، ونقباء رسول الله صلى الله عليه وآله في السقيفة، ترشح للخلافة، ودعا أصحابه إليه، وما راموه من البيعة له على الإمامة حتى غلبهم المهاجرون على الأمر، فلم يزل مخالفا لأبي بكر وعمر، ممتنعا عن بيعتهما في أهل بيته وولده وأشياعه إلى أن قتل بالشام على خلافهما ومباينتهما. وإذا جاز من بعض السابقين دفع الحق في الإمامة، واعتقاد الباطل فيها، وجاز من بعضهم استحلال الدم على الضلال، والخروج من الدنيا على غير توبة ظاهرة للأنام، فما تنكر من وقوع مثل ذلك من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام وإن كانوا من السابقين الأولين وما الذي يعصمهم مما وقع من شركائهم في السبق والهجرة وغير ذلك مما تعدونه لهم في الصفات، وهذا مما لا سبيل إلى دفعه.

- في خروج المتقدمين على أمير المؤمنين في قوله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 85، 89:

فصل: فإن قال: فإذا كنتم قد أخرجتم المتقدمين على أمير المؤمنين والمحاربين له والقاعدين عنه من رضا الله تعالى، وما ضمنته آية السابقين بالشرط على ما ذكرتم، والتخصيص الذي وصفتم، ولما اعتمدتموه من تعريهم من العصمة، وما واقعه من سميتموه منهم على الإجماع من الذنوب، فخبروني عن قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}. فكيف يصح لكم تأويله بما يخرج القوم من الرضا والغفران، والإجماع منعقد على أن أبا بكر وعمر وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا قد بايعوا تحت الشجرة، وعاهدوا النبي صلى الله عليه وآله، أو ليس هذا الإجماع يوجب الرضا على البيان؟.

قيل له: القول في الآيتين جميعا سواء، وهو في هذه الآية أبين وأوضح وأقرب طريقا، وذلك أن الله تعالى ذكر المبايعين، وخصص من توجه إليه الرضا من جملتهم بعلامات نطق بها التنزيل، ودل بذلك على أن أصحابك أيها الخصم خارجون عن الرضا على التحقيق، فقال جل اسمه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.

فخص سبحانه بالرضا منهم من علم الله منهم الوفاء، وجعل علامته من بينهم ثباته في الحروب بنزول السكينة عليه، وكون الفتح القريب به وعلى يديه، ولا خلاف بين الأمة أن أول حرب لقيها رسول الله صلى الله عليه وآله بعد بيعة الرضوان حرب خيبر، وأنه قدم أبا بكر فيها فرجع منهزما فارا من مرحب، وثنى بعمر فرجع منهزما فارا، يجبن أصحابه ويجبنونه. فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرارا، لا يرجع حتى يفتح الله تعالى على يديه" فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام فلقي مرحبا فقتله، وكان الفتح على يديه واختص الرضا به، ومن كان معه من أصحابه وأتباعه، وخرج صاحباك من الرضا بخروجهما عن الوفاء، وتعريهما من السكينة، لانهزامهما وفرارهما وخيبتهما من الفتح القريب، لكونه على يد غيرهما، وخرج من سميت من أتبعاهما منه، إذ لا فتح لهم ولا بهم على ما ذكرناه وانكشف عن الرجلين خاصة، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "ويحبه الله ورسوله" ما كان مستورا، لاستحقاقهما في الظاهر ضد ذلك من الوصف، كما استحقا اسم الفرار دون الكرار، ولولا أن الأمر كما وصفناه لبطل معنى كلام النبي صلى الله عليه وآله، ولم يكن له فائدة، وفسد تخصيصه عليا عليه السلام بما ضمنه من الثناء على ما شرحناه.

ومما يؤيد ذلك ويزيده بيانا قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}. فدل على أنه تعالى يسأل المولين يوم القيامة عن العهد، ويعاقبهم بنقض العهد، وليس يصح اجتماع الرضا والمسألة والعقاب لشخص واحد، فدل ذلك على خصوص الرضا، ووجب إلحاقه في الحكم بما لا يتوجه إليه السؤال، وإذا وجب ذلك بطل تعلق الخصم في الآية بالعموم، وسقط اعتماده على البيعة في الجملة.

وعلى كل حال، هذا إن لم يكن في الآية نفسها وفيما تلوناه بعدها دليل على خروج القوم من الرضا، وكان الأمر ملتبسا، فكيف وفيها أوضح برهان بما رتبناه؟! ومما يدل على خصوص الآية أيضا قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. فتوعد على الفرار بالغضب والنار، كما وعد على الوفاء بالرضا والنعيم، فلو كانت آية الرضا في المبايعين على العموم وعدم الشرط لبطل الوعيد، وخرجت الآية النازلة عن الحكمة، ولم يحصل لها فائدة ولا مفهوم، وذلك فاسد بلا ارتياب.

ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}. وهذا صريح باختصاص الرضا بطائفة من المبايعين دون الجميع، وبثبوت الخصوص في الموفين بظاهر التنزيل الذي لا يمكن لأحد دفعه، إلا بالخروج عن الدين. على أن بعض أصحابنا قد سلم لهم ما ظنوه من توجه الرضا إلى جميع المبايعين، وأراهم أنه غير نافع لهم فيما اعتقدوه، لأن الرضا للماضي من الأفعال، وما هو في الحال لا يعصم من وقوع ضده الموجب للسخط في المستقبل، وما يتوقع من الأحوال، وهذا ما لا يمكن لأحد من خصومنا دفعه، إلا من قال منهم بالموافاة فإنه يتعلق بها، وكلامي المتقدم يكفي في الكثير على الجميع، والحمد لله.

- في مناقشة استدلال المخالفين بآية وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ على فضل من تقدم على أمير المؤمنين

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 90، 106:

فصل: فإن قال: قد فهمت ما ذكرتموه في هذه وما قبلها من الآي، ولست أرى لأحد حجة في دفعه لوضوحه في البيان، ولكن خبروني عن قوله تعالى في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. أليس قد ذكر المفسرون أنها في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب عليه السلام؟! واستدل المتكلمون من مخالفيكم على صحة ذلك، بما حصل لهم من جميع هذه الصفات: فأولها: أنهم كانوا حاضرين لنزولها بدليل كاف المواجهة بلا اختلاف، ثم أنهم كانوا ممن خاف في أول الإسلام، فآمنهم الله تعالى، ومكن لهم في البلاد، وخلفوا النبي صلى الله عليه وآله وأطاعهم العباد، فثبت أنها نزلت فيهم بهذا الضرب من الاعتبار، وإلا فبينوا لنا الوجه في معناها، إن لم يكن الأمر على ما ذكرناه.

قيل له: إن تفسير القرآن لا يؤخذ بالرأي، ولا يحمل على اعتقادات الرجال والأهواء، وما حكيته من ذلك عن المفسرين فليس هو إجماعا منهم، ولا مرجوعا به إلى ثقة ممن تعاطاه ومن ادعاه، ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله، ولا إلى من تجب طاعته على الأنام. وممن فسر القرآن عبد الله بن عباس، والمحكي عنه في تأويل هذه الآية غير ما وصفت بلا تنازع بين حملة الآثار، وكذلك المروي عن محمد بن علي عليهما السلام، وعن عطاء ومجاهد، وإنما ذكر ذلك برأيه وعصبيته مقاتل بن سليمان، وقد عرف نصبه لآل محمد صلى الله عليه وآله وجهله وكثرة تخاليطه في الجبر والتشبيه، وما ضمنته كتبه في معاني القرآن.

على أن المفسرين للقرآن طائفتان: شيعة ، وحشوية، فالشيعة لها في هذه الآية تأويل معروف تسنده إلى أئمة الهدى عليهم السلام، والحشوية مختلفة في أقاويلها على ما ذكرناه، فمن أين يصح إضافة ما ادعوه من التأويل إلى مفسري القرآن جميعا على الإطلاق، لولا عمى العيون وارتكاب العناد؟! فأما ما حكوه في معناها عن المتكلمين منهم، فقد اعتمده جميعهم على ما وصفوه بالاعتبار الذي ذكروه، وهو ضلال عن المراد، وخطأ ظاهر الفساد، من وجوه لا تخفى على من وفق للرشاد: أحدها:

أن الوعد مشترط بالإيمان على التحقيق بالأعمال الصالحات، وليس على ما يذهب إليه مخالفونا من إيمان أصحابهم على الحقيقة، وأنهم كانوا من أصحاب الصالحات بإجماع، ولا دليل يقطع به على الحق عند الله، بل الخلاف في ذلك ظاهر بينهم وبين خصومهم، والمدافعة عن الأدلة على ذلك موجودة كالعيان.

والثاني: أن المراد في الآية بالاستخلاف إنما هو توريث الأرض والديار، والتبقية لأهل الإيمان بعد هلاك الظالمين لهم من الكفار، دون ما ظنه القوم من الاستخلاف في مقام النبوة، وتملك الإمامة وفرض الطاعة على الأنام.

ألا ترى أن الله سبحانه قد جعل ما وعد به من ذلك مماثلا لما فعله بالمؤمنين وبالأنبياء عليهم السلام قبل هذه الأمة في الاستخلاف، وأخبر بكتابه عن حقيقة ذلك وصورته ومعناه، وكان بصريح ما أنزله من القرآن مفيدا لما ذكرناه، من توريث الديار والنعم والأموال عموم المؤمنين دون خصوصهم ومعنى ما بيناه، دون الإمامة التي هي خلافة للنبوة والإمرة والسلطان.

قال الله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. فبشرهم بصبرهم على أذى الكافرين بميراث أرضهم، والملك لديارهم من بعدهم، والاستخلاف على نعمتهم، ولم يرد بشيء من ذلك تمليكهم مقام النبوة والإمامة على سائر الأمة، بل أراد ما بيناه. ونظير هذا الاستخلاف من الله سبحانه لعباده، ومما هو في معناه، قوله جل اسمه في سورة الأنعام: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} وليس هذا الاستخلاف من الإمامة وخلافة النبوة في شيء وإنما هو ما قدمنا ذكره ووصفناه. وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فإنما أراد بذلك تبقيتهم بعد هلاك الماضين، وتوريثهم ما كانوا فيه من النعم، فجعله من مننه عليهم ولطفه بهم ليطيعوه ولا يكفروا به كما فعل الأولون. ومنه قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} وقد علم كل ذي عقل أن هذا الاستخلاف مباين للعامة في معناه، وقد وفى الله الكريم موعده لأصحاب نبيه صلى الله عليه وآله جميعا في حياته وبعد وفاته، ففتح لهم البلاد، وملكهم رقاب العباد، وأحلهم الديار، وأغنمهم الأموال، فقال عز من قائل: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا}.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ثبت أن المراد بالآية من الاستخلاف ما ذكرناه، ولم يتضمن ذلك الإمامة وخلافة النبوة على ما بيناه، وكان الوعد به عموما لأهل الإيمان بما شرحناه، وبطل ما تعلق به خصومنا في إمامة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ووضح جهلهم في الاعتماد على التأويل الذي حكيناه عنهم للآية لما تلوناه من كتاب الله تعالى وفصلنا وجهه وكشفناه.

وقد حكى هذا المعنى بعينه في تأويل هذه الآية الربيع عن أبي العالية، والحسين بن محمد، عن الحكم، وغيرهما، عن جماعات من التابعين، ومفسري القرآن.

فصل: على أن عموم الوعد بالاستخلاف للمؤمنين الذي عملوا الصالحات من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، على ما اختصوا به من الصفات في عبادتهم لله تعالى على الخوف والأذى والاستسرار بدين الله جل اسمه، على ما نطق به القرآن، يمنع مما ادعاه أهل الخلاف من تخصيص أربعة منهم دون الجميع، لتناقض اجتماع معاني العموم على الاستيعاب والخصوص، ووجوب دفع أحدهما صاحبه بمقتضى العقول. وإذا ثبت عموم الوعد، وجب صحة ما ذكرناه في معنى الاستخلاف من توريث الديار والأموال، وظهور عموم ذلك لجميعهم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وبعده بلا اختلاف، بطل ما ظنه الخصوم في ذلك وتأولوه على المجازفة، والعدول عن النظر الصحيح.

فصل: فإن قال منهم قائل: إن الآية وإن كان ظاهرها العموم، فالمراد بها الخصوص، بدليل وجود الخلافة فيمن عددناه دون الجميع. وعلى هذا يعتمد متكلموهم.

قيل له: أحلت في ذلك من قبيل أنك إنما أوجبت لأصحابك الإمامة، وقضيت لهم بصحة الخلافة بالآية، وجعلتها ملجأ لك في حجاج خصومك، ودفعهم عما وصفوا به من فساد عقلك، فلما لم يتم لك مرادك من الآية، بما أوجبه عليك عمومها بظاهرها، ودليل متضمنها، عدلت إلى تصحيح تأويلك منها، بادعاء ما تورعت فيه من خلافة القوم، وثبوت إمامتهم، الذي أفقرك عدم البرهان عليه إلى تصحيحه عندك بالآية، فصرت دالا على وجوده معنى تنازع فيه بوجود شيء تتعلق صحة وجوده بوجود ما دفعت عن وجوده، وهذا تناقض من القول، وخبط أوجبه لك الضلال، وأوقعك فيه التقليد والعصبية للرجال، نعوذ بالله من الخذلان.

ثم يقال له: خبرنا عما تدعيه من استخلاف الله تعالى لأئمتك على الأنام، وصحة إمامتهم على ما زعمت فيما سلف لك من الكلام، أبظاهر أمرهم ونهيهم وتملكهم علمت ذلك، وحكمت به على القطع والثبات، أم بظاهر الآية ودليلها على ما قدمت من الاعتبار، أم بغير ذلك من ضروب الاستدلال؟.

فإن قال: بظاهر أمرهم ونهيهم في الأمة، ورئاستهم الجماعة، ونفوذ أمرهم وأحكامهم في البلاد، علمت ذلك وقطعت به على أنهم خلفاء الله تعالى: والأئمة بعد رسوله عليه السلام. وجب على وفور هذه العلة القطع بصحة إمامة كل من ادعى خلافة الرسول صلى الله عليه وآله، ونفذت إحكامه وقضاياه في البلاد، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإيمان.

وإن قال: إنما علمت صحة خلافتهم بالآية ودلائلها على الاعتبار.

قيل له: ما وجه دلالة الآية على ذلك، وأنت دافع لعمومها في جميع أهل الإيمان، وموجب خصوصها بغير معنى في ظاهرها، ولا في باطنها، ولا مقتضاها على الأحوال؟ فلا يجد شيئا يتعلق به فيما ادعاه.

وإن قال: إن دلالتي على ما ادعيت من صحة خلافتهم معنى غير الآية نفسها، بل من الظاهر من أمر القوم ونهيهم، وتأمرهم على الأنام. خرجت الآية عن يده، وبانت فضيحته فيما قدره منها وظنه في تأويلها وتمناه، وهذا ظاهر بحمد الله.

فصل: مع أنا لو سلمنا لهم في معنى الاستخلاف أن المراد في الآية ما ذكروه من إمامة الأنام، لما وجب به ما ذهبوا إليه من صحة خلافة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام بل كانت الآية نفسها شاهدة بفساد أمرهم وانتقاضه على البيان، وذلك أن الله جل اسمه وعد المؤمنين من أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله بالاستخلاف، ثوابا لهم على الصبر والإيمان، والاستخلاف من الله تعالى للأئمة لا يكون استخلاف من العباد، ولما ثبت أن أبا بكر كان منصوبا باختيار عمر وأبي عبيدة بن الجراح، وعمر باستخلاف أبي بكر دون النبي صلى الله عليه وآله، وعثمان باختيار عبد الرحمن، فسد أن يكونوا داخلين تحت الوعد بالاستخلاف، لتعريهم من النص بالخلافة من الله تعالى، وإقرار مخالفينا إلا من شذ منهم أن إمامتهم كانت باختيار، وثبت أن الآية كانت مختصة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام دونهم، لإجماع شيعته على أن إمامته باستخلاف الله تعالى له، ونصه عليه، وأقامه عليه السلام نبيه صلى الله عليه وآله علما للأمة وإماما لها بصريح المقال.

فصل آخر: ويقال لهم: ما تنكرون أن يكون خروج أبي بكر وعمر وعثمان من الخوف في أيام النبي صلى الله عليه وآله يخرجهم عن الوعد بالاستخلاف، لأنه إنما توجه إلى من كان يلحقه الخوف من أذى المشركين، وليس له مانع منهم، كأمير المؤمنين عليه السلام وما مني به النبي صلى الله عليه وآله وعمار وأمه وأبيه، والمعذبين بمكة، ومن أخرجهم النبي صلى الله عليه وآله، مع جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة لما كان ينالهم من الفتنة والأذى في الدين.

فأما أبو بكر فإن الشيعة تذكر أنه لم يكن خائفا في حياة النبي صلى الله عليه وآله لأسباب نحن أغنياء عن شرحها، وأنتم تزعمون أن الخوف مرتفع عنه لعزته في قريش ومكانه منهم وكثرة ماله واتساع  جاهه، وإعظام القوم له لسنه وتقدمه، حتى أنه كان يجير ولا يجار عليه، ويؤمن ولا يحتاج إلى أمان، وزعمتم إنه اشترى تسعة نفر من العذاب.

وأن عمر بن الخطاب لم يخف قط، ولا هاب أحدا من الأعداء، وأنه جرد سيفه عند إسلامه، وقال: لا يعبد الله اليوم سرا. ثقة بنفسه، وطمأنينة إلى سلامته، وأمنا من الغوائل، وأنه لن يقدم عليه أحد بسوء، لعظم رهبة الناس منه وإجلالهم لمكانه.

وأن عثمان بن عفان كان آمنا ببني أمية، وهم ملاك الأمر إذ ذاك. فكيف يصح لكم مع هذا القول أن تستدلوا بالآية على صحة خلافتهم ودخولهم تحت الوعد بالاستخلاف، وهم من الوصف المنافي لصفات الموعودين بالاستخلاف على ما ذكرناه، لولا أنكم تخبطون فيما تذهبون إليه خبط عشواء؟!.

فصل: ويقال لهم: أليس يمكنكم إضافة ما تلوتموه من هذه الآية في أئمتكم إلى صادق عن الله تعالى فيجب العمل به، وإنما أسندتم قولكم فيه إلى ضرب من الرأي والاعتبار الفاسد بما أوضحناه.

وقد ورد عن تراجمة القرآن من آل محمد صلى الله عليه وآله في تأويلها ما هو أشبه من تأويلكم وأولى بالصواب، فقالوا: إنها نزلت في عترة النبي صلى الله عليه وآله وذريته الأئمة الأطهار عليهم السلام وتضمنت البشارة لهم بالاستخلاف، والتمكن في البلاد، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي منهم، فكانوا عليهم السلام هم المؤمنين العاملين الصالحات، بعصمتهم من الزلات.

وهم أحق بالاستخلاف على الأنام ممن عداهم، لفضلهم على سائر الناس، وهم المدالون على أعدائهم في آخر الزمان، حتى يتمكنوا في البلاد، ويظهر دين الله تعالى بهم ظهورا لا يستخفي على أحد من العباد، ويأمنون بعد طول خوفهم من الظالمين المرتكبين في أذاهم الفساد، وقد دل القرآن على ذلك وجاءت به الأخبار: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. وقال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. وقال تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}. وكل هذه أمور منتظرة، غير ماضية ولا موجودة في الحال. ومثلهم فيما بشرهم الله تعالى به من ذلك ما تضمنه قوله تعالى: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} وقوله تعالى في بني إسرائيل: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}. ومما أنزله فيهم سوى المثل لهم عليه السلام قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.

فصار معاني جميع ما تلوناه راجعا إلى الإشارة إليهم عليهم السلام بما ذكرناه. ويحقق ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله على الاتفاق من قوله: "لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا".

وأما ما تعلقوا به من كاف المواجهة، فإنه لا يخل بما شرحناه في التأويل من آل محمد عليهم السلام لأن القائم من آل محمد والموجود من أهل بيته في حياته هم من المواجهين في الحقيقة والنسب والحسب، وإن لم يكن من أعيانهم، فإذا كان منهم بما وصفناه، فقد دخل تحت الخاطب، وبطل ما توهم أهل الخلاف.

فصل: على أنه يقال لهم: ما الفصل بينكم فيما تأولتم به هذه الآية وبين من تأولها خلاف تأويلكم، فأوجب حكمها في غير من سميتم، ولجأ في صحة مقاله إلى مثل عيوبكم، فقال: إن الله جل اسمه بشر في هذه الآية بالاستخلاف أبا سفيان صخر بن حرب، ومعاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وذلك أني قد وجدتهم انتظموا صفات الموعودين بالاستخلاف، وكانوا من الخائفين عند قوة الإسلام لخلافهم على النبي صلى الله عليه وآله، فتوجه إليهم الوعد من الله سبحانه بالأمن من الخوف، بشرط الانتقال إلى الإيمان، واستئناف الأعمال الصالحات، والاستخلاف بعد ذلك، والتمكين لهم في البلاد، ثوابا لهم على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله، وترغيبا لهم في الإيمان، فأجابوا الله تعالى إلى ما دعاهم إليه، وأذعنوا بالإسلام، وعملوا الصالحات، فأمنوا من المخوفات. واستخلفهم النبي صلى الله عليه وآله في حياته، كانوا من بعده خلفاء لخلفائه الراشدين، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف أبا سفيان على سبي الطائف، وهم يومئذ ستة آلاف إنسان، واستعمله من بعد ذلك على نجران فلم يزل عامله عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو خليفته فيها من غير عزل له ولا استبدال. واستعمل أيضا صلوات الله عليه يزيد بن أبي سفيان على صدقات أخواله بني فراس بن غنم، فجباها وقدم بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فلقيه أبوه أبو سفيان فطلب منه مال الصدقات، فأبى أن يعطيه، فقال: إذا صرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، فأخبره فقال له: "خذ المال فعد به إلى أبيك". فسوغه مال الصدقات كله، صلة لرحمه، وإكراما له، وتمييزا له من كافة أهل الإسلام.

واستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله على كتابته معاوية، وكان والي خليفتيه من بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وولى أبو بكر يزيد ابن أبي سفيان ربع أجناد الشام، وتوفي وهو خليفته على ذلك، فأقره عمر بن الخطاب إلى أن مات خلافته.

وإذا كان أبو سفيان ومعاوية ويزيد ابناه على ظاهر الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وكان لهم من الخلافة في الإسلام ما وصفناه، ثم الذي حصل لمعاوية من الإمرة بعد أمير المؤمنين عليه السلام، وبيعة الحسن بن علي عليه السلام، وتسليم الأمر إليه، حتى سمي عامه (عام الجماعة) للاتفاق، ولم يسم عام أحد من الخلفاء قبله بذلك، ثبت أنهم المعنيون في الآية ببشارة الاستخلاف، دون من ادعيتم له ذلك بمعنى الاستدلال على ما انتظمتموه من الاعتبار. وهذا أشبه من تأويل المعتزلة للآية في أبي بكر وعمر وعثمان، وهو ناقض لمذاهبهم، ومضاد لاعتقاداتهم، ولا فضل لأحد منهم فيه إلا أن يرجع في العبرة إلى ما شرحناه، أو يعتمد في التفسير على الأثر حسبما قدمناه، فيبطل حينئذ توهمه فيما تأوله على ما بيناه، والحمد لله.

فصل: ثم يقال لهم أيضا: ألستم تعلمون أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أبي سرح قد كانا واليين على المسلمين من قبل عثمان بن عفان، وهو إمام عدل عندكم مرضي الفعال، وقد كان مروان ابن الحكم كذلك، ثم خطب له على المنابر في الإسلام بإمرة المؤمنين، كما خطب لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وكذلك أيضا ابنه عبد الملك، ومن بعده من بني أمية، قد حكموا في العباد وتمكنوا في البلاد، فبأي شيء تدفعون صرف معنى الآية إليهم، والوعد بالاستخلاف لهم، وإدخالهم في جملة من سميتموه، وزعمتم أنهم أئمة عدل خلفاء، واعتمدتم في صحة ذلك على ما ذكرناه في أمر أبي سفيان ومعاوية ويزيد ابنيه حسبما شرحناه؟!. فلا يجدون مهربا من ذلك بما قدمناه على الترتيب الذي رسمناه، وكذلك السؤال عليهم في عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، فإنهما ممن كان على ظاهر الإسلام، والعمل الصالح عند الجمهور من الناس، وكانا من المواجهين بالخطاب، وممن خاف في صدر الإسلام، وحصلت لهما ولآيات في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وخلافة له، ولخلفائه على أصولهم بغير إشكال، وليس يمكن لخصومنا دفع التأويل فيهما بما يتعلقون به في أمية وبني مروان من الخروج عن الخوف في صدر الإسلام، وهذا كله تخليط ورطهم الجهل فيه بدين الله تعالى، والعداوة لأوليائه عليهم السلام.

- في مناقشة استدلال المخالفين بآية قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على فضل من تقدم على أمير المؤمنين

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 107، 114:

فصل: فإن قال: قد وضح لي ما ذكرتموه في أمر هذه الآية، وأثبتموه في معناها، كما ظهر الحق لي فيما تقدمها، وانكشف بترادف الحجج التي أوردتموها ما كان مستورا عني من ضعف تأول مخالفيكم لها، غير أني واصف استدلالا لهم من آي آخر على ما يدعونه من إمامة أبي بكر وعمر، لأسمع ما عندكم فيه، فإن أمره قد اشتبه علي ولست أجد محيصا عنه، وذلك أنهم قالوا: وجدنا الله تعالى يقول في سورة الفتح: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}. ثم قال: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. قالوا: فحظر الله على نبيه صلى الله عليه وآله إخراج المخلفين معه بقوله: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ}. ثم أوجب عليهم الخروج مع الداعي لهم من بعده إلى قتال القوم الذين وصفهم بالبأس الشديد من الكفار، وألزمهم طاعته في قتالهم حتى يجيبوا إلى الإسلام ووجدنا الداعي لهم إلى ذلك من بعده أبا بكر وعمر، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال المرتدين، وكانوا أولي بأس شديد على الحال المعروفة، ثم دعاهم عمر بن الخطاب من بعده إلى قتال أهل فارس، وكانوا كفارا أشداء، فدل ذلك على إمامتهما بما فرض الله تعالى في كتابه من طاعتهما، فهذا دليل للقوم على نظامه الذي حكيناه، فما قولكم فيه؟.

قيل له: ما نرى في هذا الكلام على إعجاب أهل الخلاف به حجة تؤنس، ولا شبهة تلتبس، وليس فيه أكثر من الدعوى العرية عن البرهان، ومن لجأ إلى مثله فيما يجب بالحجة والبيان، فقد كشف عن عجزه وشهد على نفسه بالخذلان، وذلك أن متضمن الآي ينبئ عن منع المخلفين من اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله عند الانطلاق إلى المغانم التي سأله القوم اتباعه ليأخذوها، وليس فيه حظر عليه صلوات الله عليه وآله إخراجهم معه في غير ذلك الوجه، ولا منع له من إيجاب الجهاد عليهم معه في مغاز أخر.

وبعد تلك الحال، فمن أين يجب، إذا كان الله تعالى قد أمره بإيذانهم عند الرد لهم عن وجه الغنيمة بالدعوة فيما بعد إلى قتال الكافرين، أن يكون ذلك بدعاء من بعده دون أن يكون بدعائه هو بنفسه صلوات الله عليه وآله، إذا كان صلى الله عليه وآله قد دعا أمته إلى قتال طوائف من الكفار أولي بأس شديد بعد هذه الغزاة التي غنم المسلمون، وحظر الله تعالى فيها على المخلفين الخروج، وهل فيما ذكروه من ذلك أكثر من الدعوى على ما وصفناه؟.

فصل: ثم يقال لهم: أليس الوجه الذي منع الله تعالى المخلفين من اتباع النبي صلى الله عليه وآله فيه الوصول إلى الغنائم منه بالخروج معه، هو فتح خيبر، الذي بشر الله تعالى به أهل بيعة الرضوان على ما اتفق عليه أهل التفسير، وتواتر به أهل السير والآثار؟! فلا بد من أن يقولوا: بلى. وإلا سقط الكلام معهم فيما يتعلق بتأويل القرآن، ويرجع فيه إلى علماء التفسير ورواة الأخبار، إذا ما وصفناه إجماع ممن سميناه.

فيقال لهم: أو لستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد غزا بعد غزوة خيبر غزوات عديدة، وسار بنفسه وأصحابه إلى مواطن كثيرة، واستنفر الأعراب وغيرهم فيها إلى جهاد الكفار، ولقي المسلمون في تلك المقامات من أعدائهم ما انتظم وصف الله تعالى له بالبأس الشديد، لا سيما بمؤتة وحنين وتبوك سوى ما قبلها وبينها وبعدها من الغزوات؟! ولا بد أيضا من أن يقولوا: بلى. وإلا وضح من جهلهم ما يحظر مناظرتهم في هذا الباب.

فيقال لهم: فمن أين يخرج لكم مع ما وصفناه -أيها الضعفاء الأوغاد- وجوب طاعة المخلفين من الأعراب بعد النبي صلى الله عليه وآله دون أن يكون هو الداعي لهم بنفسه على ما بيناه؟ فلا يجدون حيلة في إثبات ما ادعوه مع ما شرحناه.

فصل: ثم يقال لهم: ينبغي أن تنتبهوا من رقدتكم، وتعلموا أن الله تعالى لو أراد منع المخلفين من اتباع النبي صلى الله عليه وآله في جميع غزواته -على ما ظننتموه- لما خص ذلك بوقت معين دون ما سواه، ولكان الحظر له واردا على الإطلاق، وبما يوجب عمومه في كل حال، ولما لم يكن الأمر كذلك، بل كان مختصا بزمان الغنائم التي تضمن البشارة فيها القرآن، وبوصف مسألتهم له بالاتباع دون حال الامتناع منه أو الإعراض عن السؤال، دل على بطلان ما توهمتموه، ووضح لكم بذلك الصواب.

فصل آخر: وقد ظن بعض أهل الخلاف بجهله وقلة علمه أن هؤلاء المخلفين من الأعراب هم الطائفة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة تبوك، وكانت مظاهرة له بالنفاق، فتعلق فيما ادعاه من حظر النبي صلى الله عليه وآله عليهم الاتباع له على كل حال، بقوله جل اسمه في سورة التوبة: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ}. فقال: هذا هو المراد بقوله في سورة الفتح: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} وإذا كان قد منعه من إخراجهم معه أبدا، ثبت أن الداعي لهم إلى قتال القوم الذين وصفهم بالبأس الشديد هو غيره وذلك مصحح عند نفسه ما ادعاه من وجوب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمنا القول فيه وبيناه آنفا.

فيقال له: أيها الغافل الغبي الناقص، أين يذهب بك وهذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} نزلت في غزوة تبوك بإجماع علماء الأمة، ولتفصيل ما قبلها من التأول قصص طويلة قد ذكرها المفسرون، وسطرها مصنفو السير والمحدثون؟!.

ولا خلاف أن الآيات التي نزلت في سورة الفتح نزلت في المخلفين عن الحديبية، وبين هاتين الغزوتين من تفاوت الزمان ما لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم، وبين الفريقين أيضا في النعت والصفات اختلاف في ظاهر القرآن. فكيف يكون ما نزل بتبوك وهي في سنة تسع من الهجرة متقدما على النازل في عام الحديبية وهي سنة ست لولا أنك في حيرة تصدك عن الرشاد؟!.

ثم يقال له: فهب أن جهلك بالأخبار، وقلة معرفتك بالسير والآثار، سهل عليك القول في تأويل القرآن بما قضى على بطلانه التأريخ المتفق عليه بواضح البيان، أما سمعت الله جل اسمه يقول في المخلفين من الأعراب: { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. فأخبر عن وقوع الدعوة لهم إلى القتال على الاستقبال، وإرجاء أمرهم في الثواب والعقاب بشرطه في الطاعة منهم والعصيان، ولم يقطع بوقوع أحد الأمرين منهم على البيان.

وقال جل اسمه في المخلفين الآخرين من المنافقين المذكورين في سورة براءة: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ}. فقطع على استحقاقهم العقاب وأخبر نبيه صلى الله عليه وآله بخروجهم من الدنيا على الضلال، ونهاه عن الصلاة عليهم إذا فارقوا الحياة، ليكشف بذلك عن نفاقهم لسائر الناس، وشهد عليهم بالكفر بالله عز اسمه وبرسوله صلى الله عليه وآله بصريح الكلام، ولم يجعل لهم في الثواب شرطا على حال، وأكد ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}. وهذا جزم من الله تعالى على كفرهم في الحال، وموتهم على الشرك به، وسوء عاقبتهم وخلودهم في النار، وقد ثبت في العقول فرق ما بين المرجأ أمره فيما يوجب الثواب والعقاب، وبين المقطوع له بأحدها على الوجوه كلها. وإن الإرجاء لما ذكرناه، والشرط الذي ضمنه كلام الله تعالى فيما تلوناه، لا يصح اجتماعه مع القطع، بما شرحناه من متضمن الآي الأخر على ما بيناه، لشخص واحد ولا لأشخاص متعددة على جميع الأحوال، وإن من جوز ذلك وارتاب في معناه فليس بمحل من يناظر في الديانات، لأنه لا يصير إلى ذلك إلا بآفة تخرجه عن حد العقلاء أو مكابرة ظاهرة وعناد، وهذا كاف في فضيحة هؤلاء الضلال الذين حملهم الجهل بدين الله، والنصب لآل محمد نبيه صلى الله عليه وآله على القول في القرآن بغير هدى ولا بيان، نسأل الله التوفيق، ونعوذ به من الخذلان.

- قوله تعالى قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا دلالته على إمامة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أولى من أن يكون دلالة على إمامة من تقدمه

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 114، 117:

فصل: على أنا لو سلمنا لهم تسليم نظر ما توهموه من تضمن الآية لوجوب طاعة داع للمخلفين من الأعراب إلى القتال بعد النبي صلى الله عليه وآله على ما اقترحوه، واعتبرنا فيما ادعوه من ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان بمثل ما اعتبروه، لكان بأن يكون دلالة على إمامة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام أولى من أن يكون دلالة على إمامة من ذكروه، وذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام قد دعا بعد النبي صلى الله عليه وآله إلى قتال الناكثين بالبصرة والقاسطين بالشام والمارقين بالنهروان، واستنفر الكافة إلى قتالهم وحربهم وجهادهم، حتى ينقادوا بذلك إلى دين الله تعالى الذي فارقوه، ويخرجوا به عن الضلال الذي اكتسبوه، وقد علم كل من سمع الأخبار ما كان من شدة أصحاب الجمل وصبرهم عند اللقاء، حتى قتل بين الفريقين على قول المقل عشرة آلاف إنسان. وتقرر عند أهل العلم أنه لم تر حرب في جاهلية ولا إسلام أصعب ولا أشد من حرب صفين، ولا سيما ما جرى من ذلك ليلة الهرير، حتى فات أهل الشام فيها الصلاة، وصلى أهل العراق بالتكبير والتهليل والتسبيح، بدلا من الركوع والسجود والقراءة، لما كانوا عليه من الاضطرار بتواصل اللقاء في القتال، حتى كلت السيوف بينهم لكثرة الضراب، وفنى النبل، وتكسرت الرماح بالطعان، ولجأ كل امرئ منهم عند عدم سلاحه إلى قتال صاحبه بيده وفمه، حتى هلك جمهورهم بما وصفناه، وانكشفت الحرب بينهم عن قتل نيف وعشرين ألف إنسان على قول المقل أيضا، وضعف هذا العدد أو قريب من الضعف على قول آخرين بحسب اختلافهم في الروايات. فأما أهل النهروان، فقد بلغ وظهر من شدتهم وبأسهم وصبرهم على القتال مع أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة والشام، ما لم يرتب فيه من أهل العلم اثنان، وظهر من إقدامهم بعد التحكيم على قتل النفوس والاستسلام للموت والبأس والنجدة ما يغني أهل العلم به عن الاستدلال عليه، والاستخراج لمعناه، ولو لم يدل على عظم بأسهم وشدتهم في القتال إلا أنهم كانوا بالاتفاق أربعة آلاف إنسان، فصبروا على اللقاء حتى قتل سائرهم سوى أربعة أنفس شذوا منهم على ما جاءت به الأخبار. ولم يجر أمر أبي بكر وعمر في الدعوة مجرى أمير المؤمنين عليه السلام لأنهما كانا مكتفيين بطاعة الجمهور لهما، وانقياد الجماعات إلى طاعتهما، وعصبية الرجال لهما، فلم يظهر من دعائهما إلى قتال من سير إليه الجيوش ما ظهر من أمر أمير المؤمنين عليه السلام في الاستنفار والترغيب في الجهاد والترهيب من تركه والاجتهاد في ذلك والتكرير له حالا بعد حال، لتقاعد الجمهور عن نصرته، وخذلان من خذله من أعداء الله الشاكين في أمره والمعاندين له، وما مني به من تمويه خصومه وتعلقهم في استحلال قتاله بالشبهات.

ثم لم يبن من شدة أهل الردة وفارس مثل ما ذكرناه من أهل البصرة والشام والنهروان على ما شرحناه، بل ظهر منهم خلاف ذلك، لسرعة انفضاضهم عمن لقيهم من أهل الإسلام، وتفرقهم وهلاكهم بأهون سعي، وأوحى مدة، وأقرب مؤنة، على ما تواترت به الآثار، وعلمه كافة من سمع الأخبار، فبان بما وصفناه أننا مع التسليم للخصوم بما ادعوه في معنى الآية، وباعتبارهم الذي اعتمدوه، أولى بالحجة منهم في صرف تأويلها إلى إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، دون من سموه على ما قدمناه.

