عقائد الشيعة الإمامية >> الشيخ المفيد

 

 

عقائد الشيخ المفيد قدس سره

من خصائص الأئمة عليهم السلام

 

 

- إمام الدين لا يكون إلا معصوما من الخلاف لله تعالى عالما بجميع علوم الدين كاملا في الفضل باينا من الكل بالفضل عليهم في الأعمال التي يستحق بها النعيم المقيم

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 39، 40:

واتفقت الإمامية على أن إمام الدين لا يكون إلا معصوما من الخلاف لله تعالى، عالما بجميع علوم الدين، كاملا في الفضل، باينا من الكل بالفضل عليهم في الأعمال التي يستحق بها النعيم المقيم.

وأجمعت المعتزلة ومن ذكرناه من الفرق الخارجة عن سمة الإمامية على خلاف ذلك وجوزوا أن يكون الأئمة عصاة في الباطن وممن يقارف الآثام ولا يحوز الفضل ولا يكمل علوم الدين.

- الإمامة بعد النبي في بني هاشم خاصة ثم في علي والحسن والحسين ومن بعد في ولد الحسين دون ولد الحسن إلى آخر العالم

- رسول الله استخلف أمير المؤمنين في حياته ونص عليه بالإمامة بعد وفاته ومن دفع ذلك فقد دفع فرضا من الدين

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 40:

واتفقت الإمامية على أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله، في بني هاشم خاصة، ثم في علي والحسن والحسين ومن بعد في ولد الحسين عليه السلام دون ولد الحسن عليه السلام إلى آخر العالم.

وأجمعت المعتزلة ومن ذكرناه من الفرق على خلاف ذلك، وأجاز سائرهم إلا الزيدية خاصة الإمامة في غير بني هاشم، وأجازتها الزيدية في غير ولد الحسين عليه السلام.

واتفقت الإمامية على أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف أمير المؤمنين عليه السلام في حياته ونص عليه بالإمامة بعد وفاته، وأن من دفع ذلك فقد دفع فرضا من الدين.

وأجمعت المعتزلة والخوارج والمرجئة والبترية والحشوية المنتسبون إلى الحديث على خلاف ذلك، وأنكروا نص النبي صلى الله عليه وآله على أمير المؤمنين عليه السلام ودفعوا أن يكون الإمام بعده بلا فصل على المسلمين.

- رسول الله نص على إمامة الحسن والحسين بعد أمير المؤمنين وأمير المؤمنين نص عليهما كما نص الرسول

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 40، 41:

واتفقت الإمامية على أن النبي صلى الله عليه وآله نص على إمامة الحسن والحسين بعد أمير المؤمنين عليهم السلام، وأن أمير المؤمنين عليه السلام أيضا نص عليهما كما نص الرسول صلى الله عليه وآله.

وأجمعت المعتزلة ومن عددناه من الفرق سوى الزيدية الجارودية على خلاف ذلك، وأنكروا أن يكون للحسن والحسين عليهما السلام إمامة بالنص والتوقيف.

- رسول الله نص على إمامة علي بن الحسين وأبوه وجده نصا عليه كما نص عليه الرسول

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 41:

واتفقت الإمامية على أن رسول الله صلى الله عليه وآله نص على علي بن الحسين وأن أباه وجده نصا عليه كما نص عليه الرسول صلى الله عليه وآله، وأنه كان بذلك إماما للمؤمنين.

وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية والمرجئة والمنتمون إلى أصحاب الحديث على خلاف ذلك، وأنكروا بأجمعهم أن يكون علي بن الحسين عليه السلام إماما للأمة بما توجب به الإمامة لأحد من أئمة المسلمين.

- الأئمة بعد رسول الله اثنا عشر إماما

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 41:

واتفقت الإمامية على أن الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وآله اثنا عشر إماما.

وخالفهم في ذلك كل من عداهم من أهل الملة، وحججهم في ذلك على خلاف الجمهور ظاهرة من جهة القياس العقل والسمع المرضي والبرهان الجلي الذي يفضي التمسك به إلى اليقين.

- كان من أنبياء الله عز وجل حفظة لشرائع الرسل وخلفائهم في المقام

- منع الشرع من تسمية أئمتنا بالنبوة دون أن يكون العقل مانعا من ذلك

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 45:

8 - القول في الفرق بين الرسل والأنبياء عليهم السلام

واتفقت الإمامية على أن كل رسول فهو نبي وليس كل نبي فهو رسول، وقد كان من أنبياء الله عز وجل حفظة لشرائع الرسل وخلفائهم في المقام، وإنما منع الشرع من تسمية أئمتنا بالنبوة دون أن يكون العقل مانعا من ذلك لحصولهم على المعنى الذي حصل لمن ذكرناه من الأنبياء عليهم السلام.

واتفقوا على جواز بعثة رسول يجدد شريعة من تقدمه وإن لم يستأنف شرعا ويؤكد نبوة من سلف وإن لم يفرض غير ذلك فرضا.

وأجمعت المعتزلة على خلاف هذين القولين، ومع الإمامية في تصحيحه جماعة من المرجئة وكافة أصحاب الحديث.

- رسول الله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أمته وأمير المؤمنين يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته وأئمة آل محمد يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 47:

12- القول في الشفاعة

واتفقت الإمامية على أن رسول الله صلى الله عليه وآله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أمته، وأن أمير المؤمنين عليه السلام يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأن أئمة آل محمد عليهم السلام يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين.

ووافقهم على شفاعة الرسول صلى الله عليه وآله المرجئة سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعمت أن شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله للمطيعين دون العاصين وأنه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين.

- أصحاب البدع كلهم كفار وعلى الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم وإقامة البينات عليهم فإن تابوا عن بدعهم وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان ومن مات منهم على تلك البدعة فهو من أهل النار

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 49:

16- القول في أصحاب البدع وما يستحقون عليه من الأسماء والأحكام

واتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم كفار، وأن على الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم وإقامة البينات عليهم، فإن تابوا عن بدعهم وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وأن من مات منهم على تلك البدعة فهو من أهل النار.

وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وزعموا أن كثيرا من أهل البدع فساق وليسوا بكفار، وأن فيهم من لا يفسق ببدعته ولا يخرج بها عن الإسلام كالمرجئة من أصحاب ابن شبيب والبترية من الزيدية الموافقة لهم في الأصول وإن خالفوهم في صفات الإمام.

- الأئمة معصومون كعصمة الأنبياء ولا يجوز منهم صغيرة إلا ما قدم ذكر جوازه على الأنبياء

- لا يجوز من الأئمة سهو في شيء في الدين ولا ينسون شيئا من الأحكام

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 65:

37 - القول في عصمة الأئمة عليهم السلام

وأقول: إن الأئمة القائمين مقام الأنبياء صلوات الله عليهم في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء، وإنهم لا يجوز منهم صغيرة إلا ما قدمت ذكر جوازه على الأنبياء، وإنه لا يجوز منهم سهو في شيء في الدين ولا ينسون شيئا من الأحكام، وعلى هذا مذهب سائر الإمامية إلا من شذ منهم وتعلق بظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنه الفاسد من هذا الباب. والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلك وتجوز من الأئمة وقوع الكبائر والردة عن الإسلام.

- ليس بواجب عصمة ولاة الأئمة وواجب علمهم بجميع ما يتولونه وفضلهم فيه على رعاياهم وليس بواجب في ولايتهم النص على أعيانهم وجائز أن يجعل الله اختيارهم إلى الأئمة المعصومين

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 65،66:

38 - القول في ولاة الأئمة عليهم السلام وعصمتهم وارتفاعها، وهل ولايتهم بالنص أو الاختيار؟

وأقول: إنه ليس بواجب عصمة ولاة الأئمة عليهم السلام وواجب علمهم بجميع ما يتولونه وفضلهم فيه على رعاياهم لاستحالة رئاسة المفضول على الفاضل فيما هو رئيس عليه فيه، وليس بواجب في ولايتهم النص على أعيانهم، وجائز أن يجعل الله اختيارهم إلى الأئمة المعصومين عليهم السلام، وهذا مذهب جمهور الإمامية، وبنو نوبخت رحمهم الله يوجبون النص على أعيان ولاة الأئمة كما يوجبونه في الأئمة عليهم السلام.

- للإمام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات ومتى عرف من المشهود عليه ضد ما تضمنته الشهادة أبطل بذلك شهادة من شهد عليه وحكم فيه بما أعلمه الله تعالى

- يجوز أن تغيب عن الإمام بواطن الأمور فيحكم فيها بالظواهر وإن كانت على خلاف الحقيقة عند الله تعالى

- يجوز أن يدل الله تعالى الإمام على الفرق بين الصادقين من الشهود وبين الكاذبين فلا يغيب عنه حقيقة الحال

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 66:

39 - القول في أحكام الأئمة عليهم السلام

وأقول: إن للإمام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات ومتى عرف من المشهود عليه ضد ما تضمنته الشهادة أبطل بذلك شهادة من شهد عليه وحكم فيه بما أعلمه الله تعالى، وقد يجوز عندي أن تغيب عنه بواطن الأمور فيحكم فيها بالظواهر وإن كانت على خلاف الحقيقة عند الله تعالى، ويجوز أن يدله الله تعالى على الفرق بين الصادقين من الشهود وبين الكاذبين فلا يغيب عنه حقيقة الحال. والأمور في هذا الباب متعلقة بالألطاف والمصالح التي لا يعلمها على كل حال إلا الله عز وجل.

ولأهل الإمامة في هذه المقالة ثلاثة أقوال: فمنهم من يزعم أن أحكام الأئمة عليهم السلام على الظواهر دون ما يعلمونه على كل حال. ومنهم من يزعم أن أحكامهم إنما هي على البواطن دون الظواهر التي يجوز فيها الخلاف. ومنهم من يذهب إلى ما اخترته أنا من المقال ولم أر لبني نوبخت رحمهم الله فيه ما أقطع على إضافته إليهم على يقين بغير ارتياب.

- ليس يمتنع معرفة الأئمة بجميع الصنايع وساير اللغات ولا واجب من جهة العقل والقياس

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 67:

40 - القول في معرفة الأئمة عليهم السلام بجميع الصنايع وساير اللغات

وأقول: إنه ليس يمتنع ذلك منهم ولا واجب من جهة العقل والقياس وقد جاءت أخبار عمن يجب تصديقه بأن أئمة آل محمد صلى الله عليه وآله قد كانوا يعلمون ذلك، فإن ثبت وجب القطع به من جهتها على الثبات. ولي في القطع به منها نظر، والله الموفق للصواب، وعلى قولي هذا جماعة من الإمامية، وقد خالف فيه بنو نوبخت رحمهم الله وأوجبوا ذلك عقلا وقياسا ووافقهم فيه المفوضة كافة وسائر الغلاة.