ولو تكافأ القولان، ولم يكن لأحدهما رجحان على صاحبه في البرهان، لكانت المكافأة مسقطه لما حكموا به من تخصيص أبي بكر وعمر ، بدلالة الآية على الترتيب الذي أصلوا الكلام عليه في الاستدلال، وهذا ظاهر جلي ولله الحمد.

- في مناقشة استدلال المخالفين بآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ على فضل من تقدم على أمير المؤمنين

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 131، 137:

فصل: فإن قال : قد قطعتم عذري في الجواب عما تعلق به خصماؤكم من تأويل هذه الآية، وأزلتم بحمد الله ما اشتبه علي من مقالهم فيها، ولكن كيف يمكنكم تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

وقد علمتم أنه لم يقاتل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا أبو بكر، فوجب أن يكون إماما وليا لله تعالى بما ضمنه التنزيل، وهذا ما لا نرى لكم عنه محيصا؟!.

قيل له: قد بينا فيما سلف وجه التأويل لهذه الآية، وذكرنا عن خيار الصحابة أنها نزلت في أهل البصرة، بما رويناه عن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وقد جاءت الأخبار بمثل ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام، ووردت بمعناه عن عبد الله بن مسعود، ودللنا أيضا على كفر محاربي أمير المؤمنين عليه السلام بما لا يخفى الصواب فيه على ذوي الإنصاف، وذلك موجب لردتهم عن الدين الذي دعا الله تعالى إليه العباد، فبطل صرف تأويلها عن هذا الوجه إلى ما سواه.

فصل: مع أن متضمن الآية وفوائدها وما يتصل بها مما بعدها يقضي بتوجهها إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه المعني بالمدحة فيها، والمشار إليه في جهاد المرتدين دون من ظنوه بغير بصيرة وتوهموه. وذلك أن الله سبحانه توعد المرتدين عن دينه بالانتقام منهم بذي صفات مخصوصة بينها في كتابه، وعرفها كافة عباده، بما يوجب لهم العلم بحقائقها، وكانت بالاعتبار الصحيح خاصة لأمير المؤمنين عليه السلام دون المدعى له ذلك بما لا يمكن دفعه إلا بالعناد:

فأولها: وصفهم بأنهم يحبون الله تعالى ويحبهم الله. وقد علم كل من سمع الأخبار اختصاص أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الوصف من الرسول صلى الله عليه وآله، وشهادته له به يوم خيبر حيث يقول: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"  فأعطاها عليا عليه السلام، ولم يرد خبر ولا جاء أثر بأنه صلى الله عليه وآله وصف أبا بكر ولا عمر ولا عثمان بمثل ذلك في حال من الأحوال، بل مجيء هذا الخبر بوصف أمير المؤمنين عليه السلام بذلك عقيب ما كان من أبي بكر وعمر في ذلك اليوم من الانهزام، وإتباعه بوصف الكرار دون الفرار، موجب لسلب الرجلين معنى هذه المدحة كما سلبهما مدحة الكر، وألزمهما ذم الفرار.

وثانيها: وصف المشار إليه في الآية باللين على المؤمنين والشدة على الكافرين، حيث يقول جل اسمه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}. وهذا وصف لا يمكن أحدا دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن استحقاقه بظاهر ما كان عليه من شدته على الكافرين، ونكايته في المشركين، وغلظته على الفاسقين، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين، ورأفته بالمؤمنين، ورحمته للصالحين. ولا يمكن أحدا ادعاؤه لأبي بكر إلا بالعصبية، أو الظن دون اليقين، لأنه لم يعرف له قتيل في الإسلام، ولا بارز قرنا، ولم ير له موقف عني فيه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله، ولا نازل بطلا، ولا سفك بيده لأحد المشركين دما، ولا كان له فيهم جريح، ولم يزل من قتالهم هاربا، ومن حربهم ناكلا، وكان على المؤمنين غليظا، ولم يكن بهم رحيما. ألا ترى ما فعله بفاطمة سيدة نساء العالمين عليه السلام وما أدخله من الذل على ولدها، وما صنع بشيعتها، وما كان من شدته على صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وعامله على الصدقات، ومن كان في حيزه من المسلمين حتى سفك دماءهم بيد المنافق الرجيم، واستباح حريمهم بما لا يوجب ذلك في الشرع والدين. فثبت أنه كان من الأوصاف على ضد ما أوجبه الله تعالى في حكمه لمن أخبر عن الانتقام به من المرتدين.

ثم صرح تعالى فيما أوصله بالآية من الذكر الحكيم ينعت أمير المؤمنين عليه السلام، وأقام البرهان الجلي على أنه عناه بذلك وأراده خاصة، بما أشار به من صفاته التي تحقق بالإنفراد بها من العالمين. فقال جل اسمه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}. فصارت الآية متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه السلام بدلالة متضمنها، وما اتصل بها على حسب ما شرحناه، وسقط توهم المخالف فيما ادعاه لأبي بكر على ما بيناه.

فصل: ويؤيد ذلك إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا بقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم من بعده، حيث جاءه سهيل بن عمرو في جماعة منهم، فقالوا: يا محمد، إن أرقاءنا لحقوا بك فأرددهم علينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لتنتهن -يا معشر قريش- أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله". فقال له بعض أصحابه: من هو -يا رسول الله- أبو بكر؟! فقال: "لا" فقال: فعمر؟! فقال: "لا، ولكنه خاصف النعل في الحجرة" وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله في الحجرة. وقوله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: "تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين". وقول الله عز وجل: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ}. وهي في قراءة عبد الله بن مسعود: "منهم بعلي منتقمون" وبذلك جاء التفسير عن علماء التأويل. وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ولم يجر لأبي بكر وعمر في حياة النبي صلى الله عليه وآله ما ذكرناه، فقد صح أن المراد بمن ذكرناه أمير المؤمنين عليه السلام خاصة على ما بيناه.

وقد صح أنه المراد بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} على ما فصلنا القول به من انتظام الكلام ودلالة معانيه، وما في السنة مما بينا الغرض فيه وشرحناه.

فصل: على أنا متى حققنا النظر في متضمن هذه الآية، ولم نتجاوز المستفاد من ظاهرها، وتأويله على مقتضى اللسان إلى القرائن من الأخبار على نحو ما ذكرناه آنفا، لم نجد في ذلك أكثر من الأخبار بوجود بدل من المرتدين في جهاد من فرض الله جهاده من الكافرين، على غير تعيين لطائفة من مستحقي القتال، ولا عموم الجماعة بما يوجب استغراق الجنس في المقال.

ألا ترى لو أن حكيما أقبل على عبيد له، وقال لهم: يا هؤلاء، من يعصني منكم ويخرج عن طاعتي فسيغنيني الله عنه بغيره ممن يطيعني، ويجاهد معي على الإخلاص في النصحية لي، ولا يخالف أمري. لكان كلامه هذا مفهوما مفيدا لحث عبيده على طاعته، وإخباره بغناه عنهم عند مخالفتهم، ووجود من يقوم مقامهم في طاعته على أحسن من طريقتهم، ولم يفد بظاهره ولا مقتضاه الأخبار بوجود من يجاهدهم أنفسهم على القطع، وإن كان محتملا لوعيدهم بالجهاد على الجواز له دون الوجوب لموضع الإشارة بذكر الجهاد إلى مستحقه. وهذا هو نظير الآية فيما انطوت عليه، ومماثل ألفاظها فيما تفضي إليه، ومن ادعى فيه خلاف ما ذكرناه لم يجد إليه سبيلا، وإن رام فيه فصلا عجز عن ذلك، ورجع بالخيبة حسيرا، ومن الله نسأل التوفيق.

- في مناقشة استدلال المخالفين بقوله تعالى مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ الآية بأنه في فضل من تقدم على أمير المؤمنين

- في الداخلين في المدح والخارجين عنه في قوله تعالى مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ الآية

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 139، 149:

فصل: فإن قال: أفليس الله تعالى يقول في سورة الفتح: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}. وقد علمت الكافة أن أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، ورؤساء من كان معه، وإذا كانوا كذلك فهم أحق الخلق بما تضمنه القرآن من وصف أهل الإيمان، ومدحهم بالظاهر من البيان، وذلك مانع من الحكم عليهم بالخطأ والعصيان؟!.

قيل لهم: إن أول ما نقول في هذا الباب أن أبا بكر وعمر وعثمان ومن تضيفه الناصبة إليهم في الفضل كطلحة والزبير وسعد وسعيد وأبي عبيدة وعبد الرحمن لا يتخصصون من هده المدحة بما خرج عنه أبو هريرة وأبو الدرداء، بل لا يتخصصون بشيء لا يعم عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة وأبا الأعور السلمي ويزيد ومعاوية بن أبي سفيان، بل لا يختصون منه بشيء دون أبي سفيان صخر بن حرب وعبد الله بن أبي سرح والوليد بن عقبة بن أبي معيط والحكم بن أبي العاص ومروان بن الحكم وأشباههم من الناس، لأن كل شيء أوجب دخول من سميتهم في مدحة اقرآن، فهو موجب دخول من سميناه، وعبد الله بن أبي سلول ومالك بن نويرة وفلان وفلان. إذ أن جميع هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن كان معه، ولأكثرهم من النصرة للإسلام والجهاد بين يدي النبي صلى الله عليه وآله والآثار الجميلة والمقامات المحمودة ما ليس لأبي بكر وعمر وعثمان، فأين موضع الحجة لخصومنا في فضل من ذكره على غيره من جملة من سميناه، وما وجه دلالتهم منه على إمامتهم، فإنا لا نتوهمه، بل لا يصح أن يدعيه أحد من العقلاء؟!.

فصل: ثم يقال لهم: خبرونا عما وصف الله تعالى به من كان مع نبيه صلى الله عليه وآله بما تضمنه القرآن، أهو شامل لكل من كان معه عليه الصلاة والسلام في الزمان، أم في الصقع والمكان، أم في ظاهر الإسلام، أم في ظاهره وباطنه على كل حال، أم الوصف به علامة تخصيص مستحقه بالمدح دون من عداه، أم لقسم آخر غير ما ذكرناه؟ فإن قالوا: هو شامل لكل من كان مع النبي صلى الله عليه وآله في الزمان أو المكان أو ظاهر الإسلام، ظهر سقوطهم وبان جهلهم وصرحوا بمدح الكفار وأهل النفاق، وهذا ما لا يرتكبه عاقل. وإن قالوا: إنه يشمل كل من كان معه على ظاهر الديانة وباطنها معا دون من عددتموه من الأقسام.

قيل لهم: فدلوا على أئمتكم وأصحابكم، ومن تسمون من أوليائكم، أنهم كانوا في باطنهم على مثل ما أظهروه من الإيمان، ثم ابنوا حينئذ على هذا الكلام، وإلا فأنتم مدعون ومتحكمون بما لا تثبت معه حجة، ولا لكم عليه دليل، وهيهات أن تجدوا دليلا يقطع به على سلامة بواطن القوم من الضلال، إذ ليس به قرآن ولا خبر عن النبي صلى الله عليه وآله، ومن اعتمد فيه على غير هذين فإنما اعتمد على الظن والحسبان.

وإن قالوا: إن متضمن القرآن من الصفات المخصوصة إنما هي علامة على مستحقي المدحة من جماعة مظهري الإسلام دون أن تكون منتظمة لسائرهم على ما ظنه الجهال.

قيل لهم: فدلوا الآن على من سميتموه كان مستحقا لتلك الصفات، لتتوجه إليه المدحة ويتم لكم فيه المراد، وهذا ما لا سبيل إليه حتى يلج الجميل في سم الخياط.

فصل: ثم يقال لهم: تأملوا معنى الآية، وحصلوا فائدة لفظها، وعلى أي وجه تخصص متضمنها من المدح، وكيف مخرج القول فيها؟ تجدوا أئمتكم أصفارا مما ادعيتموه لهم منها، وتعلموا أنهم باستحقاق الذم وسلب الفضل بدلالتها منهم بالتعظيم والتبجيل من مفهومها، وذلك أن الله تعالى ميز مثل قوم من أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله في كتبه الأولى، وثبوت صفاتهم بالخير والتقى في صحف إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، ثم كشف عنهم بما ميزهم به من الصفات التي تفردوا بها من جملة المسلمين، وبانوا بحقيقتها عن سائر المقربين. فقال سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ}. وكأن تقدير الكلام: إن الذين بينت أمثالهم في التوراة والإنجيل من جملة أصحابك ومن معك -يا محمد- هم أشداء على الكفار، والرحماء بينهم الذين تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا.

وجرى هذا في الكلام مجرى من قال: زيد بن عبد الله إمام عدل، والذين معه يطيعون الله، ويجاهدون في سبيل الله، ولا يرتكبون شيئا مما حرم الله وهم المؤمنون حقا دون من سواهم، إذ هم أولياء الله الذين تجب مودتهم دون من معه ممن عداهم، وإذا كان الأمر على ما وصفناه، فالواجب أن تستقرئ الجماعة في طلب هذه الصفات، فمن كان عليها منهم فقد توجه إليه المدح وحصل له التعظيم، ومن كان على خلافها فالقرآن إذن منبه على ذمه، وكاشف عن نقصه، ودال على موجب لومه، ومخرج له عن منازل التعظيم. فنظرنا في ذلك واعتبرناه، فوجدنا أمير المؤمنين عليه السلام وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وأبا دجانة -وهو سماك بن خرشة الأنصاري- وأمثالهم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، قد انتظموا صفات الممدوحين من الصحابة في متضمن القرآن. وذلك أنهم بارزوا من أعداء الملة الأقران، وكافحوا منهما الشجعان، وقتلوا منهم الأبطال، وسفكوا في طاعة الله سبحانه دماء الكفار، وبنوا بسيوفهم قواعد الإيمان، وجلوا عن نبيهم صلى الله عليه وآله الكرب والأحزان، وظهر بذلك شدتهم على الكفار، كما وصفهم الله تعالى في محكم القرآن، وكانوا من التواصل على أهل الإسلام والرحمة بينهم على ما ندبوا إليه، فاستحقوا الوصف في الذكر والبيان. فأما إقامتهم الصلاة وابتغاؤهم من فضل الله تعالى القربات، فلم يدفعهم عن علو الرتبة في ذلك أحد من الناس، فثبت لهم حقيقة المدح لحصول مثلهم فيما أخير الله تعالى عنهم في متقدم الكتب، واستغنينا بما عرفنا لهم مما شرحناه في استقراء غيرهم، ممن قد ارتفع في حاله الخلاف، وسقط الغرض بطلبه على الاتفاق.

ثم نظرنا فيما ادعاه الخصوم لأجل أئمتهم وأعظمهم قدرا عندهم من مشاركة من سميناه فيما ذكرنا من الصفات وبيناه، فوجدنا هم على ما قدمناه من الخروج عنها واستحقاق أضدادها على ما رسمناه. وذلك أنه لم يكن لأحد منهم مقام في الجهاد، ولا عرف لهم قتيل من الكفار، ولا كلم كلاما في نصرة الإسلام، بل ظهر منه الجزع في مواطن القتال، وفر في يوم خيبر واحد وحنين، وقد نهاهم الله تعالى عن الفرار، وولوا الأدبار مع الوعيد لهم على ذلك في جلي البيان، وأسلموا النبي صلى الله عليه وآله للحتوف  في مقام بعد مقام، فخرجوا بذلك عن الشدة على الكفار، وهان أمرهم على أهل الشرك والضلال، وبطل أن يكونوا من جملة المعنين بالمدحة في القرآن ولو كانوا على سائر ما عدا ما ذكرناه من باقي الصفات، وكيف وأنى يثبت لهم شيء منها بضرورة ولا استدلال، لأن المدح إنما توجه إلى من حصل له مجموع الخصال في الآية دون بعضها، وفي خروج القوم من البعض بما ذكرناه مما لا يمكن دفعه إلا بالعناد وجوب الحكم عليهم بالذم بما وصفناه؟! وهذا بين جلي والحمد لله.

فصل: ثم يقال لهم: قد روى مخالفوكم عن علماء التفسير من آل محمد عليهم السلام أن هذه الآية إنما نزلت في أمير المؤمنين والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام من بعدهم خاصة دون سائر الناس، وروايتهم لما ذكرنا عمن سمينا أولى بالحق والصواب مما ادعيتموه بالتأويل والظن الحسبان والرأي، لإسنادهم مقالتهم في ذلك إلى من ندب النبي صلى الله عليه وآله إلى الرجوع إليه عند الاختلاف، وأمر باتباعه في الدين، وأمن متبعه من الضلال. ثم إن دليل القرآن يعضده البيان، وذلك إن الله تعالى أخبر عمن ذكره بالشدة على الكفار، والرحمة لأهل الإيمان، والصلاة له، والاجتهاد في الطاعات، بثبوت صفته في التوراة والإنجيل، وبالسجود لله تعالى وخلع الأنداد، ومحال وجود صفة ذلك لمن سجوده للأوثان، وتقربه للات والعزى دون الله الواحد القهار، لأنه يوجب الكذب في المقال، أو المدحة بما يوجب الذم من الكفر والعصيان.

وقد اتفقت الكافة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا وأبا عبيدة وعبد الرحمن قد عبدوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله الأصنام، وكانوا دهرا طويلا يسجدون للأوثان من دون الله تعالى، ويشركون به الأنداد، فبطل أن تكون أسماؤهم ثابتة في التوراة والإنجيل بذكر السجود على ما نطق به القرآن. وثبت لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام ذلك، للاتفاق على أنهم لم يعبدوا قط غير الله تعالى، ولا سجدوا لأحد سواه، وكان مثلهم في التوراة والإنجيل واقعا موقعه على ما وصفناه، مستحقا به المدحة قبل كونه لما فيه من الإخلاص لله سبحانه على ما بيناه. ووافق دليل ذلك برهان الخبر عمن ذكرناه من علماء آل محمد صلوات الله عليهم، بما دل به النبي صلى الله عليه وآله من مقاله الذي اتفق العلماء عليه، وهذا أيضا مما لا يمكن التخلص منه مع الإنصاف.

فصل على أنه يقال لهم : خبرونا عن طلحة والزبير، أهما داخلان في جملة الممدوحين بقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} إلى آخره، أم غير داخلين في ذلك؟ فإن قالوا: لم يدخل طلحة والزبير ونحوهما في جملة القوم. خرجوا من مذاهبهم، وقيل لهم: ما الذي أخرجهم من ذلك وأدخل أبا بكر وعمر وعثمان، فكل شيء تدعونه في استحقاق الصفات، فطلحة والزبير أشبه أن يكونا عليها منهم، لما ظهر من مقاماتهم في الجهاد الذي لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان فيه ذكر على جميع الأحوال؟! فلا يجدون شيئا يعتمدون عليه في الفرق بين القوم أكثر من الدعوى الظاهرة الفساد.

وإن قالوا: إن طلحة والزبير في جملة القوم الممدوحين بما في الآي. قيل لهم: فهلا عصمهما المدح الذي ادعيتموه لهم من دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه، وإنكار إمامته، واستحلال حربه، وسفك دمه، والتدين بعداوته على أي جهة شئتم: كان ذلك من تعمد، أو خطأ، أو شبهة، أو عناد، أو نظر، أو اجتهاد!.

فإن قالوا: إن مدح القرآن -على ما يزعمون- لم يعصمهما من ذلك، ولا بد من الاعتراف بما ذكرناه، لأن منع دفعه جحد الاضطرار.

قيل لهم: فبما تدفعون أن أبا بكر وعمر وعثمان قد دفعوا أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه، وتقدموا عليه وكان أولى بالتقدم عليهم، وأنكروا إمامته وقد كانت ثابتة، و دفعوا النصوص عليه وهي له واجبة، ولم يعصمهم ذلك، ثم توجه المدح لهم من الآية، كما لم يعصم طلحة والزبير مما وصفناه ووقع منهم في إنكار حق أمير المؤمنين عليه السلام، كما وقع من الرجلين المشاركين لهم فيما ادعيتموه من مدح القرآن وعلى الوجه الذي كان منهما ذلك من تعمد أو خطأ أو شبهة أو اجتهاد أو عناد؟ وهذا ما لا سبيل لهم إلى دفعه، وهو مبطل لتعلقهم بالآية ودفع أئمتهم عن الضلالة، وإن سلم لهم منها ما تمنوه تسليم جدل للاستظهار.

فصل: ويؤكد ذلك أن الله تعالى مدح من وصف بالآية بما كان عليه في الحال، ولم يقض بمدحه له على صلاح العواقب، ولا أوجب العصمة له من الضلال، ولا استدامة لما استحق به المدحة في الاستقبال. ألا ترى أنه سبحانه قد اشترط في المغفرة لهم والرضوان الإيمان في الخاتمة، ودل بالتخصيص لمن اشترط له ذلك، على أن في جملتهم من يتغير حاله فيخرج عن المدح إلى الذم واستحقاق العقاب، فقال تعالى فيما اتصل به من وصفهم ومدحهم بما ذكرناه من مستحقهم في الحال: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فبعضهم في الوعد ولم يعمهم به، وجعل الأجر مشترطا لهم بالأعمال الصالحة، ولم يقطع على الثبات، ولو كان الوصف لهم بما تقدم موجبا لهم الثواب، ومبينا لهم المغفرة والرضوان، لاستحال الشرط فيهم بعده وتناقض الكلام، وكان التخصيص لهم موجبا بعد العموم ظاهر التضاد، وهذا ما لا يذهب إليه ناظر، فبطل ما تعلق به الخصم من جميع الجهات، وبان تهافته على اختلاف المذاهب في الأجوبة والاسقاطات، والمنة لله.

- في مناقشة استدلال المخالفين بقوله تعالى لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا الآية بأنه في فضل من تقدم على أمير المؤمنين

- في رد دعوى أنفاق أبي بكر وعمر  قبل الفتح وقتالهما الكفار

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 151، 159:

مسألة أخرى: وقد تعلق هؤلاء القوم أيضا بعد الذي ذكرناه عنهم فيما تقدم من الآي بقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. فزعموا بجهلهم أن هذه الآية دالة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا و عبد الرحمن وأبا عبيدة بن الجراح من أهل الجنة على القطع والثبات، إذ كانوا ممن أسلم قبل الفتح، وأنفقوا وقاتلوا الكفار، وقد وعدهم الله الحسنى -وهي الجنة وما فيها من الثواب- وذلك مانع من وقوع معصية منهم يجب عليه بها العقاب، وموجب لولايتهم في الدين وحجيتهم على كل حال...

فصل: فيقال لهم: إنكم بنيتم كلامكم في تأويل هذه الآية وصرف الوعد فيها إلى أئمتكم على دعويين: إحداهما: مقصورة عليكم لا يعضدها برهان، ولا تثبت بصحيح الاعتبار.

والأخرى: متفق على بطلانها، لا تنازع في فسادها ولا اختلاف، ومن كان أصله فيما يعتمده ما ذكرناه، فقد وضح جهله لذوي الألباب.

فأما الدعوى الأولى: فهي قولكم أن أبا بكر وعمر قد أنفقا قبل الفتح، وهذا ما لا حجة فيه بخبر صادق ولا كتاب، ولا عليه من الأمة إجماع، بل الاختلاف فيه موجود، والبرهان على كذبه لائح مشهود.

وأما الدعوى الأخيرة: وهي قولكم أنهما قاتلا الكفار فهذه مجمع على بطلانها غير مختلف في فسادها، إذ ليس يمكن لأحد من العقلاء أن يضيف إليهما قتل كافر معروف، ولا جراحة مشرك موصوف، ولا مبارزة قرن ولا منازلة كفؤ، ولا مقام مجاهد.

وأما هزيمتهما من الزحف فهي أشهر وأظهر من أن يحتاج فيه إلى الاستشهاد، وإذا خرج الرجلان من الصفات التي تعلق الوعد بمستحقها من جملة الناس، فقد بطل ما بنيتم على ذلك من الكلام،  وثبت بفحوى القرآن ودلائله استحقاقهما الوعيد بضد ما استحقه أهل الطاعة.

فصل: على أن اعتلالكم يوجب عموم الصحابة كلها بالوعد، ويقضي لهم بالعصمة من كل ذنب، لأنهم بأسرهم بين رجلين: أحدهما أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل، والآخر كان ذلك منه بعد الفتح، ومن دفع منهم عن ذلك كانت حاله حال أبي بكر وعمر وعثمان في دفع الشيعة لهم عما أضافه إليهم أشياعهم من الإنفاق لوجه الله تعالى، وإذا كان الأمر على ما وصفناه، وكان القرآن ناطقا بأن الله تعالى قد وعد جماعتهم الحسنى، فكيف يختص بذلك من سميتموه، لو لا العصبية والعناد؟!

فصل: ثم يقال لهم: إن كان لأبي بكر وعمر وعثمان الوعد بالثواب، لما ادعيتموه لهم من الإنفاق والقتال، وأوجب ذلك عصمتهم من الآثام، لأوجب ذلك لأبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية  وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص أيضا، بل هو لهؤلاء أوجب، وهم به أحق من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممن سميتموه، لما نحن مثبتوه في المقال.

وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن أبا سفيان أسلم قبل الفتح بأيام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله الأمان لمن دخل داره تكرمة له وتمييزا عمن سواه، وأسلم معاوية قبله في عام القضية وكذلك كان إسلام يزيد بن أبي سفيان. وقد كان لهؤلاء الثلاثة من الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان، لأن أبا سفيان أبلى يوم حنين بلاء حسنا، وقاتل يوم الطائف قتالا لم يسمع بمثله في ذلك اليوم لغيره، وفيه ذهبت عينه، وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وآله مع ابنه يزيد بن أبي سفيان، وهو يقدم بها بين يدي المهاجرين والأنصار.

وقد كان أيضا لأبي سفيان بعد النبي صلى الله عليه وآله مقامات ومعروفة في الجهاد، وهو صاحب يوم اليرموك، وفيه ذهبت عينه الأخرى، وجاءت الأخبار أن الأصوات خفيت فلم يسمع إلا صوت أبي سفيان، وهو يقول: يا نصر الله اقترب. والراية مع ابنه يزيد، وقد كان له بالشام وقائع مشهورات. ولمعاوية من الفتوح بالبحر وبلاد الروم والمغرب والشام في أيام عمر وعثمان وأيام إمارته وفي أيام أمير المؤمنين عليه السلام وبعده ما لم يكن لعمر ابن الخطاب. وأما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص فشهرة قتالهما مع النبي صلى الله عليه وآله وبعده تغني الإطالة بذكرها في هذا الكتاب، وحسب عمرو بن العاص في فضله على أبي بكر وعمر تأمير رسول الله صلى الله عليه وآله إياه عليهما في حياته ولم يتأخر إسلامه عن الفتح فيكون لهما فضل عليه بذلك، كما يدعى في غيره. وأما خالد بن الوليد فقد أمره رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته، وأنفذه في سرايا كثيرة. ولم ير لأبي بكر وعمر ما يوجب تقديمهما على أحد في أيامه صلى الله عليه وآله، فإن أنصف الخصوم جعلوا ما عددناه لهؤلاء القوم فضلا على من سموه في متضمن الآي، وإلا فالتسوية واجبة بينهم في ذلك على كل حال، وهذا يسقط تعلقهم بالتخصيص فيما سلمناه لهم تسليم جدل من التفضيل على ما أدعوه في التأويل، وإن القول فيه ما قدمناه.

فصل: ثم يقال لهم: أليست الآية قاضية بالتفضيل ودالة على الثواب والأجر لمن جمع بين الإنفاق والقتال معا، ولم يفرد أحدهما عن الآخر، فيكون مختصا به على الانفراد؟! فلا بد من أن يقولوا: بلى. وإلا خالفوا ظاهر القرآن.

فيقال لهم: هب أنا سلمنا لكم أن لأبي بكر وعمر وعثمان إنفاقا، ولم يصح ذلك بحجة من خبر صادق ولا إجماع ولا دليل قرآن، وإنما هي دعوة عرية عن البرهان، فأي قتال لهم قبل الفتح أو بعده مع النبي صلى الله عليه وآله حتى يكونوا بمجموع الأمرين مستحقين للتفضيل على غيرهم من الناس؟! فإن راموا ذكر قتال بين يدي النبي صلى الله عليه وآله لم يجدوا إليه سبيلا على الوجوه كلها والأسباب، اللهم إلا أن يقولوا ذلك على التخرص والبهت بخلاف ما عليه الإجماع، وذلك باطل بالاتفاق.

ثم يقال لهم: قد كان للرسول صلى الله عليه وآله مقامات في الجهاد، وغزوات معروفات، ففي أيها قاتل أبو بكر وعمر وعثمان، أفي بدر، فليس لعثمان فيها ذكر واجتماع، ولم يحضرها باتفاق، وأبو بكر وعمر كانا في العريش محبوسين عن القتال، لأسباب تذكرها الشيعة، وتدعون أنتم خلافا لما تختصون به من الاعتقاد؟! أم بأحد فالقوم بأسرهم ولوا الأدبار، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وآله سوى أمير المؤمنين عليه السلام، وانضاف إليه نفر من الأنصار؟! أم بخيبر وقد عرف العلماء ومن خالطهم من العامة ما كان من أمر أبي بكر وعمر فيها من الفساد والرجوع من الحرب والانهزام، حتى غضب النبي صلى الله عليه وآله، وقال: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه" فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام، وكان الفتح على يديه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله؟! أم في يوم الأحزاب فلم يكن لفرسان الصحابة وشجعانها ومتقدميها في الحرب إقدام في ذلك اليوم سوى أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه خاصة، وقتله عمرو بن عبد ود، ففتح الله بذلك على أهل الإسلام؟! أم في يوم حنين فأصل هزيمة المسلمين كانت فيه بمقال من أبي بكر، واغتراره بالجمع، واعتماده على كثرة القوم دون نصر الله ولطفه وتوفيقه، ثم انهزم هو وصاحبه أول الناس، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله إلا تسعة نفر من بني هاشم، أحدهم أمير المؤمنين عليه السلام، وثبتوا به في ذلك المقام؟! ثم ما بين هذه الغزوات وبعدها، فحال القوم فيها في التأخر عن الجهاد ما وصفناه لغيره من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم ومسلمة الفتح، وأضرابهم من الناس وطبقات الأعراب في القتال والإنفاق، وما هو مشهور عند نقلة الآثار، وقد نقلنا لأبي سفيان وولديه في هذا الباب ما لا يمكن دعوى مثله لأبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمناه وشرحناه. وإذا لم يكن للقوم من معاني الفضل ما يوجب لهم الوعد بالحسنى على ما نطق به القرآن، ولا اتفق لهم الجمع بين الإنفاق والقتال بالإجماع وبالدليل الذي ذكرناه، فقد ثبت أن الآية كاشفة عن نقصهم، دالة على تعريتهم مما يوجب الفضل، ومنبهة على أحوالهم المخالفة لأحوال مستحقي التعظيم والثواب.

فصل: ثم يقال لهم أيضا: أخبرونا عن عمر بن الخطاب، بما ذا قرنتموه بأبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، فيما ادعيتموه لهم من الفضل في تأويل الآية، ولم يكن له قتال قبل الفتح ولا بعده، ولا ادعى له أحد إنفاقا على كل حال!.

وهب أن الشبهة دخلت عليكم في أمر أبي بكر بما تدعونه من الإنفاق، وفي عثمان ما كان منه من النفقة في تبوك، وفي طلحة والزبير وسعيد بالقتال، أي شبهة دخلت عليكم في عمر بن الخطاب، ولا إنفاق له ولا قتال؟! وهل ذكركم إياه في القوم إلا عصبية وعنادا وحمية في الباطل، وإقداما على التخرص في الدعاوى والبهتان.

فصل آخر: ثم يقال لهم: خبرونا عن طلحة والزبير ما توجه إليهما من الوعد بالحسنى في الآية على ما ادعيتموه للجماعة، وهل عصمهما ذلك من خلاف أمير المؤمنين عليه السلام وحربه، وسفك دماء أنصاره وشيعته، وإنكار حقوقه التي أوجبها الله تعالى له ودفع إمامته؟! فإن قالوا: لم يقع من الرجلين شيء من ذلك، وكانا معصومين عن جميعه. كابروا وقبحت المناظرة لهم، لأنهم اعتمدوا العناد في ذلك ودفعوا علم الاضطرار. وإن قالوا: إن الوعد من الله سبحانه لطلحة والزبير بالحسنى لم يمنعهما من سائر ما عددناه، للاتفاق منهم على وقوعه من جهتهما والإجماع.

قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون ذلك أيضا غير عاصم لأبي بكر وعمر وعثمان مع دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه، وإنكار فضله، وجحد إمامته والنصوص عليه، ولا يمنع التسليم لكم ما ادعيتموه من دخولهم في الآية، وتوجه المدحة إليهم منها، والوعد بالحسنى والنعيم على غاية منيتكم، فيما ذكرته الشيعة في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وحال المتقدمين عليه، كما رتبنا ذلك فيما تقدم من السؤال، فلا يجدون منه مهربا.

فصل: وقد زعم بعض الناصبة أن الآية قاضية بفضل أبي بكر على أمير المؤمنين عليه السلام، فإن زعم أن أبا بكر له إنفاق بالإجماع وقتال مع النبي صلى الله عليه وآله، وأن عليا لم يكن له إنفاق على ما زعم وكان له قتال، ومن جمع الأمرين كان أفضل من المنفرد بأحدهما على النظر الصحيح والاعتبار.

فيقال له: أما قتال أمير المؤمنين عليه السلام وظهور جهاده مع النبي صلى الله عليه وآله واشتهاره فمعلوم بالاضطرار، وحاصل عليه من الآية بالإجماع والاتفاق، وليس لصاحبك قتال بين يدي النبي صلى الله عليه وآلهباتفاق العلماء، ولا يثبت له جهاد بخبر ولا قرآن، ولا يمكن لأحد ادعاء ذلك له على الوجوه كلها والأسباب، إلا أن يتخرص باطلا على الظن والعناد.

وأما الإنفاق فقد نطق به القرآن لأمير المؤمنين عليه السلام في آية النجوى بإجماع علماء القرآن، وفي آية المنفقين بالليل والنهار، وجاء التفسير بتخصيصها فيه عليه السلام، ونزل الذكر بزكاته عليه السلام في الصلاة، وصدقته على المسكين واليتيم والأسير في: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ}. وليس يثبت لأبي بكر إنفاق يدل عليه القرآن بظاهره، ولا قطع العذر به من قول إمام صادق في الخبر عن معناه، ولا يدل عليه تواتر ولا إجماع، مع حصول العلم الضروري بفقر أبي بكر، وما كان عليه من الاضطرار المانع لصحة دعوى الناصبة له ذلك، حسب ما تخرصوه في المقال، ولا فرق بين من ادعى لأبي بكر القتال مع ما بيناه ومن ادعى مثل ذلك لحسان، وبين من ادعى له الإنفاق مع ما بيناه ومن ادعى مثله لأبي هريرة وبلال.

وإذا كانت الدعوى لهذين الرجلين على ما ذكرناه ظاهرة البطلان، فكذلك ما شاركهما في دلالة الفساد من الدعوى لأبي بكر على ما وصفناه، فبطل مقال من ادعى له الفضل في الجملة، فضلا عمن ادعاه له على أمير المؤمنين عليه السلام على ما بنى عليه الناصب الكلام، وبان جهله، والله الموفق للصواب.

- في مناقشة استدلال المخالفين بآية وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ على فضل أبي بكر

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 163، 170:

مسألة: فإن قالوا: وجدنا الله تعالى قد مدح أبا بكر في مسارعته إلى تصديق النبي صلى الله عليه وآله، وشهد له بالتقوى على القطع والثبات، فقال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وإذا ثبت أن هذه الآية نزلت في أبي بكر على ما جاء به الأثر، استحال أن يجحد فرض الله تعالى، وينكر واجبا، ويظلم في أفعاله، ويتغير عن حسن أحواله، وهذا ضد ما دعونه عليه وتضيفونه إليه من جحد النص على أمير المؤمنين عليه السلام فقولوا في ذلك كيف شئتم لنقف عليه جواب.

قيل لهم: قد أعلمناكم فيما سلف أن تأويل كتاب الله تعالى لا يجوز بأدلة الرأي، ولا تحمل معانيه على الأهواء، ومن قال فيه بغير علم فقد غوى، والذي ادعيتموه من نزول هذه الآية في أبي بكر على الخصوص فهذا راجع إلى الظن، والعمل عليه غير صادر عن اليقين، وما اعتمدتموه من الخبر فهو مخلوق، وقد سبرنا الأخبار ونخلنا الآثار فلم نجده في شيء منها معروف، ولا له ثبوت من عالم بالتفسير موصوف، ولا يتجاسر أحد من الأمة على إضافته إلى النبي صلى الله عليه وآله فإن عزاه إلى غيره فهو كداود ومقاتل بن سليمان وأشباههما من المشبهة الضلال، والمجبرة الاغفال الذين أدخلوا في تأويل كلام الله تعالى الأباطيل، وحملوا معانيه على ضد الحق والدين، وضمنوا تفسيرهم الكفر بالله العظيم، والشناعة للنبيين والملائكة المقربين عليهم السلام أجمعين، ومن اعتمد في معتقده على دعاوى ما وصفناه فقد خسر الدنيا والآخرة بما بيناه، وبالله العصمة وإياه نسأل التوفيق.

فصل: على أن أكثر العامة وجماعة الشيعة يروون عن علماء التأويل وأئمة القول في معاني التنزيل أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام على الخصوص، وإن جرى حكمها في حمزة وجعفر وأمثالهما من المؤمنين السابقين، وهذا يدفع حكم ما ادعيتموه لأبي بكر ويضاده، ويمنع من صحته ويشهد بفساده، ويقضي بوجوب القول به دون ما سواه، إذا كان واردا من طريقين، ومصطلحا عليه من طائفتين مختلفين، ومتفقا عليه من الخصمين المتباينين، فحكمه بذلك حكم الإجماع، وما عداه فهو من طريق -كما وصفناه- مقصور على دعوى الخصم خاصة بما بيناه، وهذا ما لا يحيل الحق فيه على أحد من العقلاء، فممن روى ذلك على ما شرحناه: إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن السدي، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}. قال: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ورواه عبيدة بن حميد، عن منصور، عن مجاهد، مثل ذلك سواء. وروى سعيد، عن الضحاك، مثل ذلك أيضا. وروى أبو بكر الحضرمي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ} "هو رسول الله صلى الله عليه وآله، صدق به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام". وروى علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، مثل ذلك سواء...

مسألة: فإن قال قائل منهم: كيف يتم لكم تأويل هذه الآية في أمير المؤمنين عليه السلام، وهي تدل على أن الذي فيه قد كانت له ذنوب كفرت عنه بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث يقول الله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومن قولكم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يذنب ذنبا، ولا قارف معصية، صغيرة ولا كبيرة ، على خطأ ولا عمد، فكيف يصح أن الآية -مع ما وصفنا- فيه؟!

جواب: قيل لهم: لسنا نقول في عصمة أمير المؤمنين عليه السلام بأكثر من قولنا في عصمة النبي صلى الله عليه وآله، ولا نزيد على قول أهل العدل في عصمة الرسل عليهم السلام من كبائر الآثام، وقد قال الله تعالى في نبيه  صلى الله عليه وآله {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}. وقال تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}. وقال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}. فظاهر هذا الكلام يدل على أنه قد قارف الكبائر، وقد ثبت أنه مصروف عن ظاهره بضروب من البرهان، فكذلك القول فيما تضمنته الآية في أمير المؤمنين عليه السلام.

وجه آخر: أن المراد بذكر التكفير إنما هو ليؤكد التطهير له صلوات الله عليه من الذنوب، وهو وإن كان لفظه لفظ الخبر على الإطلاق، فإنه مشترط بوقوع الفعل لو وقع، وإن كان المعلوم أنه غير واقع أبدا للعصمة، بدليل العقل الذي لا يقع فيه اشتراط.

وجه آخر: وهو أن التكفير المذكور بالآية إنما تعلق بالمحسنين الذين أخبر الله تعالى بجزائهم من التنزيل، وجعله جزاء للمعني بالمدح للتصديق دون أن يكون متوجها إلى المصدق المذكور، وهذا يسقط ما توهمه الخصوم.

فصل: وقد روى أصحاب الحديث من العامة عن طرقهم خاصة أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وحده دون غيره من سائر الناس. فروى علي بن الحكم، عن أبي هريرة، قال: بينا هو يطوف بالبيت إذ لقيه معاوية بن أبي سفيان، فقال له أبو هريرة: يا معاوية، حدثني الصادق المصدق والذي جاء بالصدق وصدق به: أنه يكون أمرا يود أحدكم لو علق بلسانه منذ خلق الله السماوات والأرض، وأنه لم يل ما ولي. ورووا عن السدي وغيره من السلف، عن قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قال: جاء بالصدق عليه السلام، وصدق به نفسه عليه السلام. وفي حديث لهم آخر، قالوا: جاء محمد صلى الله عليه وآله بالصدق، وصدق به يوم القيامة إذا جاء به شهيدا.

فصل: وقد رووا أيضا في ذلك ما اختصوا بروايته دون غيرهم، عن مجاهد في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أنه رسول الله صلى الله عليه وآله، والذي صدق به أهل القرآن، يجيئون به يوم القيامة، فيقولون: هذا الذي دعوتمونا إليه قد اتبعنا ما فيه.

فصل: وقد زعم جمهور متكلمي العامة وفقهائهم أن الآية عامة في جميع المصدقين برسول الله صلى الله عليه وآله، وتعلقوا في ذلك بالظاهر أو العموم، وبما تقدمه من قول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. وإذا كان الاختلاف بين روايات العامة وأقاويلهم في تأويل هذه الآية على ما شرحناه، وإذا تناقضت أقوالهم فيه بما بيناه سقط جميعها بالمقابلة والمكافأة، وثبت تأويل الشيعة للاتفاق الذي ذكرناه، ودلالته على الصواب حسب ما وصفناه، والله الموفق للصواب.

مسألة: فإن قال قائل منهم: كيف يتم لكم تأويل هذه الآية في أمير المؤمنين عليه السلام، وهي تدل على أن الذي فيه قد كانت له ذنوب كفرت عنه بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث يقول الله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومن قولكم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يذنب ذنبا، ولا قارف معصية، صغيرة ولا كبيرة، على خطأ ولا عمد، فكيف يصح ان الآية -مع ما وصفنا- فيه؟!

جواب: قيل لهم: لسنا نقول في عصمة أمير المؤمنين عليه السلام بأكثر من قولنا في عصمة النبي صلى الله عليه وآله، ولا نزيد على قول أهل العدل في عصمة الرسل عليهم السلام من كبائر الآثام، وقد قال الله تعالى في نبيه صلى الله عليه وآله {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}. وقال تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}. وقال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}.

فظاهر هذا الكلام يدل على أنه قد قارف الكبائر، وقد ثبت أنه مصروف عن ظاهره بضروب من البرهان، فكذلك القول فيما تضمنته الآية في أمير المؤمنين عليه السلام.

وجه آخر: أن المراد بذكر التكفير إنما هو ليؤكد التطهير له صلوات الله عليه من الذنوب، وهو وإن كان لفظه لفظ الخبر على الإطلاق، فإنه مشترط بوقوع الفعل لو وقع، وإن كان المعلوم أنه غير واقع أبدا للعصمة، بدليل العقل الذي لا يقع فيه اشتراط.

وجه آخر: وهو أن التكفير المذكور بالآية إنما تعلق بالمحسنين الذين أخبر الله تعالى بجزائهم من التنزيل، وجعله جزاء للمعني بالمدح للتصديق دون أن يكون متوجها إلى المصدق المذكور، وهذا يسقط ما توهمه الخصوم.

- في مناقشة استدلال المخالفين بآية فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى على فضل أبي بكر

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 171، 173:

مسألة أخرى: فإن قالوا: فما عندكم في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} مع ما جاء في الحديث أنها نزلت في أبي بكر على التخصيص، وهذا ظاهر عند الفقهاء وأهل التفسير؟.

الجواب: قيل لهم في ذلك كالذي قبله، وهو من دعاوى العامة بغير بينة ولا حجة تعتمد ولا شبهة، وليس يمكن إضافته إلى صادق عن الله سبحانه، ولا فرق بين من ادعاه لأبي بكر وبين من ادعاه لأبي هريرة، أو المغيرة بن شعبة، أو عمرو بن العاص، أو معاوية بن أبي سفيان، في تعري دعواه عن البرهان، وحصولها في جملة الهذيان، مع أن ظاهر الكلام يقتضي عمومه في كل معط من أهل التقوى والإيمان، وكل من خلا من الكفر والطغيان، ومن حمله على الخصوص فقد صرفه عن الحقيقة إلى المجاز، ولم يقنع منه فيه إلا بالجلي من البرهان...

فصل: على أن أصحاب الحديث من العامة قد رووا ضد ذلك عن عبد الله بن عباس وأنس بن مالك وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، قد ذكروا أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وسمرة بن جندب، وأخبروا عن سبب نزولها فيهما بما يطول شرحه، وأبو الدحداح الأنصاري هو الذي أعطى واتقى، وسمرة بن جندب هو الذي بخل واستغنى، وفي روايتهم لذلك إسقاط لما رواه بعضهم من خلافه في أبي بكر، ولم يسنده إلى صحابي معروف، ولا إمام من أهل العلم موصوف، وهذا بين لمن تدبره.

فصل: مع أنه لو كانت الآية نازلة في أبي بكر على ما ادعاه الخصوم، لوجب ظهورها فيه على حد يدفع الشبهة والشكوك، ويحصل معه اليقين بسبب ذلك، والمعنى الذي لأجله نزل التنزيل وأسباب ذلك متوفرة من الرغبة في نشره، والأمان من الضرر في ذكره، ولما لم يكن ظهوره على ما وصفناه دل على بطلانه بما بيناه، والحمد لله.

- في مناقشة استدلال المخالفين بآية وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ على فضل أبي بكر

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 175، 183:

مسألة أخرى: فإن قالوا: أفليس قد وردت الأخبار بأن أبا بكر كان يعول على مسطح ويتبرع عليه، فلما قذف عائشة في جملة أهل الإفك امتنع من بره، وقطع عنه معروفه، وآلى في الامتناع من صلته، فأنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وأخبر أن أبا بكر من أهل الفضل والدين والسعة في الدنيا، وبشره بالمغفرة والأجر العظيم، وهذا أيضا يضاد معتقدكم فيه.

جواب: قيل لهم: لسنا ندفع أن الحشوية قد روت ذلك، إلا أنها لم تسنده إلى الرسول صلى الله عليه وآله، ولا روته عن حجة في الدين، وإنما أخبرت به عن مقاتل والضحاك وداود الحواري والكلبي وأمثالهم ممن فسر القرآن بالتوهم، وأقدم على القول فيه بالظن والتخرص حسب ما قدمناه. وهؤلاء بالإجماع ليسوا من أولياء الله المعصومين ولا أصفيائه المنتجبين، ولا ممن يلزم المكلفين قولهم والاقتداء بهم على كل حال في الدين، بل هم ممن يجوز عليه الخطأ وارتكاب الأباطيل.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يضرنا ما ادعوه في التفسير، ولا ينفع خصومنا على ما بيناه ممن يوجب اليقين، على أن الآثار الصحيحة والروايات المشهورة والدلائل المتواترة قد كشفت عن فقر أبي بكر ومسكنته، ورقة حاله وضعف معيشته، فلم يختلف أهل العلم أنه كان في الجاهلية معلما، وفي الإسلام خياطا، وكان أبوه صيادا، فلما كف بذهاب بصره وصار مسكينا محتاجا، قبضه عبد الله بن جدعان لندي الأضياف إلى طعامه، وجعل له في كل يوم على ذلك أجرا درهما، ومن كانت حاله في معيشته على ما وصفناه، وحال أبيه على ما ذكرناه، خرج عن جملة أهل السعة في الدنيا، ودخل في الفقراء فما أحوجهم إلى المسألة والاجتداء، وهذا يبطل ما توهموه...

فصل: على أن ظاهر الآية معناها موجب لتوجهها إلى الجماعة دون الواحد، والخطاب بها يدل على تصريحه على ذلك، فمن تأول القرآن بما يزيله عن حقيقته، وادعى المجاز فيه والاستعارة بغير حجة قاطعة، فقد أبطل بذلك وأقدم على المحظور وارتكب الضلال.

فصل: على أنا لو سلمنا لهم أن سبب نزول هذه الآية امتناع أبي بكر من بر مسطح، والإيلاء منه بالله تعالى لا يبره ويصله، لما أوجب من فضل أبي بكر ما ادعوه، ولو أوجبه لمنعه من خطأه في الدين، وإنكاره النص على أمير المؤمنين عليه السلام، وجحده ما لزمه والإقرار به على اليقين، للإجماع على أن ذلك غير عاصم من الضلال، ولا مانع من مقارفة الآثام، فأين موضع التعلق بهذا التأويل في دفع ما وصفناه آنفا لو لا الحيرة والصد عن السبيل؟.

فصل: وبعد: فليس يخلو امتناع أبي بكر عيلولة مسطح والإنفاق عليه من أن يكون مرضيا لله تعالى، وطاعة له ورضوانا، أو أن يكون سخطا لله ومعصية وخطأ ، فلو كان مرضيا لله سبحانه وقربة إليه لما زجر عنه وعاتب عليه، وأمر بالانتقال عنه وحض على تركه وإذا لم يك لله تعالى طاعة، فقد ثبت أنه معصية مسخوطة وفساد في الدين، وهذا دال على نقص الرجل وذمه، وهو بالضد مما توهموه.

فصل: ويؤكد ذلك أن الله عز وجل رغب للنهي عن قطيعة من سماه في صلته في المغفرة إذا انتهى عما نهاه عنه، وصار إلى مثل ما أمره به، حيث يقول: {أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}. فلولا أنه كان مستحقا للعقاب لما جعل المغفرة له بشرط الانتقال، وإذا لم تتضمن الآية انتقاله مع ما دلت عليه، قبحت حاله وصارت وبالا عليه ، حسب ما ذكرناه.

فصل: فأما ادعاؤهم أن الله تعالى شهد لأبي بكر بأنه من أهل الفضل والسعة ، فليس الأمر كما ظنوه، وذلك لقوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} إنما هو نهي يختص بذكر أهل الفضل والسعة، يعم في المعنى كل قادر عليه، وليس بخبر في الحقيقة ولا المجاز. وإنما يختص بذكر ما سميناه على حسب اختصاص الأمر بالطاعات بأهل الإيمان حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}. وإن كان المعني من الأمر بذلك عاما لجميع المكلفين، والمراد في الاختصاص من اللفظ ما ذكرناه ملاءمة الوصف لما دعا إليه من الأعمال، وهو يجري مجرى قول القائل لمن يريد تأديبه ووعظه: لا ينبغي لأهل العقل والمروءة والسداد أن يرتكبوا الفساد، ولا يجوز لأهل الدين والعفاف أن يأتوا قبائح الأفعال، وإن كان المخاطب بذلك ليس من أهل المروءة والسداد، ولا أهل الديانة والعفاف، وإنما خص بالمنكر ما وصفناه لما قدمناه وبيناه. فيعلم أن ما تعلق به المخالف فيما ادعاه من فعل أبي بكر من لفظ القرآن على خلاف ما توهمه وظنه، وأنه ليس من الخبر في شيء على ما بيناه.

وأما قولهم: أن أبا بكر كان من أهل السعة في الدنيا بظاهر القرآن، فالقول فيه كالمتقدم سواء، ومن بعد ذلك فإن الفضل والسعة والنقص والفقر من باب التضايف، فقد يكون الإنسان من ذوي الفضل بالإضافة إلى من دونه من أهل الضائقة والفقر، ويكون مع ذلك مسكينا بالإضافة إلى من هو أوسع حالا منه، وفقيرا إلى من هو محتاج إليه. وإذا كان الأمر على ما وصفناه، لم ينكر وصف أبي بكر بالسعة عند إضافة حاله إلى مسطح وأنظاره من المضطرين بالفقر ومن لا معيشة له ولا عائدة عليه، كما يكون السقف سماء لمن هو تحته، وتحتا لمن هو فوقه ويكون الخفيف ثقيلا عندما هو أخف منه وزنا، والقصير طويلا بالإضافة إلى من هو أقصر منه، وهذا ما لا يقدح في قول الشيعة، ودفعها الناصبة عما ادعته لأبي بكر من الإحسان والإنفاق على النبي صلى الله عليه وآله، حسب ما تخرصوه من الكذب في ذلك، وكابروا به العباد، وأنكروا به ظاهر الحال، وما جاء به التواتر من الأخبار، ودل عليه صحيح النظر والاعتبار، وهذا بين لمن تدبره.

فصل: وقد روت الشيعة سبب نزول هذه الآية من كلام جرى بين بعض المهاجرين والأنصار، فتظاهر المهاجرون عليهم وعلوا في الكلام، فغضبت الأنصار من ذلك، وآلت بينها أن لا تبر ذوي الحاجة من المهاجرين، وأن تقطع معروفها عنهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، فاتعظت الأنصار بها، وعادت إلى بر القوم وتفقدهم، وذكروا في ذلك حديثا طويلا وشرح جوابه أمرا بينا.

فإذا ثبت مذهبهم في ذلك سقط السؤال من أصله، ولم يكن لأبي بكر فيه ذكر، واستغني بذلك عن تكلف ما قدمناه، إلا أنا قد تطوعنا على القوم بتسليم ما ادعوه، وأوضحنا لهم عن بطلان ما تعلقوا به فيه، استظهارا للحجة وإصدارا عن البيان، والله الموفق للصواب.

فصل آخر: ثم يقال لهم: خبرونا عما ادعيتموه لأبي بكر من الفضل في الدنيا، لو انضاف إلى التقوى، ونزول القرآن أن تصريح الشهادة له به عودا بعد سدى، هل كان موجبا لعصمته من الضلال في مستقبل الأحوال، ودالا على صوابه في كل فعل وقول، وأنه لا يجوز عليه الخطأ والنسيان، وارتكاب الخلاف لله تعالى والعصيان؟ فإن ادعوا له بالعصمة من الآثام، وأحالوا من أجله عليه الضلال في لاستقبال، خرجوا عن الإجماع، وتفردوا بالمقال، بما لم يقبله أحد من أهل الأديان، وكابروا دلائل العقول وبرهان السمع، ودفعوا الأخبار.

وقيل لهم: دلوا على صحة ما ادعيتموه من ذلك. فلا يجدون شيئا يعتمدونه على كل حال.

وإن قالوا: ليس يجب له بالفضل والسعة وسائر ما عددناه وانضاف إليه ونطق به القرآن العصمة من الضلال، بل جائز عليه الخطأ مع استحقاقه لجميعه ومقارفة الذنوب في الاستقبال.

قيل لهم: فهب أنا سلمنا لكم الآن من تأويل الآية على ما اقترحتموه، ما أنكرتم في ضلال الرجل فيما بعد من إنكاره النص على أمير المؤمنين عليه السلام، ودفعه عما أوجب الله تعالى عليه الإقرار به من الفرض، وتغيير حاله من الفضل بالنقص، إذ كانت العصمة مرتفعة عنه، والخطأ جائز عليه، والضلال عن الحق موهوم منه ومظنون به، فلا يجدون حيلة، في دفع ذلك، ولا معتمدا في إنكاره، وهذا مما تقدم معناه، إنما ذكرته للتأكيد والبيان، وهو مما لا محيص لهم عنه، والحمد لله.

- في مناقشة استدلال المخالفين بآية إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ على فضل أبي بكر

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 185، 192:

مسألة أخرى: فإن قالوا: أفليس قد آنس الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بأبي بكر في خروجه إلى المدينة للهجرة، وسماه صاحبا له في محكم كتابه، وثانيا لنبيه صلى الله عليه وآله في سفره، ومستقرا معه في الغار لنجاته، فقال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وهذه فضيلة جليلة يشهد بها القرآن، فهل تجدون من الحجة مخرجا؟

جواب: قيل لهم: أما خروج أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وآله فغير مدفوع، وكونه في الغار معه غير مجحود، واستحقاق اسم الصحبة معروف، إلا أنه ليس في واحدة منها ولا في جميعها ما يظنون له من الفضل، فلا تثبت له منقبة في حجة سمع ولا عقل، بل قد شهدت الآية التي تلوتموها في ذلك بزلل الرجل، ودلت على نقصه وأنبأت عن سوء أفعاله بما نحن موضحون عن وجهه، إن شاء الله تعالى.

وأما ما ادعيتموه من أنس الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله، فهو توهم منكم وظن يكشف عن بطلانه الاعتبار، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله مؤيد بالملائكة المقربين الكرام، والوحي ينزل عليه من الله تعالى حالا بحال، والسكينة معه في كل مكان، وجبرئيل عليه السلام آتيه بالقرآن وعصمته والتوفيق من الله تعالى والثقة بما وعهده من النصر والظفر يرفع عنه الاستيحاش، فلا حاجة إلى أنيس سوى من ذكرنا، لا سيما وبمنقوص عن منزلة الكمال، خائف وجل، يحتاج إلى التسكين والرفق والمداراة. وقد نطق بصفته هذه صريح القرآن، وأنبأ بمحنة النبي صلى الله عليه وآله، وما عالجه من تدبيره له بالتسكين والتشجيع وتلافي ما فرط منه لشدة جزعه وخوفه وقلقه، كي لا يظهر منه ما يكون به عظيم الفساد، حيث يقول سبحانه فيما أخبر به عن نبيه صلى الله عليه وآله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.

وبعد: فلو كان لرسول الله صلى الله عليه وآله مؤنس على ما ادعاه الجاهل، لم يكن له بذلك فضل في الدين، لأن الأنس قد يكون لأهل التقوى والإيمان بأمثالهم من أهل الإيمان، وبأغيارهم من أهل الضلال والبهائم والشجر والجمادات، بل ربما أنس العاقل بمن يخالفه في دينه، واستوحش ممن يوافقه، وكان أنسه بعبده -وإن كان ذميا- أكثر من أنسه بعالم وفقيه -وإن كان مهذبا- ويأنس بوكيله أحيانا ولا يأنس برئيسه، كما يأنس بزوجته أكثر من أنسه بوالدته، ويأنس إلى الأجنبي فيما لا يأنس فيه إلى الأقرب منه، وتأتي عليه الأحوال يرى أن التأنس ببعيره وفرسه أولى من التأنس بأخيه وابن عمه، كما يختار المسافر استصحاب من يخبره بأيام الناس، ويضرب له الأمثال، وينشده الأشعار، ويلهيه بالحديث عن الذكر وما يبهج الخواطر بالبال، ولا يختار استصحاب أعبد الناس ولا أعرفهم بالأحكام ولا أقرأهم للقرآن، وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يثبت لأبي بكر فضل بالإنس به، ولو سلمناه ولم نعترض في بطلانه بما قدمناه، وهذا بين لا إشكال فيه عند ذوي الألباب. وأما كونه للنبي صلى الله عليه وآله ثانيا، فليس فيه أكثر من الأخبار بالعدد في الحال، وقد يكون المؤمن في سفره ثاني كافر، أو فاسق، أو جاهل، أو صبي، أو ناقص، كما يكون ثاني مؤمن وصالح وعالم وبالغ وكامل، وهذا ما ليس فيه اشتباه، فمن ظن به فضلا فليس من العقلاء.

وأما الصحبة فقد تكون بين المؤمن والكافر كما تكون بينه وبين المؤمن، وقد يكون الصاحب فاسقا كما يكون برا تقيا، ويكون أيضا بهيمة وطفلا، فلا معتبر باستحقاقها فيما يوجب المدح أو الذم، الفضل أو النقص.

قال الله تعالى فيما خبر به عن مؤمن وكافر: { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} فوصف أحدهما بالإيمان، والآخر بالكفر والطغيان، وحكم لكل واحد منهما بصحبة الآخر على الحقيقة وظاهر البيان، ولم يناف الصحبة اختلاف ما بينهما في الأديان.

وقال الله سبحانه مخاطبا الكفار الذين بهتوا نبيه صلى الله عليه وآله، وادعوا عليه الجنون والنقصان: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} فأضافه عليه السلام إلى قومه بذكر الصحبة، ولم يوجب ذلك لهم فضلا، ولا بإقامتهم كفرا وذما، فلا ينكر أن يضيف إليه عليه السلام رجلا بذكر الصحبة، وإن كان المضاف إليه كافرا ومنافقا وفاسقا، كما أضافه إلى الكافرين بذكر الصحبة، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسيد الأولين والآخرين، ولم يوجب لهم فضلا ولا وفاقا في الدين، ولا نفي عنهم بذلك نقصا ولا ضلالا عن الدين. وقد ثبت أن إضافته إليهم بذكر الصحبة أوكد في معناها من إضافة أبي بكر بها، لأن المضاف إليه أقوى في السبب من المضاف، وهذا ظاهر البرهان.

فأما استحقاق الصبي اسم الصحبة من الكامل العاقل، وإن لم يوجب ذلك له كمالا، فهو أظهر من أن يحتاج فيه إلى الاشتهار بإفاضته على ألسن الناس العام والخاص، ولسقوطه بكل لسان. وقد تكون البهائم صاحبا، وذلك معروف في اللغة، قال عبيد بن الأبرص:

بل رب ماء أردت آجن  *  سبيله خائف جديب

قطعته غدوة مسيحا  *  وصاحبي بادن خبوب

يريد بصاحبه بعيره بلا اختلاف. وقال أمية بن أبي الصلت:

إن الحمار مع الحمار مطية  *  فإذا خلوت به فبئس الصاحب

وقال آخر:

زرت هندا وذاك بعد اجتناب  *  ومعي صاحب كتوم اللسان

يعني به السيف، فسمى سيفه صاحبا. وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يثبت لأبي بكر بذكر الصحبة فضيلة، ولا كانت له منقبة على ما بيناه وشرحناه. وأما حلوله مع النبي صلى الله عليه وآله في الغار، فهو كالمتقدم غير موجب له فضلا، ولا رافع عنه نقصا وذما، وقد يحوي المكان البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والكامل والناقص، والحيوان والجماد، والبهيمة والإنسان، وقد ضم مسجد النبي صلى الله عليه وآله الذي هو أشرف من الغار المؤمنين وأهل النفاق، وحملت السفينة البهائم وأهل الإيمان من الناس، ولا معتبر حينئذ بالمكان، ومن اعتقد به فضلا لم يرجع في اعتقاده ذلك إلى حجة عقلية ولا عبارة ولا سمع ولا قياس، ولم يحصل بذلك إلا على ارتكاب الجهالات.

فإن تعلقوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فقد تكون {مَعَنَا} للواحد كما تكون للجماعة، وتكون للموعظة والتخويف كما تكون للتسكين والتبشير، وإذا احتملت هذه الأقسام لم تقتض فضلا، إلا أن ينضم إليها دليل من غيرها وبرهان، وليس به مع التعلق بها أكثر من ظاهر الإسلام...

فصل: فأما الحجج منها على ما يوجب نقص أبي بكر وذمه، فهو قوله تعالى فيما أخبر به من نهي نبيه صلى الله عليه وآله لأبي بكر عن الحزن في ذلك المكان، فلا يخلو أن يكون ذلك منه على وجه الطاعة لله سبحانه لما نهاه النبي صلى الله عليه وآله عنه، ولا لفظ له في تركه، لأنه صلى الله عليه وآله لا ينهى عن طاعات ربه، ولا يؤخر عن قربه. ومن وصفه بذلك فقد قدح في نبوته، وأخرجه عن الإيمان بالله تعالى، وأدخله في جملة أعدائه وأهل مخالفيه، وذلك ضلال عظيم. وإذا خرج أبو بكر بحزنه الذي كان منه في الغار على الاتفاق من طاعة الله تعالى، فقد دخل به في معصية الله، إذ ليس بين الطاعة والمعصية في أفعال العاقل الذاكر واسطة على تحقيق النظر، ومن جعل بينهما قسما ثالثا -وهو المباح- لزمه فيه ما لزم في الطاعة، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يحظر ما أباحه الله تعالى، ولا يزجر عما شرعه الله. وإذا صح أن أبا بكر كان عاصيا لله سبحانه يحزنه المجمع على وقوعه منه في الغار، دل على استحقاقه الذم دون المدح، وكانت الآية كاشفة عن نقصه بما بيناه.

ومنها: أن الله سبحانه أخبر في هذه الآية أنه خص نبيه صلى الله عليه وآله بالسكينة دون أبي بكر، وهذا دليل على أن حاله غير مرضية لله تعالى، إذ لو كان من أولياء الله وأهل محبته لعمته السكينة مع النبي صلى الله عليه وآله في ذلك المقام، كما عمت من كان معه صلى الله عليه وآله ببدر وحنين، ونزل القرآن، فقال تعالى في هذه السورة: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ}. وقال في سورة الفتح: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}. وقال فيها أيضا: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. فدل عموم السكينة كل من حضر مع النبي صلى الله عليه وآله من المؤمنين مقاما سوى الغار، بما أنزل به القرآن، على صلاح حال القوم وإخلاصهم لله تعالى، واستحقاقهم الكرامة منه بالسكينة التي أكرم بها نبيه صلى الله عليه وآله، وأوضح بخصوص نبيه في الغار بالسكينة دون صاحبه في تلك الحال على ما ذكرناه عن خروجه من ولاية الله تعالى، وارتكابه لما أوجب في العدل والحكمة الكرامة بالسكينة من قبائح الأعمال، وهذا بين لم تحجب عنه العباد، وقد استقصيت الكلام في هذه المسألة في مواضع من كتبي، وخاصة كتاب (العيون والمحاسن) فإنني فرغت فيها الكلام، واستوفيت ما فيه على التمام، فلذلك خففت القول هاهنا، وتحريت الاختصار، وفيما أثبته كفاية، إن شاء الله تعالى.

- في مناقشة استدلال المخالفين في فضل من تقدم على أمير المؤمنين بأن رسول الله خص أبا بكر وعمر يوم بدر بالكون معه في العريش وصانهما عن البذل في الحرب وأشفق على حياتهما عن ضرب السيوف وفزع إليهما في الرأي والتدبير

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 193، 200:

مسألة أخرى: فإن قالوا : إن الأمة مجمعة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله خص أبا بكر وعمر يوم بدر بالكون معه في العريش، وصانهما عن البذل في الحرب، وأشفق على حياتهما عن ضرب السيوف، وفزع إليهما في الرأي والتدبير، وهذا أمر أبين فضلا وأجل منقبة، فقولوا في ذلك ما عندكم في معناه.

جواب: قيل لهم: ما أراكم تعتمدون في الفضائل إلا على الرذائل، ولا تصلون المناقب إلا بذكر المثالب، وذلك دليل خذلانكم وخزيكم في الدين وضلالكم. أما كون أبي بكر وعمر مع رسول صلى الله عليه وآله في العريش ببدر فلسنا ننكره، لكنه لغير ما ظننتموه، والأمر فيه أوضح من أن يلتبس بما توهمتموه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما علم من جبنهما عن الحروب، وخوفهما من البراز للحتوف، وجزعهما من لقاء الأبطال، وضعف بصيرتهما، وعدم ثباتهما في القتال بما أوجب في الحكمة والدين والتدبير، حبسهما في ذلك المكان، ومنعهما من التعرض إلى القتال، والاحتياط عليهما، لأن لا يوقعا في تدبيره الفساد. ولو علم صلى الله عليه وآله منهما قوة في الجهاد، وبصيرة في حرب أهل العناد، ونية في الإصلاح والسداد، لما حال بينهما وبين اكتساب الثواب، ولا منعهما من التعرض لنيل المنازل العالية بجهاد الأعداء، ولا اقتصر بهما على منازل القاعدين، ولا أدخلهما في حكم المفضولين، بما نطق به الذكر الحكيم حيث يقول سبحانه: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}. ويؤكد ذلك أن الله تعالى أخبر عباده في كتابه بأنه: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. فلا يخلو أن يكونا في جملة المؤمنين الذين نعتهم الله وأخبر عنهم بما ضمنه القرآن، أو أن يكونوا من غيرهم بخلاف صفاتهم التي جاء بها التنزيل، فلو كانوا من جملة المؤمنين لما منعهم رسول الله صلى الله عليه وآله من الوفاء بشرط الله عليهم في القتال، ولا حال بينهم وبين التوصل بالجهاد إلى ما وعد الله عليه أهل الإيمان من عظيم الثواب، في محل النعيم والأجر الكبير، الذي من ظفر به كان من الفائزين، لأنه صلى الله عليه وآله إنما بعث بالحث على أعمال الخيرات، والاجتهاد في القرب والطاعات، والترغيب في بذل النفوس في جهاد الأعداء، وإقامة المفترضات.

ولما وجدناه قد منع هذين الرجلين من الجهاد، وحبسهما عما ندب إليه خيار العباد، دل على أنهما بخلاف صفات من اشترى الله تعالى نفسه بالجنة من أهل الإيمان، وهذا واضح لذوي العقول والأذهان. ويزيد ذلك بيانا انهزامهما مع المنهزمين في يوم أحد، وفرارهما من مرحب يوم خيبر، وكونهما من جملة المولين الأدبار في يوم الخندق، وأنهما لم يثبتا لقرن قط، ولا بارزا بطلا، ولا أراقا في نصرة الإسلام دما، ولا احتملا في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله ألما، وكل ذلك يؤكد ما ذكرناه في معناه، ويزيل عن ذوي الاعتبار الشبهات فيما ذكره أهل الضلالات.

وأما قولهم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله صانهما عن البذل في الحرب، وأشفق عليهما من ضرب السيف، فهو أوهن كلام وأضعفه، وذلك أنه صلى الله عليه وآله عرض في ذلك اليوم عمه حمزة أسد الله وأسد رسوله للحرب، وبذل إليها أخاه وابن عمه وصهره وأحب الخلق إليه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام، وابن عمه عبيدة بن لحارث بن عبد المطلب رحمة الله عليه، وأحباءه من الأخيار، وخلصاءه من أهل الإيمان.

فكان عليه السلام يقدم كل من عظمت منزلته عنده للجهاد، معرضا له بذلك إلى أجل منازل الثواب، ويرى أن تأخره عن ذلك حط له عن شيء من المقام، إلا أن يكون بصفة من ذكرناه من المرتابين في الإيمان والشاكين في نعيم الجنان. ولم يك عليه السلام من أبناء الدنيا والداعين إليها، وإلى التمسك بأعمال أهلها والترغيب عن حطامها، فيتصور بما ذكره الجاهلون من الإشفاق على أحبته من الشهادة، والمنع لهم ما يعقب لهم من الراحة ويحصل به الفضيلة، ولو كان بهذه الصفة لخرج عن النبوة ولحق بأهل الكبر والجبرية، وحاشاه صلى الله عليه وآله من ذلك.

فصل: على أنه يقال لهم: لو كان الأمر على ما ظننتموه في منع الرجلين من الجهاد كان سببه المحبة والإشفاق، لأشفق عليهما من ذلك في خيبر، ولم يعرضهما له حتى افتضحا بالهزيمة بين المسلمين، وأبان عليه السلام ذلك لأمته أجمعين عن حالهما في الظاهر، وما كانا عليه في السر والباطن، وسماهما فرارين، وأخرجهما عن محبة الله تعالى حيث يقول عند فرارهما: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه". وقد بينا ما يقتضيه فيهما من فحوى هذا الكلام فيما تقدم، ولا حاجة لنا إلى تكراره.

فصل: وأما قولهم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله إنما حبسهما عن القتال لحاجة منه إلى رأيهما في التدبير. فإنه نظير ما سلف من جهلهم، بل أفحش منه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله كان معصوما وكانا بالاتفاق غير معصومين، وكان صلى الله عليه وآله مؤيدا بالملائكة ولم يكونا مؤيدين.

وقد ثبت أن العاقل لا يستمد الرأي إلا ممن يعتقد فضله عليه منه، ومتى استمد ممن يساويه أو يقاربه في معناه فلجواز عدوله عن صوابه بالغلط عن طريقه، وما يلحقه من الآفات في النظر، ويحول بينه وبين الحق فيه من الشبهات.

وإذا فسد القول بفضل أبي بكر وعمر على رسول الله صلى الله عليه وآله في الرأي، بل في كل شيء من الأشياء، بطل مساواتهما له ومقاربتهما إياه مع ما يبطل من جواز الغلط عليه، ولحوق الآفات به لعصمته صلى الله عليه وآله، استحال مقال من زعم أنه كان محتاجا إليهما في الرأي.

فصل: على أنه لو كان ممن يجوز عليه الخطأ في الدين والغلط في التدبير، لكان ما يقع منه مستدركا بجبرئيل وميكائيل وأمثالهما من الملائكة عليهم السلام، ولم يكله الله تعالى في شيء منه إلى رعيته، ولا أحوجه فيه إلى أحد من أمته، لما تقتضيه الحكمة في تولى حراسته وتهدئته، وغناه بذلك عمن أحوجه الله سبحانه إليه من جميع بريته. ولو جاز أن يلجئه الله تعالى إلى أحد من أمته في الرأي، لجاز أن يضطر إليه في جميع معرفة الأحكام، ولجعله تابعا لهم فيما يدركونه بالاجتهاد والقياس، وهذا ما لا يذهب إليه مسلم، فثبت ما بيناه من الغرض في حبس الرجلين عن القتال، فإنه كما شرحناه، وبينا وجهه وأوضحناه، دون ما ظنه الجاهلون، والحمد لله.

فصل: ثم يقال لهم: خبرونا عن حبس رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر وعمر عن القتال في يوم بدر لحاجة إلى مشورتهما عليه، وتدبيرهما الأمر معه، أقلتم ذلك ظنا أو حدسا، أم قلتموه واعتمدتم فيه على اليقين؟ فإن زعموا أنهم قالوا ذلك بالظن والحدس والترجيم فكفاهم بذلك خزيا في مقالهم وشناعة وقبحا، وإن ادعوا العلم به والحجة فيه طولبوا بوجه البرهان عليه، وهل ذلك من وجه العقل أدركوه أم وجوه السمع والتوقيف، فلا يجدون شيئا يتعلقون به من الوجهين جميعا.

ثم يقال لهم: أما العريش فكان من رأي الأنصار بلا اختلاف، ولم يكن لأبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين مقال، وأما المشورة فلم تكن فيه، وإنما أشار في الأسرى بعد القتال، واختلفا عند المشورة في الرأي. وعدل رسول الله صلى الله عليه وآله إذ ذاك عن رأي عمر بن الخطاب، لمعرفته أنه صدر عن تراث بينه وبين القوم، وقصد الشناعة على النبي صلى الله عليه وآله، وشفاء غيظ بني عبد مناف، ولم يرد بما قال وجه الله تعالى، وصار إلى رأي أبي بكر لما أراد الله تعالى من المحنة لذلك. فنزل القرآن بتخطئة صاحبكم، وجاء الخبر عن علام الغيوب بخيانته في الدين، وركونه إلى الدنيا، وإرادته لحطامها، وضعف بصيرته في الجهاد، وأظهر منه ما كان يخفيه، وكشف عن ضميره، وفضحه الوحي بما ورد فيه، حيث يقول الله سبحانه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله حينما استشارهما لم يكن لفقر منه في الرأي والتدبير إليهما، وإنما كان لاستبراء أحوالهما والإظهار لباطنهما في النصيحة له أو ضدها، كما أخبره الله سبحانه بتعريفه ذلك عند نطقهما في الأمور وكلامهما وغيرهما من أضرابهما، فقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما ادعوه في العريش، وكانت المشورة بعده من أوضح البرهان على نقص الرجلين دون فضلهما على ما قدمناه.