- الأئمة من آل محمد قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ويعرفون ما يكون قبل كونه وليس ذلك بواجب في صفاتهم ولا شرطا في إمامتهم وإنما أكرمهم الله تعالى به وأعلمهم إياه للطف في طاعتهم و التمسك بإمامتهم وليس ذلك بواجب عقلا ولكنه وجب لهم من جهة السماع

- إطلاق القول على الأئمة الأطهار بأنهم يعلمون الغيب منكر بين الفساد لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد وهذا لا يكون إلا الله عز وجل

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 67:

41 - القول في علم الأئمة عليهم السلام بالضمائر والكائنات وإطلاق القول عليهم بعلم الغيب وكون ذلك لهم في الصفات

وأقول: إن الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ويعرفون ما يكون قبل كونه، وليس ذلك بواجب في صفاتهم ولا شرطا في إمامتهم، وإنما أكرمهم الله تعالى به وأعلمهم إياه للطف في طاعتهم والتمسك بإمامتهم، وليس ذلك بواجب عقلا ولكنه وجب لهم من جهة السماع.

فأما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب فهو منكر بين الفساد، لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، وهذا لا يكون إلا الله عز وجل، وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلا من شذ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة.

- العقل لا يمنع من نزول الوحي إلى الأئمة الأطهار وإن كانوا أئمة غير أنبياء وإنما يمنع ذلك الإجماع والاتفاق على أنه من يزعم أن أحدا بعد نبينا يوحى إليه فقد أخطأ وكفر

- ظهور المعجزات على الأئمة الأطهار والأعلام من الممكن الذي ليس بواجب عقلا ولا ممتنع قياس

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 68،69:

42 - القول في الإيحاء إلى الأئمة وظهور الإعلام عليهم والمعجزات

وأقول: إن العقل لا يمنع من نزول الوحي إليهم وإن كانوا أئمة غير أنبياء، فقد أوحى الله عز وجل إلى أم موسى: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فعرفت صحة ذلك بالوحي وعملت عليه ولم تكن نبيا ولا رسولا ولا إماما، ولكنها كانت من عباد الله الصالحين. وإنما منعت من نزول الوحي عليهم والإيحاء بالأشياء إليهم للإجماع على المنع من ذلك والاتفاق على أنه من يزعم أن أحدا بعد نبينا صلى الله عليه وآله يوحى إليه فقد أخطأ وكفر، ولحصول العلم بذلك من دين النبي صلى الله عليه وآله، كما أن العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبينا صلى الله عليه وآله ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء، وإنما منع ذلك الإجماع والعلم بأنه خلاف دين النبي صلى الله عليه وآله من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار. والإمامية جميعا على ما ذكرت ليس بينها فيه على ما وصفت خلاف.

فأما ظهور المعجزات عليهم والأعلام فإنه من الممكن الذي ليس بواجب عقلا ولا ممتنع قياسا، وقد جاءت بكونه منهم عليهم السلام الأخبار على التظاهر والانتشار فقطعت عليه من جهة السمع وصحيح الآثار، ومعي في هذا الباب جمهور أهل الإمامة وبنو نوبخت تخالف فيه وتأباه، وكثير من المنتمين إلى الإمامية يوجبونه عقلا كما يوجبونه للأنبياء.

والمعتزلة بأسرها على خلافنا جميعا فيه سوى ابن الأخشيد ومن اتبعه يذهبون فيه إلى الجواز، وأصحاب الحديث كافة تجوزه لكل صالح من أهل التقى والإيمان.

- ظهور المعجزات على المنصوبين من الخاصة والسفراء والأبواب جائز لا يمنع منه عقل ولا سنة ولا كتاب

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 69:

43 - القول في ظهور المعجزات على المنصوبين من الخاصة والسفراء والأبواب

وأقول: إن ذلك جائز لا يمنع منه عقل ولا سنة ولا كتاب، وهو مذهب جماعة من مشايخ الإمامية.

وإليه يذهب ابن الأخشيد من المعتزلة وأصحاب الحديث في الصالحين والأبرار. وبنو نوبخت من الإمامية يمنعون ذلك ويوافقون المعتزلة في الخلاف علينا فيه. ويجامعهم على ذلك الزيدية والخوارج المارقة عن الإسلام.

- سماع الأئمة كلام الملائكة الكرام وإن كانوا لا يرون منهم الأشخاص جائز من جهة العقل وإنه ليس بممتنع في الصديقين من الشيعة المعصومين من الضلال

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 69،70:

44 - القول في سماع الأئمة عليهم السلام كلام الملائكة الكرام وإن كانوا لا يرون منهم الأشخاص

وأقول: بجواز هذا من جهة العقل، وإنه ليس بممتنع في الصديقين من الشيعة المعصومين من الضلال، وقد جاءت بصحته وكونه للأئمة عليهم السلام ومن سميت من شيعتهم الصالحين الأبرار الأخيار واضحة الحجة والبرهان، وهو مذهب فقهاء الإمامية وأصحاب الآثار منهم. وقد أباه بنو نوبخت وجماعة من أهل الإمامة لا معرفة لهم بالأخبار ولم يمعنوا النظر ولا سلكوا طريق الصواب.

- منامات الرسل والأنبياء والأئمة صادقة لا تكذب وإن الله تعالى عصمهم عن الأحلام

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 70:

45 - القول في صدق منامات الرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام وارتفاع الشبهات عنهم والأحلام

وأقول: إن منامات الرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام صادقة لا تكذب، وإن الله تعالى عصمهم عن الأحلام، وبذلك جاءت الأخبار عنهم عليهم السلام على الظهور والانتشار، وعلى هذا القول جماعة فقهاء الإمامية وأصحاب النقل منهم، وأما متكلموهم فلا أعرف لهم نفيا ولا إثباتا ولا مسألة فيه ولا جوابا. والمعتزلة بأسرها تخالفنا فيه.

- في القول بفضل الأئمة الطاهرين على سائر من تقدم من الرسل والأنبياء سوى نبينا محمد

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 70،71:

46 - القول في المفاضلة بين الأئمة والأنبياء عليهم السلام

قد قطع قوم من أهل الإمامة بفضل الأئمة عليهم السلام من آل محمد صلى الله عليه وآله على سائر من تقدم من الرسل والأنبياء سوى نبينا محمد صلى الله عليه وآله، وأوجب فريق منهم لهم الفضل على جميع الأنبياء سوى أولي العزم منهم عليهم السلام، وأبى القولين فريق منهم آخر وقطعوا بفضل الأنبياء كلهم على سائر الأئمة عليهم السلام، وهذا باب ليس للعقول في إيجابه والمنع منه مجال ولا على أحد الأقوال فيه إجماع، وقد جاءت آثار عن النبي عليهم السلام في أمير المؤمنين عليه السلام وذريته من الأئمة، والأخبار عن الأئمة الصادقين أيضا من بعد، وفي القرآن مواضع تقوي العزم على ما قاله الفريق الأول في هذا المعنى، وأنا ناظر فيه وبالله اعتصم من الضلال.

- في المفاضلة بين الأئمة الأطهار وبين الرسل من الملائكة

- غير الرسل من الملائكة وإن بلغوا بالملكية فضلا فالأئمة الأطهار أفضل منهم وأعظم ثوابا عند الله عز وجل

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 71:

48 - القول في المفاضلة بين الأئمة عليهم السلام والملائكة

أما الرسل من الملائكة والأنبياء عليهم السلام فقولي فيهم مع أئمة آل محمد صلى الله عليه وآله كقولي في الأنبياء من البشر والرسل عليهم السلام، وأما باقي الملائكة فإنهم وإن بلغوا بالملكية فضلا فالأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله أفضل منهم وأعظم ثوابا عند الله عز وجل بأدلة ليس موضعها هذا الكتاب.

- رسل الله تعالى من البشر وأنبياءه والأئمة من خلفائه محدثون مصنوعون تلحقهم الآلام وتحدث لهم اللذات وتنمي أجسامهم بالأغذية وتنقص على مرور الزمان ويحل بهم الموت ويجوز عليهم الفناء

- رسل الله تعالى من البشر وأنبياءه والأئمة من خلفائه بعد الوفاة ينقلون من تحت التراب فيسكنون بأجسامهم وأرواحهم جنة الله تعالى

- رسول الله والأئمة من عترته خاصة لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم في دار الدنيا بإعلام الله تعالى لهم ذلك حالا بعد حال ويسمعون كلام المناجي لهم في مشاهدهم المكرمة العظام بلطيفة من لطائف الله تعالى بينهم بها من جمهور العباد وتبلغهم المناجاة من بعد

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 72، 73:

49 - القول في احتمال الرسل والأنبياء والأئمة الآلام وأحوالهم بعد الممات

وأقول: إن رسل الله تعالى من البشر وأنبياءه والأئمة من خلفائه محدثون مصنوعون تلحقهم الآلام، وتحدث لهم اللذات، وتنمي أجسامهم بالأغذية، وتنقص على مرور الزمان، ويحل بهم الموت ويجوز عليهم الفناء، وعلى هذا القول إجماع أهل التوحيد. وقد خالفنا فيه المنتمون إلى التفويض وطبقات الغلاة.

وأما أحوالهم بعد الوفاة فإنهم ينقلون من تحت التراب فيسكنون بأجسامهم وأرواحهم جنة الله تعالى، فيكونون فيها أحياء يتنعمون إلى يوم الممات، يستبشرون بمن يلحق بهم من صالحي أممهم وشيعتهم، ويلقونه بالكرامات وينتظرون من يرد عليهم من أمثال السابقين من ذوي الديانات.

وإن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة من عترته خاصة لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم في دار الدنيا بإعلام الله تعالى لهم ذلك حالا بعد حال، ويسمعون كلام المناجي لهم في مشاهدهم المكرمة العظام بلطيفة من لطائف الله تعالى بينهم بها من جمهور العباد، وتبلغهم المناجاة من بعد كما جاءت به الرواية، وهذا مذهب فقهاء الإمامية كافة وحملة الآثار منهم، ولست أعرف فيه لمتكلميهم من قبل مقالا، وبلغني عن بني نوبخت رحمهم الله خلاف فيه، ولقيت جماعة من المقصرين عن المعرفة ممن ينتمي إلى الإمامة أيضا يأبونه، وقد قال الله تعالى فيما يدل على الجملة: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وما يتلو هذا من الكلام. وقال في قصة مؤمن آل فرعون: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله:"من سلم علي عند قبري سمعته، ومن سلم علي من بعيد بلغته سلام الله عليه ورحمة الله وبركاته". ثم الأخبار في تفصيل ما ذكرناه من الجمل عن أئمة آل محمد صلى الله عليه وآله بما وصفناه نصا ولفظا أكثر، وليس هذا الكتاب موضع ذكرها فكنت أوردها على التفصيل والبيان.