- في مناقشة استدلال المخالفين بفضل أبي بكر حيث قدمه رسول الله في حياته على جميع أهل بيته وأصحابه حيث أمره أن يصلي بالناس في مرضه

- عائشة أمرت أباها بالصلاة بالناس عن نفسها دون النبي

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 201، 207:

مسألة: أخرى فإن قالوا: أفليس قدم رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر في حياته على جميع أهل بيته وأصحابه، حيث أمره أن يصلي بالناس في مرضه مع قوله عليه السلام "الصلاة عماد الدين"، وقوله عليه السلام: "إمامكم خياركم" وهذا أوضح دليل على إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله، وفضله على جميع أمته؟!

جواب: قيل لهم: أما الظاهر المعروف فهو تأخير رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر عن الصلاة وصرفه عن ذلك المقام، وخروجه مستعجلا وهو من ضعف الجسم بالمرض على ما لا يتحرك معه العاقل إلا بالاضطرار، ولتدارك ما يخاف بفوته عظيم الضرر والفساد، حتى كان عزله عما كان تولاه من تلك الصلاة.

فأما تقدمه على الناس فكان بقول عائشة دون النبي صلى الله عليه وآله، وبذلك جاءت الأخبار وتواترت الأحاديث والآثار، ومن ادعى غير ذلك فعليه حجة البرهان والبيان.

فصل: على أننا لو صححنا حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله، وسلمنا لهم صدقها فيه تسليم جدل، وإن كانت الأدلة تبطله وتقضي بفساده من كل وجه، لما أوجب ما ادعوه من فضله على الجماعة، لأنهم مطبقون على أن النبي صلى الله عليه وآله صلى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري، ولم يوجب ذلك له فضلا عليه ولا غيره من المسلمين. ولا يختلفون أنه صلى الله عليه وآله أمر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار، وكان يؤمهم طول زمان إمارته في الصلاة عليهم، ولم يدل ذلك على فضله عليهم في الظاهر، ولا عند الله تعالى على حال من الأحوال. وهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأمته: "صلوا خلف كل بر وفاجر" وأباح لهم الصلاة خلف الفجار، وجوز بذلك إمامة إمام لهم في الصلاة منقوص مفضول، بل فاسق فاجر مرذول، بما تضمنه لفظ الخبر ومعناه، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة.

فصل: ثم يقال لهم: قد اختلف المسلمون في تقديم النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر للصلاة. فقال المسمون السنة: إن عائشة أمرت بتقديمه عن النبي صلى الله عليه وآله. وقالت الشيعة: إنها أمرته بذلك عن نفسها دون النبي صلى الله عليه وآله، بلا اختلاف بينهم أن النبي صلى الله عليه وآله خرج إلى المسجد وأبو بكر في الصلاة، فصلى تلك الصلاة، فلا يخلو أن يكون صلاها إماما لأبي بكر والجماعة، أو مأموما لأبي بكر مع الجماعة، أو مشاركا لأبي بكر في إمامتهم، وليس قسم رابع يدعى فنذكره على التقسيم.

فإن كان صلى الله عليه وآله صلاها إماما لأبي بكر والجماعة فقد صرفه بذلك عما أوجب فضله عندكم من إمامة القوم، وحطه عن الرتبة التي ظننتم حصوله فيها بالصلاة، وبطل ما اعتمدتموه من ذلك، ووجب له خلافه من النقص والخروج عن الفضل على التأبيد، إذا كان آخر أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله جار حكمها على التأبيد وإقامة الشريعة وعدم نسخها إلى أن تقوم الساعة، وهذا بين لا ريب فيه.

وإن كان صلى الله عليه وآله مأموما لأبي بكر فقد صرف إذن عن النبوة، وقدم عليه من أمره الله تعالى بالتأخير عنه، وفرض عليه غض الطرف عنده، ونسخ بذلك نبوته وما يجب له بها من إمامة الجماعة، والتقدم عليهم في الدين، وهذا ما لا يطلقه مسلم.

وإن كان النبي صلى الله عليه وآله إماما للجماعة مع أبي بكر على الاشتراك في إمامتهم، وكان ذلك آخر أعماله في الصلاة، فيجب أن يكون سنة، وأقل ما فيه جوازه وارتفاع البدعة منه، والإجماع منعقد على ضد ذلك، وفساد إمامة نفسين في الصلاة معا لجماعة من الناس، وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد سقط ما تعلق به القوم من صلاة أبي بكر، وما ادعوه له بها من الفضل على تسليم الخبر دون المنازعة فيه، فكيف وقد بينا سقوطه بما قدمناه.

فصل: على أن الخبر بصلاة أبي بكر وإن كان أصله من حديث عائشة ابنته خاصة على ما ذكروه، فإنه قد جاء عنها في التناقض والاختلاف وذلك شاهد بفساده على البيان: فروى أبو وائل، عن مسروق، عن عائشة، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا.

وروى إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة في حديث في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وآله صلى عن يسار أبي بكر قاعدا، وكان أبو بكر يصلي بالناس قائما.

وفي حديث وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أيضا، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه عن يمين أبي بكر جالسا، وصلى أبو بكر قائما بالناس.

وفي حديث عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله بحذاء أبي بكر جالسا، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله، والناس يصلون بصلاة أبي بكر

 فتارة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إماما بأبي بكر، وتارة تقول: كان أبو بكر إماما، وتارة تقول: صلى عن يمين أبي بكر، وتارة تقول: صلى عن يساره، وتارة تقول: صلى بحذائه، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهر ما فيها من الاضطراب والاختلاف على بطلان الحديث، وتشهد بأنه موضوع.

على أن الخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: "إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به، فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين" يبطل أيضا حديث صلاة أبي بكر، ويدل على اختلافه، لأنه يتضمن مناقضة ما أمر به، مع ترك المتمكن منه على فاعله، ومتى ثبت أوجب تضليل أبي بكر وتبديعه على الإقدام على خلاف النبي صلى الله عليه وآله. واستدلوا بمثل ذلك في رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كان هو المؤتم بأبي بكر، وفي كلا الأمرين بيان فساد الحديث مع ما في الوجه الأول من دليل فساده.

فصل: آخر مع أن الرواية قد جاءت من غير طريق عن عائشة أنها قالت: جاء بلال فأذن بالصلاة ورسول الله صلى الله عليه وآله مغمى عليه، فانتظرنا إفاقته وكاد الوقت يفوت، فأرسلنا إلى أبي بكر يصلي بالناس.

وهذا صريح منها بأن صلاته كانت عن أمرها ورأيها، دون أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وإذنه ورأيه ورسمه.

والذي يؤيد ذلك ويكشف عن صحته، الإجماع على أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج مبادرا معجلا بين يدي رجلين من أهل بيته حتى تلافى الأمر بصلاته وعزل الرجل عن مقامه.

ثم الإجماع أيضا على قول النبي صلى الله عليه وآله حين أفاق لعائشة وحفصة: "إنكن كصويحبات يوسف عليه السلام"  ذما لهما على ما أفتنا به أمته، وإخبارا عن إرادة كل واحدة منهما المنزلة بصلاة أبيها بالناس، ولو كان هو صلى الله عليه وآله تقدم بالأمر لأبي بكر بالصلاة لما حال بينه وبين تمامها، ولا رجع باللوم على غيره فيها، وهذا ما لا خفاء به على ذوي الأبصار. وفي هذه المسألة كلام كثير، قد سبق أصحابنا رحمهم الله إلى استقصائه، وصنف أبو عيسى محمد بن هارون الوراق كتاب مفردا في معناه سماه كتاب (السقيفة) يكون نحو مائتي ورقة، لم يترك لغيره زيادة عليه فيما يوضح عن فساد قول الناصبة وشبههم التي اعتمدوها من الخبر بالصلاة، وأشار إلى كذبهم فيه، فلذلك عدلت عن الإطالة في ذكر البراهين على ما قدمت، واقتصرت على الاختصار، وإن كان فيما أثبته كفاية لذوي الأبصار، والحمد لله.

- في مناقشة استدلال المخالفين في فضل أبي بكر من الإنفاق على رسول الله والمواساة بماله ما لم يكن لعلي بن أبي طالب ولا لغيره من الصحابة

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 209، 210:

مسألة أخرى: فإن قالوا: إن لأبي بكر من الإنفاق على رسول الله صلى الله عليه وآله والمواساة بماله ما لم يكن لعلي بن أبي طالب عليه السلام، ولا لغيره من الصحابة، حتى جاء الخبر عنه صلى الله عليه وآله، أنه قال: "ما نفعنا مال كمال أبي بكر". وقال عليه السلام في موطن آخر: "ما أحد من الناس أعظم نفعا علينا حقا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة".

جواب: قيل لهم: قد تقدم لنا من القول فيما يدعى من إنفاق أبي بكر ما يدل المتأمل له على بطلان مقال أهل الخلاف، وإن كنا لم نبسط الكلام في معناه بعد، فإن أصل الحديث في ذلك عائشة، وهي التي ذكرته عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وأضافته بغير حجة، وقد عرفت ما كان من خطأها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وارتكابها معصية الله تعالى في خلافه حتى نزل فيها وفي صاحبتها حفصة بنت عمر بن الخطاب: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. ثم الذي كان منها في أمر عثمان بن عفان حتى صارت أوكد الأسباب في خلعه، وقتله، فلما كان من أمره ما كان، وبايع الناس لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حسدته على ذلك، وكرهت أمره، ورجعت عن ذم عثمان بن عفان إلى مدحه، وقذفت أمير المؤمنين عليه السلام بدمه، وخرجت من بيتها إلى البصرة إقداما على خلاف الله تعالى فيما أمرها به في كتابه، فألبت عليه ودعت إلى حربه، واجتهدت في سفك دمه واستئصال ذريته وشيعته، وأثارت من الفتنة ما بقي في الأمة ضررها في الدين إلى هذه الغاية. ومن كانت هذه حالها لم يوثق بها في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا آمنت على الأدغال في دين الله تعالى، لا سيما فيما تجربه نفعا إليها وشهادة بفضل متى صح لكان لها فيه الحظ الأوفر، وهذا ما لا يخفى على ذوي حجا...

فصل: على أنه لو كان لأبي بكر إنفاق على ما تدعيه الجهال، لوجب أن يكون له وجه معروف، وكان يكون ذلك لوجه ظاهر مشهور، كما اشتهرت صدقة أمير المؤمنين عليه السلام بخاتمه، وهو في الركوع حتى علم به الخاص، والعام، وشاعت نفقته بالليل والنهار والسر والإعلان، ونزول بها محكم القرآن، ولم تخف صدقته التي قدمها بين يدي نجواه، حتى أجمعت عليها أمة الإسلام، وجاء بها صريح القول في البيان، واستفاض إطعام المسكين واليتيم والأسير، وورد الخبر به مفصلا في{هل أتى على الإنسان}.

فكان أقل ما يجب في ذلك أن يكون كشهرة نفقة عثمان بن عفان في جيش العسرة، حتى لم يختلف في ذلك من أهل العمل اثنان، ولما خالف الخبر في إنفاق أبي بكر ما ذكرناه، وكان مقصورا على ابنته خاصة، ويكفي في ما شرحناه، ومضافا إلى من في طريقه من أمثال الشعبي وأشباهه المعروفين بالعصبية لأبي بكر وعمر وعثمان، والتقرب إلى بني أمية بالكذب والتخرص والبهتان، مما يدل على فساده بلا ارتياب.

فصل: مع أن الله تعالى قد أخبر في ذلك بأنه المتولي عناء نبيه صلى الله عليه وآله عن سائر الناس، ورفع الحاجة عنه في الدين والدنيا إلى أحد من العباد، فقال تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}. فلو جاز أن يحتاج مع ذلك إلى نوال أحد من الناس لجاز أن يحتاج في هداه إلى غير الله تعالى، ولما ثبت أنه غني في الهدى بالله وحده، ثبت أنه غني في الدنيا بالله تعالى دون الخلق كما بيناه.

فصل: على أنه لو كان فيما عدده الله تعالى من أشياء يتعدى الفضل إلى أحد من الناس، فالواجب أن تكون مختصة بآبائه عليهم السلام، وبعمه أبي طالب رحمه الله، وولده عليه السلام، وبزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ولم يكن لأبي بكر في ذلك حظ ولا نصيب على كل حال.

وذلك أن الله تعالى آوى يتمه بجده عبد المطلب، ثم بأبي طالب من بعده، فرباه وكفله صغيرا، ونصره وواساه ووقاه من أعدائه بنفسه وولده كبيرا، وأغناه بما رزقه الله من أموال آبائه رحمهم الله تعالى وتركاتهم وهم ملوك العرب، وأهل الثروة منهم واليسار بلا اختلاف، ثم ما أفاده من بعده في خروجه إلى الشام من الأموال، وما كان انتقل إليه من زوجته خديجة بنت خويلد.

وقد علم جميع أهل العلم ما كانت عليه من سعة الأحوال، وكان لها من جليل الأموال، وليس لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم من سائر الناس سوى من سميناه سبب لشيء من ذلك، يتعدى به فضلهم إليه على ما بيناه، بل كانوا فقراء فأغناهم الله بنبيه صلى الله عليه وآله، وكانوا ضلالا فدعاهم إلى الهدى، ودلهم على الرشاد، وكانوا أذلة فتوصلوا بإظهار اتباع نبوته إلى الملك والسلطان.

وهب أن في هؤلاء المذكورين من كان له قبل الإسلام من المال ما ينسب به إلى اليسار، وفيهم من له شرف بقبيلة يبين به ممن عداه، هل لأحد من سامعي الأخبار وأهل العلم بالآثار ريب في فقر أبي بكر وسوء حاله في الجاهلية والإسلام، ورذالة قبيلته من قريش كلها، وظهور المسكنة في جمهورهم على الاتفاق؟.

ولو كان له من السعة ما يتمكن به من صلة رسول الله صلى الله عليه وآله والإنفاق عليه ونفعه بالمال، كما ادعاه الجاهلون، لأغنى أباه ببعضه عن النداء على مائدة عبد الله بن جدعان بأجرة على ذلك بما يقيم به رمقه، ويستر به عورته بين الناس، ولارتفع هو عن الخياطة وبيع الخلقان بباب بيت الله الحرام إلى مخالطة وجوه التجار، ولكان غنيا به في الجاهلية عن تعليم الصبيان ومقاساة الأطفال في ضرورته إلى ذلك لعدم ما يغنيه عنه ما وصفناه.

وهذا دليل على ضلال الناصبة فيما ادعوه له من الإنفاق للمال، وبرهان يوضح عن كذبهم فيما أضافوه إلى النبي صلى الله عليه وآله من مدحه على الإنفاق.

فصل آخر: مع أنه لو ثبت لأبي بكر نفقة مال على ما ظنه الجهال لكان خلو القرآن من مديح له على الإجماع وتواتر الأخبار، مع نزوله بالمدح على اليسير من ذوي الإنفاق، دليلا على أنه لم يكن لوجه الله تعالى، وأنه يعتمد بالسمعة والرياء، وكان فيه ضرب من النفاق.

وإذا ثبت أن الله تعالى عدل كريم لا ينوه بذكر اليسير من طاعاته، ويخفي الكثير، ولا يمدح الصغير، ويهمل الكبير، ففي خلو القرآن من ذكر إنفاق أبي بكر أو مدحه له بذكر الإنفاق على الشرط الذي وصفناه أوضح برهان على ما قدمناه.

ثم يقال لهم: قد علمت الكافة أن نفقات الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إنما كانت في السلاح والكراع ومعونة الجهاد وصلات فقراء المسلمين، وتزويد المرملين، ومعونة المساكين، ومواساة المهاجرين، وأن النبي صلى الله عليه وآله لم يسترفد أحدا منهم ولا استوصله، ولا جعل عليه قسما من مؤنته، ولا التمس منهم شيئا أهله وعشيرته، وقد حرم الله تعالى عليه وعلى أهل بيته أكل الصدقات، وأسقط عن كافتهم الأجر له على تبليغهم عن الله تعالى الرسالات، ونصب الحجج لهم وإقامة البينات، في دعائهم إلى الأعمال الصالحات، واستنقاذهم بلطفه من المهلكات، وإخراجهم بنور الحق عن الظلمات.

وكان صلى الله عليه وآله من أزهد الناس في الدنيا وزينتها، ولم يزل مخرجا لما في يديه من مواريث آبائه، وما أفاء الله تعالى من الغنائم والأنفال، وجعله له خالصا دون الناس إلى فقراء أصحابه، وذوي الخلة من أتباعه حتى استدان من المال ما قضاه أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاته، وكان هو المنجز لعداته فأي وجه مع ما وصفناه من حاله صلى الله عليه وآله لإنفاق أبي بكر على ما ادعوه، لولا أن الناصبة لا تأنف من الجهل ولا تستحيي من العناد؟!.

فصل: مع أنا لا نجدهم يحيلون على وجه فيما يذكرونه من إنفاق أبي بكر، إلا على ما ادعوه من ابتياعه بلال بن حمامة من مواليه، وكانوا عزموا بعد الإيمان ليردوه عنه إلى الكفر والطغيان.

وهذا أيضا من دعاويهم الباطلة المتعرية من الحجج والبرهان، وهو راجع في أصله إلى عائشة، وقد تقدم من القول فيما ترويه وتضيفه إلى النبي صلى الله عليه وآله، ما يغني عن الزيادة فيه والتكرار.

ولو ثبت على غاية أمانيهم في الضلال لما كان مصححا لروايتهم مدح أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله، وإخباره بانتفاعه بنفقته عليه ومواساته بالمال، لأن بلالا لم يكن ولدا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا أخا ولا والدا، ولا قريبا ولا نسيبا، فيكون خلاصه من العذاب بمال أبي بكر نافعا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا مختصا به دون سائر أهل الإسلام.

ولو تعدى ما خص بلالا من الانتفاع بمال أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله، لموضع إيمانه برسالته، وإقراره بنبوته ولكونه في جملة أصحابه، لتعدى ذلك إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجميع ملائكة الله تعالى وأنبيائه وعباده الصالحين، لأن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله يتضمن الإيمان بجميع النبيين والملائكة والمؤمنين والصديقين والشهداء والصالحي، وقد انكشف عن جهالات الناصبة وتجرئهم في بدعهم، وضعف بصائرهم، وسخافة عقولهم، ومن الله نسأل التوفيق.

فصل: على أن الثابت من الحديث في مدح النبي صلى الله عليه وآله خديجة بنت خويلد رضي الله عنها دون أبي بكر، والظاهر المشهور من انتفاع النبي صلى الله عليه وآله بمالها، يوضح عن صحته واختصاصها به دون من ادعى له بالبهتان، وقد اشترك في نقل الحديث الفريقان من الشيعة والحشوية، وجاء مستفيضا عن عائشة بنت أبي بكر على البيان. فروى عبد الله بن المبارك، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا ذكر خديجة أحسن الثناء عليها، فقلت له يوما: ما تذكر منها وقد أبدلك الله خيرا منها؟! فقال: "ما أبدلني الله خيرا منها، صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله الولد منها ولم يرزقني من غيرها" وهذا يدل على بطلان حديثها في مدح أبي بكر بالمواساة، ويوجب تخصيصها بذلك دونه، ويوضح عن بطلان ما تدعيه الناصبة أيضا من سبق أبي بكر جماعة الأمة إلى الإسلام، إذ فيه شهادة من الرسول صلى الله عليه وآله بتقدم إيمان خديجة رحمها الله على سائر الناس.

- في مناقشة استدلال المخالفين في فضل أبي بكر وعمر بالخبر المروي عن النبي اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 219، 224:

مسألة أخرى: فإن قالوا: فما تصنعون في الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لأصحابه: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" أليس هذا نص منه على إمامتهما، وإيجاب على الأمة جميعا فرض طاعتهما، وفي ذلك أدل دليل على طهارتهما وصوابهما فيما صنعاه من التقدم على أمير المؤمنين، وصحة خلافتهما؟!.

جواب: قيل لهم: هذا حديث موضوع، والخلل في سنده مشهور، والتناقض في معناه ظاهر، وحاله في متضمنه لائحة للمعتبر الناظر.

فأما خلل إسناده: فإنه معزى إلى عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، ثم من بعده تارة يعزى إلى حذيفة بن اليمان، وتارة إلى حفصة بنت عمر بن الخطاب.

فأما عبد الملك بن عمير فمن أبناء الشام، وأجلاف محاربي أمير المؤمنين عليه السلام، المشتهرين بالنصب والعداوة له ولعترته، ولم يزل يتقرب إلى بني أمية بتوليد الأخبار الكاذبة في أبي بكر وعمر، والطعن في أمير المؤمنين عليه السلام حتى قلدوه القضاء، وكان يقبل فيه الرشا، ويحكم بالجور والعدوان، وكان متجاهرا بالفجور والعبث بالنساء، فمن ذلك أن الوليد بن سريع خاصم أخته كلثم بنت سريع إليه في أموال وعقار، وكانت كلثم من أحسن نساء وقتها وأجملهن فأعجبته، فوجه القضاء على أخيها تقربا إليها، وطمعا فيها، فظهر ذلك عليه واستفاض عنه، فقال فيه هذيل الأشجعي:

أتاه وليد بالشهود يقودهم  *  على ما ادعى من صامت المال والخول

يسوق إليه كلثما وكلامها  *  شفاء من الداء المخامر والخبل

فما برحت تومي إليه بطرفها  *  وتومض أحيانا إذا خصمها غفل

وكان لها دل وعين كحيلة  *  فأدلت بحسن الدل منها وبالكحل

فأفتنت القبطي حتى قضى لها  *  بغير قضاء الله في المال والطول

فلو كان من في القصر يعلم علمه  *  لما استعمل القبطي فينا على عمل

له حين يقضي للنساء تخاوص  *  وكان وما منه التخاوص والحول

إذا ذات دل كلمته بحاجة  *  فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل

وبرق عينيه ولاك لسانه  *  يرى كل شيء ما خلا سخطها خبل

ثم الذي عزاه إليه هو ربعي بن حراش عند أصحاب الحديث من المعدودين في جملة الروافض المستهزئين على أبي بكر وعمر، وإضافته إليه -مع ما وصفناه- ظاهرة البطلان، مع أن المشهور عن حذيفة بن اليمان في أصحاب العقبة يضاد روايته هذا الحديث عنه.

وأما روايته عن حفصة بنت عمر بن الخطاب فهي من البرهان على فساده، ووجوب سقوطه في باب الحجاج، لأن حفصة متهمة فيما ترويه من فضل أبيها وصاحبه، ومعروفة بعداوتها لأمير المؤمنين عليه السلام، وتظاهرها ببغضه وسبه والإغراء به، والانحطاط في هوى أختها عائشة بنت أبي بكر في حربه والتألب عليه، ثم لاجترارها بما يتضمنه أفضل وجوه النفع إليهما به، وقد سلف كتاب في هذا المعنى ما يستغنى به عن الإطالة في هذا المقام ، والله ولي التوفيق.

فصل: على أنه لو ثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله لأوجب عصمة أبي بكر وعمر من الآثام، وقضى لهما بالكمال، ونفى السهو والغلط عنهما على كل حال، وذلك أن فرض الاقتداء بهما يوجب صواب الفاعل له عند الله تعالى، وأن علمه في ذلك واقع موقع الرضا، فلو لم يكونا معصومين من الخطأ لا يؤمن منهما وقوعه، وكان المقتدي بهما فيه ضالا عن الصراط، وموقعا من الفعل ما ليس بصواب عند الله تعالى، ولا موافق لرضاه، كما أن الله تعالى لما فرض طاعة نبيه صلى الله عليه وآله وأمر بالاقتداء به، كما أمره بالاقتداء بمن تقدم من أنبيائه عليهم السلام، حيث يقول: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أوجب عصمته صلى الله عليه وآله كما أوجب عصمة من تقدم من الأنبياء عليه السلام، ولم يجز في حكمته فرض الاقتداء بمن ذكرناه مع ارتفاع العصمة منهم لما بيناه.

وفي الإجماع أن أبا بكر وعمر لم يكونا معصومين عن الخطأ، وإقرارهما على أنفسهما بذلك أظهر حجة على اختلاف الخبر وفساده كما ذكرناه.

فصل آخر: مع أن التباين بين أبي بكر وعمر في كثير من الأحكام يمنع من فرض الاقتداء بهما على كل حال، لاستحالة اتباعهما فيما اختلفا فيه، ووجوب خلاف أحدهما في وفاق صاحبه، وخلاف صاحبه في اتباعه.

وقد ثبت أن الله تعالى لا يكلف عباده المحال، ولا يشرع ذلك منه صلى الله عليه وآله، وإذا بطل وجوب الاقتداء بهما في العموم لما بيناه، لم يبق -إن سلم الحديث- إلا وجوبه في الخصوص، وذلك غير موجب للفضل فيهما، ولا مانع من ضلالهما ونقصهما، وهو حاصل في مثل ذلك من أهل الكتاب، ولو فاق المسلمين لهم في خاص من الأقوال مع كفرهم وضلالهم بالإجماع، فبان بما وصفناه سقوط الحديث وفساد معانيه على ما قدمناه.

فصل آخر: على أن أصحاب الحديث قد رووه بلفظين مختلفين، على وجهين من الأعراب متباينين: أحدهما الخفض، وقد سلف قولنا بما بيناه، والآخر النصب، وله معنى غير ما ذهب إليه أهل الخلاف. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما دعا الأمة إلى التمسك بكتاب الله تعالى، وبعترته عليه وعليهم السلام، حيث يقول: "إني مخلف فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض". وكان عالما بما أوحى الله تعالى إليه، أن أول ناقض لأمره في ذلك وعادل عنه هذان الرجلان، فأراد عليه السلام تأكيد الحجة عليهما، بتخصيصهما بالأمر باتباع الكتاب، والعترة بعد عمومها به، ودخولهما في جملة المخاطبين من سائر الناس، فناداهما على التخصيص لما قدمناه من التوكيد في الحجة عليهما، فقال: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" وكانا هما المناديين بالاتباع دون أن يكون النداء إليهما على ما شرحناه. وليس بمنكر أن يبتدئ بالأمر بلفظ الجمع لاثنين، أو بلفظ الاثنين للجمع اتساعا، كما يعبر عن الواحد وليس فيه من معاني الجمع قليل ولا كثير بلفظ الاثنين أو الجمع، قال الله عز وجل: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}. وقال: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ -إلى قوله- خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ}.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد سقط ما تعلق به الناصبة من الحديث، ولم يبق فيه شبهة، والحمد لله.

- في مناقشة استدلال المخالفين في فضل أبي بكر وعمر وعثمان بالألقاب الصديق والفاروق وذي النورين

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 225، 227:

سؤال فإن قالوا: فإنا نجد الأمة قد وصفت أبا بكر بالصديق، ونعتت عمر بالفاروق، ووسمت عثمان بذي النورين، وشاع ذلك فيهم واستفاض حتى لم يخف على أحد من الناس، وهذا من أوضح الدليل على أن القوم من أهل الثواب، وأنهم كانوا في أمرهم على محض الحق والصواب، ولو لم يكونوا كذلك لما شاع هذا المدح وذاع.

جواب قيل لهم: لا معتبر لانتشار الصفات، ولا يعتمد ذلك عاقل على حال، لأنه قد يوصف بالمدح بها من لا يستحق ذلك للعصبية والضلال، كما يوصف بذلك من يستحقه بصحيح الاعتبار، لا سيما الدولة والمملكة في استفاضة ذلك من أوكد الأسباب، وإن لم يكن ثابتا بحجة تظهر أو بيان.

ألا ترى أن نعت الأصنام بالألوهية قد كان مستفيضا في الجاهلية قبل الإسلام، وإن كنا نعلم بطلانه، ووجود من يعتقد خلافه في تلك الأزمان، وأن الوصف بالربوبية قد شاع فيما سلف لكثير من ملوك الزمان مع ثبوت خلاف أهل الحق وتيقنهم في ترك إظهار الخلاف. وقد استفاض من أوصاف ملوك بني العباس ما يقتضي جليل المدحة، كما شاع وانتشر لمنازعيهم في الإمامة الطالبيين مثل ذلك حتى صاروا فيه على حد سواء، ولم يجب بذلك اجتماع الفريقين في الصواب، ولا اتفاقهم في الاستحقاق.

وكان وصف أبي جعفر بالمنصور كوصف محمد بن عبد الله بن الحسن بالمهدي، ووصف القائم بعد أبي جعفر المنصور بالمهدي، وابنه بالهادي، وابن ابنه بالرشيد كوصف من ذكرناه من الطبقة الأخرى بالناصر والهادي والرشيد والمنصور أيضا والمعز والعزيز.

وإذا كانت الاستفاضة في أوصاف من سميناه على طريقة واحدة استحال انتظام الحق لجميعها، لما يدخل ذلك من الخلل، ويلحقه من التناقض، وبطل ما تعلق به الخصوم في تسمية العامة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام كل ما يفيد المدحة لهم في الدين، ولم يجب باشتهاره ثبوت إمامتهم على اليقين.

ثم يقال للمعتزلة والخوارج وأهل العدل والمرجئة وعقلاء أصحاب الحديث: أنتم تعلمون أنه قد شاع لمعاوية بن أبي سفيان واستفاض أنه (خال المؤمنين ) و (كاتب وحي رب العالمين) كما شاع واستفاض لأبي بكر أنه (صديق) ولعمر أنه (فاروق) ولم يجب بذلك عندكم أن يكون خال المؤمنين على التحقيق، ولا مستحقا لكتابة الوحي والتنزيل. فما أنكرتم أن يكون الشائع لأبي بكر وعمر مما ذكرتموه لا يجب لهما به حق في الدين؟! وهذا مما لا فرق لهم فيه.

فصل: ثم يقال للمعتزلة: ليس يمكنكم دفاع ما قد شاع لكم من لقبكم بالقدرية، كما شاع من لقب أصحاب المخلوق بالجبر، والمحكمة بالخارجية، وشيعة علي عليه السلام بالرافضة، وأصحاب الحديث بالحشوية، ولم يجب بذلك عندكم ولا عند فريق ممن سميناه استحقاقهم الشائع مما وصفناه، ولا خروجهم به من الدين كما ذكرناه، فما أنكرتم أن يكون المشتهر في العامة لأبي بكر وعمر من لفظ المدحة لا يوجب لهما فضلا، ولا يخرجهما عن نقص، وذلك مما لا تجدون إلى دفعه سبيلا.

- في مناقشة استدلال المخالفين بفضل من تقدم على أمير المؤمنين بتقديم الناس لهم

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 229، 231:

سؤال: فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون العقد لأبي بكر وعمر الإمامة، وتقدمهما على الكافة في الرئاسة، يدل على فضلهما في الإسلام، وعلوهما في الديانة، وإن كنا لا نحيط علما بذلك الفضل، ولم يتصل بنا من جهة الأثر والنقل. وذلك أنهما لم يكونا من أشرف القوم نسبا فيدعو ذلك إلى تقديمهما، لأن بني عبد مناف أشرف منهما، ولا كانا من أكثرهم ما لا فيطمع العاقدون لهما في نيل أموالهما، ولا كانا أعزهم عشيرة فيخافون عشيرتهما. فلم يبق إلا أن المتقدمين لهما على أمير المؤمنين عليه السلام والعباس بن عبد المطلب وسائر المهاجرين والأنصار إنما قدموهما لفضل عرفوه لهما، وإلا فما السبب الموجب لاتباع العقلاء المخلصين لأمرهما، ونصبهما إمامين لجماعتهم ورئيسين لكافتهم لولا الذي ادعيناه؟.

جواب: قيل لهم: لو كان للرجلين فضل حسب ما ادعيتموه، وكان ذلك معروفا عند أهل زمانهما كما ذكرتموه، لوجب أن تأتي به الأخبار وترويه نقلة السير والآثار، بل وجب أن يظهر على حد يوجب علم اليقين والاضطرار، ويزيل الريب فيه حتى لا يختلف في صحته اثنان، لأن جميع الدواعي إلى انتشار فضائل الرجال متوفرة، في نقل ما كان لهذين الرجلين مما يقتضي التعظيم، لمن وجد لهما، والأخبار بها. ألا ترى أنهما كانا أميري الناس، وحصلت لهما القدرة على الكافة والسلطان، وكان المظهر لولايتهما في زمانهما ومن بعد إلى هذه الحال هو الظاهر على عدوه، المتوصل به إلى ما يصلح به الأحوال، والمظهر لعداوتهما مهدور الدم، أو خائف مطرود عن البلاد، والمظنون به من الإفصاح ببغضهما مبعد عن الدنيا، مستخف باعتقاده عند الجمهور، متوقع منهم ما يخافه ويحذره، حتى صار القتل مسنونا لمن أظهر ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وإن كان مظهرا لمحبة أبي بكر وعمر، متدينا بها على الاعتقاد، وحتى جعل بنو أمية الامتحان بالبراءة من أمير المؤمنين عليه السلام طريقا إلى استبراء الناس في اعتقاد إمامة من تقدمه، وكل من امتنع من البراءة حكموا عليه بعداوة الشيخين، والبراءة من عثمان، ومن تبرأ من أمير المؤمنين عليه السلام حكموا له باعتقاد السنة، وولاية أبي بكر وعمر وعثمان. ونال أكثر أهل الدنيا مما تمنوه منها من القضاء والشهادات والإمارات، وحازوا الأموال، وقربت منازلهم من خلفاء بني أمية وبني العباس بالعصبية لأبي بكر وعمر وعثمان، والدعاء إلى إمامتهم، والتفضيل لهم على كافة الصحابة، والتخرص بما يضيفونه إليهم من الفضل الذي يمنع بالقرآن، وينفى بالسنة، ويستحيل في العقول، ويظهر فساده بيسير الاعتبار.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ولم يمكن لعاقل رفع ما بيناه وشرحناه، بطل أن يكون العلم بفضل الرجلين والثالث أيضا على الحد الذي ذكرناه، مما يزول معه الارتياب لتوفير الدواعي على موجبه لو كان، بل لم يقدر الخصم على ادعاء شيء في هذا الباب أقوى عنده مما حكيناه عنهم فيما سلف من هذا الكتاب، وأوضحنا عن وهن التعلق به وكشفناه، وبان بذلك جهل الناصبة فيما ادعوه لهما من الفضل المجهول على ما توهموه، كما وضح به فساد مقالهم فيما تعلقوا به من ذلك في تأويل المسطور، وتخرصوه من الخير المفتعل الموضوع، والمنة لله تعالى.

- أمير المؤمنين تقدم أبا بكر إلى الإسلام

- زيد وجعفر وخباب وغيرهم من المهاجرين تقدم إسلامهم على أبي بكر

- عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ينزلان عن مرتبة التقدم على السابقين ولم يكونا من الأولين في الإسلام

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 231، 235 :

فصل: ثم يقال لهم: قد سبرنا أحوال المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام، فيما يقتضي لهم فضلا يوجب تقدمهم، فلم نجده على شيء من الوجوه، وذلك أن خصال الفضل معروفة، ووجوهه ظاهرة مشهورة، وهي: السبق إلى الإسلام، والجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله، والعلم بالدين، والإنفاق في سبيل الله جل اسمه، والزهد في الدنيا.

أما السبق إلى الإسلام: فقد تقدم أمير المؤمنين عليه السلام أبا بكر باتفاق العلماء وإجماع الفقهاء، وإن كان بعض أعدائه يزعم أنه لم يكن على يقين، وإنما كان منه لصغر سنه على جهة التعليم، وقد تقدمه أيضا بعد أمير المؤمنين عليه السلام زيد وجعفر وخباب رضي الله عنهم وغيرهم من المهاجرين، وجاء بذلك الثبت في الحديث. فروى سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص أنه قال لأبيه سعد: كان أبو بكر أولكم إسلاما؟ قال: لا، قد أسلم قبله أكثر من خمسين رجلا.

فأما عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، فإنه لا يشتبه على أحد من أهل العلم أنهما ينزلان عن مرتبة التقدم على السابقين، وأنهما لم يكونا من الأولين في الإسلام، وقد تقدمهما جماعة من المسلمين.

وأما الجهاد: فأنه لا قدم لأحدهم فيه، فلا يمكن لعاقل دعوى ذلك على شيء من الوجوه وقد ذكر من كان منه ذلك سواهم، فلم يذكرهم أحد، ولا تجاسر على القول بارزوا وقتا من الأوقات قرنا، ولا سفكوا لمشرك دما، ولا جرحوا في الحرب كافرا، ولا نازلوا من القوم إنسانا، فالريب في هذا الباب معدوم، والعلم بما ذكرناه حاصل موجود.

وأما العلم بالدين: فقد ظهر من عجزهم فيه، ونقصهم عن مرتبة أهل العلم في الضرورة إلى غيرهم من الفقهاء، أحوال إماراتهم ما أغنى عن نصب الدلائل عليه. وقد كان رسول صلى الله عليه وآله حكم لجماعة من أصحابه بأحكام فيه، فما حكم لأحد من الثلاثة بشيء منه، فقال صلى الله عليه وآله: "أقرأكم أبي، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ، وأفرضكم زيد، وأقضاكم علي". فكان صلى الله عليه وآله ناحلا لكل من سميناه سهما من العلم، وجامعا سائره لأمير المؤمنين عليه السلام، بما حكم له بالقضاء الذي يحتاج صاحبه إلى جميع من سماه من العلوم، وأخرج أبا بكر وعمر وعثمان من ذلك كله، ولم يجعل لهم فيه حظا كما ذكرناه، وهذا مما لا إشكال فيه على ذوي العقول.