- المتولي للحساب رسول الله وأمير المؤمنين والأئمة من ذريتهما بأمر الله تعالى لهم بذلك وجعله إليهم تكرمة لهم وإجلالا لمقاماتهم وتعظيما على سائر العباد

- الميزان هو التعديل بين الأعمال والمستحق عليها والمعدلون في الحكم إذ ذاك هم أئمة آل محمد

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 78،79:

56 - القول في الحساب وولاته والصراط والميزان

وأقول: إن الحساب هو موافقة العبد على ما أمر به في دار الدنيا وإنه يختص بأصحاب المعاصي من أهل الإيمان، وأما الكفار فحسابهم جزاؤهم بالاستحقاق والمؤمنون الصالحون يوفون أجورهم بغير حساب.

وأقول: إن المتولي لحساب من ذكرت رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمة من ذريتهما عليهم السلام بأمر الله تعالى لهم بذلك وجعله إليهم تكرمة لهم وإجلالا لمقاماتهم وتعظيما على سائر العباد، وبذلك جاءت الأخبار المستفيضة عن الصادقين عليهم السلام عن الله تعالى، وقد قال الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} يعني الأئمة عليهم السلام على ما جاء في التفسير الذي لا شك في صحته ولا ارتياب.

وأقول: إن الصراط جسر بين الجنة والنار تثبت عليه أقدام المؤمنين وتزل عنه أقدام الكفار إلى النار، وبذلك جاءت أيضا الأخبار.

وأما الميزان فهو التعديل بين الأعمال والمستحق عليها، والمعدلون في الحكم إذ ذاك هم ولاة الحساب من أئمة آل محمد عليهم السلام، وعلى هذا القول إجماع نقلة الحديث من أهل الإمامة، وأما متكلموهم من قبل فلم أسمع لهم في شيء منه كلاما.

- رسول الله يشفع يوم القيامة في مذنبي أمته من الشيعة خاصة فيشفعه الله عز وجل ويشفع أمير المؤمنين في عصاه شيعته فيشفعه الله عز وجل وكذا الأئمة ويشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب ويشفعه الله

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 79،80:

57 - القول في الشفاعة

وأقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله يشفع يوم القيامة في مذنبي أمته من الشيعة خاصة فيشفعه الله عز وجل ويشفع أمير المؤمنين عليه السلام في عصاه شيعته فيشفعه الله عز وجل وتشفع الأئمة عليهم السلام في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفعهم ويشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفعه الله، وعلى هذا القول إجماع الإمامية إلا من شذ منهم، وقد نطق به القرآن وتظاهرت به الأخبار، قال الله تعالى في الكفار عند إخباره عن حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله:"إني أشفع يوم القيمة فأشفع فيشفع علي عليه السلام فيشفع، وإن أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه".

- إجماع الأمة حجة لتضمنه قول الحجة وكذلك إجماع الشيعة حجة لمثل ذلك والأصل في هذا الباب ثبوت الحق من جهته بقول الإمام القائم مقام النبي

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 121:

129 - القول في الإجماع

وأقول: إن إجماع الأمة حجة لتضمنه قول الحجة، وكذلك إجماع الشيعة حجة لمثل ذلك دون الإجماع. والأصل في هذا الباب ثبوت الحق من جهته بقول الإمام القائم مقام النبي صلى الله عليه وآله، فلو قال وحده قولا لم يوافقه عليه أحد من الأنام لكان كافيا في الحجة والبرهان. وإنما جعلنا الإجماع حجة به وذكرناه لاستحالة حصوله إلا وهو فيه إذ هو أعظم الأمة قدرا وهو المقدم على سائرها في الخيرات ومحاسن الأقوال والأعمال. وهذا مذهب أهل الإمامة خاصة. ويخالفهم فيه المعتزلة والمرجئة والخوارج وأصحاب الحديث من القدرية وأهل الإجبار.

- جميع المؤمنين من الملائكة والنبيين والأئمة معصومون لأنهم متمسكون بطاعة الله تعالى

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 134، 135:

153 - القول في العصمة ما هي؟

أقول: إن العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنه امتنع به عن الوقوع فيما يكره، وليس هو جنسا من أجناس الفعل، ومنه قولهم: اعتصم فلان بالجبل، إذا امتنع به، ومنه سميت (العصم) وهي وعول الجبال لامتناعها بها.

والعصمة من الله تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان مما يكره إذا أتى بالطاعة، وذلك مثل إعطائنا رجلا غريقا حبلا ليتشبث به فيسلم، فهو إذا أمسكه واعتصم به سمي ذلك الشيء عصمة له لما تشبث وسلم به من الغرق ولو لم يعتصم به لم يسم (عصمة)، وكذلك سبيل اللطف إن الإنسان إذا أطاع سمي (توفيقا) و (عصمة)، وإن لم يطع لم يسم (توفيقا) ولا (عصمة)، وقد بين الله ذكر هذا المعنى في كتابه بقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، وحبل الله هو دينه، ألا ترى أنهم بامتثال أمره يسلمون من الوقوع في عقابه، فصار تمسكهم بأمره اعتصاما، وصار لطف الله لهم في الطاعة عصمة، فجميع المؤمنين من الملائكة والنبيين والأئمة معصومون لأنهم متمسكون بطاعة الله تعالى.

وهذه جملة من القول في العصمة ما أظن أحدا يخالف في حقيقتها، وإنما الخلاف في حكمها كيف تجب وعلى أي وجه تقع، وقد مضى ذكر ذلك في باب عصمة الأنبياء وعصمة نبينا عليه وعليهم الصلوة والسلام وهي في صدر الكتاب، وهذا الباب ينبغي أن يضاف إلى الكلام في الجليل، إن شاء الله تعالى.

- المقطوع بالأعراف في جملته أن الأعراف مكان بين الجنة والنار يقف فيه رسول الله وأمير المؤمنين والأئمة من ذريته ويكون به يوم القيامة قوم من المرجين لأمر الله وما بعد ذلك فالله أعلم بالحال فيه

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 106، 107:

فصل: في الأعراف قال أبو جعفر: اعتقادنا في الأعراف أنه سور... إلى آخره.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: قد قيل إن الأعراف جبل بين الجنة والنار. وقيل أيضا: إنه سور بين الجنة والنار. وجملة الأمر في ذلك: أنه مكان ليس من الجنة ولا من النار.

وقد جاء الخبر بما ذكرناه، وأنه إذا كان يوم القيامة كان به رسول الله وأمير المؤمنين والأئمة من ذريته صلى الله عليه وآله وهم الذين عني الله سبحانه بقوله: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} وذلك أن الله تعالى يعلمهم أصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماء يجعلها عليهم وهي العلامات وقد بين ذلك في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} و {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}.

وقد قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ} فأخبر أن في خلقه طائفة يتوسمون الخلق فيعرفونهم بسيماهم.

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال في بعض كلامه: أنا صاحب العصا والميسم. يعني: علمه بمن يعلم حاله بالتوسم.

وروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه سئل عن قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: فينا نزلت أهل البيت. يعني: في الأئمة عليهم السلام.

وقد جاء الحديث بأن الله تعالى يسكن الأعراف طائفة من الخلق لم يستحقوا بأعمالهم الجنة على الثبات من غير عقاب، ولا استحقوا الخلود في النار وهم المرجون لأمر الله، ولهم الشفاعة، ولا يزالون على الأعراف حتى يؤذن لهم في دخول الجنة بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين والأئمة من بعده عليهم السلام.

وقيل أيضا: إنه مسكن طوائف لم يكونوا في الأرض مكلفين فيستحقون بأعمالهم جنة ونارا، فيسكنهم الله ذلك المكان ويعوضهم على آلامهم في الدنيا بنعيم لا يبلغون به منازل أهل الثواب المستحقين له بالأعمال. وكل ما ذكرناه جائز في العقول.

وقد وردت به أخبار والله أعلم بالحقيقة من ذلك إلا أن المقطوع به في جملته أن الأعراف مكان بين الجنة والنار يقف فيه من سميناه من حجج الله تعالى على خلقه، ويكون به يوم القيامة قوم من المرجين لأمر الله، وما بعد ذلك فالله أعلم بالحال فيه.

- الصراط في اللغة هو الطريق فلذلك سمي الدين صراطا لأنه طريق إلى الصواب وله سمي الولاء لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته صراطا

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 108، 111:

فصل: في الصراط قال أبو جعفر  اعتقادنا في الصراط أنه حق، وأنه جسر.

قال الشيخ المفيد أبو عبد الله رحمه الله: الصراط في اللغة هو الطريق، فلذلك سمي الدين صراطا، لأنه طريق إلى الصواب، [وله سمي] الولاء لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام صراطا.

ومن معناه قال أمير المؤمنين عليه السلام: أنا صراط الله المستقيم، وعروته الوثقى التي لا انفصام لها. يعني: أن معرفته والتمسك به طريق إلى الله سبحانه.

وقد جاء الخبر بأن الطريق يوم القيامة إلى الجنة كالجسر يمر به الناس، وهو الصراط الذي يقف عن يمينه رسول الله صلى الله عليه وآله وعن شماله أمير المؤمنين عليه السلام ويأتيهما النداء من قبل الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} وجاء الخبر أنه لا يعبر الصراط يوم القيامة إلا من كان معه براءة من علي بن أبي طالب عليه السلام من النار.

وجاء الخبر بأن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف على الكافر. والمراد بذلك أنه لا تثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدة ما يلحقهم من أهوال يوم القيامة ومخاوفها، فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشيء الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف. وهذا مثل مضروب لما يلحق الكافر من الشدة في عبوره على الصراط، وهو طريق إلى الجنة وطريق إلى النار، يشرف العبد منه إلى الجنة ويرى منه أهوال النار.

وقد يعبر به عن الطريق المعوج فلهذا قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} فميز بين طريقه الذي دعا إلى سلوكه من الدين، وبين طرق الضلال.

وقال الله تعالى فيما أمر به عباده من الدعاء وتلاوة القرآن: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} فدل على أن ما سواه صراط غير مستقيم.

وصراط الله تعالى دين الله، وصراط الشيطان طريق العصيان، والصراط في الأصل على ما بيناه هو الطريق، والصراط يوم القيامة هو الطريق المسلوك إلى الجنة أو النار على ما قدمناه.