وأما الإنفاق: فقد قلنا فيما تقدم فيه قولا يغني عن إعادته ها هنا، وعمر بن الخطاب من بين الثلاثة صفر منه بالاتفاق، أما عثمان فقد كان له ذلك، وإن كان بلا فضل، فإن خلو القرآن من مديح له على ما كان منه، دليل على أنه لا فصل له فيه، ولو حصل له به قسط من الفضل لكان كسهم غيره من المنفقين الذين لم يجب لهم التقدم بذلك في إمامة المسلمين.

وأما الزهد في الدنيا: فقد قضى بتعرية الثلاثة منه مثابرتهم على الإمارة، ومضاربتهم الأنصار على الرئاسة، ومسابقتهم إلى الحلية في التظاهر باسم الإمامة، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله مسجى بين أظهرهم، لم يقضوا له بذلك في مصابه حقا، ولا حضروا له غسلا وتجهيزا، ولا صلاة ولا تشييعا ولا دفنا، وتوفروا على مخاصمة من سبقهم إلى السقيفة طمعا في العاجل، وزهدا في الآجل، وسيعا في حوز الشهوات، وتناولا للذات، وتطاولا على الناس بالرئاسات، ولم يخرجها الأول منهم عن نفسه حتى أيقن بهلاكه، فجعلها حينئذ في صاحبه ضنا بها على سائر الناس، وغبطة لهم.

وكان من أمر الثاني في الشورى ما أوجب تحققه بها بعد وفاته، وتحمل من أوزارها ما كان غنيا عنه لو سنحت بها نفسه إلى مستحقها، وظهر بعده من الثالث ما استحل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله دمه، من إطراح الدين، والانقطاع إلى الدنيا، وقضاء الذمامات بأموال الله تبارك وتعالى، وتقليد الفجار من بني أمية ومروان رقاب أهل الأديان، ولما طولب بنزعها عنه ليقوم بها من سلك طرق الدين، امتنع من ذلك حبا للدنيا، وتأكد طمعه فيها، إلى أن سفك القوم دمه على الاستحلال له، ورفع الحظر والتحريم.

ثم فأي زهد حصل لهم مع ما وصفناه، وأي شبهة تبقى على مخالف في خروجهم عن خصال الفضل كلها مع ما ذكرناه، لولا أن العصبية ترين على القلوب؟!.

- في بيان علة تقديم الناس الشيخين على أمير المؤمنين

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 235، 239:

فصل: وأما سؤالهم عن علة تقديم الناس لهم مع ما ذكروه من أحوالهم في النزول عن الشرف، وقلة العشيرة والمال، فلذلك غير علة:

إحداها: أنهم قصدوا إلى من ليس بأشرفهم فقدموه، ليكون ذلك ذريعة إلى نيل جماعاتهم الإمامة، مع اختلافهم في منازل الشرف، ولا يمنع أحدا منهم انحطاطه عن أعلى الرتب في النسب من التقدم إلى من هو أشرف منه، ولو حصروها في أعلى القوم نسبا وأكرمهم حسبا لاختصت بفريق، وحصل الباقون منها أصفارا، ثم لو جعلوها فيمن كان غيره أكثر منه مالا لطمع الفقراء كلهم بذلك فيها، وتقديرهم حوز الأفعال، ولم يحصروها في أعزهم عشيرة مخافة أن يتغير عليهم، فلا يتمكنون من إخراجها منه، ولامتنع عنهم بعشيرته فلا يبلغون منه المراد.

والثانية: أن الذي قدموه كان متعريا، مما أوجب عندهم تأخيره، فلم يك على حال من الفضل يبعث على الحسد، فيحول ذلك بينه وبين التقديم.

والثالثة: أن الأكثر كانوا إلى الرجل أسكن منهم إلى غيره، لبعده عن عداوتهم، وخروجه عن آصارهم، بوتر من وترهم في الدين.

والرابعة: ملاءمة العاقدين للمعقود له في الباطن، واجتماعهم على السر من أمرهم والظاهر، فتشابهت لذلك منهم القلوب.

والخامسة: استحكام طمع الاتباع في النيل من المتقدمين مراداتهم في الرئاسات، والسيرة فيهم بما يؤثرونه من الأحكام المخالفة للمفترضات والمسنونات، والتجاوز لهم عن العثرات والزلات، وهذا أيضا من الأسباب الداعية إلى إخراج الحق عن أهله بلا اختلاف.

والسادسة: الاتفاق الذي لا يرجع فيه إلى أصل ثابت ولا نتيجة نظر، وقد جرت به العادات، وقضت بوجود أمثاله الشهادات. ألا ترى إلى اجتماع أهل الجاهلية على عبادة الأوثان، وهي جمادات لا تنفع أحدا ولا تضره، ولا تجلب إليه خيرا ولا تدفع عنه شرا، مع انصرافهم عن عبادة الله الذي خلقهم، وأراهم في أنفسهم وغيرهم الآيات. وكذلك كانت حال من تقدمهم في عبادة الأصنام، مع تقريع الأنبياء لهم وتوبيخ الحكماء. وكذلك كانت حال قوم موسى عليه السلام حين خالفوا نبيهم في عبادة العجل واتبعوا السامري، فتركوا هارون نبي الله، ولم يصغوا إلى وعظه، ولا التفتوا إلى قوله، ولا اعتنوا بحجته، ولم يكن السامري أكثر القوم مالا، ولا أشرفهم نسبا، ولا أعزهم عشيرة. وقد اتبع كثير من العرب مسيلمة الكذاب، مع ظهور نقصه وعجزه وحماقته، واشتهار كذبه وسخفه، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله مع ظهور فضله وكمال عقله، واشتهار صدقه فيهم، وأمانته، وشرف أصله وكرم فرعه، وبرهان أمره ووضوح حجته وعجيب آياته، ولم يك مسيلمة أعزهم عشيرة، ولا أكثرهم مالا، ولا أشرفهم نسبا، بل كان بالضد من هذه الصفات كلها، ولم يمنع ذلك من الضلال به، وتقديم أتباعه له، وارتداد جماعة ممن كان قد أسلم عن دينه واللحوق به. وقد ظهر من اتباع الجمهور لأراذل الناس وانصرافهم عن أفاضلهم على مرور الأوقات ما لا يمكن دفعه، ولم يك ذلك لعز عشيرة، ولا لشرف نسب، ولا كثرة مال، بل كان بتمام حيلة وجد في الدنيا واتفاق، حتى ساست النساء الرجال، وتقدم الأطفال على العقلاء، واسترق العبيد الأحرار، واستعبد الأوضاع الأشراف، وحكم الجهال على العلماء. وقد قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ}. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}.

وكان الجمهور في زمان أكثر الأنبياء أتباع المجرمين، فضل بهم أكثر أممهم وغيروا شرائعهم، وصدوا عن سبيلهم، ودعوا إلى غير دينهم، ولم يدعهم إلى ذلك شرف المضلين، ولا عزهم في عشائرهم، ولا كثرة أموالهم، وإنما دعاهم إليه ما ذكرناه من الداعي إلى تقديم من سميناه.

ولو ذهبنا إلى تتبع هذا المعنى وتعداد من حصل له وشرح الأمر فيه، لطال الخطاب، وفي الجملة أن الأغلب في حصول الدنيا لأهلها، والأكثر فيها تمام الرئاسة لأهل الجهل، والمعهود في ملكها والغلبة عليها لأهل الضلال والكفر، وإنما يخرج عن هذا العهد إلى أهل الإيمان وذوي الفضل والكمال في النادر الشاذ، ومن دفع ما وصفناه، وأنكر ما شرحناه، كان جاهلا أو مرتكبا للعناد.

فصل: ثم يقال لهم: لسنا ننكر أن تقديم المفضول على الفاضل مخالف لأحكام العقول، وأن سياسة الناقص الكامل من الحكم المعكوس المرذول، لكنه غير بدع عند أهل الضلال، ولا عجب من اختيارهم فيما سلف من الأزمان والأحوال، وأن تقديم تيم وعدي على بني هاشم وعبد مناف إنما هو كتقديم العبيد على السادات، وتغلب أبي بكر بن أبي قحافة على مقام رسول الله صلى الله عليه وآله، ودفع أخيه ووصيه وصهره ووزيره ووارثه وخليفته في أهله وأحب الخلق إلى الله تعالى وإليه لعجيب، تكاد النفوس منه تذوب، لكنا إذا وكلنا الأمر إلى ما قدمناه من ذكر أمثاله في البدائع من الأمور فيما سلف، سلت لذلك القلوب. وقد قال الشاعر:

أجاء نبي الحق من آل هاشم  *  لتملك تيم دونهم عقدة الأمر

وتصرف عن قوم بهم تم أمرها  *  ويملكها بالصفر منهم أبو بكر

أفي حكم من هذا فنعرف حكمه  *  لقد صار عرف الدين نكرا إلى نكر

وقال أيضا رحمه الله:

أترى صهاكا وابنها وابن ابنها  *  وأبا قحافة آكل الذبان

كانوا يرون وفي الأمور عجائب  *  يأتي بهن تصرف الأزمان

أن الخلافة من وارثة هاشم  *  فيهم تصير وهيبة السلطان

- نتائج تقدم الثلاثة على أمير المؤمنين

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 241، 242:

فصل: إعلموا رحمكم الله أنه لولا ما اتفق لهؤلاء الثلاثة من التقدم على آل محمد عليهم السلام والتسلط على الخلق بسلطانهم، والترؤس بالغطرسة عليهم، لما سل بين المسلمين سيفان، ولا اختلف في الشريعة اثنان، ولا استحل أتباع الجمل وأهل الشام والنهروان دماء أهل الإيمان، ولا سفك دم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام جهلا على التدين به والاستحلال، ولا قتل الحسنان عليهما السلام، ولا استحلت حرمات العترة وأريقت دماؤهم، كما يستباح ذلك من أهل الردة عن الإسلام.

لكنهم أصّلوا ذلك بدفعهم عليا أمير المؤمنين عليه السلام، عن مقامه، وسنوه باستخفافهم بحقه، وأوجبوه باستهانتهم بأمره، وسهلوه بوضعهم من قدره، وسجلوه بحطهم له عن محله، وأباحوه بما أظهروا من عداوته ومقته، فباءوا لذلك بإثمه، وتحملوا أوزاره وأوزار من ضل بهم عن الحق بأسره، كما قال الله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.

ولقد أحسن شاعر آل محمد عليهم السلام في جملة ما فصلناه في هذا المقام حيث يقول:

تبيت النشاوى من أمية نوما  *  وفي الطف قتلى ما ينام حميمها

وما ضيع الإسلام إلا عصابة  *  تأمر نوكاها فدام نعيمها

فأضحت قناة الدين في كف ظالم  *  إذا اعوج منها جانب لا يقيمها

وقال الآخر في ذلك:

لعمري لئن جارت أمية واعتدت  *  لأول من سن الضلالة أجور

وقال الكميت بن زيد رحمه الله وقد ذكر مقتل الحسين عليه السلام:

يصيب به الرامون عن قوس وترهم  *  فيا آخرا يبدي  له الغي أول

 - أسباب الخروج على عثمان

- الجمل - الشيخ المفيد  ص 68، 72:

أسباب الخروج على عثمان: فصل: ونحن نثبت بتوفيق الله مختصرا من الأخبار فيما ذكرناه من كون طلحة والزبير وعائشة فيما صنعوه في أيام عثمان من أوكد أسباب ما تم عليه من الخلع والحصر وسفك الدم والفساد فمن ذلك ما رواه أبو حذيفة إسحاق بن بشر القرشي وأثبته في كتابه الذي صنفه في مقتل عثمان وكان هذا الرجل أعني أبا حذيفة من وجوه أصحاب الحديث المنتسبين إلى السنة والمباينين للشيعة يهتم فيما يروونه لمفارقة خصومه ولا يظن تخرصا فيما يجتنيه من جميع الأخبار، فقال حدثني محمد بن إسحاق عن الزهري لما قدم أهل مصر في ستمائة راكب عليهم عبد الرحمن بن عديس البكري فنزلوا ذا خشب وفيهم كنانة بن بشير الكناني وأبو عمر بن بديل بن ورقاء الخزاعي وأبو عروة الليثي واجتمع معهم حكيم بن جبلة العبدي في طائفة من أهل البصرة وكميل بن زياد ومالك الأشتر وصعصعة بن صوحان وحجر بن عدي في جماعة من قراء الكوفة الذين كانوا سيرهم عثمان منها إلى الشام حين شكوا أحداثه التي أنكرها عليه المهاجرون والأنصار فاجتمع القوم على عيب عثمان وجهروا بذكر أحداثه فمر بهم عمر بن عبد الله الأصم وزياد بن النظر فقالا إن شئتم بلغنا عنكم أزواج النبي صلى الله عليه وآله فإن أمرنكم أن تقدموا فاقدموا فقالوا لهما إفعلا واقصدوا عليا آخر الناس فانطلق الرجلان فبدءا بعائشة وأزواج النبي بعدها ثم أنبئا أصحابه صلى الله عليه وآله فأخبروهم الخبر فأمروهما أن يقدموا المدينة وصاروا إلى أمير المؤمنين فأخبراه واستأذناه للقوم في دخول المدينة فقال لهما أتيتما أحدا قبلي؟ قالا نعم أتينا عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وآله بعدها وأصحابه من المهاجرين والأنصار فأمروا أن يقدموا فقال علي لكني لا آمرهم إلا أن يستغيثوا بمن قرب فإن أغاثهم فهو خير لهم وإن أبى فهم أعلم، فخرج الرجلان إليهم جميعا وتسرع إليهم جماعة من المدينة واجتمعوا مع أهل حسب وذو مروات فلما بلغ عثمان اجتماعهم أرسل إلى علي صلى الله عليه وآله وقال: أخرج يا أبا الحسن إلى هؤلاء القوم وردهم عما جاؤوا إليه، فخرج إليهم فلما رأوه رحبوا به وقالوا له قد علمت يا أبا الحسن ما أحدثه هذا الرجل من الأعمال الخبيثة وما يلقاه المسلمون منه ومن عماله وكنا لقيناه واستعتبناه فلم يعتبنا وكلمناه فلم يصغ إلى كلامنا وأغراه ذلك بنا وقد جئنا نطالبه بالاعتزال عن إمرة المسلمين واستأذنا في ذلك الأنصار والمهاجرين وأزواج النبي أمهات المؤمنين فأذنوا لنا في ورود المدينة ونحن على ذلك، فقال لهم أمير المؤمنين يا هؤلاء تريثوا لا تسرعوا إلى شيء لا تعرف عاقبته فإنا كنا قد عتبنا على هذا في شيء وإنه قد رجع عنه فارجعوا; فقالوا هيهات يا أبا الحسن لا نقنع منه إلا بالاعتزال عن هذا الأمر ليقدم به من يوثق بإمامته، فرجع أمير المؤمنين إلى عثمان وأخبره بمقالتهم فخرج عثمان حتى أتى المنبر فخطب الناس وجعل يتكلم ويدعو إلى نصرته ودفاع القوم عنه فقام إليه عمرو بن العاص فقال يا عثمان إنك قد ركبت بالتهمة وقد ركبوها منك فتب إلى الله، فقال له عثمان وإنك لهاهنا يا بن النابغة ثم رفع يده إلى السماء وقال أتوب إلى الله اللهم إني أتوب إليك; فأنفذ أمير المؤمنين عليه السلام إلى القوم بما جرى من عثمان وما صار إليه من التوبة والإقلاع فساروا إلى المدينة بأجمعهم وسار إليهم عمرو بن معدي كرب في ناس كثيرين فجعل يحرض على عثمان ويذكر إثرته فقال:

أما هلكنا ولا يبكي لنا أحد  *  قالت قريش ألا تلك المقادير

والحر في الصيف قد تدمي جوارحه  *  نعطي السوية مما أخلص الكير

نعطي السوية يوم الضرب قد علموا  *  ولا سوية إذ كانت دنانير

وانظم إليهم من المهاجرين طلحة والزبير وجمهور الأنصار على ذلك فخرج إليهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال لهم يا هؤلاء اتقوا الله ما لكم وللرجل أما رجع عما أنكرتموه أما تاب على المنبر توبة جهر بها، ولم يزل عليه السلام يلطف بهم حتى سكنت فورتهم.

ثم سأله أهل مصر أن يلقاه في عزل عبد الله بن سعيد بن أبي سرح عنهم واقترح أهل الكوفة عزل سعيد بن العاص عنهم وسأل أهل النهروان أن يصرف ابن كريز عنهم ويعدل عما كان عليه من منكر الأفعال فدخل عليه أمير المؤمنين عليه السلام ولم يزل حتى أعطاه ما أراد القوم من ذلك وبذل لهم العهود والأيمان.

فخرج أمير المؤمنين إلى القوم بما ضمنه له عثمان ولم يزل بهم حتى تفرقوا فلما سار أهل مصر ببعض الطريق نظروا وإذا براكب على الطريق مسرع فلما دنا تأملوه فإذا هو غلام عثمان على ناقة من نوقه فاسترابوا به فقالوا له أين تذهب؟ فقال بعثني عثمان في حاجة له قالوا إلى أين بعثك؟ فارتج عليه وتلعثم في كلامه فنهروه وزبروه فقال أنفذني إلى مصر فقالوا فيما أنفذك؟ قال لا علم لي فزاد استرابهم فيه ففتشوه فلم يجدوا إلى معه شيئا فأخذوا أدواته ففتشوها وإذا فيها كتاب من عثمان إلى عبد الله بن أبي سرح وهو إذا أتاك كتابي هذا فاضرب عنق عمرو بن بديل وعبد الرحمن البكري واقطع أيدي وأرجل علقمة وكنانة وعروة ثم دعهم يتشحطون في دمائهم فإذا ماتوا فأوقفهم على جذوع النخل.

فلما رأوا ذلك قبضوا على الغلام وعادوا إلى المدينة فاستأذنوا علي ابن أبي طالب عليه السلام ودفعوا إليه الكتاب ففزع عليه السلام لذلك فدخل على عثمان فقال إنك وسطتني أمرا بذلت الجهد فيه لك وفي نصيحتك واستوهبت لك من القوم فقال عثمان فماذا؟ فأخرج إليه الكتاب ففضه وقرأه فأنكره فقال له علي أتعرف الخط؟ قال الخط يتشابه، قال أتعرف الختم؟ قال الختم ينقش عليه، قال فهذا البعير الذي على باب دارك تعرفه؟ قال هو بعيري ولم آمر أحدا ولا يركبونه قال فغلامك من أنفذه؟ قال انفذ بغير أمري.

فقاله له أمير المؤمنين عليه السلام أما أنا فمعتزلك وشأنك وأصحابك وخرج من عنده ودخل داره وأغلق عليه بابه ولم يأذن لأحد من  القوم في الوصول إليه.

وخرج إليهم طلحة والزبير وقالا لهم قد اعتزل علي بن أبي طالب وانتدبنا معكم على هذا الرجل فاجتمع القوم على حصره فلما علم أن القوم قد حصروه وحقق العزيمة على خلعه كتب إلى معاوية يستدعيه بجنود الشام، وكتب إلى عبد الله بن عامر يستدعيه بجنود البصرة وفارس لينتصر بهم ويدفعهم عن نفسه، وعرف أهل مصر وأهل العراق والحجاز إنه قد استفز عليهم أهل الشام وشيعته من أهل البصرة وفارس وخوزستان فجدوا في حصاره وتولى ذلك منه طلحة والزبير ومنعاه الماء وضيقا عليه وكان طلحة على حرس الدار يمنع كل أحد يدخل إليه شيئا من الطعام والشراب ويمنع من في الدار أن يخرج عنها إلى غيرها.

- أمير المؤمنين بريء مما قرفه به ناكثو عهده من التأليب على عثمان والسعي في دمه

- الجمل - الشيخ المفيد  ص 72، 74:

فصل: فهل يخفى على عاقل براءة أمير المؤمنين عليه السلام مما قرفوه به ناكثوا عهده من التأليب على عثمان والسعي في دمه مع ما رويناه من الحديث عمن سميناه، أم هل يرتاب عاقل فيما فعله طلحة والزبير فيما تولياه من حصر عثمان حتى آل ذلك إلى قتله وهما من بعده يقرفان عليا بما تولياه ويدعيان لأنفسهما البرائة بما صنعاه ويجعلان شبهتهما في استحلال قتاله عليه السلام دعوى الباطل المعروف بهتانا ممن ادعاه وهذا يكشف أن الأمر فيما ادعياه وأظهراه من الطلب بدم عثمان كان بخلافه على ما بيناه مما جاءت به الأخبار فيما تولاه طلحة والزبير في عثمان ما رواه أبو إسحاق جبلة بن زفر قال رأيت طلحة والزبير يرفلان في أدراعهما في عثمان ثم جائا من بعد إلى علي عليه السلام فبايعاه طايعين غير مكرهين ثم صنعا ما صنعا، وروى أبو حذيفة القرشي عن الحصين بن عبد الرحمان عن عمرو بن جاران عن الأحنف بن قيس قال قدمت المدينة وساق حديثا طويلا من أمر عثمان إلى أن قال لما لقيت الفتنة والناس قد اجتمعوا على حصر عثمان وهو على خطر فأتيت طلحة والزبير فقلت لهما ما أرى هذا الرجل إلا مقتولا فمن تأمراني أن أبايع وترضونه لي فقالا عليا فخرجت حتى أتيت مكة وبها عائشة فدخلت عليها فقلت إني لأحسب هذا الرجل مقتولا فمن تأمريني أن أبايع فقالت بايع عليا فقضيت حجتي ثم مررت بالمدينة وقد قتل عثمان فبايعت عليا ثم عدت إلى البصرة فإذا عائشة وطلحة والزبير قد جاؤنا يطلبون بدم عثمان ويأمروننا بقتال علي ابن أبي طالب فطال تعجبي من ذلك.

وروى أبو حذيفة عن رجاله أنه لما اجتمع الناس على عثمان أنفذوا إليه اخلع نفسك فقال لا أخلع سربالا سربلنيه الله وكتب إلى معاوية يستدعيه بجنود الشام وإلى عبد الله بن عامر بن كريز يستدعيه بجند البصرة وخرج عثمان حتى صعد المنبر فلما بدأ بالخطبة قال إليه رجل من الأنصار وقال له أقم كتاب الله يا عثمان فقال هو لك ثم أعادها ثانية فقال هو لك فأعادها ثالثة فقنع وأجلس فقام ناس من الأنصار فخلصوه وحصب عثمان بالحصى حتى سقط مغشيا عليه فحمله بنو أمية حتى أدخلوه الدار وجاءه علي عليه السلام يسأله عن خبره فثارت بنو أمية إليه بصوت واحد يا علي كدرت علينا العيش وعملت بنا العمل والله لئن بلغت الذي تريد لنخبثن عليك الدنيا فخرج علي مغضبا فقال القوم للعباس بن الزبرقان وكانت أخته تحت الحرث بن الحكم أخي مروان بن الحكم أتبع الرجل وقل له ما لك ولابن عمك فاتبعه وقال له ذلك فقال عليه السلام وهو مغضب فعل الله وفعل يجني ما يجني واسأل عن أمره واتهم مع ذلك أما والله لولا مكاني لأحتز الذي فيه عيني عثمان.

- أمير المؤمنين أمر بالماء لعثمان

- الجمل - الشيخ المفيد  ص 74:

إنكار طلحة على عثمان: ولما أبى عثمان أن يخلع نفسه تولى طلحة والزبير حصاره والناس معهما على ذلك فحصروه حصرا شديدا ومنعوه الماء وأنفذ إلى علي يقول إن طلحة والزبير قد قتلاني من العطش، والموت بالسلاح أحسن فخرج معتمدا على يد المسور بن مخرمة الزهري حتى دخل على طلحة بن عبيد الله وهو جالس في داره يسوي نبلا وعليه قميص هندي فلما رآه رحب به ووسع له على الوسادة فقال له علي عليه السلام إن عثمان قد أرسل إلي إنكم قد هلكتموه عطشا وإن ذلك ليس بالحسن والقتل بالسلاح أحسن وكنت آليت على نفسي أن لا أرد عنه أحدا بعد أهل مصر وأنا أحب أن تدخلوا عليه الماء حتى تروا رأيكم فيه، فقال طلحة لا والله لا ننعمه عينا ولا نتركه يأكل ولا يشرب، فقال علي عليه السلام ما كنت أظن أن أكلم أحدا من قريش فيردني دع ما كنت فيه يا طلحة فقال طلحة ما كنت أنت يا علي في ذلك من شيء فقام علي عليه السلام مغضبا وقال ستعلم يا بن الحضرمية أكون في ذلك من شء أم لا ثم انصرف.

وروى أبو حذيفة بن إسحاق بن بشير القرشي أيضا قال حدثني يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال والله إني لأنظر إلى طلحة وعثمان محصور وهو على فرس أدهم وبيده الرمح يجول حول الدار وكأني أنظر إلى بياض ما وراء الدرع.

وروى أبو إسحاق قال لما اشتد الحصار بعثمان عمد بنو أمية على إخراجه ليلا إلى مكة وعرف الناس فجعلوا عليه حرسا وكان على الحرس طلحة بن عبيد الله وهو أول من رمى بسهم في دار عثمان، قال وأطلع عثمان وقد اشتد به الحصار وظمأ من العطش فنادى أيها الناس اسقونا شربة من الماء وأطعمونا مما رزقكم الله فناداه الزبير بن العوام: يا نعثل لا والله لا تذوقه.

وروى أبو حذيفة القرشي عن الأعمش عن حبيب بن ثابت عن تغلبة بن يزيد الحماني قال أتيت الزبير وهو عند أحجار الزيت فقلت له يا أبا عبد الله قد حيل بين أهل الدار وبين الماء فنظر نحوهم وقال وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب.

فهذه الأحاديث في جملة كثيرة في هذا المعنى وهي كاشفة عما ذكرناه من أدغال القوم من التظاهر بطلب دم عثمان وهم تولوا سفكه ولم يظهر أحد منهم إلا الذم عليه، ولما بايع الناس عليا أظهروا الندم على ما فرط منهم وقرفوا بما صنعوا وأثاروا الفتنة التي رجع عليهم ما كانوا آملوه فيها منه وهو الظاهر منهم والباطن كان مخالفا للظاهر منهم فيما ادعوه بعثمان.

- في إنكار عائشة على عثمان

- الجمل - الشيخ المفيد  ص 75، 77:

إنكار عائشة على عثمان: فأما تأليب عائشة على عثمان فهي أظهر مما وردت به الأخبار من تأليب طلحة والزبير عليه، فمن ذلك ما رواه محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن مشايخه عن حكيم بن عبد الله قال دخلت يوما بالمدينة إلى المسجد فإذا كف مرتفعة وصاحب الكف يقول: أيها الناس العهد قريب هذان نعلا رسول الله وقميصه وكأني أرى ذلك القميص يلوح تقول وإن فيكم فرعون هذه الأمة فإذا هي عائشة، وعثمان يقول لها اسكتي ثم يقول للناس إنها امرأة وعقلها عقل النساء فلا تصغوا إلى قولها.

وروى الحسن بن سعد قال رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودتين من وراء حجلها وعثمان قائم ثم قالت يا عثمان أقم ما في هذا الكتاب فقال لتنتهين عما أنت عليه أو لأدخلن عليك جمر النار فقالت له عائشة أما والله لئن فعلت ذلك بنساء النبي يلعنك الله ورسوله وهذا قميص رسول الله لم يتغير وقد غيرت سنته يا نعثلي.

وروى الليث بن أبي سليمان عن ثابت الأنصاري عن ابن أبي عامر مولى الأنصار قال كنت في المسجد فمر عثمان فنادته عائشة يا غدر يا فجر أخفرت أمانتك وضيعت رعيتك ولولا الصلاة الخمس لمشى إليك الرجال حتى يذبحوك ذبح الشاة فقال عثمان: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}.

وروى محمد بن إسحاق والمدايني وحذيفة قال لما عرفت عائشة أن الرجل مقتول تجهزت إلى مكة جاءها مروان بن الحكم وسعيد بن العاص فقالا لها إنا لنظن أن الرجل مقتول وأنت قادرة على الدفع عنه فإن تقيمي يدفع الله بك عنه قالت ما أنا بقاعدة وقد قدمت ركابي وغريت غرائري

وأوجبت الحج على نفسي فخرج من عندها مروان يقول: (زخرف قيس على البلاد حتى إذا اضطربت) فسمعته عائشة فقالت: أيها المتمثل هلم قد سمعت ما تقول أتراني في شك من صاحبك والله لوددت أنه في غرارة من غرايري حتى إذا مررت بالبحر قذفته فيه فقال مروان قد والله تبنيت قد والله تبنيت قال فسارت عائشة فاستقبلها ابن عباس بمنزل يقال له الصلعاء وابن عباس يريد المدينة فقالت يا بن عباس إنك قد أوتيت عقلا وبيانا وإياك أن ترد الناس عن قتل الطاغية، وهذه أيضا جملة من كثير ورد بها أخبار في تأليب عائشة على عثمان والسعي في دمه اقتصرنا عليها كراهة الإملال بالتطويل وفيها أوضح دليل على أن تظاهرها من بعد بطلب دمه ومباينة أمير المؤمنين عليه السلام وجمع الجموع لحربه والاجتهاد في نقض عهده وأمرها بسفك دمه لم يكن الباطن فيه كالظاهر بل كان لغير ذلك فيما اشتهر عند المعتبرين لأعمال القوم قديما وحديثا وأغراضهم في الأفعال وما فيه من يصرح القول عنهم في عداوتها له عليه السلام فليتأمل أولو الأبصار بما رويناه وليمعن النظر فيما ذكرناه ويجد الأمر فيه على ما وصفناه والله المستعان.

- المتقدمون على أمير المؤمنين ضلال فاسقون وبتأخيرهم أمير المؤمنين عصاة ظالمون وفي النار بظلمهم مخلدون

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 41، 42:

4- القول في المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام

واتفقت الإمامية وكثير من الزيدية على أن المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ضلال فاسقون، وأنهم بتأخيرهم أمير المؤمنين عليه السلام عن مقام رسول الله صلى الله عليه وآله عصاة ظالمون، وفي النار بظلمهم مخلدون.

وأجمعت المعتزلة والخوارج وجماعة من الزيدية والمرجئة والحشوية على خلاف ذلك ودانوا بولاية القوم، وزعموا أنهم لم يدفعوا حقا لأمير المؤمنين عليه السلام وأنهم من أهل النعيم إلا الخوارج والجميعة من الزيدية فإنهم تبرءوا من عثمان خاصة، وزعموا أنه مخلد في الجحيم بأحداثه في الدين لا بتقدمه على أمير المؤمنين عليه السلام.

- في الرد على من اعترض بقعود أمير المؤمنين عن المطالبة بحقه في الإمامة والخلافة

-  مسألتان في النص على علي عليه السلام ج 1 - الشيخ المفيد   ص 13:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ولي كل نعمة. سأل سائل فقال: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله عندكم قد نص على أمير المؤمنين سلام الله عليه، واستخلفه على أمته، فلم قعد عن حق له، وقد عول النبي صلى الله عليه وآله عليه فيه؟. فإن قلتم: فعل ذلك باختياره. نسبتموه إلى التضييع لأمر الله وأمر رسوله. وإن قلتم: فعل ذلك مضطرا. نسبتموه إلى الجبن والضعف، وقد علم الناس منه خلاف ذلك، لأنه صاحب المواقف المشهورة، والفروسية المذكورة.

وبعد ذلك، فلم أخذ عطاياهم، ونكح سبيهم، وصلى خلفهم، وحكم في مجالسهم؟! وكل ذلك يدل على فساد ما ذهبتم إليه في النص.

الجواب: قيل له: أما أخذه العطايا، إنما أخذ بعض حقه. وأما الصلاة خلفهم، فهو الإمام، من تقدم بين يديه فصلاته فاسدة، على أن كلا مؤد فريضة. وأما نكاحه من سبيهم، ففيه جوابان: أحدهما: على طريق الممانعة. والآخر: على طرية المتابعة.

فأما الذي على طريق الممانعة، فان الشيعة تروي أن الحنفية تزوجها من خالها القاسم بن مسلم الحنفي، واستدلوا على ذلك، بأن عمر ابن الخطاب لما رد من كان أبو بكر سباه، لم يرد الحنفية، ولو كانت من السبي لردها.

وأما الذي على طريق المتابعة: فهو إنا إذا سلمنا لكم أنه نكح من سبيهم، لم يكن لكم فيه ما أردتم، لأن الذين سباهم أبو بكر كانوا قادحين في نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن قدح في نبوته كفر، ونكاحهم حلال لكل أحد، ولو سباهم يزيد. وإنما كان يسوغ لكم ما ذكرتموه لو كان الذي سباهم قادحين في إمامته، فنكح أمير المؤمنين سلام الله عليه من سبيهم، لكن الأمر خلاف ذلك.

وأما حكمه في مجالسهم، فانه لو قدر ألا يدعهم يحكمون حكما واحدا لفعل، إذ الحكم له وإليه دونهم. وبالله التوفيق.

قال من كتب بخطه هذه المسألة: اختصرها كاتبها، وليست مستوفاة حسب ما أملاها رضي الله عنه، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين الطيبين الطاهرين.

-  مسألتان في النص على علي (ع) - الشيخ المفيد ج 2   ص 21:

بسم الله الرحمن الرحيم الملك الحق المبين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الهادين. وبعد، فقد سألني القاضي الباقلاني فقال: أخبرونا عن أسلافكم في النص على أمير المؤمنين عليه السلام أكثير أم قليل؟ فإن قلتم: قليل، قيل لكم: فلا تنكرون أن يتواطئوا على الكذب لان افتعال الكذب يجوز على القليل. وإن قلتم كثير، قيل لكم: فما بال أمير المؤمنين سلام الله عليه لم يقاتل بهم أعداءه، لاسيما وأنتم تدعون أنه لو أصاب أعوانا لقاتل!

الجواب وبالله الثقة: قيل له: أسلافنا بحمد الله في النص كثير لا يجوز عليهم افتعال الكذب، لكن ليس كل من يصلح لنقل الخبر يصلح للجهاد، لأنه قد يصلح لنقل الخبر الشيخ الكبير، الثقة، الأمين، ولا يصلح ذلك لضرب السيف. وأيضا فليست الحروب الدينية موقوفة على كثرة الرجال، وإنما هي موقوفة على المصلحة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله جاهد وهو في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وقعد عن الجهاد يوم الحديبية وهو في ثلاثة ألاف وستمائة رجل. فعلمت أن الحروب الدينية الشرعية موقوفة على المصلحة لا على العدد.

قال السائل: فأرنا وجه المصلحة في قعوده عن أخذ حقه لنعلم بذلك صحة ما ذكر تموه؟

قيل له: أول ما في هذا أنه لا يلزمنا ما ذكرت، لأنه الإمام المعصوم من الخطأ والزلل، لا اعتراض عليه في قعود وقيامه، بل يعلم في الجملة أن قعوده لمصلحة في الدين والدنيا. ثم تبين بعد ذلك بعض وجوه المصلحة، فيكون بعض ذلك أنه علم أن في المخالفين من يرجع عن الباطل إلى الحق بعد مدة ويستبصر، فكان ترك قتله مصلحة. ومنه أنه علم أن في ظهورهم مؤمنين لا يجوز قتلهم واجتياحهم، فكان ترك قتلهم مصلحة. ومنه شفقة منه على شيعته وولده أن يصطلموا فينقطع نظام الإمامة. وهذا كلام معروف يعرفه أهل العدل والمتكلمون، وهو من أصول الدين، ألا ترى أنا إذا سئلنا عن تغريق قوم نوح عليه السلام وهلاك قوم صالح لأجل ناقته، وبقاء قاتل الحسين عليه السلام، والحسين عند الله أعظم من ناقة صالح، لم يكن الجواب إلا ما ذكرناه من المصلحة، وما علمه الله من بقاء من بقاه. فلم يأت بشيء لذلك.

تكميل من كلام الشيخ الطوسي رحمه الله في المفصح: فان قيل: لو كان النص عليه صحيحا على ما ادعيتوه: وجب أن يحتج به وينكر على من يدفعه عن ذلك بيده ولسانه ولما جاز منه أن يصلي معهم ولا أن ينكح سبيهم ولا أن يأخذ من فيئهم ولا أن يجاهد معهم. وفي فعله عليه السلام ذلك كله دليل على بطلان ما تدعونه.

قيل له: الذي منع أمير المؤمنين عليه السلام من الاحتجاج بالنص عليه ما ظهر له بالأمارات اللايحة من... القوم على الأمر وإطراح العهد فيه وعزمهم على الاستبداد به مع البدار منهم إليه والانتهاز له وأيسه ذلك عن الانتفاع بالحجة، وربما أدى ذلك إلى دعواههم النسخ لوقوع النص عليه فتكون البلية بذلك أعظم، وان ينكروا وقوع النص جملة ويكذبوه في دعواه فيكون البلاء به أشد.

وأما ترك النكير عليهم باليد فهو انه لم يجد ناصرا ولا معينا على ذلك، ولو تولاه بنفسه وحامته لربما أدى ذلك إلى قتله أو قتل أهله وأحبته فلأجل ذلك عدل عن النكير. وقد بين ذلك عليه السلام في قوله: "أما والله لو وجدت أعوانا لقاتلتهم" وقوله أيضا بعد بيعة الناس له حين توجه إلى البصرة: "أما والله لولا حضور الناصر ولزوم الحجة وما أخذ الله على أوليائه ألا يقروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز".

فبين عليه السلام انه إنما قاتل من قاتل لوجود الأنصار وعدل عن قتال من عدل عن قتالهم لعدمهم. وأيضا فلو قاتلهم لربما أدى ذلك إلى بوار الإسلام والى ارتداد الناس إذ أكثر وقد ذكر ذلك في قوله: "أما والله لولا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم".