- الخبر الوارد في أن أمير المؤمنين والأئمة من ذريته هم الموازين المراد أنهم المعدلون بين الأعمال فيما يستحق عليها والحاكمون فيها بالواجب والعدل

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 114:

فصل: في الحساب والموازين

قال الشيخ أبو جعفر اعتقادنا في الحساب أنه حق.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: الحساب هو المقابلة بين الأعمال والجزاء عليها، والمواقفة للعبد على ما فرط منه، والتوبيخ له على سيئاته، والحمد له على حسناته، ومعاملته في ذلك باستحقاقه. وليس هو كما ذهبت العامة إليه من مقابلة الحسنات بالسيئات والموازنة بينهما على حسب استحقاق الثواب والعقاب عليهما، إذ كان التحابط بين الأعمال غير صحيح، ومذهب المعتزلة فيه باطل غير ثابت، وما اعتمده الحشوية في معناه غير معقول.

والموازين هي التعديل بين الأعمال والجزاء عليها، ووضع كل جزاء في موضعه، وإيصال كل ذي حق إلى حقه. فليس الأمر في معنى ذلك على ما ذهب إليه أهل الحشو، من أن في القيامة موازين كموازين الدنيا، لكل ميزان كفتان توضع الأعمال فيها، إذ الأعمال أعراض، والأعراض لا يصح وزنها، وإنما توصف بالثقل والخفة على وجه المجاز، والمراد بذلك أن ما ثقل منها هو ما كثر واستحق عليه عظيم الثواب، وما خف منها ما قل قدره ولم يستحق عليه جزيل الثواب.

والخبر الوارد في أن أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام هم الموازين، فالمراد أنهم المعدلون بين الأعمال فيما يستحق عليها، والحاكمون فيها بالواجب والعدل. ويقال فلان عندي في ميزان فلان، ويراد به نظيره. ويقال: كلام فلان عندي أوزن من كلام فلان، والمراد به أن كلامه أعظم وأفضل قدرا، والذي ذكره الله تعالى في الحساب والخوف منه إنما هو المواقفة على الأعمال، لأن من وقف على أعماله لم يتخلص من تبعاتها، ومن عفى الله تعالى عنه في ذلك فاز بالنجاة: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ -بكثرة استحقاقه الثواب- فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ -بقلة أعمال الطاعات- فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} والقرآن إنما أنزل بلغة العرب وحقيقة كلامها ومجازه، ولم ينزل على ألفاظ العامة وما سبق إلى قلوبها من الأباطيل.

- الله تعالى يسمع الحجج بعد نبيه كلاما يلقيه إليهم في علم ما يكون لكنه لا يطلق عليه اسم الوحي لما أجمع عليه المسلمون على أنه لا وحي إلى أحد بعد نبينا

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 120:

فصل: في كيفية نزول الوحي

قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله [في نزول الوحي]: اعتقادنا في ذلك أن بين عيني إسرافيل... إلخ.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: هذا أخذه أبو جعفر رحمه الله من شواذ الحديث، وفيه خلاف لما قدمه من أن اللوح ملك من ملائكة الله تعالى. وأصل الوحي هو الكلام الخفي، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إفهام المخاطب على السر له عن غيره والتخصيص له به دون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان [فيما يخص] به الرسل صلى الله عليهم خاصة دون من سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبي صلى الله عليه وآله.

قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية، فاتفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا مناما أو كلاما سمعته أم موسى في منامها على الاختصاص، قال الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآية، يريد به الإلهام الخفي، إذ كان [خاصا بمن] أفرده به دون من سواه، فكان علمه حاصلا للنحل بغير كلام جهز به المتكلم فأسمعه غيره.

وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} بمعنى ليوسوسون إلى أوليائهم بما يلقونه من الكلام في أقصى أسماعهم، فيخصون بعلمهم دون من سواهم، وقال سبحانه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} يريد به أشار إليهم من غير إفصاح الكلام، شبه ذلك بالوحي لخفائه عمن سوى المخاطبين، ولستره عمن سواهم.

وقد يري الله سبحانه وتعالى في المنام خلقا كثيرا ما يصح تأويله [ويثبت حقه] لكنه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي، ولا يقال في هذا الوقت لمن طبعه الله على علم شيء أنه يوحى إليه.

وعندنا أن الله تعالى يسمع الحجج بعد نبيه صلى الله عليه وآله كلاما يلقيه إليهم في علم ما يكون، لكنه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدمناه من إجماع المسلمين على أنه لا وحي [إلى أحد] بعد نبينا صلى الله عليه وآله، وأنه لا يقال في شيء مما ذكرناه أنه وحي إلى أحد.

ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحيانا ويحظره أحيانا، ويمنع السمات بشيء حينا ويطلقها حينا. فأما المعاني، فإنها لا تتغير عن حقائقها على ما قدمناه.

فصل: قال الشيخ المفيد رحمه الله: فأما الوحي من الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله فقد كان تارة بإسماعه الكلام من غير واسطة، وتارة بإسماعه الكلام على ألسن الملائكة.

والذي ذكره أبو جعفر رحمه الله من اللوح والقلم وما ثبت فيه فقد جاء به حديث، إلا أنا لا نعزم على القول به، ولا نقطع على الله بصحته، ولا نشهد منه إلا بما علمناه، وليس الخبر به متواترا يقطع العذر ولا عليه إجماع، ولا نطق به القرآن، ولا ثبت عن حجة الله تعالى فينقاد له والوجه أن نقف فيه ونجوزه ولا نقطع به ولا نجزم له ونجعله في حيز الممكن.

فأما قطع أبي جعفر به وعلمه على اعتقاده فهو يستند إلى ضرب من التقليد، ولسنا من التقليد في شيء.

- المقطوع به بمن قتل من الأئمة أمير المؤمنين والحسن والحسين وموسى بن جعفر ويقوى في النفس أمر الرضا عليهم السلام

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 131، 136:

فصل: في الغلو والتفويض

قال أبو جعفر: باب الاعتقاد في الغلو والتفويض... إلى آخره.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: الغلو في اللغة هو [التجاوز عن الحد  والخروج عن القصد.

قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} الآية، فنهى عن تجاوز الحد في المسيح، وحذر من الخروج عن القصد في القول، وجعل ما ادعته النصارى فيه غلوا لتعديه الحد على ما بيناه.

والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام إلى الألوهية والنبوة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد، وخرجوا عن القصد، وهم ضلال كفار حكم فيهم أمير المؤمنين عليه السلام بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمة عليهم السلامعليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام.

فصل: فأما ما ذكره أبو جعفر رحمه الله من مضي نبينا والأئمة عليهم السلام بالسم والقتل، فمنه ما ثبت، ومنه ما لم يثبت، والمقطوع به أن أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام خرجوا من الدنيا بالقتل ولم يمت أحدهم حتف أنفه، وممن مضى بعدهم مسموما موسى بن جعفر عليه السلام ويقوى في النفس أمر الرضا عليه السلام وإن كان فيه شك، فلا طريق إلى الحكم فيمن عداهم بأنهم سموا أو اغتيلوا أو قتلوا صبرا، فالخبر بذلك يجري مجرى الإرجاف، وليس إلى تيقنه سبيل.

والمفوضة صنف من الغلاة، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة وخلقهم ونفي القدم عنهم وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم، ودعواهم أن الله سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم خاصة، وأنه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال.

والحلاجية ضرب من أصحاب التصوف، وهم أصحاب الإباحة والقول بالحلول، ولم يكن الحلاج يتخصص بإظهار التشيع وإن كان ظاهر أمره التصوف، وهم قوم ملحدة وزنادقة يموهون بمظاهرة كل فرقة بدينهم، ويدعون للحلاج الأباطيل، ويجرون في ذلك مجرى المجوس في دعواهم لزرادشت المعجزات، ومجرى النصارى في دعواهم لرهبانهم الآيات والبينات، والمجوس والنصارى أقرب إلى العمل بالعبادات منهم، وهم أبعد من الشرائع والعمل بها من النصارى والمجوس.

فصل: فأما نص أبي جعفر رحمه الله بالغلو على من نسب مشايخ القميين وعلمائهم إلى التقصير، فليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس، إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصرا، وإنما يجب الحكم بالغلو على من نسب المحقين إلى التقصير، سواء كانوا من أهل قم أم غيرها من البلاد وسائر الناس.

وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد رحمه الله لم نجد لها دافعا في التقصير، وهي ما حكي عنه أنه قال: أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام فإن صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصر مع أنه من علماء القميين ومشيختهم.

وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيرا ظاهرا في الدين، وينزلون الأئمة عليهم السلام عن مراتبهم، ويزعمون أنهم كانوا لا يعرفون كثيرا من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول إنهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون، ويدعون مع ذلك أنهم من العلماء. وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه.

ويكفي في علامة الغلو نفي القائل به عن الأئمة سمات الحدوث وحكمه لهم بالإلهية والقدم، [إذ قالوا بما] يقتضي ذلك من خلق أعيان الأجسام واختراع الجواهر وما ليس بمقدور العباد من الأعراض، ولا يحتاج مع ذلك إلى الحكم عليهم وتحقيق أمرهم بما جعله أبو جعفر سمة للغلو على كل حال.

- كان الصادقون يأمرون بعض أصحاب الأمراض باستعمال ما يضر بمن كان به المرض فلا يضرهم وذلك لعلمهم بانقطاع سبب المرض فإذا استعمل الإنسان ما يستعمله كان مستعملا له مع الصحة من حيث لا يشعر بذلك وكان علمهم بذلك من قبل الله تعالى على سبيل المعجز لهم

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 144، 145:

في الطب

قال أبو جعفر: اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطب.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: الطب صحيح، والعلم به ثابت، وطريقه الوحي، وإنما أخذه العلماء به عن الأنبياء عليهم السلام وذلك أنه لا طريق إلى علم حقيقة الداء إلا بالسمع، ولا سبيل إلى معرفة الدواء إلا بالتوقيف، فثبت أن طريق ذلك هو السمع عن العالم بالخفيات تعالى.

والأخبار الواردة عن الصادقين عليهم السلام مفسرة بقول أمير المؤمنين عليه السلام: "المعدة بيت الأدواء، والحمية رأس الدواء" و "عود كل بدن ما اعتاد" وقد ينجع في بعض أهل البلاد من الدواء من مرض يعرض لهم ما يهلك من استعمله لذلك المرض من غير أهل تلك البلاد، ويصلح لقوم ذوي عادة ما لا يصلح لمن خالفهم في العادة.