فأما الإنكار باللسان فقد أنكر عليه السلام في مقام بعد مقام، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: "لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله" ، وقوله: "اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم منعوني حقي وغصبوني إرثي"، وفي رواية أخرى: "اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني في" الحجر والمدر..."، قوله في خطبته المعروفة: "أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانه ليعلم إن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل ولا يرقى إلي الطير..." إلى آخر الخطبة، صريح بالإنكار والتظلم من الحق.

فأما ما ذكره السائل من صلاته معهم فانه عليه السلام إنما كان يصلى معهم لا على طريق الاقتداء بهم بل كان يصلى لنفسه وإنما كان يركع بركوع ويكبر بتكبيرهم، وليس ذلك بديل الاقتداء عند أحد من الفقهاء.

فأما الجهاد معهم فانه لم ير واحد انه عليه السلام جاهد معهم ولا سار تحت لوائهم، وأكثر ما روي في ذلك دفاعه عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وعن نفسه، وذلك واجب عليه وعلى كل احد أن يدفع عن نفسه وعن أهله وإن لم يكن هناك أحد يقتدي به.

فأما أخذه من فيئهم فإن ما كان يأخذ بعض حقه، ولمن له حق ، له أن يتوصل إلى أخذه بجميع أنواع التوصل ولم يكن يأخذ من أموالهم هم.

وأما نكاحه لسبيهم فقد اختلف في ذلك، فمنهم من قال: إن النبي عليه السلام وهب له الحنفية وإنما استحل فرجها بقوله عليه السلام.

وقيل أيضا: إنها أسلمت وتزوجها أمير المؤمنين عليه السلام. وقيل أيضا: إنه اشتراها فاعتقادهم تزوجها. وكل ذلك ممكن جائز ، على أن عندنا يجوز وطء سبي أهل الضلال إذا كان المسبي مستحقا لذلك، وهذا يسقط أصل السؤال.

فان قيل: لو كان عليه السلام منصوصا عليه لما جاز منه الدخول في الشورى، ولا الرضا بذلك، لأن ذلك خطأ على مذهبكم.

قيل له: إنما دخل عليه السلام في الشورى لأمور: منها انه دخلها ليتمكن من إيراد النص عليه والاحتجاج بفضائله وسوابقه، وما يدل على انه أحق بالأمر وأولى، وقد علمنا انه لو لم يدخلها لم يجز منه أن يبتدئ بالاحتجاج، وليس هناك مقام احتجاج وبحث فجعل عليه السلام الدخول فيها ذريعة إلى التنبيه على الحق بحسب الإمكان، على ما وردت به الرواية، فإنها وردت بأنه عليه السلام عدد في ذلك اليوم جميع فضائله ومناقبه أو أكثرها.

ومنها إن السبب في دخوله عليه السلام كان للتقية والاستصلاح لأنه عليه السلام لما دعى الدخول في الشورى أشفق من أن يمتنع فينسب منه الامتناع إلى المظاهرة والمكاشفة، والى أن تأخره عن الدخول إنما كان لاعتقاده إنه صاحب الأمر دون من ضم إليه فحمله على الدخول ما حمله في الابتداء على إظهار الرضا والتسليم.

فإن قيل: لو كان عليه السلام منصوصا عليه السلام على ما تدعون لوجب أن يكون من دفعه عن مقامه مرتدا كافرا، وفى ذلك، إكفار الأمة بأجمعها، وذلك خروج عن الإسلام: قيل له: الذي نقوله في ذلك: إن الناس لم يكونوا بأسرهم دافعين للنص وعاملين بخلافه مع علمهم الضروري به، وإنما بادر قوم من الأنصار -لما قبض الرسول عليه السلام- إلى طلب الإمامة واختلفت كلمة رؤسائهم واتصلت حالهم بجماعة من المهاجرين فقصدوا السقيفة عامين على إزالة الأمر من مستحقه والاستبداد به، وكان الداعي لهم إلى ذلك والحامل لهم عليه رغبتهم في عاجل الرياسة والتمكن من الحل والعقد، وانضاف إلى هذا الداعي ما كان في نفس جماعة منهم من الحسد لأمير المؤمنين عليه السلام والعداوة له لقتل من قتل من أقاربهم ولتقدمه واختصاصه بالفضائل الباهرة والمناقب الظاهرة التي لم يخل من اختص ببعضها من حسد وغبطة وقصد بعداوة وآنسهم بتمام ما حاولوه بعض الأنس بتشاغل بني هاشم وعكوفهم على تجهيز النبي عليه السلام فحضروا السقيفة ونازعوا في الأمر وقووا على الأمر وجرى ما هو مذكور. فلما رأى الناس فعلهم -وهم وجوه الصحابة ومن يحسن الظن بمثله وتدخل الشبهة بفعله- توهم أكثرهم أنهم لم يتلبسوا بالأمر ولا أقدموا فيه على ما أقدموا عليه إلا لعذر يسوغ لهم ويجوزه، فدخلت عليه الشبهة واستحكمت في نفوسهم، ولم يمعنوا النظر في حلها فمالوا ميلهم وسلموا لهم، وبقي العارفون بالحق والثابتون عليه غير متمكنين من إظهار ما في نفوسهم فتكلم بعضهم ووقع منهم من النزاع ما قد أتت به الرواية، ثم عاد عند الضرورة إلى الكف والإمساك وإظهار التسليم مع إبطان الاعتقاد للحق ولم يكن في وسع هؤلاء إلا نقل ما علموه وسمعوه من النص إلى إخلافهم ومن يأمنونه على نفوسهم فنقلوه وتواتروا الخبر به عنهم. على أن الله تعالى قد أخبر عن امة موسى عليه السلام أنها قد ارتدت بعد مفارقة موسى إياها إلى ميقات ربه وعبدوا العجل واتبعوا السامري وهم قد شاهدوا المعجزات مثل فلق البحر وقلب العصا حية واليد البيضاء وغير ذلك من المعجزات، وفارقهم موسى أياما معلومة، والنبي عليه السلام خرج من الدنيا بالموت فإذا كان كل ذلك جايزا عليهم فعلى امتنا أجوز وأجوز. على أن الله تعالى قد حكى في هذه الأمة واخبر أنها ترتد، قال الله تعالى: " {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه! قالوا: فاليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن إذن؟!". وقال عليه السلام: "ستفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار". وهذا كله يدل على جواز الخطأ عليهم بل على وقوعه فأين التعجب من ذلك؟.

فان قيل: كيف يكون منهم ما ذكرتموه من الضلال وقد أخبر الله تعالى أنه رضي عنهم، وأعد لهم جنات في قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} وذلك مانع من وقوع الضلال الموجب لدخول النار. قيل له: أما قوله: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ...} فإنما ذكر فيها الأولون منهم، ومن ذكرناه ممن دفع النص لم يكن من السابقين الأولين لأنهم أمير المؤمنين عليه السلام وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وخباب بن الارث، وغيرهم ممن دفع النص كان إسلامه متأخرا عن إسلام هؤلاء. على أن من ذكروه لو ثبت له السبق فإنما يثبت له السبق إلى الإسلام في الظاهر والباطن لا يعلمه إلا الله، وليس كل من اظهر السبق إلى الإسلام كان سبقه على وجه يستحق به الثواب، والله تعالى أنما عنى من يكون سبقه مرضيا على الظاهر والباطن، فمن أين لهم أن من ذكروه كان سبقه على وجه يستحق به الثواب. على أنهم لو كانوا هم المعنيين بالآية لم يمنع ذلك من وقوع الخطأ منهم ولا واجب لهم العصمة لان الرضى المذكور في الآية وما أعد الله من النعيم إنما يكون مشروطا بالإقامة على ذلك والموافاة به، وذلك يجرى مجرى قوله {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ولا أحد يقول إن ذلك يوجب لهم العصمة ولا يؤمن وقوع الخطأ منهم بل ذلك مشروط بما ذكرناه وكذلك حكم الآية.

وأيضا فانه لا يجوز أن يكون هذا الوعد غير مشروط وان يكون على الإطلاق إلا لمن علم عصمته ولا يجوز عليه شيء من الخطأ، لانه لو عنى من يجوز عليه الخطأ بالإطلاق، على كل وجه كان ذلك إغراء له بالقبيح ذلك فاسد بالإجماع، وليس احد يدعى للمذكورين العصمة فبطل أن يكونوا معنيين بالآية على الإطلاق. وأما قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ...} فالظاهر يدل على تعليق الرضى بالمؤمنين، والمؤمن هو المستحق للثواب وألا يكون مستحقا لشيء من العقاب فمن أين لهم أن القوم بهذه الصفة؟ فان دون ذلك خرط القتاد. على انه تعالى قد بين أن المعنى بالآية من كان باطنه مثل ظاهره بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ...} ثم قال: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} فبين أن الذي أنزل السكينة على هو الذي يكون الفتح على يديه، ولا خلاف أن أول حرب كانت بعد بيعة الرضوان خيبر، وكان الفتح فيها على يدي أمير المؤمنين عليه السلام بعد انهزام من انهزم من القوم فيجب أن يكون هو المعني بالآية. على أن ما قدمناه في الآية الأولى من أنها ينبغي أن تكون مشروطة وان لا تكون مطلقة، يمكن اعتماده هاهنا، وكذلك ما قلناه من أن الآية لو كانت مطلقة كان ذلك إغراء بالقبيح موجود في هذه الآية. ثم يقال لهم: قد رأينا من جملة السابقين ومن جملة المبايعين تحت الشجرة من وقع منهم الخطأ، ألا ترى أن طلحة والزبير كانا من جملة السابقين ومن جملة المبايعين تحت الشجرة وقد نكثا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام وقاتلاه وسفكا دماء شيعته، وتغلبا على أموال المسلمين، وكذلك فعلت عائشة، وهذا سعد بن أبى وقاص من جملة السابقين والمبايعين تحت الشجرة وقد تأخر عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وكذلك محمد بن مسلمة، وما كان أيضا من سعد بن عبادة وطلبة الأمر خطأ بلا خلاف، وقد استوفينا الكلام على هذه الطريقة في كتابنا المعروف بالاستيفاء في الإمامة، فمن أراد الوقوف عليه فليطلبه من هناك إن شاء الله.

- في خلافة أبي بكر

فصل: وحدثني الشيخ أبو عبد الله أيده الله قال أبو الحسن علي بن ميثم أبا الهذيل العلاف فقال له: أليس تعلم أن إبليس ينهى عن الخير كله ويأمر بالشر كله؟ فقال: نعم. قال: أفيجوز أن يأمر بالشر كله وهو لا يعرفه وينهى عن الخير كله وهو لا يعرفه؟ قال: لا. فقال له أبو الحسن رحمه الله: قد ثبت أن إبليس يعلم الشر كله والخير كله؟. قال أبو الهذيل: أجل. قال: فأخبرني عن إمامك الذي تأتم به بعد الرسول صلى الله عليه وآله هل يعلم الخير كله والشر كله؟ قال: لا. قال له: فإبليس أعلم من إمامك إذن. فانقطع أبو الهذيل.

وقال أبو الحسن علي بن ميثم يوما آخر لأبي الهذيل: أخبرني عمن اقر على نفسه بالكذب وشهادة الزور هل تجوز شهادته في ذلك المقام على آخرين؟ قال أبو الهذيل: لا يجوز ذلك. قال له أبو الحسن: أفلست تعلم أن الأنصار ادعت الإمرة لنفسها ثم أكذبت أنفسها في ذلك المقام وشهدت عليها بالزور ثم أقرت بها لأبي بكر وشهدت بها له. فكيف تجوز شهادة قوم قد أكذبوا أنفسهم وشهدوا عليها بالزور مع ما أخذنا رهنك به من القول في ذلك.

فقال لي الشيخ أيده الله: هذا كلام موجز في البيان والمعنى فيه على الإيضاح أنه إذا كان الدليل عند من خالفنا على إمامة أبي بكر إجماع المهاجرين عليه فيما زعمه والأنصار وكان معترفا ببطلان شهادة الأنصار له من حيث أقرت على أنفسها بباطل ما ادعته من استحقاق الإمامة، فقد صار وجود شهادتهم كعدمها وحصل الشاهد بإمامة أبي بكر من بعض الأمة لا كلها، وبطل ما ادعوه من الإجماع عليها.

ولا خلاف بيننا وبين خصومنا أن إجماع بعض الأمة ليس بحجة فيما ادعاه وان الغلط جائز عليهم، وفي ذلك فساد الاستدلال على إمامة أبي بكر بما ادعاه القوم وعدم البرهان عليها من جميع الوجوه.

- الإجماع على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام يبطل إمامة أبي بكر

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 25، 36:

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في إبطال إمامة أبى بكر من جهة الإجماع، سأله المعروف بالكتبي فقال له: ما الدليل على فساد إمامة أبى بكر؟ فقال له: الأدلة على ذلك كثيرة، وأنا أذكر لك منها دليلا يقرب إلى فهمك، وهو أن الأمة مجمعه على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام وقد أجمعت الأمة على أن أبا بكر قال على المنبر: "وليتكم ولست بخيركم فان استقمت فاتبعوني وإن اعوججت فقوموني" فاعترف بحاجته إلى رعيته، وفقره إليهم في تدبيره.

ولا خلاف بين ذوى العقول أن من احتاج إلى رعيته فهو إلى الإمام أحوج، وإذا ثبت حاجة أبى بكر إلى الإمام بطلت إمامته بالإجماع المنعقد على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام.

فلم يدر الكتبي بم يعترض وكان بالحضرة رجل من المعتزلة يعرف بعزرالة فقال: ما أنكرت على من قال لك: إن الأمة أيضا مجمعة على أن القاضي لا يحتاج إلى قاض، والأمير لا يحتاج إلى أمير فيجب على هذا الأصل أن توجب عصمة الأمراء والقضاة أو تخرج عن الإجماع.

فقال له الشيخ أدام الله عزه: إن سكوت الأول أحسن من كلامك هذا! وما كنت أظن أنه يذهب عليك الخطأ في هذا الفصل أو تحمل نفسك عليه مع العلم يوهنه وذلك أنه لا إجماع فيما ذكرت بل الإجماع في ضده لأن الأمة متفقة على أن القاضي الذي هو دون الإمام، يحتاج إلى قاض هو الإمام، والأمير من قبل الإمام يحتاج إلى أمير هو الإمام وذلك مسقط ما تعلقت به. اللهم إلا أن تكون أشرت بالأمير والقاضي إلى نفس الإمام فهو كما وصفت غير محتاج إلى قاض يتقدمه أو أمير عليه، وإنما استغنى عن ذلك لعصمته وكماله فأين موضع إلزامك عافاك الله؟. فلم يأت بشيء.

- في شك عمر بن الخطاب يوم قاضى فيه رسول الله أهل مكة

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 26، 27:

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضا سأله رجل من المعتزلة يعرف بابي عمرو الشطوي، فقال له: أليس قد أجمعت الأمة على أن أبا بكر وعمر كان ظاهرهما الإسلام؟ فقال له الشيخ: نعم قد أجمعوا على أنهما قد كانا على ظاهر الإسلام زمانا فأما أن يكونوا مجمعين على أنهما كانا في سائر أحوالهما على ظاهر الإسلام فليس في هذا إجماع للاتفاق على أنهما كانا على الشرك، ولوجود طائفة كثيرة العدد تقول: إنهما كانا بعد إظهارهما الإسلام على ظاهر كفر بجحد النص. وأنه كان يظهر منهما النفاق في حياة النبي صلى الله عليه وآله.

فقال الشطوي: قد بطل ما أردت أن أورده على هذا السؤال بما أوردت. وكنت أظن أنك تطلق القول على ما سألتك.

فقال له الشيخ أدام الله عزه: قد سمعت ما عندي، وقد علمت ما الذي أردت فلم أمكنك منه، ولكني أنا أضطرك إلى الوقوع فيما ظننت أنك توقع خصمك فيه، أليس الأمة مجمعة على أنه من اعترف بالشك في دين الله والريب في نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله فقد اعترف بالكفر وأقر به على نفسه؟ فقال: بلى. فقال له الشيخ أدام الله عزه: فإن الأمة مجمعة لا خلاف بينها على أن عمر بن الخطاب قال: ما شككت منذ يوم أسلمت إلا يوم قاضى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله أهل مكة، فإني جئت إليه فقلت له: يا رسول الله ألست بنبي؟ فقال: بلى، فقلت: ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، فقلت : فعلام تعطي هذه الدنية من نفسك؟ فقال: إنها ليست بدنية ولكنها خير لك. فقلت له: أليس قد وعدتنا أن ندخل مكة؟ قال: بلى. قلت: فما بالنا لا ندخلها؟ قال: أو عدتك أن تدخلها العام؟ قلت: لا، قال. فسندخلها إن شاء الله تعالى.

فاعترف بشكه في دين الله ونبوة رسول صلى الله عليه وآله وذكر مواضع شكوكه وبين عن جهاتها وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد حصل الإجماع على كفره بعد إظهار الإيمان واعترافه بموجب ذلك على نفسه. ثم ادعى خصومنا ظن الناصبة أنه تيقن بعد الشك ورجع إلى الإيمان بعد الكفر فأطرحنا قولهم لعدم البرهان عليه واعتمدنا على الإجماع فيما ذكرناه.

فلم يأت بشيء أكثر من أن قال: ما كنت أظن أن أحدا يدعي الإجماع على كفر عمر بن الخطاب حتى الآن.

فقال الشيخ أدام الله عزه: فالآن قد علمت ذلك وتحققته ولعمري إن هذا مما لم يسبقني إلى استخراجه أحد فان كان عندك شيء فأورده . فلم يأت بشيء.

- إجلاس رسول الله لأبي بكر وعمر في العريش يوم بدر ليس فضيلة بل لضعف رآه النبي فيهما

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 34، 35:

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه وقد سأله بعض أصحابه فقال له: إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله صلى الله عليه وآله في العريش كان أفضل من جهاد أمير المؤمنين عليه السلام بالسيف لأنهما كانا مع النبي صلى الله عليه وآله في مستقره يدبران الأمر معه ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه فبأي شيء يدفع هذا؟.

فقال له الشيخ أدام الله عزه: سبيل هذا القول أن يعكس وهذه القضية أن تقلب وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لو علم أنهما لو كانا في جملة المجاهدين بأنفسهما يبارزان الأقران ويقتلان الأبطال ويحصل لهما جهاد يستحقان به الثواب، لما حال بينهما وبين هذه المنزلة التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود على كل حال بنص الكتاب حيث يقول الله سبحانه: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}. فلما رأينا الرسول صلى الله عليه وآله قد منعهما هذه الفضيلة وأجلسهما معه، علمنا أن ذلك لعلمه بأنهما لو تعرضا للقتال أو عرضا له لأفسدا، إما بأن ينهزما، أو يوليا الدبر كما صنعا في يوم أحد وخيبر وحنين، فكان يكون في ذلك عظيم الضرر على المسلمين ولا يؤمن وقوع الوهن فيهم بهزيمة شيخين من جملتهم، أو كانا لفرط ما يلحقهما من الخوف والجزع يصيران إلى أهل الشرك مستأمنين أو غير ذلك من الفساد الذي يعلمه الله تعالى، ولعله لطف للأمة بان أمر نبيه صلى الله عليه وآله بحبسهما عن القتال، فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما، فقد ثبت أنه كان كاملا وأنهما كانا ناقصين عن كماله، وكان معصوما وكانا غي معصومين، وكان مؤيدا بالملائكة وكانا غير مؤيدين، وكان يوحى إليه وينزل القران عليه ولم يكونا كذلك، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لولا عمى القلوب وضعف الرأي وقلة الدين.

والذي يكشف لك عن صحة ما ذكرناه آنفا في وجه إجلاسهما معه في العريش، قول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، فلا يخلو الرجلان من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين، فإن كانا مؤمنين، فقد اشترى الله أنفسهما منهما بالجنة، على شرط القتال المؤدي إلى القتل منهما لغيرهما أو قتل غيرهما لهما، ولو كانا كذلك لما حال النبي صلى الله عليه وآله بينهما وبين الوفاء بشرط الله عليهما من القتل، وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير الصفة التي يعتقدها فيهما الجاهلون، فقد وضح بما بيناه أن العريش وبال عليهما ودليل على نقصهما وأنه بالضد مما توهموه لهما والمنة لله.

- في معنى قول رسول الله لأبي بكر لا تحزن وعلى من نزلت السكينة

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 42، 48:

فصل: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه قال الشيخ أدام الله عزه: قال أبو الحسين الخياط: جاءني رجل من أصحاب الإمامة عن رئيس لهم زعم أنه أمره أن يسألني عن قول النبي صلى الله عليه وآله لأبي بكر {لاَ تَحْزَنْ} أطاعة حزن أبي بكر أم معصية؟ قال: فإن كان طاعة فقد نهاه عن الطاعة، وإن كان معصية فقد عصى أبو بكر قال: فقلت له: دع الجواب اليوم ولكن ارجع إليه فاسأله عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام: {لا تَخَفْ} أيخلو خوف موسى عليه السلام من أن يكون طاعة أو معصية؟ فان يكن طاعة فقد نهاه عن الطاعة، وإن يكن معصية فقد عصى موسى عليه السلام. قال: فمضى ثم عاد إلي فقلت له: رجعت إليه؟ قال نعم، فقلت له: ما قال؟ قال: قال لي: لا تجلس إليه.

قال الشيخ أدام العزه: ولست أدري صحة هذه الحكاية ولا أبعد أن يكون تخرصها الخياط، ولو كان صادقا في قوله إن رئيسا من الشيعة أنفذ يسأله عن هذا السؤال لما قصر الرئيس عن إسقاط ما أورده من الاعتراض ويقوى في النفس أن الخياط أراد التقبيح على أهل الإمامة في تخرص هذه الحكاية، غير أني أقول له ولأصحابه: الفصل بين الأمرين واضح، وذلك أني لو خليت وظاهر قوله تعالى لموسى عليه السلام {لا تَخَفْ}، وقوله لنبيه صلى الله عليه وآله {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} وما أشبه هذا مما يوجه إلى الأنبياء لقطعت على أنه نهي لهم عن قبيح يستحق فاعله الذم عليه لأن في ظاهره حقيقة النهي من قوله: لا تفعل، كما أن في ظاهر خلافه ومقابله في الكلام حقيقة الأمر إذا قال له: افعل لكني عدلت عن الظاهر، في مثل هذا لدلالة عقلية أوجبت علي العدول عنه كما توجب الدلالة على المرور مع الظاهر عند عدم الدليل الصارف عنه وهي ما ثبت من عصمة الأنبياء عليهم السلام التي تنبي عن اجتنابهم الآثام.

وإذا كان الاتفاق حاصلا على أن أبا بكر لم يكن معصوما كعصمة الأنبياء وجب أن يجري كلام الله تعالى فيما ضمنه من قصته على ظاهر النهي وحقيقته وقبح الحال التي كان عليها، فتوجه النهي إليه عن استدامتها، إذ لا صارف يصرف عن ذلك من عصمة ولا خبر عن الله تعالى فيه ولا عن رسوله صلى الله عليه وآله، فقد بطل ما أورده الخياط وهو في الحقيقة رئيس المعتزلة وبان وهن اعتماده. ويكشف عن صحة ما ذكرناه ما تقدم به مشايخنا رحمهم الله تعالى وهو أن الله سبحانه لم ينزل السكينة قط على نبيه صلى الله عليه وآله في موطن كان معه فيه أحد من أهل الإيمان إلا عمهم في نزول السكينة وشملهم بها. بذلك جاء القران، قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وقال في موضع آخر: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولما لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله في الغار إلا أبو بكر أفرد الله عزوجل نبيه بالسكينة صلى الله عليه وآله دونه وخصه بها ولم يشركه معه وقال الله عز وجل: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} فلو كان الرجل مؤمنا لجرى مجرى المؤمنين في عموم السكينة لهم، ولولا أنه أحدث بحزنه في الغار منكرا لأجله توجه النهي إليه عن استدامته، لما حرمه الله تعالى من السكينة ما تفضل به على غيره من المؤمنين الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله في المواطن الأخرى على ما جاء في القران ونطق به محكم الذكر بالبيان، وهذا بين لمن تأمله.

قال الشيخ أيده الله: وقد حير هذا الكلام جماعة من الناصبة وضيق عليهم صدورهم فتشعبوا واختلفوا في الحيلة للتخلص منه فما اعتمد منهم أحد إلا على ما يدل على ضعف عقله وسخف رأيه وضلاله عن الطريق، فقال قوم منهم: إن السكينة إنما نزلت على أبي بكر واعتلوا في ذلك بأنه كان خائفا رعبا ورسول الله صلى الله عليه وآله كان آمنا مطمئنا وقالوا: والآمن غني عن السكينة وإنما يحتاج إليها الخائف الوجل.

فال الشيخ أدام الله عزه: فيقال لهم: قد جنيتم بجهلكم على أنفسكم وطعنتم على كتاب الله عز وجل بهذا الضعيف الواهي من استدلالكم، وذلك أنه لو كان ما اعتللتم به صحيحا لوجب أن لا تكون السكينة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم بدر ولا في يوم حنين لأنه لم يكن صلى الله عليه وآله في هذين الموطنين خائفا ولا رعبا ولا جزعا بل كان آمنا مطمئنا متيقنا بكون الفتح له وأن الله عز وجل يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وفيما نطق به القرآن من نزول السكينة عليه ما يدمر على هذا الاعتلال.

فإن قلتم: إن النبي صلى الله عليه وآله كان في هذين المقامين خائفا وإن لم يبد خوفه ولذلك نزلت السكينة عليه فيهما وحملتم أنفسكم على هذه الدعوى. قلنا لكم: وهذه كانت قصته صلى الله عليه وآله في الغار فبم تدفعون ذلك؟ فإن قلتم: إنه صلى الله عليه وآله قد كان محتاجا إلى السكينة في كل حال لينتفي عنه الخوف والجزع ولا يتعلقان به في شيء من الأحوال، نقضتم ما سلف لكم من الاعتلال وشهدتم ببطلان مقالكم الذي قدمناه.

على أن نص التلاوة يدل على خلاف ما ذكرتموه، وذلك أن الله سبحانه قال: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} فأنبأ الله سبحانه خلقه أن الذي نزلت عليه السكينة هو المؤيد بالملائكة إذ كانت الهاء التي في التأييد تدل على ما دلت عليه الهاء التي في نزول السكينة وكانت هاء الكناية في مبتدأ قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} إلى قوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} عن مكنى واحد ولم يجز أن تكون عن اثنين غيرين كما لا يجوز أن يقول القائل لقيت زيدا فكلمته وأكرمته فيكون الكلام لزيد بهاء الكناية وتكون الكرامة لعمرو أو خالد أو بكر، وإذا كان المؤيد بالملائكة رسول الله صلى الله عليه وآله باتفاق الأمة فقد ثبت أن الذي نزلت عليه السكينة هو خاصة دون صاحبه، وهذا ما لا شبهة فيه.

وقال قوم منهم: إن السكينة وإن اختص بها النبي صلى الله عليه وآله فليس يدل ذلك على نقص الرجل لان السكينة إنما يحتاج إليها الرئيس المتبوع دون التابع، فيقال لهم: هذا أيضا رد على الله تعالى لأنه قد أنزلها على الاتباع المرؤوسين ببدر وحنين وغيرهما من المقامات، فيجب على ما أضلتموه أن يكون الله سبحانه فعل بهم ما لم تكن بهم الحاجة إليه، ولو فعل ذلك لكان عابثا تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

قال الشيخ: وهاهنا شبهة يمكن إيرادها هي أقوى مما تقدم غير أن القوم لم يهتدوا إليها ولا أظن أنها خطرت ببال أحد منهم، وهي أن يقول قائل: قد وجدنا الله سبحانه ذكر شيئين ثم عبر عن أحدهما بالكناية فكانت الكناية عنهما دون أن تختص بأحدهما وهو مثل قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه} فأورد لفظ الكناية عن الفضة خاصة وإنما أرادهما جميعا معا وقد قال الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما     عندك راض والرأي مختلف

وإنما أراد: نحن بما عندنا راضون وأنت راض بما عندك، فذكر أحد الأمرين واستغنى عن الآخر، كذلك يقول سبحانه: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} ويريدهما جميعا دون أحدهما.

والجواب عن هذا وبالله التوفيق: أن الاقتصار بالكناية على أحد الأمرين دون عموم الجميع مجاز واستعارة استعمله أهل اللسان في مواضع مخصوصة وجاء به القرآن في أماكن محصورة، وقد ثبت أن الاستعارة ليست بأصل يجري في الكلام ولا يصح عليها القياس وليس يجوز لنا أن نعدل عن ظواهر القرآن وحقيقة الكلام إلا بدليل يلجي إلى ذلك ولا دليل في قوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فيتعدى من أجله المكنى عنه إلى غيره.

وشيء آخر وهو أن العرب إنما تستعمل ذلك إذا كان المعنى فيه معروفا والالتباس منه مرتفعا فتكتفي بلفظ الواحد عن الاثنين للاختصار مع الأمن من وقوع الشبهة والارتياب، فأما إذا لم يكن الشيء معروفا وكان الالتباس عند إفراده متوهما لم يستعمل ذلك ومن استعمله كان عندهم ملغزا معميا، ألا ترى أن الله سبحانه لما قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} علم كل سامع للخطاب أنه أرادهما معا بما قدمه من كراهة كنزهما المانع من انفاقهما فلما عم الشيئين بذكر يتضمنهما في ظاهر المقال بما يدل على معنى ما أخره من ذكر الإنفاق، اكتفى بذكر أحدهما للاختصار. وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} إنما اكتفى بالكناية عن أحدهما في ذكرهما معا لما قدمه في ذكرهما من دليل ما تضمنته الكناية فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} فأوقع الرؤية على الشيئين جميعا وجعلهما سببا للاشتغال بما وقعت عليه منهما عن ذكر الله عز وجل والصلاة، وليس يجوز أن يقع الالتباس في أنه أراد أحدهما مع ما قدمه من الذكر إذ لو أراد ذلك لخلا الكلام عن الفائدة المعقولة فكان العلم بذلك يجزي في الإشارة إليه.

وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} لما تقدم ذكر الله على التفصيل وذكر رسوله على البيان دل على أن الحق في الرضا لهما جميعا وإلا لم يكن ذكرهما جميعا معا يفيد شيئا على الحد الذي قدمناه وكذلك قول الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما         عندك راض والرأي مختلف

لو لم يتقدمه قوله: نحن بما عندنا، لم يجز الاقتصار على الثاني لأنه لو حمل الأول على إسقاط المضمر من قوله راضون لخلا الكلام عن الفائدة فلما كان سائر ما ذكرناه معلوما عند من عقل الخطاب جاز الاقتصار فيه على أحد المذكورين للإيجاز والاختصار وليس كذلك قوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} لان الكلام يتم فيها وينتظم في وقوع الكناية عن النبي صلى الله عليه وآله خاصة دون الكائن معه في الغار، ولا يفتقر إلى رد الهاء عليهما معا مع كونها في الحقيقة كناية عن واحد في الذكر وظاهر اللسان، ولو أراد بها الجميع لحصل الالتباس والتعمية والألغاز لأنه كما يكون التلبيس واقعا عند دليل الكلام على انتظامها للجميع متى أريد بها الواحدة مع عدم الفائدة لو لم يرجع على الجميع، كذلك يكون التلبيس حاصلا إذا أريد بها الجميع عند عدم الدليل الموجب لذلك وكمال الفائدة مع الاقتصار على الواحد في المراد. ألا ترى أن قائلا لو قال: لقيت زيدا ومعه عمرو فخاطبت زيدا وناظرته، وأراد بذلك مناظرة الجميع لكان ملغزا معميا لأنه لم يكن في كلامه ما يفتقر إلى عموم الكناية عنهما، ولو جعل هذا نظيرا للآيات التي تقدمت لكان جاهلا بفرق ما بينها وبينه مما شرحناه. فيعلم أنه لا نسبة بين الأمرين.

وشيء آخر وهو أن الله سبحانه وتعالى كنى بالهاء التالية للهاء التي في السكينة عن النبي صلى الله عليه وآله خاصة فلم يجز أن يكون أراد بالأولة غير النبي صلى الله عليه وآله خاصة لأنه لا يعقل في لسان القوم كناية عن مذكورين بلفظ الواحد وكناية تردفها على النسق عن واحد من الاثنين.

وليس لذلك نظير في القرآن ولا في الأشعار ولا في شيء من الكلام فلما كانت الهاء في قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} كناية عن النبي صلى الله عليه وآله بالاتفاق، ثبت أن التي قبلها من قوله: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} كناية عنه صلى الله عليه وآله خاصة وبأن مفارقة ذلك لجميع ما تقدم ذكره من الآي والشعر الذي استشهدوا به والله الموفق للصواب بمنه.

- حكاية عن هشام بن الحكم في تأويل اختصام العباس وأمير المؤمنين  في الميراث

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 49 :

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: سأل يحيى بن خالد البرمكي بحضرة الرشيد، هشام بن الحكم رحمه الله، فقال له : أخبرني يا هشام عن الحق هل يكون في جهتين مختلفتين؟ قال هشام: لا، قال: فخبرني عن نفسين اختصما في حكم في الدين وتنازعا واختلفا هل يخلوان من أن يكونا محقين أو مبطلين أو يكون أحدهما مبطلا والآخر محقا؟

فقال له هشام: لا يخلوان من ذلك وليس يجوز أن يكونا محقين على ما قدمت من الجواب، قال له يحيى بن خالد: فخبرني عن علي عليه السلام والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث أيهما كان المحق من المبطل إذ كنت لا تقول إنهما كانا محقين ولا مبطلين؟.

قال هشام: فنظرت فإذا إنني إن قلت بأن عليا عليه السلام كان مبطلا، كفرت وخرجت عن مذهبي، وإن قلت إن العباس كان مبطلا ضرب الرشيد عنقي ووردت علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك الوقت ولا أعددت لها جوابا. فذكرت قول أبي عبد الله عليه السلام وهو يقول لي: يا هشام لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. فعلمت أني لا اخذل وعن لي الجواب في الحال فقلت له: لم يكن من أحدهما خطأ وكانا جميعا محقين ولهذا نظير قد نطق به القران في قصة داود عليه السلام حيث يقول الله جل اسمه: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} إلى قوله: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} فأي الملكين كان مخطئا وأيهما كان مصيبا أم تقول إنهما كانا مخطئين فجوابك في ذلك جوابي بعينه؟.

فقال يحيى: لست أقول إن الملكين أخطئا بل أقول إنهما أصابا، وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة ولا اختلفا في الحكم وإنما أظهرا ذلك لينبها داود عليه السلام على الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه. قال: فقلت له: كذلك علي عليه السلام والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطئه ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث، ولم يكونا في ريب من أمرهما وإنما كان ذلك منهما على حد ما كان من الملكين فلم يحر جوابا واستحسن ذلك الرشيد.

- أمير المؤمنين لم يبايع أبا بكر قط

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 56، 57:

فصل: ومن كلامه أيضا في الدلالة على أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يبايع أبا بكر، قال الشيخ أدام الله عزه: قد أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه السلام تأخر عن بيعة أبي بكر فالمقلل يقول: كان تأخره ثلاثة أيام، ومنهم من يقول: تأخر حتى ماتت فاطمة عليها السلام ثم بايع بعد موتها، ومنهم من يقول: تأخر أربعين يوما، ومنهم من يقول: تأخر ستة أشهر، والمحققون من أهل الإمامة يقولون: لم يبايع ساعة قط، فقد حصل الإجماع على تأخره عن البيعة ثم اختلفوا في بيعته بعد ذلك على ما قدمنا به الشرح.

فمما يدل على أنه لم يبايع البتة أنه ليس يخلو تأخره من أن يكون هدى وتركه ضلالا أو يكون ضلالا وتركه هدى وصوابا، أو يكون صوابا وتركه صوابا، أو يكون خطأ وتركه خطأ، فلو كان التأخر ضلالا وباطلا، لكان أمير المؤمنين عليه السلام قد ضل بعد النبي صلى الله عليه وآله بترك الهدى الذي كان يجب المصير إليه وقد أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يقع منه ضلال بعد النبي صلى الله عليه وآله ولا في طول زمان أبي بكر وأيام عمر وعثمان وصدرا من أيامه حتى خالفت الخوارج عند التحكيم وفارقت الأمة، وبطل أن يكون تأخره عن بيعة أبي بكر ضلالا. وإن كان تأخره هدى وصوابا وتركه خطأ وضلالا فليس يجوز أن يعدل عن الصواب إلى الخطأ ولا عن الهدى إلى الضلال لاسيما والإجماع واقع على أنه لم يظهر منه ضلال في أيام الثلاثة الذين تقدموا عليه، ومحال أن يكون التأخر خطأ وتركه خطا للإجماع على بطلان ذلك أيضا ولما يوجبه القياس من فساد هذا المقال. وليس يصح أن يكون صوابا وتركه صوابا لان الحق لا يكون في جهتين مختلفتين ولا على وصفين متضادين. ولأن القوم المخالفين لنا في هذه المسالة مجمعون على أنه لم يكن إشكال في جواز الاختيار وصحة إمامة أبي بكر وإنما الناس بين قائلين قائل من الشيعة يقول: إن إمامة أبي بكر كانت فاسدة فلا يصح القول بها أبدا، وقائل من الناصبة يقول: إنها كانت صحيحة ولم يكن على أحد ريب في صوابها إذ جهة استحقاق الإمامة هو ظاهر العدالة والنسب والعلم والقدرة على القيام بالأمور ولم تكن هذه الأمور تلتبس على أحد في أبي بكر عندهم. وعلى ما يذهبون إليه فلا يصح مع ذلك أن يكون المتأخر عن بيعته مصيبا أبدا لأنه لا يكون متأخرا لفقد الدليل بل لا يكون متأخرا لشبهة وإنما يتأخر إذا ثبت أنه تأخر للعناد. فثبت بما بيناه أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يبايع أبا بكر على شيء من الوجوه كما ذكرناه وقدمناه.

وقد كانت الناصبة غافلة عن هذا الاستخراج في موافقتها على أن أمير المؤمنين عليه السلام تأخر عن البيعة وقتا ما، ولو فطنت له لسبقت بالخلاف فيه عن الإجماع وما أبعد أنهم سيرتكبون ذلك إذا وقفوا على هذا الكلام غير أن الإجماع السابق لمرتكب ذلك يحجه ويسقط قوله، فيهون قصته ولا يحتاج معه إلى الإكثار.

- في صلاة أمير المؤمنين خلف القوم

- نقل المفيد: ضرب أمير المؤمنين الوليد بن عقبة الحد بين يدي عثمان لأن الحد له وإليه فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل حيلة

- نقل المفيد: أشار أمير المؤمنين على أبي بكر وعمر طلبا منه أن يحيي أحكام الله تعالى ويكون دينه القيم كما أشار يوسف على ملك مصر نظرا منه للخلق ولأن الأرض والحكم فيها إليه فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل وإذا لم يمكنه ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لإحياء أمر الله تعالى

- قعد أمير المؤمنين عن قتال من تقدمه كما قعد هارون بن عمران عن السامري وأصحابه وقد عبدوا العجل

- نقل المفيد: قعد أمير المؤمنين في الشورى اقتدارا منه على الحجة وعلما منه بان القوم إن ناظروه وأنصفوا كان هو الغالب ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه

- نقل المفيد: زوج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ابنته لإظهاره الشهادتين وإقراره بفضل رسول الله وأراد بذلك استصلاحه وكفه عنه وقد عرض لوط بناته على قومه وهم كفار ليردهم عن ضلالتهم

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 69، 70:

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: سئل أبو الحسن علي بن إسماعيل بن ميثم رحمه الله فقيل له: لم صلى أمير المؤمنين عليه السلام خلف القوم؟ قال: جعلهم بمثل سواري المسجد.

قال السائل: فلم ضرب الوليد بن عقبة الحد بين يدي عثمان؟ قال: لأن الحد له وإليه فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل حيلة.

قال: فلم أشار على أبي بكر وعمر؟ قال: طلبا منه أن يحيى أحكام الله عز وجل ويكون دينه القيم كما أشار يوسف عليه السلام على ملك مصر نظرا منه للخلق، ولأن الأرض والحكم فيها إليه فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل وإذا لم يمكنه ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لإحياء أمر الله تعالى.

قال: فلم قعد عن قتالهم؟. قال: كما قعد هارون بن عمران عن السامري وأصحابه وقد عبدوا العجل، قال: أفكان ضعيفا؟ قال: كان كهارون عليه السلام حيث يقول: * {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} وكان كنوح عليه السلام، إذ قال:  {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} وكان كلوط عليه السلام إذ قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وكان كموسى وهارون عليهما السلام إذ قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}.

قال: فلم قعد في الشورى؟ قال: اقتدارا منه على الحجة وعلما منه بان القوم إن ناظروه وأنصفوا كان هو الغالب، ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه، لأنه من كان له حق فدعي إلى أن يناظر فيه فان ثبت له الحجة سلم الحق إليه وأعطيه فإن لم يفعل بطل حقه وأدخل بذلك الشبهة على الخلق، وقد قال عليه السلام يومئذ: اليوم أدخلت في باب إن أنصفت فيه وصلت إلى حقي، يعني أن أبا بكر استبد بها يوم السقيفة ولم يشاوره.

قال: فلم زوج عمر بن الخطاب ابنته؟ قال: لإظهاره الشهادتين وإقراره بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله وأراد بذلك استصلاحه وكفه عنه وقد عرض لوط عليه السلام بناته على قومه وهم كفار ليردهم عن ضلالتهم فقال: {هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌْ}.

- بين فضل بن الحسن الكوفي وأبي حنيفة في الخلافة

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 74 :

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه أيضا مرسلا قال: مر فضال بن الحسن بن فضال الكوفي بابي حنيفة وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه، فقال لصاحب كان معه: والله لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة، فقال صاحبه: إن أبا حنيفة ممن قد علمت حاله ومنزلته وظهرت حجته، فقال: مه هل رأيت حجة كافر علت على مؤمن، ثم دنا منه فسلم عليه فرد ورد القوم بأجمعهم السلام. فقال: يا أبا حنيفة رحمك الله إن لي أخا يقول: إن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب وأنا أقول: إن أبا بكر خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده عمر فما تقول أنت رحمك الله؟ فاطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: كفى بمكانهما من رسول الله كرما وفخرا أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره فأي حجة أوضح لك من هذه؟ فقال له فضال: إني قد قلت ذلك لأخي، فقال. والله لئن كان الموضع لرسول الله يردونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله صلى الله عليه وآله لقد أساءا وما أحسنا إليه إذ رجعا في هبتهما ونكثا عهدهما. فاطرق أبو حنيفة ساعة، ثم قال قل له: لم يكن لهما ولا له خاصة ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما، فقال له فضال: قد قلت له ذلك، فقال: أنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وآله مات عن تسع حشايا فنظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله صلى الله عليه وآله وفاطمة ابتنه تمنع الميراث؟ فقال أبو حنيفة: يا قوم نحوه عني فانه والله رافضي خبيث.

- نقل المفيد: دليل على كون أمير المؤمنين أولى بالإمامة من أبي بكر

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 86 :

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: سأل أبو الهذيل العلاف أبا الحسن علي بن ميثم رحمه الله عند علي بن رياح فقال له: ما الدليل على أن عليا كان أولى بالامامة من أبي بكر؟ فقال له: الدليل على ذلك إجماع أهل القبلة على أن عليا عليه السلام كان عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله مؤمنا عالما كافيا ولم يجمعوا بذلك على أي بكر، فقال له أبو الهذيل. ومن لم يجمع عليه عافاك الله؟ قال له أبو الحسن: أنا وأسلافي من قبل وأصحابي الآن، فقال له أبو الهذيل: فأنت وأصحابك ضلال تائهون، قال له أبو الحسن. ليس جواب هذا الكلام إلا السباب ثم اللطام.

- في بني تميم

 - الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 87 :

فصل: قال الشيخ أدام الله عزه: حضرت يوما مجلسا فجرى فيه كلام في رذالة بني تيم بن مرة وسقوط أقدارهم فقال شيخ من الشيعة: قد ذكر أبو عيسى الوراق فيما يدل على ذلك قول الشاعر:

ويقضى الأمر حين تغيب تيم  *  ولا يستأذنون وهم شهود

وإنك لو رأيت عبيد تيم  *  وتيما قلت أيهما العبيد

فذكر الشاعر أن الرائي لهم لا يفرق بين عبيدهم وساداتهم من الضعة وسقوط القدر، فانتدب له أبو العباس هبة الله المنجم فقال له: يا شيخ ما أعرفك بأشعار العرب، هذا في تيم بن مرة، أو في تيم الرباب، وجعل يتضاحك بالرجل ويتماجن عليه يقول له: سبيلك إلى أن تؤلف دواوين العرب فان بصرك بها حسن.

فقال الشيخ أدام الله عزه: فقلت له: قد جعلت هذا الباب رأس مالك، ولو أنصفت في الخطاب لأنصفت في الاحتجاج وإن أخذنا معك في إثبات هذا الشعر تعلق البرهان فيه بالرجال والكتب والمصنفات، واندفع المجلس ومضى الوقت ولكن بيننا وبينك كتب السير وكل من اطلع على حديث الجمل وحرب البصرة، فهل ريب في شعر عمير بن الأهلب الضبي وهو يجود بنفسه بالبصرة وقد قتل بين يدي الجمل وهو يقول:

لقد أوردتنا حومة الموت أمنا  *  فلم ننصرف إلا ونحن رواء

نصرنا قريشا ضلة من حلومنا  *  ونصرتنا أهل الحجاز عناء

لقد كان عن نصر ابن ضبة أمة  *  وشيعتها مندوحة وغناء

نصرنا بني تيم بن مرة شقوة  *  وهل تيم إلا أعبد وإماء

وهو قول رجل من أنصار عائشة، ومن سفك دمه في ولايتها يقول هذا القول في قبيلتها بلا ارتياب بين أهل السير، ولم يك بالذي يقوله في تلك الحال إلا وهو معروف عند الرجال غير مشكوك فيه عند أحد من العارفين بقبائل العرب من سائر الناس فاخذ في الضجيج ولم يأت بشيء.

- دليل على إثبات الحكم بقول فاطمة الزهراء في شأن فدك

- فاطمة الزهراء معصومة يجب القطع بقولها ويستغنى عن الشهود في دعواها ولو شهد عليها شهود بما يوجب إقامة الحد من الفعل المنافي للعصمة لكان الشهود مبطلين في شهادتهم ووجب على الأمة تكذيبهم وعلى السلطان عقوبتهم

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 88 :

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله: عزه في إثبات الحكم بقول فاطمة عليها السلام قال الشيخ أيده الله: قد ثبت عصمة فاطمة عليها السلام بإجماع الأمة على ذلك فتيا مطلقة، وإجماعهم على أنه لو شهد عليها شهود بما يوجب إقامة الحد من الفعل المنافي للعصمة لكان الشهود مبطلين في شهادتهم ووجب على الأمة تكذيبهم وعلى السلطان عقوبتهم فإن تعالى قد دل على ذلك بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ولا خلاف بين نقلة الآثار أن فاطمة عليها السلام كانت من أهل هذه الآية، وقد بينا فيما سلف أن ذهاب الرجس عن أهل البيت الذين عنوا بالخطاب يوجب عصمتهم ولإجماع الأمة أيضا على قول النبي صلى الله عليه وآله: "من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عزوجل".

فلولا أن فاطمة عليها السلام كانت معصومة من الخطأ، مبرأة من الزلل لجاز منها وقوع ما يجب أذهاب به بالأدب والعقوبة، ولو وجب ذلك لوجب أذاها، ولو جاز وجوب أذاها لجاز أذى رسول الله صلى الله عليه وآله والأذى لله عز وجل فلقا بطل ذلك دل على أنها عليها السلام كانت معصومة حسبما ذكرناه.

وإذا ثبت عصمة فاطمة عليها السلام وجب القطع بقولها واستغنت عن الشهود في دعواها لان المدعي إنما افتقر للشهود له لارتفاع العصمة عنه وجواز ادعائه الباطل فيستظهر بالشهود على قوله لئلا يطمع كثير من الناس في أموال غيرهم وجحد الحقوق الواجبة عليهم.

وإذا كانت العصمة مغنية عن الشهادة وجب القطع على قول فاطمة عليها السلام وعلى ظلم مانعها فدكا ومطالبها بالبينة عليها.

ويكشف عن صحة ما ذكرناه أن الشاهدين إنما يقبل قولهما على الظاهر مع جواز أن يكونا مبطلين كاذبين فيما شهدا به، وليس يصح الاستظهار على قول من قد أمن منه الكذب بقول من لا يؤمن عليه ذلك، كما لا يصح الاستظهار على قول المؤمن بقول الكافر وعلى قول العدل البر بقول الفاسق الفاجر ويدل أيضا على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله استشهد على قوله فشهد خزيمة بن ثابت في ناقة نازعه فيها منازع، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: من أين علمت يا خزيمة أن هذه الناقة لي؟ أشهدت شراي لها؟ فقال: لا ولكني علمت أنها لك من حيث علمت أنك رسول الله، فأجاز النبي صلى الله عليه وآله شهادته كشهادة رجلين وحكم بقوله، فلولا أن العصمة دليل الصدق (و) تغني عن الاستشهاد لما حكم النبي صلى الله عليه وآله بقول خزيمة بن ثابت وحده وصوبه في الشهادة له على ما لم يره ولم يحضره باستدلاله عليه بدليل نبوته وصدقه على الله سبحانه فيما أداه إلى بريته.

وإذا وجب قبول قول فاطمة عليها السلام بدلائل صدقها واستغنت عن الشهود لها، ثبت أن من منع حقها وأوجب الشهود على صحة قولها قد جار في حكمه وظلم في فعله وآذى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله بإيذانه لفاطمة عليها السلام، وقد قال الله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}.

- نقل المفيد: في الرد على ما نقلته العامة أن  أمير المؤمنين قال لما قبض عمر لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 90 :

فصل: ومن حكايته أدام الله عزه قال: سئل هشام بن الحكم رحمه الله عما ترويه العامة من قول أمير المؤمنين عليه السلام لما قبض عمر، وقد دخل عليه وهو مسجى: "لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى"، وفي حديث آخر لهم "إني لأرجو أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى".

فقال هشام: هذا حديث غير ثابت ولا معروف الإسناد وإنما حصل من جهة القصاص وأصحاب الطرقات، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفا، وذلك أن عمر واطأ أبا بكر والمغيرة وسالما مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة على كتب صحيفة بينهم يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله صلى الله عليه وآله لم يورثوا أحدا من أهل بيته ولم يولوهم مقامه من بعده، فكانت الصحيفة لعمر إذ كان عماد القوم والصحيفة التي ود أمير المؤمنين عليه السلام ورجا أن يلقى الله بها هي هذه الصحيفة فيخاصمه بها ويحتج عليه بمتضمنها.

والدليل على ذلك ما روته العامة عن أبي بن كعب أنه كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن أفضي الأمر إلى أبي بكر بصوت يسمعه أهل المسجد "ألا هلك أهل العقدة والله ما آسي عليهم إثما آسي على من يضلون من الناس، فقيل له: يا صاحب رسول الله من هؤلاء أهل العقدة؟ وما عقدتهم؟ فقال: قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا أحدا من أهل بيته ولا ولوهم مقامه، أما والله لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاما أبين به للناس أمرهم، قال: فما أتت عليه الجمعة".

- في صلاة أبي بكر بالناس

- صلاة أبي بكر بالناس كانت بأمر عائشة ومن جهتها

- في قول النبي إنكن لصويحبات يوسف

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 124، 128:

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضا، سئل عن صلاه أبي بكر بالناس هل كانت عن أمر النبي صلى الله عليه وآله أم عن غير أمره؟ فقال: الذي صح في ذلك وثبت أن عائشة قالت: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فكان الأمر بذلك من جهتها في ظاهر الحال، وادعى المخالفون أنها إنما أمرت بذلك عن النبي صلى الله عليه وآله ولم تثبت لهم هذه الدعوى بحجة يجب قبولها.

قال الشيخ أدام الله عزه: والدليل على أن الأمر كان مختصا بعائشة دون النبي صلى الله عليه وآله قول النبي لها عند إفاقته من غشيته وقد سمع صوت أبي بكر في المحراب: "إنكن لصويحبات يوسف" ومبادرته معجلا معتمدا على أمير المؤمنين عليه السلام والفضل بن العباس ورجلاه يخطان الأرض من الضعف حتى نحى أبا بكر عن المحراب، فلو كان عليه السلام هو الذي أمره بالصلاة لما رجع باللوم على أزواجه في ذلك ولا بادر وهو على الحال التي وصفناها حتى صرفه عن الصلاة، ولكان قد أقره حتى يقضي فرضه ويتم الصلاة وفي صرفه له وقوله لعائشة ما ذكرناه، دليل على صحة ما وصفناه.

قال الشيخ أدام الله عزه: وقد تعلق القوم في تأويل قول النبي صلى الله عليه وآله "إنكن لصويحبات يوسف" بشيء يدل على جهلهم، فقالوا: إن لهذا القول من النبي صلى الله عليه وآله سببا معروفا وهو أنه صلى الله عليه وآله قال: قدموا أبا بكر، فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف فإن قام مقامك لم يملك العبرة فمر عمر أن يصلي بالناس. فقال النبي صلى الله عليه وآله لها عند خلافها عليه: "إنكن لصويحبات يوسف".

وقد كان اعترض علي بهذا الكلام شيخ من مشايخ أهل الحديث واعتمده. فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد اعترفت بخلاف عائشة للنبي صلى الله عليه وآله وردها عليه أمره حتى أنكر عليها ذلك، وفي الاعتراف به شهادة منك عليها بالمعصية لله عز وعلا ولرسوله وهذا أعظم مما تنكرونه على الشيعة من شهادتهم عليها بالمعصية بعد النبي صلى الله عليه وآله عند محاربتها لأمير المؤمنين عليه السلام.

والثاني أنه لا خلاف أن النبي صلى الله عليه وآله كان من أحكم الحكماء وأفصح الفصحاء ولم يكن يشبه الشيء بخلافه ويمثله بضده وإنما كان يضع المثل في موضعه فلا يخرم مما مثله به في معناه شيئا، ونحن نعلم أن صويحبات يوسف إنما عصين الله وخالفنه بأن أرادت كل واحدة منهن من يوسف عليه السلام ما أرادته الأخرى وفتنت به كما فتنت به صاحبتها، وبذلك نطق القرآن قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ}.

فلو كانت عائشة دفعت الأمر عن أبيها ولم ترد شرف ذلك المقام له ولم تفتتن بمحبة الرئاسة وعلو المنزلة، لكان النبي صلى الله عليه وآله في تشبيهها بصويحبات يوسف قد وضع المثل في غير موضعه وشبه الشيء بضده وخلافه ورسول الله صلى الله عليه وآله يجل عن هذه الصفة ولا يجوز عليه النقص ويرتفع عن الجهل بحقيقة الأمثلة.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه ثبت أن التمثيل إنما وقع من النبي صلى الله عليه وآله لموضع خلاف المرأة له وتقدمها بالأمر لأبيها عليه لفتنتها بمحبة الاستطالة والرغبة في حوز الفضيلة بذلك والرئاسة على ما قدمناه.

قال الشيخ أدام الله عزه: وقد قالوا أيضا في مبادرة النبي صلى الله عليه وآله بالخروج إلى المسجد وصرف أبي بكر عن الصلاة إنما كان ذلك لان المسلمين كانوا متعلقي القلوب برسول الله صلى الله عليه وآله محزونين بتأخره عنهم فخشى عليه السلام أن يتأخر عنهم فيختلفوا ويرجف عليه منهم المرجفون، ولم يبادر إلى ما ذكرتموه من الإنكار لصلاة أبي بكر بالناس. فيقال لهم لو كان الأمر على ما وصفتموه لما نحى رسول الله بين أبا بكر عن المحراب، ولأمكنه الوصول إلى غرضه مع إتمام أبي بكر للصلاة بان كان عليه واله السلام يخرج إلى القوم عند فراغ أبي بكر من الصلاة فيشاهدونه على حال الاستقلال ويسرون بلقائه ويبطل ما يتخوفونه من أراجيفهم عليه، ولا يعزل الرجل عن صلاة قد أمره بإقامتها ليدل بذلك على أنه قد أحدث ما يوجب عزله أو يكشف عن حال مستحقة له كانت مستورة عن الأنام، لأجلها لم يصح أن يصلي بالناس أو يكون القول على ما قلناه من الله لم يكن عن أمره عليه السلام تلك الصلاة، أو كان عليه واله السلام لما خرج صلى خلفه كما فعل على أصولكم مع عبد الرحمان لما أدركه وهو في الصلاة فلم يعزله عن المقام وصلى عليه السلام خلفه مع المؤتمين به من الناس.

وقد علم العقلاء بالعادة الجارية أن الذي يقدم إنسانا في مقام يشرف به قدره ويعظم به منزلته لا يبادر بعد تقديمه بغير فصل إلى صرفه وحط تلك الرتبة التي كان جعلها له إلا لحادث يحدثه أو اعتراض أمر ظاهر يرفع الشبهة بظهوره من (غير ن خ) تغير حاله الموجبة لصرفه، وإن الفعل الذي وقع من النبي صلى الله عليه وآله في باب أبي بكر مع القول الذي اقترن إليه من التوبيخ لزوجته لا يكون من الحكماء إلا للنكير المحض، والدلالة على استدراك ما كان يفوت من الصلاح بالفعل لو لم يقع فيه ذلك البدار ومن أنكر ما وصفناه خرج من العرف والعادات.

وقد زعم قوم من أهل العناد أن النبي صلى الله عليه وآله لم يعزل أبا بكر عن الصلاة بخروجه إلى المسجد وأنه كان مع ذلك على إمامته في الصلاة، قلنا لهم فكان أبو بكر إماما للنبي صلى الله عليه وآله وكان الرسول مؤتما به في الحال؟ فقالوا بأجمعهم: لا.

قلنا لهم: أفكان شريكا للنبي صلى الله عليه وآله في إمامة الصلاة حتى كانا جميعا إمامين للمسلمين في تلك الصلاة؟ فقالوا أيضا: لا.

قلنا لهم: أفليس لما خرج النبي صلى الله عليه وآله كان هو إمام المسلمين في تلك الصلاة وصار أبو بكر بعد أن كان إمامهم فيها مؤتما كأحد الجماعة بالنبي صلى الله عليه وآله؟

قالوا: بلى، قلنا لهم: من لا يعقل أن هذا صرف له من المقام فليس يعقل شيئا على الوجوه والأسباب، وهذه الطائفة رحمك الله جهال جدا وأوباش غمار، ولعل معاندا منهم لا يبالي بما قال، يرتكب القول بأن أبا بكر كان باقيا على إمامته في الصلاة بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله.

فيقال له: هذا خروج من الإجماع، ومع أنه خروج من الإجماع فما معنى ما جاء به التواتر وحصل عليه الإطباق من أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالناس ثم الاختلاف في ابتدائه من حيث ابتدأ أبو بكر من القران أو من حيث انتهى من القران، ومع ذلك فإذا كان أبو بكر هو الإمام للنبي صلى الله عليه وآله في آخر صلاة صلاها عليه السلام فواجب أن يكون النبي صلى الله عليه وآله معزولا عن إمامة أمته ومصروفا عن النبوة لان الله تعالى أخره في آخر أيامه عن المقام وختم بذلك عمله في ملة الإسلام، وليس يشبه هذا ما يدعونه في صلاته خلف عبد الرحمان فإن ذلك وإن كان أيضا ظاهر الفساد فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ذلك بالناس وأخر عبد الرحمان عما كان قدمه فيه ولم يجب أن تثبت سنته بتقدمه عليه إذ أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله ينسخ بعضها بعضا فلا تثبت السنة منها إلا بما استقر، وآخر أفعاله عليه السلام سنة ثابتة إلى آخر الزمان.

- في أفضلية أمير المؤمنين على من تقدمه

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 167، 169:

فصل: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه قال: سئل الفضل بن شاذان رحمه الله تعالى عما روته الناصبة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "لا أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلدة المفتري". فقال: إنما روى هذا الحديث سويد ابن غفلة، وقد أجمع أهل الآثار على أنه كان كثير الغلط، وبعد فان نفس الحديث متناقض لأن الأمة مجمعة على أن عليا عليه السلام كان عدلا في قضيته وليس من العدل أن يجلد حد المفتري من لم يفتر، هذا جور على لسان الأمة كلها وعلي بن أبي طالب عليه السلام عندنا برئ من ذلك.

قال الشيخ أدام الله عزه وأقول: إن هذا الحديث إن صح عن أمير المؤمنين عليه السلام ولن يصح بأدلة أذكرها بعد، فان الوجه فيه أن المفاضل بينه وبين الرجلين إنما وجب عليه حد المفتري من حيث أوجب لهما بالمفاضلة ما لا يستحقانه من الفضل، لأن المفاضلة لا تكون إلا بين متقاربين في الفضل وبعد أن يكون في المفضول فضل، وإن كانت الدلائل على أن من لا طاعة معه لا فضل له في الدين، وأن المرتد عن الإسلام ليس فيه شيء من الفضل الديني، وكان الرجلان بجحدهما النص قد خرجا عن الإيمان، بطل أن يكون لهما فضل في الإسلام، فكيف يحصل لهما من الفضل ما يقارب فضل أمير المؤمنين عليه السلام؟. ومتى فضل إنسان أمير المؤمنين عليه السلام عليهما فقد أوجب لهما فضلا عظيما في الدين. فإنما استحق حد المفتري الذي هو كاذب دون المفتري الذي هو راجم بالقبيح لأنه افترى بالتفضيل لأمير المؤمنين عليه السلام عليهما من حيث كذب في إثبات فضل لهما في الدين، ويجري في هذا الباب مجرى من فضل المسلم البر التقي على الكافر المرتد الخارج عن الدين، ومجرى من فضل جبرئيل عليه السلام على إبليس، ورسول الله صلى الله عليه وآله على أبي جهل بن هشام في أن المفاضلة بين ما ذكرناه توجب لمن لا فضل له على وجه فضلا مقاربا لفضل العظماء عند الله سبحانه، وهذا بين لمن تأمله.

مع أنه لو كان هذا الحديث صحيحا وتأويله على ما ظنه القوم لوجب أن يكون حد المفتري واجبا على رسول الله صلى الله عليه وآله وحاشا له من ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد فضل أمير المؤمنين عليه السلام على سائر الخلق فآخى بينه وبين نفسه، وجعله بحكم الله في المباهلة نفسه، وسد أبواب القوم إلا بابه، ورد كبراء أصحابه عن إنكاحهم ابنته سيدة نساء العالمين عليها السلام وأنكحه وقدمه في الولايات كلها ولم يؤخره، وأخبر أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأنه أحب الخلق إلى الله وأنه مولى من كان مولاه من الأنام، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى بن عمران، وأنه عليه السلام أفضل من سيدي شباب أهل الجنة، وأن حربه حربه وسلمه سلمه وغير ذلك مما يطول شرحه إن ذكرناه.

وكان يجب أيضا أن يكون عليه السلام قد أوجب الحد على نفسه إذ أبان عن فضله على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله حيث يقول: "أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقلها أحد قبلي، ولا يقولها أحد بعدي إلا كذاب مفتر، صليت قبلهم سبع سنين".

وفي قوله عليه السلام لعثمان وقد قال له: أبو بكر وعمر خير منك. فقال: "بل أنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما". وكان أيضا قد أوجب الحد على ابنه الحسن عليه السلام وجميع ذريته وأشياعه وأنصاره وأهل بيته، فإنه لا ريب في اعتقادهم فضله على سائر الصحابة  وقد قال الحسن عليه السلام صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه السلام: "لقد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون بعمل ولا أدركه الآخرون". وهذه المقالة متهافتة جدا.

قال الشيخ أدام الله عزه: ولست أمنع العبارة بان أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل من أبي بكر وعمر على معنى تسليم فضلهما من طريق الجدل، أو على معتقد الخصوم في أن لهما فضلا في الدين، فأما على تحقيق القول في المفاضلة فانه غلط وباطل. قال الشيخ أدام الله عزه: وشاهد ما أطلقت من القول ونظيره قول أمير المؤمنين عليه السلام في أهل الكوفة: "اللهم إني قد مللتهم وملوني وسئمتهم وسئموني، اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني" ولم يكن في أمير المؤمنين عليه السلام شر وإنما أخرج الكلام على اعتقادهم فيه ومثله قول حسان وهو يعني النبي صلى الله عليه وآله:

أتهجوه ولست له بكفؤ  *  فشركما لخيركما الفداء

ولم يكن في رسول الله صلى الله عليه وآله شر وإنما أخرج الكلام على معتقد الهاجي فيه.

- فيما قاله إبراهيم النظام والجاحظ في المتقدمين على أمير المؤمنين

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 204، 210:

فصل: ومن حكايات الشيخ وكلامه قال الشيخ أدام الله عزه: حكى عمرو بن بحر الجاحظ عن إبراهيم بن سيار النظام في كتاب الفتيا بعد كلام أورده في صدره: قال إبراهيم: وقد قال عمر بن الخطاب: "لو كان هذا الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره"، قال: وهذا القول من عمر لا يجوز إلا في الأحكام والفرائض وأما الوعد والوعيد والتعديل والتجويز والتشبيه ونفي التشبيه فلا يجوز فيه خلاف القياس، وقد كان يجب على عمر بن الخطاب العمل بما قال في الأحكام كلها ولكنه ناقض فاستعمل القياس بعد أن منع منه بما تقدم من المقال.

فقال الجاحظ: وقال إبراهيم: وليس ذلك بأعجب من قوله يعني عمر بن الخطاب "أجرأكم على الجد أجرأكم على النار" ثم قضى في الجد بمائة قضية مختلفة، ذكر ذلك هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن شيء من أمر الجد فقال: إني لأحفظ من عمر مائة قضية في الجد كلها ينقض بعضها بعضا.

قال إبراهيم: وليس قول من قال إنما كان ذلك من عمر على جهة الإصلاح بين الخصوم بشيء لأن الإصلاح غير القضاء، وكيف يكون هذا التأويل مذهبا وعمر نفسه يقول: "إني قضيت في الجد قضايا مختلفة كلها لم آل فيها عن الحق فان أعش إن شاء الله لأقضين فيه بقضاء لا يختلف فيه اثنان بعدي تقضي به المرأة وهي قاعدة على ذيلها" ذكر ذلك أيوب السجستاني (السختياني ن خ) وابن عون عن محمد بن سيرين، وهؤلاء بعمر أعرف ممن خرج له العذر.

وقال الجاحظ: وقال إبراهيم: وقال أيضا عمر: "ردوا الجهالات إلى السنة" ولعمري لو رد المجهول إلى المعروف والاختلاف إلى الإجماع كان أولى به، ومتى رد عمر الجهالات إلى السنة وهو يقفي في شيء واحد بمائة قضية مختلفة، ولو كان ذلك عنده جائزا وكان عند نفسه مأجورا لما قال: "أجرأكم على الجد أجرأكم على النار" وهذا بين في الكلام.

قال الشيخ أيده الله: وهذا القول الذي حكيناه عن صديق المعتزلة أبي عثمان فيما حكاه عن شيخه ورئيسه إبراهيم النظام، طعن ظاهر على عمر بن الخطاب وشهادة عليه بالجور في الأحكام وقطع منه على أنه كان من أهل العناد في الديانة وأنه لم يرعها فيما صار إليه من اجتهاد الرأي. ألا ترى إلى قوله بعد أن أورد مناقضته في الكلام كيف صرح بعناده فقال: لو كان الاختلاف في الأحكام والقول فيها بالرأي عند عمر جائزا لما قال: "أجرأكم على الجد أجرأكم على النار" فأبان في هذا المقال عن اعتقاده في عمر وأنه إنما أقدم على القول بالرأي واختلفت أحكامه فيه للدنيا وطلب الرئاسة دون الدين الذي يؤم به الثواب.

وقال الجاحظ: قال إبراهيم وليس يشبه رأيه في الأحكام صنيعه حين خالف أبي بن كعب عبد الله بن مسعود في الصلاة في ثوب واحد لأنه حين بلغه ذلك خرج مغضبا حتى أسند ظهره إلى حجرة عائشة وقال: "اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ممن يؤخذ عنهما لا أسمع أحدا يختلف في الحكم بعد مقامي هذا إلا فعلت به وفعلت"، أفترى أن عمر نسي اختلاف قوله في الأحكام حتى أنكر ما ظهر من الاختلاف عن الرجلين، كلا ولكنه كان يناقض ويخبط خبط عشواء.

قال الجاحظ: وقال إبراهيم: وهذه أيضا كانت سبيل أبي بكر لأنه سئل عن قول الله عز وجل: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: "أي سماء تظلني أم أي أرض تقلني أم أين أذهب أم كيف أصنع إذا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله عز وجل، أما الفاكهة فنعرفها، وأما الأب فالله أعلم به"، ثم سئل عن الكلالة، فقال: "أقول فيها برأي فان كان صوابا فمن الله عز وجل، وإن كان خطأ فمن قبلي، الكلالة ما دون الوالد والولد".

قال إبراهيم: وقوله هاهنا خلاف قوله هناك، فكيف يجوز لصاحب الحكم في الأموال وفي حقوق المسلمين برأي لا يدري صاحبه لعله فيه مخطئ، فان استجاز القول فيها -لأن ذلك كان جهد رأيه- فليجز الاجتهاد في الآية التي سئل عنها، ومن استعظم القول بالرأي ذلك الاستعظام لم يقدم على القول بالرأي هذا الإقدام.

قال الجاحظ: وقال إبراهيم: وإنني لأعجب من قول عمر "إني لاستحي من الله أن أخالف أبا بكر" فإن كان عمر إنما تابعه لان خلافه لا يجوز فقد خالفه في الجد مائة مرة، وفي أهل الردة وفي أمور كثيرة، وإن كان لم يقل ذلك لان أبا بكر لا يخطئ ولكنه كان استبان له بعد أن الحق ما قال أبو بكر في الكلالة فان كان ذلك كذلك فما وجه قوله: "إني لاستحي من الله عز وجل أن أخالف أبا بكر" وهذا قول لو قال به أبعد الناس كان عليه الإقرار به، على أن أبا بكر لم يعزم على ذلك القول وقد تبرأ إليهم منه.

قال الجاحظ: وقال إبراهيم: وكذلك كان ابن مسعود يعني في المناقضة والقول بالباطل في الدين، ألا تراه قال في حديث [بروع ابنة واسق] "أقول فيها برأي فان كان خطأ فمني وإن كان صوابا فمن الله عز وجل، لها صدقة نسائها ولا وكس ولا شطط" وهذا هو الحكم بالظن والقضاء بالشبهة، وإذا كانت الشهادة بالظن حراما فالحكم بالظن أعظم.

قال إبراهيم: ولو أن ابن مسعود أخذ نفسه بما أدب به غيره حيث يقول: "الحلال بين والحرام بين فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" واستعمل هذا الأدب لم يقل في الأحكام وهو رجل مقلد: "أقول فيها برأي فان أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي" وهذا كلام فاسد لأنه لا يكون عمل واحد واجتهاد واحد إذا وافق الحق كان من الله وإذا وافق الباطل كان من عند غير الله عز وجل وهو في الوجهين جميعا شيء واحد.

وقال إبراهيم: ولو كان ابن مسعود بدل نظره في الفتيا بنظره في الشقي كيف شقي والسعيد كيف سعد حتى لا يفحش قوله على الله عز وجل فيما دان به في ذلك ولا يشتد غلطه، كان أولى به.

قال: وكان يزعم أن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق ولا كافر ولا منافق، وبقوله قال سفيان الثوري وغيره وهم من الشكية.

قال إبراهيم: وزعم ابن مسعود انه رأى القمر قد انشق لرسول الله صلى الله عليه وآله قال إبراهيم: وهذا من الكذب الذي لا خفاء به لأن الله تعالى لم يشق له القمر وحده وإنما شقه آية للعالمين وحجة لسيد المرسلين ومزجرة للعباد وبرهانا في جميع البلاد، فكيف لم يعرف ذلك العامة ولم يؤرخ الناس بذلك العام ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم على ملحد فيما سلف، وهذا باب يستوي في معرفته الخاصة والعامة.

قال الشيخ أيده الله تعالى: فتأملوا وفقكم الله هذا الكلام وحصلوا ما فيه، فان أبا عثمان قد أفصح في الحكاية عن شيخه النظام صريح الطعن على أبي بكر وعمر و عبد الله بن مسعود ثم زاد عبد الله في الذم، بأن كذبه فيما يحكيه من مشاهدة المعجز لرسول الله صلى الله عليه وآله على ما وصفه به من الحكم في الدين بالرأي وتناقض قوله في ذلك، تعرفوا بفهم ما ذكرناه خبث باطن هذا الرجل وهو سيد أهل الاعتزال وبه فخرت المعتزلة وضربت به ربابي الهذيل الأمثال، فقال قائلهم عند موته ذهب الكلام، خرف أبو الهذيل ومات النظام، وإذا انضاف إلى نظركم فيما سلف نظركم فيما يأتي بعد من مقال هذا الرجل وإخوانه من أهل الاعتزال تحققتم فيهم ما ذكرناه.

قال الجاحظ: قال إبراهيم: وكإقدام عبد الله على حذف سورتين من كتاب الله عز وجل فهبه لم يشهد قراءة النبي صلى الله عليه وآله لهما أفما علم بعجيب تأليفهما وأنهما على نظم سائر القرآن المعجز للبلغاء أن ينظموا نظمه وأن يحسنوا تأليفه على أنهما من القرآن، وأحسبه جهل ذلك كله كيف لم يصدق جماعة الأمة أنهما من القرآن.

قال: وما زال -يعني عبد الله- يطبق في الركوع حتى مات، وأخذ ذلك عنه بعض أصحابه وأحسبه لم يشهد النبي في فعل خلاف ذلك وكان غائبا، كيف لم يقنعه إجماعهم على فسخ ذلك وكيف لم يستوحش من خلافهم وهو في ذلك الرأي غريب وحيد. قال: وعاب عثمان حين بلغه أنه صلى بمنى أربعا، وقال فيه قولا شديدا ثم قام فتقدم فكان أول صلاة صلاها أربعا فقيل له في ذلك فقال: الخلاف شر فكيف يكون هذا عذره وقد عمل بالفرقة في أمور كثيرة عظيمة وخالف الأمة بأسرها، وكيف يكون الخلاف على المعصية معصية.

قال إبراهيم: ورأى عبد الله أناسا من الزط فقال: هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن، ذكر ذلك عنه من لا يتهم عليه ولا على غيره جماعة، منهم سليمان التميمي عن أبي عثمان النهدي. وقال علقمة: قلت لابن مسعود: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الجن؟ فقال: ما شهدها منا أحد. ذكر ذلك أيضا عنه من لا يتهم عليه ولا على غيره جماعة، منهم داود عن الشعبي عن علقمة.