وكان الصادقون عليهم السلام يأمرون بعض أصحاب الأمراض باستعمال ما يضر بمن كان به المرض فلا يضرهم، وذلك لعلمهم عليهم السلام بانقطاع سبب المرض، فإذا استعمل الإنسان ما يستعمله كان مستعملا له مع الصحة من حيث لا يشعر بذلك، وكان علمهم بذلك من قبل الله تعالى على سبيل المعجز لهم والبرهان لتخصيصهم به وخرق العادة بمعناه، فظن قوم أن ذلك الاستعمال إذا حصل مع مادة المرض نفع فغلطوا فيه واستضروا به.

وهذا قسم لم يورده أبو جعفر، وهو معتمد في هذا الباب، والوجوه التي ذكرها من بعد فهي على ما ذكره، والأحاديث محتملة لما وصفه حسب ما ذكرناه.

- العذر الحاصل لأئمتنا من ترك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام هو عدم تمكينهم من إقامة الحدود وتنفيذ الإحكام من قبل من جعل لنفسه حق إقامة الإمام من أهل الحل والعقد

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 3   ص 15:

فقال: هؤلاء القوم وإن قالوا بالحاجة إلى الإمام فعذرهم واضح في بطلان الأحكام لعدم غيبة الإمام الذي يقوم بالأحكام، وانتم تقولون إن أئمتكم عليهم السلام قد كانوا ظاهرين إلى وقت زمان الغيبة عندكم، فما عذركم في ترك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام.

فقلت له: إن هؤلاء القوم وان اعتصموا في تضييع الحدود والأحكام بعد الأئمة الذين يقومون بها في الزمان، فأنهم يعترفون بأن في كل زمان طائفة منهم من أهل الحل والعقد قد جعل إليهم إقامة الإمام الذي يقوم بالحدود وتنفيذ الأحكام، فما عذرهم عن كفهم عن إقامة الإمام وهم موجودون معروفو الأعيان، فان وجب عليهم لوجودهم ظاهرين في كل زمان إقامة الإمام المنفذ للأحكام، وعانوا ترك ذلك في طول هذه المدة عاصين ضالين عن طريق الرشاد كان لنا بذلك عليهم ولن يقولوا بهذا أبدا، وأن كان لهم عذر في ترك إقامة الإمام، وان كانوا في كل وقت موجودين، فذلك العذر لأئمتنا عليهم السلام في ترك إقامة الحدود وان كانوا موجودين في كل زمان، على أن عذر أئمتنا عليهم السلام في ترك إقامة الأحكام أوضح واظهر من عذر المعتزلة في ترك نصب الإمام، لأنا نعلم يقينا بلا ارتياب إن كثيرا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله قد شردوا عن أوطانهم، وسفكت دماؤهم، وألزم الباقون منهم الخوف على التوهم عليهم أنهم يرون الخروج بالسيف وأنهم ممن إليهم الأحكام، ولم ير أحد من المعتزلة ولا الحشوية سفك دمه، ولا شرد عن وطنه، ولا خيف على التوهم عليه والتحقيق منه انه يرى في قعود الأئمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هؤلاء القوم يصرحون في المجالس بأنهم أصحاب الاختيار، وان إليهم الحل والعقد والإنكار على الطاعة، وان من مذهبهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضا لازما على اعتقادهم، وهم مع ذلك آمنون من السلطان، غير خائفين من نكره عليهم من هذا المقال. فبان بذلك أنه لا عذر لهم في ترك إقامة الإمام، وان العذر الواضح الذي لا شبهة فيه حاصل لائمتنا عليهم السلام من ترك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام لما بيناه من حالهم ووصفناه وهذا واضح.

فلم يأت بشيء ولله الحمد ولرسوله وآله الصلاة والسلام. والله الموفق للصواب.

- لم يكن احد من الأئمة الطاهرين من آباء إمام الزمان كلف القيام بالسيف مع ظهوره ولا ألزم بترك التقية ولا ألزم الدعاء إلى نفسه حسبما كلفه إمام زماننا هذا بشرط ظهوره

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 4   ص 11، 13:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلاته على سيدنا محمد وآله الطاهرين. وبعد: سأل بعض المخالفين فقال: ما السبب الموجب لاستتار إمام الزمان عليه السلام وغيبته التي قد طالت مدتها وامتدت بها الأيام، ثم قال: فان قلتم: إن سبب ذلك صعوبة الزمان عليه بكثرة أعدائه وخوفه منهم على نفسه، قيل لكم: فقد كان الزمان الأول على آبائه عليهم السلام أصعب، وأعداؤهم فيما مضى أكثر، وخوفهم على نفسهم أشد وأكثر، ولم يستتروا مع ذلك ولا غابوا عن أشياعهم، بل كانوا ظاهرين حتى أتاهم اليقين، وهذا يبطل اعتلالكم في غيبة صاحب الزمان عنكم واستتاره فيما ذكرتموه، وسألتك أدام الله عزك.

الجواب عن ذلك: الجواب وبالله التوفيق: إن اختلاف حالتي صاحب الزمان وآبائه عليه وعليهم السلام فيما يقتضيه استتاره اليوم وظهوره، إذ ذاك يقضي بطلان ما توهمه الخصم وادعاه من سهولة هذا الزمان على صاحب الأمر عليه السلام وصعوبته على آبائه عليهم السلام فيما سلف، وقلة خوفه اليوم وكثرة خوف آبائه فيما سلف، وذلك انه لم يكن احد من آبائه عليهم السلام كلف القيام بالسيف مع ظهوره، ولا ألزم بترك التقية، ولا ألزم الدعاء إلى نفسه حسبما كلفه إمام زماننا، هذا بشرط ظهوره عليه السلام، وكان من مضى من أبائه صلوات الله عليهم قد أبيحوا التقية من أعدائهم، والمخالطة لهم، والحضور في مجالسهم وأذاعوا تحريم إشهار السيوف على أنفسهم، وخطر الدعوة إليها. وأشاروا إلى منتظر يكون في آخر الزمان منهم يكشف الله به الغمة، ويحيي ويهدي به الأمة، لا تسعه التقية، عند ظهوره ينادي باسمه في السماء الملائكة الكرام، ويدعوا إلى بيعته جبرئيل وميكائيل في الأنام، وتظهر قبله أمارات القيامة في الأرض والسماء، ويحيا عند ظهوره أموات، وتروع آيات قيامه ونهوضه بالأمر الأبصار.

فلما ظهر ذلك عن السلف الصالح من آبائه عليهم السلام، وتحقق ذلك عند سلطان كل زمان وملك كل أوان، وعلموا أنهم لا يتدينون بالقيام بالسيف، ولا يرون الدعاء إلى مثله على أحد من أهل الخلاف، وان دينهم الذي يتقربون به إلى الله عز وجل التقية، وكف اليد، وحفظ اللسان، والتوفر على العبادات، والانقطاع إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحات، أمنوهم على أنفسهم مطمئنين بذلك إلى ما يدبرونه من شأنهم، ويحققونه من دياناتهم، وكفوا بذلك عن الظهور والانتشار، واستغنوا به عن التغيب والاستتار.

ولما كان إمام هذا الزمان عليه السلام هو المشار إليه بسل السيف من أول الدهر في تقادم الأيام المذكورة، والجهاد لأعداء الله عند ظهوره، ورفع التقية عن أوليائه، وإلزامه لهم بالجهاد، وانه المهدي الذي يظهر الله به الحق، ويبيد بسيفه الضلال، وكان المعلوم انه لا يقوم بالسيف إلا مع وجود الأنصار واجتماع الحفدة والأعوان، ولم يكن أنصاره عليه السلام عند وجوده متهيئين إلى هذا الوقت موجودين، ولا على نصرته مجمعين، ولا كان في الأرض من شيعته طرا من يصلح للجهاد وان كانوا يصلحون لنقل الآثار وحفظ الأحكام والدعاء له بحصول التمكن من ذلك إلى الله عز وجل، لزمته التقية، ووجب فرضها عليه كما فرضت على آبائه عليهم السلام، لأنه لو ظهر بغير أعوان لألقى بيده إلى التهلكة، ولو أبدى شخصه للأعداء لم يألوا جهدا في إيقاع الضرر به، واستئصال شيعته، وإراقة دمائهم على الاستحلال، فيكون في ذلك أعظم الفساد في الدين والدنيا، ويخرج به عليه السلام عن أحكام الدين وتدبير الحكماء.

ولما ثبت عصمته، وجب استتاره حتى يعلم يقينا لاشك فيه حضور الأعوان له، واجتماع الأنصار، وتكون المصلحة العامة في ظهوره بالسيف، ويعلم تمكنه من إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط ما ظنه المخالف من مناقضة أصحابنا الإمامية فيما يعتقدونه من علة ظهور السلف من أئمة الهدى عليهم السلام وغيبة صاحب زماننا هذا عليه التحية والرضوان وأفضل الرحمة والسلام والصلاة. وبان مما ذكرناه فرق ما بين حاله وأحوالهم فيما جوز لهم الظهور، واوجب حليه الاستتار.

- تقية الأئمة عليهم السلام في سيرة النبي صلى الله عليه وآله

-  رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 4   ص 13، 16:

(فصل) ثم يقال لهذا الخصم: أليس النبي صلى الله عليه وآله قد أقام بمكة ثلاثة عشر سنة يدعو الناس إلى الله تعالى ولا يرى سل السيف ولا الجهاد، ويصبر على التكذيب له والشتم والضرب وصنوف الأذى، حتى انتهى أمره إلى أن القوا على ظهره صلى الله عليه وآله وهو راكع السلى، وكانوا يرضخون قدميه بالأحجار، ويلقاه السفيه من أهل مكة فيشتمه في وجهه ويحثو فيه التراب، ويضيق عليه أحيانا، ويبلغ أعداؤه في الأذى بضروب النكال، وعذبوا أصحابه أنواع العذاب، وفتنوا كثيرا منهم حتى رجعوا عن الإسلام، وكان المسلمون يسألونه الأذن لهم في سل السيف ومباينة الأعداء فيمنعهم عن ذلك، ويكفهم، ويأمرهم بالصبر على الأذى.

وروي: أن عمر بن الخطاب لما أظهر الإسلام سل سيفه بمكة وقال: لا يعبد الله سرا، فزجره رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك. وقال له عبد الرحمن بن عوف الزهري: لو تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله لأخذ كل رجل بيده رجلين إلى جنب رجل منهم فقتله. فنهاه النبي صلى الله عليه وآله عما قال.

ولم يزل ذلك حاله إلى أن طلب من النجاشي -وهو ملك الحبشة- أن يخفر أصحابه من قريش ثم أخرجهم إليه واستتر عليه وآله السلام خائفا على دمه في الشعب ثلاث سنين، ثم هرب من مكة بعد موت عمه أبي طالب مستخفيا بهربه، وأقام في الغار ثلاثة أيام ثم هاجر عليه وآله والسلام إلى المدينة ورأى النهي منه للقيام واستنفر أصحابه وهم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر، ولقي بهم ألف رجل من أهل بدر، ورفع التقية عن نفسه إذ ذاك.

ثم حضر المدينة متوجها إلى العمرة، فبايع تحت الشجرة بيعة الرضوان على الموت، ثم بدا له عليه وآله السلام فصالح قريشا ورجع عن العمرة ونحر هديه في مكانه، وبدا له من القتال، وكتب بينه وبين قريش كتابا سألوه فيه محو (بسم الله الرحمن الرحيم) فأجابهم إلى ذلك، و دعوا إلى محو اسمه من النبوة في الكتاب لاطلاعهم إلى ذلك، فاقترحوا عليه أن يرد رجلا مسلما إليهم حتى يرجع إلى الكفر أو يتركوه فأجابهم إلى ذلك هذا وقد ظهر عليهم في الحرب.

فإذا قال الخصم: بلى ولابد من ذلك إن كان من أهل العلم والمعرفة بالأخبار.

قيل له: فلم لم يقاتل بمكة وما باله صبر على الأذى، ولم منع أصحابه عن الجهاد وقد بذلوا أنفسهم في نصرة الإسلام، وما الذي اضطره إلى الاستجارة بالنجاشي وإخراج أصحابه من مكة إلى بلاد الحبشة خوفا على دمائهم من الأعداء، وما الذي دعاه إلى القتال حين خذله أصحابه وتثاقلوا عليه فقاتل بهم مع قلة عددهم، وكيف لم يقاتل بالحديبية مع كثرة أنصاره وبيعتهم له على الموت، وما وجه اختلاف أفعاله في هذه الأحوال؟ فما كان في ذلك جوابكم فهو جوابنا في ظهور السلف من أباء صاحب الزمان واستتاره وغيبته فلا تجدون من ذلك مهربا. والحمد لله المستعان، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.

- ظهور الآيات على الأئمة لا توجب لهم الحكم بالنبوة لأنها ليست بأدلة تختص بدعوة الأنبياء من حيث دعوا إلى نبوتهم لكنها أدلة على صدق الداعي إلى ما دعا إلى تصديقه فيه على الجملة دون التفصيل

- ذكر أمثلة من القرآن الكريم في ظهور الآيات على غير الأنبياء

 - المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 121، 125:

الكلام في الفصل العاشر: فأما قول الخصوم: إنه إذا كان الإمام غائبا منذ ولد وإلى أن يظهر داعيا إلى الله تعالى، ولم يكن رآه على قول أصحابه أحد إلا من مات قبل ظهوره، فليس للخلق طريق إلى معرفته بمشاهدة شخصه ولا التفرقة بينه وبين غيره بدعوته. وإذا لم يكن الله تعالى يظهر الأعلام والمعجزات على يده ليدل بها على أنه الإمام المنتظر، دون من ادعى مقامه في ذلك النبوة له، إذ كانت المعجزات دلائل النبوة والوحي والرسالة، وهذا نقض مذهبهم وخروج عن قول الأمة كلها: أنه لا نبي بعد نبينا عليه وآله السلام.

فصل: فإنا نقول: إن الأخبار قد جاءت عن أئمة الهدى من آباء الإمام المنتظر عليه السلام بعلامات تدل عليه قبل ظهوره وتؤذن بقيامه بالسيف قبل سنته: منها:

خروج السفياني، وظهور الدجال، وقتل رجل من ولد الحسن بن علي عليه السلام يخرج بالمدينة داعيا إلى إمام الزمان، وخسف بالبيداء. وقد شاركت العامة الخاصة في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله بأكثر هذه العلامات، وأنها كائنة لا محالة على القطع بذلك والثبات، وهذا بعينه معجز يظهر على يده، يبرهن به عن صحة نسبه ودعواه.

فصل: مع أن ظهور الآيات على الأئمة عليهم السلام لا توجب لهم الحكم بالنبوة، لأنها ليست بأدلة تختص بدعوة الأنبياء من حيث دعوا إلى نبوتهم، لكنها أدلة على صدق الداعي إلى ما دعا إلى تصديقه فيه على الجملة دون التفصيل. فإن دعا إلى اعتقاد نبوتهم كانت دليلا على صدقه في دعوته، وإن دعا الإمام إلى اعتقاد إمامته كانت برهانا له في صدقه في ذلك، وإن دعا المؤمن الصالح إلى تصديق دعوته إلى نبوة نبي أو إمامة إمام أو حكم سمعه من نبي أو إمام كان المعجزة على صحة دعواه. وليس يختص ذلك بدعوة النبوة دون ما ذكرناه، وإن كان مختصا بذوي العصمة من الضلال وارتكاب كبائر الآثام، وذلك مما يصح اشتراك أصحابه مع الأنبياء عليهم السلام في صحيح النظر والاعتبار.

وقد أجرى الله تعالى آية إلى مريم ابنة عمران، الآية الباهرة برزقها من السماء، وهو خرق للعادة وعلم باهر من أعلام النبوة. فقال جل من قائل: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}. ولم يكن لمريم عليها السلام نبوة ولا رسالة، لكنها كانت من عباد الله الصالحين المعصومين من الزلات.

وأخبر سبحانه أنه أوحى إلى أم موسى {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. والوحي معجز من جملة معجزات الأنبياء عليهم السلام، ولم تكن أم موسى عليها السلام نبية ولا رسولة، بل كانت من عباد الله البررة الأتقياء. فما الذي ينكر من إظهار علم يدل على عين الإمام ليتميز به عمن سواه، ولولا أن مخالفينا يعتمدون في حجاجهم لخصومهم الشبهات المضمحلات.

فصل: وقد أثبت في كتابي المعروف بالباهر من المعجزات ما يقنع من أحب معرفة دلالتها والعلم بموضوعها والغرض في إظهارها على أيدي أصحابها، ورسمت منه جملة مقنعة في آخر كتابي المعروف بالإيضاح. فمن أحب الوقوف على ذلك فليلتمسه في هذين الكتابين، يجده على ما يزيل شبهات الخصوم في معناه إن شاء الله تعالى.

فهذه جملة الفصول التي ضمنت إثبات معانيها، ليتضح بذلك الحق فيها، ليعتبر به ذوي الألباب، وقد وفيت بضماني في ذلك، والله الموفق للصواب. وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله، وسلم كثيرا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحده وحده.

- روي في تأويل قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ الآية إنها نزلت في عترة النبي وذريته الأئمة الأطهار وتضمنت البشارة لهم بالاستخلاف والتمكن في البلاد وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي منهم

- عترة النبي وذريته الأئمة الأطهار أحق بالاستخلاف على الأنام ممن عداهم لفضلهم على سائر الناس وهم المدالون على أعدائهم في آخر الزمان حتى يتمكنوا في البلاد ويظهر دين الله تعالى بهم ظهورا لا يستخفي على أحد من العباد ويأمنون بعد طول خوفهم من الظالمين المرتكبين في أذاهم الفساد

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 90، 106:

فصل: فإن قال: قد فهمت ما ذكرتموه في هذه وما قبلها من الآي، ولست أرى لأحد حجة في دفعه لوضوحه في البيان، ولكن خبروني عن قوله تعالى في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. أليس قد ذكر المفسرون أنها في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب عليه السلام؟! واستدل المتكلمون من مخالفيكم على صحة ذلك، بما حصل لهم من جميع هذه الصفات: فأولها: أنهم كانوا حاضرين لنزولها بدليل كاف المواجهة بلا اختلاف، ثم أنهم كانوا ممن خاف في أول الإسلام، فآمنهم الله تعالى، ومكن لهم في البلاد، وخلفوا النبي صلى الله عليه وآله وأطاعهم العباد، فثبت أنها نزلت فيهم بهذا الضرب من الاعتبار، وإلا فبينوا لنا الوجه في معناها، إن لم يكن الأمر على ما ذكرناه.

قيل له: إن تفسير القرآن لا يؤخذ بالرأي، ولا يحمل على اعتقادات الرجال والأهواء، وما حكيته من ذلك عن المفسرين فليس هو إجماعا منهم، ولا مرجوعا به إلى ثقة ممن تعاطاه ومن ادعاه، ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله، ولا إلى من تجب طاعته على الأنام. وممن فسر القرآن عبد الله بن عباس، والمحكي عنه في تأويل هذه الآية غير ما وصفت بلا تنازع بين حملة الآثار، وكذلك المروي عن محمد بن علي عليهما السلام، وعن عطاء ومجاهد، وإنما ذكر ذلك برأيه وعصبيته مقاتل بن سليمان، وقد عرف نصبه لآل محمد صلى الله عليه وآله وجهله وكثرة تخاليطه في الجبر والتشبيه، وما ضمنته كتبه في معاني القرآن.

على أن المفسرين للقرآن طائفتان: شيعة ، وحشوية، فالشيعة لها في هذه الآية تأويل معروف تسنده إلى أئمة الهدى عليهم السلام، والحشوية مختلفة في أقاويلها على ما ذكرناه، فمن أين يصح إضافة ما ادعوه من التأويل إلى مفسري القرآن جميعا على الإطلاق، لولا عمى العيون وارتكاب العناد؟! فأما ما حكوه في معناها عن المتكلمين منهم، فقد اعتمده جميعهم على ما وصفوه بالاعتبار الذي ذكروه، وهو ضلال عن المراد، وخطأ ظاهر الفساد، من وجوه لا تخفى على من وفق للرشاد: أحدها:

أن الوعد مشترط بالإيمان على التحقيق بالأعمال الصالحات، وليس على ما يذهب إليه مخالفونا من إيمان أصحابهم على الحقيقة، وأنهم كانوا من أصحاب الصالحات بإجماع، ولا دليل يقطع به على الحق عند الله، بل الخلاف في ذلك ظاهر بينهم وبين خصومهم، والمدافعة عن الأدلة على ذلك موجودة كالعيان.

والثاني: أن المراد في الآية بالاستخلاف إنما هو توريث الأرض والديار، والتبقية لأهل الإيمان بعد هلاك الظالمين لهم من الكفار، دون ما ظنه القوم من الاستخلاف في مقام النبوة، وتملك الإمامة وفرض الطاعة على الأنام.