قال إبراهيم: وسأله عمر عن شيء من الصرف فقال: لا بأس به. فقال عمر قد كرهته فقال: يا أمير المؤمنين وأنا أيضا قد كرهته إذ كرهته أنت. فرجع عن قوله بغير نظر ولا تأمل. وهذا بن مسعود ركن من أركانكم يعني -فقهاء العامة- وإمام من أئمتكم وهو من أفاضل من قال في الفتيا فما ظنك فيمن دونه، فكيف يكون هؤلاء حجة علينا ويلزمنا لهم طاعة، على أنا لم نبلغ من القول فيهم ما قال بعضهم في بعض.

قال الجاحظ: قال إبراهيم: ورويتم عن إسماعيل عن الشعبي أن قوما سألوا زيد بن ثابت عن شيء فأفتاهم فكتبوه فقال: وما يدريكم لعلي قد أخطأت وإنما اجتهدت لكم برأي، ورويتم عن المغيرة عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب قضى بقضاء فقال له رجل: أصبت والله يا أمير المؤمنين، فقال: وما يدريك أني أصبت والله ما يدري عمر أأصاب أم أخطأ، ورويتم عن سفيان الثوري عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس أنه قال: ربما أنهاكم عن أشياء لعلها ليس بها بأس وآمركم بأشياء لعل بها بأسا، ورويتم عن عمر وعن طاووس أن ابن عمر سئل عن شيء فقال: لا أدري فان شئت أخبرتك بالظن.

قال إبراهيم: فقد أقر القوم على أنفسهم أنهم بالظن كانوا يريقون الدماء، وبالظن كانوا يبيحون الفروج، وبالظن يحكمون في الأموال، وبالظن يوجبون العبادات وقد نهى الله عز وجل العباد أن يحكموا بالظن ويشهدوا به فقال تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وأمر بالعلم واليقين فخالف القوم ذلك وعلموا أن الناس لهم منقادون وأنهم ما قالوا من شيء فهو حتم لا مرد له.

قال إبراهيم: وإذا كان هذا المذهب موجودا في الأكابر والأصاغر من السلف فما ظنك بالتابعين، ثم ما ظنك بالفرق التي بينهم، وإذا كان هذا ما أقروا به على أنفسهم فما لم يقروا به ورأوا ستره أكثر.

- في مقولة عمر بن الخطاب يوم توفي رسول الله إن رسول الله لم يمت

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 240، 245:

فصل: ومن حكايات الشيخ وكلامه، قال الشيخ أيده الله تعالى: وجدت أصحاب المقالات كافة يقولون إن أول خلاف وقع في الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله الخلاف في الإمامة بين المهاجرين والأنصار، وقد غلطوا في ذلك، فإن أول خلاف حدث في الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله، خلاف عمر بن الخطاب في وفاة النبي فانه ادعى حياته. وذلك أن جميع أهل السير والأثار يقولون إن النبي صلى الله عليه وآله لما قبضه الله عز وجل فخرج الناعي ينعاه، خرج عمر بن الخطاب من منزله فقال: "والله لا أسمع أحدا يقول مات رسول الله إلا قتلته، إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يمت وإنما غاب عنا كما غاب موسى عن قومه أربعين ليلة، والله ليرجعن رسول الله إلى قومه كما رجع موسى إلى قومه وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم" فلم يزل على ذلك يقول هذا القول في محفل بعد محفل حتى خرج إليه أبو بكر فقال له: على رسلك يا عمر فلم ينصت له، فلما رأى أنه لا ينصت له، قام قائما فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله ثم قال: "أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله سبحانه وتعالى فإن الله سبحانه حي لا يموت ولقد نعى نبيه إلى نفسه وهو بين أظهركم فقال:  {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}" قالوا: فحينئذ كف عمر عن القول الذي كان يقول به.

قال الشيخ أدام الله تأييده: وفي هذا الذي ذكرناه غير شيء: فمنه أن أول خلاف حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وآله خلاف عمر بن الخطاب على الجماعة ونفيه موت رسول الله صلى الله عليه وآله وما ادعاه من حياته.

ومنه أن هذا الخلاف هو مذهب المحمدية من الغلاة وبه يدينون وهو ضلال باتفاق. ومنه أنه خلاف أظهره الرجل بغير شبهة تدعو إليه من جهة عقل أو تأويل كتاب أو لفظ سنة أو عادة جرت فيتعلق بذلك، وما جرى هذا المجرى لم يتوهم على صاحبه إلا العناد وقصد الإفساد والأدغال في الدين.

ومنه أنه يدل على جهل قائله بالقرآن وعدم حفظه له لأن التنزيل مبين لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، قال الله سبحانه لنبيه عليه السلام {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} وقال سبحانه:  {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}.

ومنه أن الرجل أقدم على اليمين بالله عز وجل وأقسم بأسمائه الحسنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يمت، ثم لم يقنع بذلك حتى وصفه بالغيبة ثم شبه غيبته بغيبة موسى عليه السلام عن قومه وأقسم بالله في مقدار زمان غيبته، ثم لم يقنعه جميع ذلك من قوله الباطل حتى خبر أنه سيرجع ويقطع أيدي رجال وأرجلهم، فهب أن الشبهة دخلت عليه في وفاة النبي صلى الله عليه وآله واعتقد أنه ممن لا يموت أو ممن يتأخر موته عن تلك الحال، أي شبهة عرضت له في ذكر قطع أيدي الرجال وأرجلهم إذا عاد؟ إن هذه الأمور عجيبة وإذا تأملها المنصف عرف مباينتها لليقين والصدق ومباعدتها لشرائط الإيمان.

ولعل بعض أهل الخلاف يزعم عند سماع هذا الكلام أن القول الذي أظهره عمر لم يكن عن عقد ونية ولكنه كان منه على سبيل الإرهاب لئلا يطمع أهل النفاق. فان زعم ذلك، قيل له: إن هذا التخريج لا يصح على ظاهر مقال الرجل ولا يلائم ما كان منه في الحال لأنه أخرجه مخرج الجد وأبان عما يبان به عن الاعتقاد فأكده بأقسم والأيمان، ولو كان على ما ظننت من أنه أراد الاستصلاح ما كان يورد ذلك على الوجه الذي يقع به الضلال ولا يؤكده التأكيد الذي يدل به السامعين على وجود اعتقاد صدقه في ظاهره وباطنه، ولما كان لقوله عند سماع الآية من أبي بكر "كأني والله ما سمعتها قط ولا علمت أنها في القران" معنى، ولقال عند اجتماع الكلمة على الوفاة للناس: "اعلموا أيها الناس أني لم أك جاهلا بوفاة الرسول وإنما أظهرت ما أظهرت من الكلام للإرهاب والاستصلاح" وفي يمين عمر بالله تعالى أنه لما سمع الآية تنبه بها على غلطه في المقال وكان قبلها كأن لم يسمعها قط دليل على بطلان قول من تخرج له ما قدمناه. وإذا بطل أن يكون الرجل أراد بما أظهره الاستصلاح وبطل أن يكون ما قاله لشبهة دخلت عليه دعته إلى ذلك المقال، لم يبق إلا أنه أراد الفساد في الدين وسلك طريق العناد.

على أنه مع الأمر الذي يخرجونه له في ذلك لا ينفك من إظهار الباطل والتصريح بالكذب في الإخبار والإذاعة بما يدعو إلى الجهل والضلال، وهذا بين لذوي الألباب. على أن المقدار من الزمان الذي أظهر فيه عمر بن الخطاب من القول ما حكيناه ثم رجع عنه، لم يكن موهوما فيه أن لو صمت عن ذلك أو اعتمد على غيره مما لا يخرج به على ظاهر الحق ووقوع الفساد على معهود العادات.

وبعد، فما بال أبي بكر لم يسبقه إلى هذا الاستصلاح وغيره من المهاجرين والأنصار، بل ما باله لما أمره أبو بكر بالإنصات لم يجبه إلى ذلك حتى تركه وعدل عن كلامه إلى كلام الناس، وكيف لم يجر فساد قط في ما سلف عند موت نبي أو ملك كان المعلوم أو المظنون أنه لو وقع موته ساعة من النهار يصلح الناس وارتفع ذلك الفساد فكيف لم يسبقه إلى ذلك أحد عند موت من ذكرناه من الملوك والأنبياء، وأي فساد كان يتخوف من السكوت عن الباطل والكذب ودفع الضرورات، وما كان وجه الفساد الذي يتخوفه الرجل، وإنما انتشرت الكلمة ووقع معظم الخلاف بعد رجوعه عما كان ادعاه.

مع أنا لا نجده استصلح أحدا من الأمة بذلك ولا نعرف وجها في كلامه للاستصلاح، وقد وجدنا ما كان يتخوفه من الفساد مع مقالة ذلك، فأي فائدة حصلت للأمة فيما أورده وعلى أي معنى يحمله إن لم يكن أراد الإفساد والتلبيس والإضلال، على أن الرجل نفسه قد أظهر أنه قال القول الذي حكيناه عنه على وجه الاعتقاد له وصرح بأنه لم يقصد الاستصلاح بمقال ظاهره خلاف باطنه في الحال وأبطل قول من خرج له العذر بالاستصلاح. فروى محمد بن إسحاق عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان من الغد، جلس أبو بكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال: "أيها الناس إنه كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأي، وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله ولكن قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا موتا". وروى عكرمة عن ابن عباس قال: "والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وما معه غيري وهو يحدث نفسه ويضرب قدميه بدرته إذ التفت إلي فقال: يا بن عباس هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلى الله عليه وآله قال: قلت: لا أدري أنت أعلم يا أمير المؤمنين قال: فإنه والله ما حملني على ذلك إلا أنني كنت أقرأ هذه الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وكنت أظن أنه سيبقى بعد أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها فإنه الذي حملني على أن قلت ما قلت".

ألا ترى إلى تصريح الرجل بأنه كان يعتقد حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ويعتل لذلك تارة بالرأي وتارة بتأويل القرآن، وأنه لم يعتمد فيه أنه من كتاب الله ولا عهد من الرسول صلى الله عليه وآله ثم يناقض تارة أخرى بالاعتلال، فيزعم أن الذي حمله عليه ما وجده في الكتاب، فيعلم بذلك صحة ما ذكرناه عنه من التخليط ويظهر لك إدغاله في الدين بمناقضته في المقال وبنقله التلبيس على الضعفاء من اعتلال إلى اعتلال، وقد تبين لك بما قلناه صحة ما قدمناه من ركوبه في ذلك عظيم الضلال وأنه إن كان صدق على نفسه فقد وضح عناده وإدغاله في الدين على ما شرحناه.

قال الشيخ أيده الله: وقد سلك ابنه عبد الله طريقه في الإقدام على الباطل والقول بغير علم ولا بيان وهو عندهم من صلحاء الصحابة وأهل الفضل والسداد. وذلك أنه لما غنم المسلمون من الفرس في أيام عمر ما غنموه وكان في جملته العود الذي يستعمله المجوس في الملاهي، فأحضروه مجلس عمر فلم يكد يعرفه أحد ممن حضر في الحال، ولم يدر ما الذي يصنع به ولا اسمه من الأسماء، فتشاجروا في ذلك فقال لهم عبد الله بن عمر: دعونا من اختلافكم في هذا وخذوها عني وأنا أبو عبد الرحمان، هذا الميزان الحراني، فلم يرض بالسكوت عما لا يعلم حتى تحدى القوم بأن عنده معرفة لما لا يعرفه، ثم لم يرض بذلك حتى أنباهم بباطل وشهد عندهم شهادة زور وقد كان غنيا عن ذلك وما دعاه إليه داع. وهذا مما يعد من حماقته أفترى من خالفنا يمكنه أن يزعم في هذا أيضا أنه أراد به الاستصلاح بكلام يطلب لهذا الرجل عذرا إلا مشارك له في الحمق والإقدام على الباطل، ولا يثق به في النقل بعد ما حكيناه ويتولاه في الشرع ويعتقد فضله في الصحابة إلا مائق مأفوق العقل.

ولو لم يكن عبد الله ضعيف الرأي ناقص العقل لما تأخر عن بيعه أمير المؤمنين عليه السلام وأبى الدخول في طاعته وحرم الجهاد معه ويدعه في حروبه وخذل الناس عنه واستحل خلافه ومباينته ثم جاء بعد ذلك مختارا إلى الحجاج بن يوسف الثقفي فقال له: أيها الأمير امدد يدك أبايعك لامير المؤمنين عبد الملك ابن مروان. حتى قال له الحجاج بن يوسف الثقفي: وما حملك على هذا يا أبا عبد الرحمان بعد ما تأخرت عنه؟ قال: حملني عليه حديث رويته عن النبي صلى الله عليه وآله إنه قال: "من مات وليس في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية" فقال له الحجاج: بالأمس تتأخر عن بيعة علي بن أبى طالب مع روايتك هذا الحديث ثم تأتيني الآن لأبايعك لعبد الملك، أما يدي فمشغولة عنك ولكن هذه رجلي فبايعها فسخر منه وعبث به وأنزله منزلته. ولعمري إن عبد الله وإن فارق أباه في الشهامة والفطنة لقد وافقه في العداوة لأمير المؤمنين عليه السلام ومضى على شاكلته وعادته في ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله "من أبغض عليا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل" وقال له عليه السلام: "عادى الله من عاداك وقاتل الله من قاتلك" وقال له عليه السلام: "حربك يا علي حربي وسلمك يا علي سلمي" وقال له عليه السلام: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، وهذه دعوات قد استجابها الله عزوجل من نبيه عليه وآله السلام.

- في التضاد بين قول أبي بكر أقيلوني أقيلوني وقول عثمان لا أخلع قميصا قمصينه الله عزوجل

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 246، 247:

فصل: من كلام الشيخ أيده الله، قال الشيخ: قد أجمعت الأمة على أن أبا بكر قال بعد العقد له: "أقيلوني أقيلوني" فاستقالهم الولاية والأمرة عليهم وفهمنا ذلك وعرفناه وقد أجمعت الأمة على أن الناس دعوا عثمان إلى الخلع فأبى فحصروه لذلك وتوعدوه بالقتل إن لم يخلع نفسه ليختاروا لأنفسهم من يرضوه فأبى إلا دفاعهم عن ذلك واحتج عليهم فيه بان الله سبحانه قمصه الأمر فلا يحل له خلعه، وقال لهم: "لا أخلع قميصا قمصنيه الله عز وجل" فنظرنا في هذين الفعلين فوجدناهما مختلفين متضادين يوجب أحدهما إن كان صوابا خطا فاعل ضده وإن كان خطا صواب فاعل خلافه.

وذلك أنه إن كان حل لأبي بكر أن يخلع نفسه من الإمامة مختارا ويدعو الناس إلى خلعه فقد حرم الله سبحانه على عثمان أن يمتنع من ذلك إذا أريد عليه ودعي إليه وأخيف وهدد بالقتل إن امتنع عليهم من ذلك فلما رأينا عثمان اختار القتل على الإجابة إلى الخلع، علمنا أنه لم يختر ذلك إن كان متدينا به إلا أن الخلع أعظم من إظهار كلمة الشرك وصنع ضروب الفسق وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، لأن هذه كلها تحل عند الخوف على النفس وعثمان لم يستحل الخلع عند الخوف على نفسه فكان على مذهبه من أعظم الكبائر وأكبر ضروب الكفر. وإذا كان أبو بكر قد استحله ودعا إليه بان أنه أتى كفرا على مذهب عثمان وأعظم من الكفر أو يكون استحلاله ذلك يدل على أن استسلام عثمان للقتل بدلا من الخلع أعظم ما يكون من الكفر، لأن من امتنع من مباح بقتل نفسه كان مارقا عن الدين ولا فضل في ذلك لمن عقل على ما بيناه. وعسى أن يقول بعضهم إن عثمان دعي إلى خلعه على ما يوجب الخلع فامتنع لذلك وأبو بكر اختار الخلع فاختلف الوجهان في ذلك. فإنه يقال له: لو كان الأمر على ما وصفت لكان الخلع حاصلا له وإن لم يخلع نفسه لأن الفسق الموجب للخلع بوجوده يخرج عند أصحاب الاختيار خاصة صاحبه من الإمامة ولا يحتاج معه إلى أن يخلع نفسه، مع أن عثمان كان أناب لهم وأظهر التوبة وأعتبهم على ما عتبوه ورجع لهم في الظاهر إلى ما أرادوه فصار في الحكم بمنزلته الأولى من العدالة فلذلك ساموه أن يخلع نفسه مختارا وكان ذلك هو الذي دعا إليه أبو بكر بعينه فلم يختلف الوجهان على ما ظننتموه وفي ذلك ما قدمناه من وجوب ضلال أحد الرجلين وخطأه في الدين. على أن الاختيار إن كان للأمة فكان إليها العزل والخلع ولم يكن لدعائها عثمان إلى أن يخلع نفسه معنى يعقل لأنه كان لها أن تخلعه إذا لم يجبها إلى ذلك ويختاره، وإن كان الخلع إلى الإمام فلا معنى لقول أبي بكر للناس أقيلوني وقد كان يجب -لما كره الأمر- أن يخلع هو نفسه ولا تكون لهم إذ ذاك ضربة لازب عليه، وهذا أيضا تناقض آخر يبين عن بطلان الاختيار وتخليط القوم.

وأنت أرشدك الله إذا تأملت قول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته في الكوفة عند ذكر الخلافة حيث يقول: "فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته" وجدته عجبا وعرفت منه المغزى الذي كان من الرجل في القول وبان خلاف الباطن منه للظاهر وتيقنت الحيلة التي أوقعها والتلبيس وعثرت به على الضلال وقلة الدين والله تعالى نسال التوفيق.

- في منزلة بني تيم وعدي بين قبائل العرب

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 248 :

فصل: وسمعت شيخنا أيده الله يقول: إن مما يشهد برذالة بني تيم بن مرة وبني عدي ويجب أن يضاف إلى ما سلف لنا في ذلك، قول أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية حين بلغه بيعة الناس لأبي بكر فجعل يقول ويحرض بني هاشم على فسخ أمره ويدعوهم إلى تقديم أمير المؤمنين عليه السلام وتسليمه ويقول:

بني هاشم لا يطمع الناس فيكم  *  ولاسيما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلا فيكم وإليكم  *  وليس لها إلا أبو حسن علي

أبا حسن فاشدد لها كف حازم  *  فانك بالأمر الذي يرتجى ملي

أفلا ترون إلى قول هذا الشيخ بحضرة الملا وبحيث يبلغ قوله الحاضر والبادي كيف يزري على تيم وعدي ويظهر القول برذالتها وقصورها عن استحقاق الخلافة ونيل الرياسة وهو وإن كان منافقا عندنا فإن وصف القبائل لا تتعلق صحته بما ينفي نفاقه ولا يخل نفاقه بصدقه في وصفه لأن العرب كانوا أهل أنفة من الكذب فيما يعلم باضطرار ضد مقالتهم فيه لاسيما وأبو سفيان سيد من سادات قومه، فأقل ما في هذا الباب أن ينزل بشعره منزلة شعر الجاهلية في وصف القبائل بالشجاعة أو الجبن أو السخاء أو البخل أو الشرف أو الضعة، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط قول من رام إبطال احتجاجنا بقول أبي سفيان على ما ذكرناه لموضع نفاقه وخلافه الدين على ما بيناه.

- بحث في موقف فاطمة الزهراء من دعوى أبي بكر أنه سمع رسول الله يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 331، 336:

فصل: ومن حكايات الشيخ وكلامه قال الشيخ أيده الله: حضرت مجلسا لبعض الرؤساء وكان فيه جمع كثير من المتكلمين والفقهاء فألفيت أبا الحسن علي بن عيسى الرماني يكلم رجلا من الشيعة يعرف بأبي الصقر الموصلي في شيء يتعلق بالحكم في فدك ووجدته قد انتهى في كلامه إلى أن قال له: قد علمنا باضطرار أن أبا بكر قال لفاطمة عليها السلام عند مطالبتها له بالميراث: "سمعت رسول الله يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فسلمت عليها السلام لقوله ولم ترده عليه، وليس يجوز على فاطمة عليها السلام أن تصبر على المنكر وتترك المعروف وتسلم للباطل لاسيما وأنتم تقولون إن عليا عليه السلام كان حاضرا للمجلس، ولا شك أن جماعة من المسلمين حضروه واتصل خبره بالباقين فلم ينكره أحد من الأمة ولا علمنا أن أحدا رد على أبي بكر وأكذبه في الخبر، فلولا أنه كان محقا فيما رواه من ذلك لما سلمت الجماعة له ذلك.

فاعترضه الرجل الإمامي بما روي عن فاطمة عليها السلام من ردها عليه وإنكارها لروايته وخطبتها في ذلك واستشهادها على بطلان خبره بظاهر القرآن وأورد كلاما في هذا المعنى على حسب ما يقتضيه واتسعت له الحال.

فقال علي بن عيسى: هذا الذي ذكرته شيء تختص أنت وأصحابك به، والذي ذكرته من الحكم عليها شيء عليه الإجماع وبه حاصل علم الاضطرار فلو كان ما تدعونه من خلافه حقا، لارتفع معه الخلاف وحصل عليه الإجماع كما حصل على ما ذكرت لك من رواية أبي بكر وحكمه، فلما لم يكن الأمر كذلك دل على بطلانه. فكلمه الإمامي بكلام لم أرتضه، وتكرر منهما جميعا، فأشار صاحب المجلس إلي لآخذ الكلام فأحس بذلك علي بن عيسى فقال لي: إنني قد جعلت على نفسي أن لا أتكلم في مسالة واحدة مع نفسين في مجلس واحد فأمسكت عنه وتركته حتى انقطع الكلام بينه وبين الرجل. ثم قلت له: خبرني عن المختلف فيه هل يدل الاختلاف على بطلانه؟ فظن أنني أريد شيئا غير المسالة الماضية وأنني لا أكسر شرطه فقال: لست أدري أي شيء تريد بهذا الكلام فأبن لي عن غرضك لأتكلم عليه، فقلت له: لم آتك بكلام مشكل ولا خاطبتك بغير العربية، وغرضي في نفس هذا السؤال مفهوم لكل ذي سمع من العرب إذا أصغى إليه ولم يله عنه، اللهم إلا أن تريد أن أبين لك عن غرضي فيما أجري بهذه المسألة إليه فلست أفعل ذلك بأول وهلة إلا أن تلزمني في حكم النظر، والذي استخبرتك عنه معروف صحته وأنا أكرره: أتقول إن الشيء إذا اختلف العقلاء في وجوده أو صحته وفساده كان اختلافهم دليلا على بطلانه، أو قد يكون حقا وإن اختلفت العقلاء فيه؟ فقال: ليس يكون الشيء باطلا من حيث اختلف الناس فيه ولا يذهب إلى ذلك عاقل.

فقلت له: فما أنكرت الآن أن تكون فاطمة عليها السلام قد أنكرت على أبي بكر حكمه، وردت عليه في خبره، واحتجت عليه في بطلان قضائه، واستشهدت بالقرآن على ما جاء الأثر به ولا يجب أن يقع الاتفاق على ذلك وإن كان حقا ولا يكون الخلاف فيه علامة على كذب مدعيه بل قد يكون صدقا وإن اختلف فيه على ما أعطيت في الفتيا التي قررناك عليها.

فقال: أنا لا أعتمد على ما سمعت مني من الكلام مع الرجل على الاختلاف فيما ادعاه إلا بعد أن قدمت معه مقدمات لم تحصرها، والذي أعتمد عليه الآن معك أن الذي يدل على صدق أبي بكر فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله من أنه لا يورث وصوابه فيما حكم به، ما جاء به الخبر عن علي عليه السلام أنه قال: "ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر" فلو لم يكن عنده صادقا أمينا عادلا، لما عدل عن استحلافه ولا صدقه في روايته ولا ميز بينه وبين الكافة في خبره، وهذا يدل على أن ما يدعونه على أبي بكر من تخرص الخبر فاسد محال.

فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد تركت الاعتلال الذي اعتمدته بدئا ورغبت عنه بعد أن كنت راغبا فيه وأحلتنا على شيء لا نعرفه ولا سمعناه وإنما بينا الكلام على الاعتلال الذي حضرناه ولسنا نشاحك في هذا الباب لكنا نكلمك على ما استأنفته من الكلام.

أنت تعلم وكل عاقل عرف المذاهب وسمع الأخبار، أن الشيعة لا تروي هذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام ولا تصححه بل تشهد بفساده وكذب رواته، وإنما يرويه آحاد من العامة ويسلمه من دان بإمامة أبي بكر خاصة، فإن لزم الشيعة أمر بحديث تفرد به خصومهم لزم المخالفين ما تفردت الشيعة بروايته، وهذا على شرط الإنصاف وحقيقة النظر والعدل فيه فيجب أن تصير إلى اعتقاد ضلالة كل من روت الشيعة عن النبي صلى الله عليه وآله وعن علي والأئمة من ذريته عليهم السلام ما يوجب ضلالتهم، فإن لم تقبل ذلك ولم تلتزمه لتفرد القوم بنقله دونك فكيف استجزت إلزامهم الإقرار برواية ما تفردت به دونهم لولا التحكم دون الإنصاف.

على أن أقرب الأمور في هذا الكلام أن تتكافأ الروايات ولا يلزم أحد الفريقين منهما إلا ما حصل عليه الإجماع أو يضم إليه دليل يقوم مقام الإجماع في الحجة والبيان، وفي هذا إسقاط الاحتجاج بالخبر من أصله. مع أني أسلمه لك تسليم جدل وأبين لك أنك لم توف الدليل حقه ولا اعتمدت على برهان، وذلك أنه ليس من شرط الكاذب في خبر أن يكون كاذبا في جميع الأخبار، ولا من شرط من صدق في شيء أن يصدق في كل الأخبار وقد وجدنا اليهود والنصارى والملحدين يكذبون في أشياء ويصدقون في غيرها، فلا يجب لصدقهم فيما صدقوا فيه أن نصدقهم فيما كذبوا فيه، ولا نكذبهم فيما صدقوا لأجل كذبهم في الأمور الأخر ولا نعلم أن أحدا من العقلاء جعل التصديق لزيد في مقالة واحدة دليلا على صدقه في كل أخباره.

وإذا كان ذلك كذلك فما أنكرت أن يكون الرجل مخطئا فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله في الميراث وأن أمير المؤمنين عليه السلام قد صدقه فيما رواه من الحديث الذي لم يستحلفه فيه، فيكون وجه تصديقه له وعلة ذلك أنه عليه السلام شاركه في سماعه من النبي صلى الله عليه وآله فكان حفظه له عنه يغنيه عن استحلافه، ويدله على صدقه فيما أخبر به ولا يكون ذلك من حيث التعديل له والحكم على ظاهره.  على أن الذي رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وآله يدل على صحته العقل ويشهد بصوابه القرآن فكان تصديق أمير المؤمنين عليه السلام له من حيث العقل والقرآن لا من جهة روايته هو عن النبي صلى الله عليه وآله ولا لحسن ظاهر له على ما قدمناه. وذلك أن الخبر الذي رواه أبو بكر هو أن قال: سمعت رسول الله يقول: "ما من عبد يذنب ذنبا فيندم عليه ويخرج إلى صحراء فلاة فيصلي ركعتين ثم يعترف به ويستغفر الله عز وجل فيه إلا غفر الله له" وهذا شيء قد نطق به القران، قال الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} والعقل يدل على قبول التوبة. وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما تعلقت به وكان ذكره لأبي بكر خاصة لانه لم يحدثه بحديث غير هذا، فصدقه لما ذكرناه وأخبر عن تصديقه بما وصفناه، ولم يكن ذلك لتعديله على ما ظننت، ولا لتصويبه في الأحكام كلها على ما قدمت بما شرحناه.

فقال عند سماع هذا الكلام: أنا لم أعتمد في عدالة أبي بكر وصحة حكمه على الخبر وإنما جعلته توطئة للاعتماد فطولت الكلام فيه وأطنبت في معناه، والذي أعتمده في هذا الباب أني وجدت أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع أبا بكر وأخذ عطاءه وصلى خلفه ولم ينكر عليه بيد ولا لسان، فلو كان أبو بكر ظالما لفاطمة عليها السلام، لما جاز أن يرضى به أمير المؤمنين عليه السلام إماما ينتهي في طاعته إلى ما وصفت.

فقلت له: هذا انتقال ثان بعد انتقال أول وتدارك فائت وتلافي فارط وتذكر ما كان منسيا، وإن عملنا على هذه المجازفة انقطع المجلس بنشر المسائل والتنقل فيها والتحيز وخرج الأمر عن حده وصار مجلس مذاكرة دون تحقيق جدل ومناظرة، وأنت لا تزال تعتذر في كل دفعة عندما يظهر من وهن متعمداتك بأنك لم تردها ولكنك وطأت بها، فخبرني الآن هل هذا الذي ذكرته أخيرا هو توطئة أو عماد؟ فإن كان توطئة عدلنا عن الكلام فيه وسألناك عن المعتمد، وإن كان أصلا لألممناك عليه.

مع أني لست أفهم منك معنى التوطئة لأن كل كلام اعتل به معتل ففسد فقد انهدم ما بناه عليه ووضح فساد ما بينه إن بناه عليه، فاعتذارك في فساد ما تقدم ما بناه توطئة لا معنى له. ولكننا نتجاوز هذا الباب ونقول لك: ما أنكرت على من قال لك إن ما ادعيته من أن أمير المؤمنين عليه السلام بايع الرجل دعوى عرية عن برهان ولا فرق بينها وبين قولك إنه كان مصيبا فيما حكم به على فاطمة عليها السلام فدل على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع على ما ادعيت ثم ابن عليه، فإما أن تعتمد على الدعوى المحضة فإنها تضر ولا تنفع، وقولك إنه عليه السلام صلى خلف الرجل، فإن كنت تريد أنه صلى متأخرا عن مقامه فلسنا ننكر ذلك وليس فيه دلالة على رضاه به، وإن أردت أنه صلى مقتديا به ومؤتما فما الدليل على ذلك فإنا نخالفك فيه وعنه ندفعك، وهذه دعوى كالأولى تضر من اعتمد عليها أيضا ولا تنفع.

وأما قولك إنه أخذ العطاء فالأمر كما وصفت، ولكن لم زعمت أن في ذلك دلالة على رضاه بإمامته والتسليم له في حكمه، أو ليس تعلم أن خصومك يقولون في ذلك إنه أخذ بعض حقه ولم يكن يحل له الامتناع من أخذه لان في ذلك تضييعا لماله وقد نهى الله تعالى عن التضييع وأكل الأموال بالباطل.

وبعد فما الفصل بينك وبين من جعل هذا الذي اعتمدت عليه بعينه حجة في إمامة معاوية، فقال: وجدت الحسن والحسن و عبد الله بن عباس و عبد الله بن جعفر وغيرهم من المهاجرين والأنصار قد بايعوا معاوية بن أبي سفيان بعد صلح الحسن عليه السلام وأخذوا منه العطاء وصلوا خلفه الفرائض ولم ينكروا عليه بيد ولا لسان فكل ما جعلته إسقاطا لهذا الاعتماد فهو بعينه دليل على فساد ما اعتمدته حذو النعل بالنعل، فلم يأت بشيء تجب حكايته.

- في تزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر

- الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر غير ثابت وطريقه من الزبير بن بكار ولم يكن موثوقا به في النقل وكان متهما فيما يذكره وكان يبغض أمير المؤمنين وغير مأمون فيما يدعيه على بني هاشم

- الاختلاف في الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر يبطله

- لو صح الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر فالوجه في ذلك إن التزويج تم بمن هو على ظاهر الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة إلى الكعبة والإقرار بجملة الشريعة

- لو صح الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر فالوجه في ذلك أن أمير المؤمنين كان مضطرا إلى مناكحة الرجل لأنه يهدده ويواعده فلم يأمنه على نفسه وشيعته

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 86 ، 92:

المسالة العاشرة: في تزويج أم كلثوم وبنات الرسول صلى الله عليه وآله:

ما قوله أدام الله تعالى علاه في تزويج أمير المؤمين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ابنته من عمر بن الخطاب. وتزويج النبي صلى الله عليه وآله ابنتيه: زينب ورقية من عثمان؟

الجواب: إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين عليه السلام ابنته من عمر غير ثابت، وطريقه من الزبير بن بكار، ولم يكن موثوقا به في النقل، وكان متهما فيما يذكره، وكان يبغض أمير المؤمنين عليه السلام، وغير مأمون فيما يدعيه على بني هاشم.

وإنما نشر الحديث إثبات أبي محمد الحسن بن يحيى صاحب النسب ذلك في كتابه، فظن كثير من الناس أنه حق لرواية رجل علوي له، وهو إنما رواه عن الزبير بن بكار. والحديث بنفسه مختلف، فتارة يروى: أن أمير المؤمنين عليه السلام تولى العقد له على ابنته. وتارة يروى أن العباس تولى ذلك عنه. وتارة يروى: أنه لم يقع العقد إلا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم. وتارة يروى أنه كان عن أختيار وإيثار. ثم إن بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولدا أسماه زيدا. وبعضهم يقول: إنه قتل قبل دخوله بها. وبعضهم يقول: إن لزيد بن عمر عقبا. ومنهم من يقول: إنه قتل ولا عقب له. ومنهم من يقول: إنه وأمه قتلا. ومنهم من يقول: إن أمه بقيت بعده. ومنهم من يقول: إن عمر أمهر أم كلثوم أربعين ألف درهم. ومنهم من يقول: مهرها أربعة آلاف درهم. ومنهم من يقول: كان مهرها خمسمائة درهم . ويبدو هذا الاختلاف فيه يبطل الحديث، فلا يكون له تأثير على حال.

فصل: تأويل الخبر

ثم إنه لو صح لكان له وجهان لا ينافيان مذهب الشيعة في ضلال المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام: أحدهما: أن النكاح إنما هو على ظاهر الإسلام الذي هو: الشهادتان، والصلاة إلى الكعبة، والإقرار بجملة الشريعة. وإن كان الأفضل مناكحة من يعتقد الإيمان، وترك مناكحة من ضم إلى ظاهر الإسلام ضلالا لا يخرجه عن الإسلام، إلا أن الضرورة متى قادت إلى مناكحة الضال مع إظهاره كلمة الإسلام زالت الكراهة من ذلك، وساغ ما لم يكن بمستحب مع الاختيار . وأمير المؤمنين عليه السلام كان محتاجا إلى التأليف وحقن الدماء، ورأى أنه إن بلغ مبلغ عمر عما رغب فيه من مناكحته ابنته أثر ذلك الفساد في الدين والدنيا، وأنه إن أجاب إليه أعقب صلاحا في الأمرين، فأجابه إلى ملتمسه لما ذكرناه.

والوجه الآخر: أن مناكحة الضال كجحد الإمامة، وادعائها لمن لا يستحقها حرام، إلا أن يخاف الإنسان على دينه ودمه، فيجوز له ذلك، كما يجوز له إظهار كلمة الكفر المضاد لكلمة الإيمان، وكما يحل له أكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورات، وإن كان ذلك محرما مع الاختيار. وأمير المؤمنين عليه السلام كان مضطرا إلى مناكحة الرجل لأنه يهدده ويواعده، فلم يأمنه أمير المؤمنين عليه السلام على نفسه وشيعته، فأجابه إلى ذلك ضرورة كما قلنا إن الضرورة تشرع إظهار كلمة الكفر، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}.

- في تزويج رسول الله ابنتيه من عثمان رسول الله

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 92:

فصل: زواج بنات الرسول صلى الله عليه وآله

وليس ذلك بأعجب من قول لوط عليه السلام كما حكى الله تعالى عنه: {هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فدعاهم إلى العقد عليهم لبناته وهم كفار ضلال قد أذن الله تعالى في هلاكهم. وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وآله ابنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام، أحدهما: عتبة بن أبي لهب، والآخر: أبو العاص بن الربيع. فلما بعث صلى الله عليه وآله فرق بينهما وبين ابنتيه. فمات عتبة على الكفر، وأسلم أبو العاص بعد إبانة الإسلام، فردها عليه بالنكاح الأول. ولم يكن صلى الله عليه وآله في حال من الأحوال مواليا لأهل الكفر، وقد زوج من تبرأ من دينه، وهو معاد له في الله عز وجل. وهاتان البنتان هما اللتان تزوجهما عثمان بن عفان بعد هلاك عتبة وموت أبي العاص، وإنما زوجه النبي صلى الله عليه وآله على ظاهر الإسلام، ثم إنه تغير بعد ذلك، ولم يكن على النبي صلى الله عليه وآله تبعة فيما يحدث في العاقبة. هذا على قول بعض أصحابنا. وعلى قول فريق آخر: إنه زوجه على الظاهر، وكان باطنة مستورا عنه. وليس بمنكر أن يستر الله عن نبيه نفاق كثير من المنافقين، وقد قال سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ} فلا ينكر أن يكون في أهل مكة كذلك، والنكاح على الظاهر دون الباطن، على ما بيناه للرسول خصوصية، ويمكن أن يكون الله تعالى قد أباحه مناكحة من ظاهره الإسلام وإن علم من باطنه النفاق، وخصه بذلك ورخص له فيه كما خصه في أن يجمع بين أكثر من أربع حرائر في النكاح، وأباحه أن ينكح بغير مهر، ولم يحظر عليه المواصلة في الصيام ولا في الصلاة بعد قيامه من النوم بغير وضوء، وأشباه ذلك مما خص به وحظر على غيره من عامة الناس. فهذه الأجوبة الثلاثة عن تزويج النبي عليه وآله الصلاة والسلام لعثمان، وكل واحد منها كاف بنفسه، مستغن عما سواه. والله الموفق للصواب.