ألا ترى أن الله سبحانه قد جعل ما وعد به من ذلك مماثلا لما فعله بالمؤمنين وبالأنبياء عليهم السلام قبل هذه الأمة في الاستخلاف، وأخبر بكتابه عن حقيقة ذلك وصورته ومعناه، وكان بصريح ما أنزله من القرآن مفيدا لما ذكرناه، من توريث الديار والنعم والأموال عموم المؤمنين دون خصوصهم ومعنى ما بيناه، دون الإمامة التي هي خلافة للنبوة والإمرة والسلطان.

قال الله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. فبشرهم بصبرهم على أذى الكافرين بميراث أرضهم، والملك لديارهم من بعدهم، والاستخلاف على نعمتهم، ولم يرد بشيء من ذلك تمليكهم مقام النبوة والإمامة على سائر الأمة، بل أراد ما بيناه. ونظير هذا الاستخلاف من الله سبحانه لعباده، ومما هو في معناه، قوله جل اسمه في سورة الأنعام: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} وليس هذا الاستخلاف من الإمامة وخلافة النبوة في شيء وإنما هو ما قدمنا ذكره ووصفناه. وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فإنما أراد بذلك تبقيتهم بعد هلاك الماضين، وتوريثهم ما كانوا فيه من النعم، فجعله من مننه عليهم ولطفه بهم ليطيعوه ولا يكفروا به كما فعل الأولون. ومنه قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} وقد علم كل ذي عقل أن هذا الاستخلاف مباين للعامة في معناه، وقد وفى الله الكريم موعده لأصحاب نبيه صلى الله عليه وآله جميعا في حياته وبعد وفاته، ففتح لهم البلاد، وملكهم رقاب العباد، وأحلهم الديار، وأغنمهم الأموال، فقال عز من قائل: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا}.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ثبت أن المراد بالآية من الاستخلاف ما ذكرناه، ولم يتضمن ذلك الإمامة وخلافة النبوة على ما بيناه، وكان الوعد به عموما لأهل الإيمان بما شرحناه، وبطل ما تعلق به خصومنا في إمامة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ووضح جهلهم في الاعتماد على التأويل الذي حكيناه عنهم للآية لما تلوناه من كتاب الله تعالى وفصلنا وجهه وكشفناه.

وقد حكى هذا المعنى بعينه في تأويل هذه الآية الربيع عن أبي العالية، والحسين بن محمد، عن الحكم، وغيرهما، عن جماعات من التابعين، ومفسري القرآن.

فصل: على أن عموم الوعد بالاستخلاف للمؤمنين الذي عملوا الصالحات من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، على ما اختصوا به من الصفات في عبادتهم لله تعالى على الخوف والأذى والاستسرار بدين الله جل اسمه، على ما نطق به القرآن، يمنع مما ادعاه أهل الخلاف من تخصيص أربعة منهم دون الجميع، لتناقض اجتماع معاني العموم على الاستيعاب والخصوص، ووجوب دفع أحدهما صاحبه بمقتضى العقول. وإذا ثبت عموم الوعد، وجب صحة ما ذكرناه في معنى الاستخلاف من توريث الديار والأموال، وظهور عموم ذلك لجميعهم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وبعده بلا اختلاف، بطل ما ظنه الخصوم في ذلك وتأولوه على المجازفة، والعدول عن النظر الصحيح.

فصل: فإن قال منهم قائل: إن الآية وإن كان ظاهرها العموم، فالمراد بها الخصوص، بدليل وجود الخلافة فيمن عددناه دون الجميع. وعلى هذا يعتمد متكلموهم.

قيل له: أحلت في ذلك من قبيل أنك إنما أوجبت لأصحابك الإمامة، وقضيت لهم بصحة الخلافة بالآية، وجعلتها ملجأ لك في حجاج خصومك، ودفعهم عما وصفوا به من فساد عقلك، فلما لم يتم لك مرادك من الآية، بما أوجبه عليك عمومها بظاهرها، ودليل متضمنها، عدلت إلى تصحيح تأويلك منها، بادعاء ما تورعت فيه من خلافة القوم، وثبوت إمامتهم، الذي أفقرك عدم البرهان عليه إلى تصحيحه عندك بالآية، فصرت دالا على وجوده معنى تنازع فيه بوجود شيء تتعلق صحة وجوده بوجود ما دفعت عن وجوده، وهذا تناقض من القول، وخبط أوجبه لك الضلال، وأوقعك فيه التقليد والعصبية للرجال، نعوذ بالله من الخذلان.

ثم يقال له: خبرنا عما تدعيه من استخلاف الله تعالى لأئمتك على الأنام، وصحة إمامتهم على ما زعمت فيما سلف لك من الكلام، أبظاهر أمرهم ونهيهم وتملكهم علمت ذلك، وحكمت به على القطع والثبات، أم بظاهر الآية ودليلها على ما قدمت من الاعتبار، أم بغير ذلك من ضروب الاستدلال؟.

فإن قال: بظاهر أمرهم ونهيهم في الأمة، ورئاستهم الجماعة، ونفوذ أمرهم وأحكامهم في البلاد، علمت ذلك وقطعت به على أنهم خلفاء الله تعالى: والأئمة بعد رسوله عليه السلام. وجب على وفور هذه العلة القطع بصحة إمامة كل من ادعى خلافة الرسول صلى الله عليه وآله، ونفذت إحكامه وقضاياه في البلاد، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإيمان.

وإن قال: إنما علمت صحة خلافتهم بالآية ودلائلها على الاعتبار.

قيل له: ما وجه دلالة الآية على ذلك، وأنت دافع لعمومها في جميع أهل الإيمان، وموجب خصوصها بغير معنى في ظاهرها، ولا في باطنها، ولا مقتضاها على الأحوال؟ فلا يجد شيئا يتعلق به فيما ادعاه.

وإن قال: إن دلالتي على ما ادعيت من صحة خلافتهم معنى غير الآية نفسها، بل من الظاهر من أمر القوم ونهيهم، وتأمرهم على الأنام. خرجت الآية عن يده، وبانت فضيحته فيما قدره منها وظنه في تأويلها وتمناه، وهذا ظاهر بحمد الله.

فصل: مع أنا لو سلمنا لهم في معنى الاستخلاف أن المراد في الآية ما ذكروه من إمامة الأنام، لما وجب به ما ذهبوا إليه من صحة خلافة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام بل كانت الآية نفسها شاهدة بفساد أمرهم وانتقاضه على البيان، وذلك أن الله جل اسمه وعد المؤمنين من أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله بالاستخلاف، ثوابا لهم على الصبر والإيمان، والاستخلاف من الله تعالى للأئمة لا يكون استخلاف من العباد، ولما ثبت أن أبا بكر كان منصوبا باختيار عمر وأبي عبيدة بن الجراح، وعمر باستخلاف أبي بكر دون النبي صلى الله عليه وآله، وعثمان باختيار عبد الرحمن، فسد أن يكونوا داخلين تحت الوعد بالاستخلاف، لتعريهم من النص بالخلافة من الله تعالى، وإقرار مخالفينا إلا من شذ منهم أن إمامتهم كانت باختيار، وثبت أن الآية كانت مختصة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام دونهم، لإجماع شيعته على أن إمامته باستخلاف الله تعالى له، ونصه عليه، وأقامه عليه السلام نبيه صلى الله عليه وآله علما للأمة وإماما لها بصريح المقال.

فصل آخر: ويقال لهم: ما تنكرون أن يكون خروج أبي بكر وعمر وعثمان من الخوف في أيام النبي صلى الله عليه وآله يخرجهم عن الوعد بالاستخلاف، لأنه إنما توجه إلى من كان يلحقه الخوف من أذى المشركين، وليس له مانع منهم، كأمير المؤمنين عليه السلام وما مني به النبي صلى الله عليه وآله وعمار وأمه وأبيه، والمعذبين بمكة، ومن أخرجهم النبي صلى الله عليه وآله، مع جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة لما كان ينالهم من الفتنة والأذى في الدين.

فأما أبو بكر فإن الشيعة تذكر أنه لم يكن خائفا في حياة النبي صلى الله عليه وآله لأسباب نحن أغنياء عن شرحها، وأنتم تزعمون أن الخوف مرتفع عنه لعزته في قريش ومكانه منهم وكثرة ماله واتساع  جاهه، وإعظام القوم له لسنه وتقدمه، حتى أنه كان يجير ولا يجار عليه، ويؤمن ولا يحتاج إلى أمان، وزعمتم إنه اشترى تسعة نفر من العذاب.

وأن عمر بن الخطاب لم يخف قط، ولا هاب أحدا من الأعداء، وأنه جرد سيفه عند إسلامه، وقال: لا يعبد الله اليوم سرا. ثقة بنفسه، وطمأنينة إلى سلامته، وأمنا من الغوائل، وأنه لن يقدم عليه أحد بسوء، لعظم رهبة الناس منه وإجلالهم لمكانه.

وأن عثمان بن عفان كان آمنا ببني أمية، وهم ملاك الأمر إذ ذاك. فكيف يصح لكم مع هذا القول أن تستدلوا بالآية على صحة خلافتهم ودخولهم تحت الوعد بالاستخلاف، وهم من الوصف المنافي لصفات الموعودين بالاستخلاف على ما ذكرناه، لولا أنكم تخبطون فيما تذهبون إليه خبط عشواء؟!.

فصل: ويقال لهم: أليس يمكنكم إضافة ما تلوتموه من هذه الآية في أئمتكم إلى صادق عن الله تعالى فيجب العمل به، وإنما أسندتم قولكم فيه إلى ضرب من الرأي والاعتبار الفاسد بما أوضحناه.

وقد ورد عن تراجمة القرآن من آل محمد صلى الله عليه وآله في تأويلها ما هو أشبه من تأويلكم وأولى بالصواب، فقالوا: إنها نزلت في عترة النبي صلى الله عليه وآله وذريته الأئمة الأطهار عليهم السلام وتضمنت البشارة لهم بالاستخلاف، والتمكن في البلاد، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي منهم، فكانوا عليهم السلام هم المؤمنين العاملين الصالحات، بعصمتهم من الزلات.

وهم أحق بالاستخلاف على الأنام ممن عداهم، لفضلهم على سائر الناس، وهم المدالون على أعدائهم في آخر الزمان، حتى يتمكنوا في البلاد، ويظهر دين الله تعالى بهم ظهورا لا يستخفي على أحد من العباد، ويأمنون بعد طول خوفهم من الظالمين المرتكبين في أذاهم الفساد، وقد دل القرآن على ذلك وجاءت به الأخبار: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. وقال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. وقال تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}. وكل هذه أمور منتظرة، غير ماضية ولا موجودة في الحال. ومثلهم فيما بشرهم الله تعالى به من ذلك ما تضمنه قوله تعالى: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} وقوله تعالى في بني إسرائيل: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}. ومما أنزله فيهم سوى المثل لهم عليه السلام قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.

فصار معاني جميع ما تلوناه راجعا إلى الإشارة إليهم عليهم السلام بما ذكرناه. ويحقق ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله على الاتفاق من قوله: "لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا".

وأما ما تعلقوا به من كاف المواجهة، فإنه لا يخل بما شرحناه في التأويل من آل محمد عليهم السلام لأن القائم من آل محمد والموجود من أهل بيته في حياته هم من المواجهين في الحقيقة والنسب والحسب، وإن لم يكن من أعيانهم، فإذا كان منهم بما وصفناه، فقد دخل تحت الخاطب، وبطل ما توهم أهل الخلاف.

فصل: على أنه يقال لهم: ما الفصل بينكم فيما تأولتم به هذه الآية وبين من تأولها خلاف تأويلكم، فأوجب حكمها في غير من سميتم، ولجأ في صحة مقاله إلى مثل عيوبكم، فقال: إن الله جل اسمه بشر في هذه الآية بالاستخلاف أبا سفيان صخر بن حرب، ومعاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وذلك أني قد وجدتهم انتظموا صفات الموعودين بالاستخلاف، وكانوا من الخائفين عند قوة الإسلام لخلافهم على النبي صلى الله عليه وآله، فتوجه إليهم الوعد من الله سبحانه بالأمن من الخوف، بشرط الانتقال إلى الإيمان، واستئناف الأعمال الصالحات، والاستخلاف بعد ذلك، والتمكين لهم في البلاد، ثوابا لهم على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله، وترغيبا لهم في الإيمان، فأجابوا الله تعالى إلى ما دعاهم إليه، وأذعنوا بالإسلام، وعملوا الصالحات، فأمنوا من المخوفات. واستخلفهم النبي صلى الله عليه وآله في حياته، كانوا من بعده خلفاء لخلفائه الراشدين، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف أبا سفيان على سبي الطائف، وهم يومئذ ستة آلاف إنسان، واستعمله من بعد ذلك على نجران فلم يزل عامله عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو خليفته فيها من غير عزل له ولا استبدال. واستعمل أيضا صلوات الله عليه يزيد بن أبي سفيان على صدقات أخواله بني فراس بن غنم، فجباها وقدم بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فلقيه أبوه أبو سفيان فطلب منه مال الصدقات، فأبى أن يعطيه، فقال: إذا صرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، فأخبره فقال له: "خذ المال فعد به إلى أبيك". فسوغه مال الصدقات كله، صلة لرحمه، وإكراما له، وتمييزا له من كافة أهل الإسلام.

واستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله على كتابته معاوية، وكان والي خليفتيه من بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وولى أبو بكر يزيد ابن أبي سفيان ربع أجناد الشام، وتوفي وهو خليفته على ذلك، فأقره عمر بن الخطاب إلى أن مات خلافته.

وإذا كان أبو سفيان ومعاوية ويزيد ابناه على ظاهر الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وكان لهم من الخلافة في الإسلام ما وصفناه، ثم الذي حصل لمعاوية من الإمرة بعد أمير المؤمنين عليه السلام، وبيعة الحسن بن علي عليه السلام، وتسليم الأمر إليه، حتى سمي عامه (عام الجماعة) للاتفاق، ولم يسم عام أحد من الخلفاء قبله بذلك، ثبت أنهم المعنيون في الآية ببشارة الاستخلاف، دون من ادعيتم له ذلك بمعنى الاستدلال على ما انتظمتموه من الاعتبار. وهذا أشبه من تأويل المعتزلة للآية في أبي بكر وعمر وعثمان، وهو ناقض لمذاهبهم، ومضاد لاعتقاداتهم، ولا فضل لأحد منهم فيه إلا أن يرجع في العبرة إلى ما شرحناه، أو يعتمد في التفسير على الأثر حسبما قدمناه، فيبطل حينئذ توهمه فيما تأوله على ما بيناه، والحمد لله.

فصل: ثم يقال لهم أيضا: ألستم تعلمون أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أبي سرح قد كانا واليين على المسلمين من قبل عثمان بن عفان، وهو إمام عدل عندكم مرضي الفعال، وقد كان مروان ابن الحكم كذلك، ثم خطب له على المنابر في الإسلام بإمرة المؤمنين، كما خطب لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وكذلك أيضا ابنه عبد الملك، ومن بعده من بني أمية، قد حكموا في العباد وتمكنوا في البلاد، فبأي شيء تدفعون صرف معنى الآية إليهم، والوعد بالاستخلاف لهم، وإدخالهم في جملة من سميتموه، وزعمتم أنهم أئمة عدل خلفاء، واعتمدتم في صحة ذلك على ما ذكرناه في أمر أبي سفيان ومعاوية ويزيد ابنيه حسبما شرحناه؟!. فلا يجدون مهربا من ذلك بما قدمناه على الترتيب الذي رسمناه، وكذلك السؤال عليهم في عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، فإنهما ممن كان على ظاهر الإسلام، والعمل الصالح عند الجمهور من الناس، وكانا من المواجهين بالخطاب، وممن خاف في صدر الإسلام، وحصلت لهما ولآيات في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وخلافة له، ولخلفائه على أصولهم بغير إشكال، وليس يمكن لخصومنا دفع التأويل فيهما بما يتعلقون به في أمية وبني مروان من الخروج عن الخوف في صدر الإسلام، وهذا كله تخليط ورطهم الجهل فيه بدين الله تعالى، والعداوة لأوليائه عليهم السلام.

- الإمام معصوم كعصمة الأنبياء

- الأئمة قدوة في الدين

- الأئمة أغنياء عن إمام

- الجمل - الشيخ المفيد  ص 30، 32:

عصمة أمير المؤمنين عليه السلام: باب صواب أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه كلها وحقه في جميع أقواله وأفعاله والتوفيق للمقر بآرائه وبطلان قول من خالف ذلك من خصمائه وأعدائه:

فمن ذلك وضوح الحجة على عصمة أمير المؤمنين عليه السلام من الخطأ في الدين والزلل فيه والعصمة له من ذلك يتوصل إليها بضربين أحدهما الاعتبار والثاني الوثوق به من الأخبار، فأما طريق الاعتبار الموصول إلى عصمته عليه السلام فهو الدليل على إمامته وفرض طاعته على الأنام إذ الإمام لا بد أن يكون معصوما كعصمة الأنبياء بأدلة كثيرة قد أثبتناها في مواضع من كتبنا المعروفة في الإمامة الأجوبة عن المسائل الخاصة في هذا الباب.

فمن ذلك أن الأئمة قدوة في الدين وأن معنى الائتمام هو الاقتداء، وقد ثبت أن حقيقة الاقتداء هو الاتباع للمقتدى به فيما فعل وقال من حيث كان حجة فيه دون الاتباع لقيام الأدلة على صواب ما فعل وقال بسوى ذلك من الأشياء، إذ لو كان الاقتداء هو الاتباع للمقتدى به من جهة حجة سواه على ذلك كان كل وفاق لذي نحلة في قول أو فعل لا من جهة قوله وفعله بل لحجة سواه اقتداء به وائتماما وذلك باطل لوفاقنا الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الباطل والضلال في بعض أقوالهم وأفعالهم; من حيث قامت الأدلة على صواب ذلك فيهم لا من حيث ما رأوه وقالوه وفعلوه، وذلك باطل بلا ارتياب ولأن أحد أسباب الحاجة إلى الأئمة هو جواز الغلط على الرعية وارتفاع العصمة عنها لتكون من ورائها تسدد الغالط منها وتقومه عند الاعوجاج وتنبهه عند السهو منه والإغفال ويتولى إقامة الحد عليه فيما جناه، فلو لم تكن الأئمة معصومون كما أثبتناه لشاركت الرعية فيما له إليها وكانت تحتاج إلى الأئمة عليها ولا تستغني عن دعاة وساسة تكون من ورائها وذلك باطل بالإجماع.

على أن الأئمة أغنياء عن إمام وغير ما ذكرناه من الأدلة على عصمتهم كثيرة وهي موجودة في أماكنها من كتبنا على بيان الوجوه واستقصائها وأنها تثبت عصمة الأئمة عليهم السلام حسبما وصفناه وأجمعت الأمة على أنه لو كان بعد النبي صلى الله عليه وآله إمام على الفور تجب طاعته على الأنام وجب القطع على أنه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب دون غيره ممن ادعيت له الإمامة في تلك الحال للإجماع على أنه لم يكن لواحد ممن ذكروه العصمة التي أوجبناها بالنظر الصحيح لأئمة الإسلام وإجماعا الشيعة الإمامية على علي عليه السلام كان مخصوصا بها من بين الأنام إذ لو لم يكن الأمر كذلك لخرج الحق عن إجماع أهل الصلاة وفسد ما في العقول من وجوب العصمة لأئمة المسلمين بما ذكرناه وإذا تثبت عصمة علي عليه السلام من الخطأ ووجب مشاركته للرسول في معناه ومساواته فيها ثبت أنه كان مصيبا في كل ما فعل وقال ووجب القطع على خطأ مخالفيه وضلالهم في حيرة واستحقاقهم بذلك العقاب وهذا بين لمن تدبر والله الموفق للصواب.

- في فضل الأئمة الطاهرين على من سواهم

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 24، 25:

فصل: وحدثني الشيخ أدام الله عزه قال. وحدث عن الحسين بن زيد، قال: حدثني مولاي، قال: كنت مع زيد بن علي عليه السلام بواسط فذكر قوم أبا بكر وعمر وعليا عليه السلام فقدموا أبا بكر وعمر عليه، فلما قاموا قال لي زيد رحمه الله: قد سمعت كلام هؤلاء وقد قلت أبياتا فادفعها إليهم وهي.

ومن شرف الأقوام يوما برأيه  *  فان عليا شرفته الناقب

وقول رسول الله والحق قوله  *  وإن رغمت منهم أنوف كواذب

بأنك مني يا علي معالنا  *  كهارون من موسى أخ لي وصاحب

دعاه ببدر فاستجاب لأمره  *  وما زال في ذات الإله يضارب

فما زال يعلوهم به وكأنه  *  شهاب تلقاه القوابس ثاقب

وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا، قال: سأل رجل زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام، فقال له: يا بن رسول الله أخبرني بما ذا فضلتم الناس جميعا وسدتموهم، فقال له عليه السلام: أنا أخبرك بذلك، اعلم أن الناس كلهم لا يخلون من أن يكونوا أحد ثلاثة: إما رجل أسلم على يد جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله مولى لنا ونحن ساداته وإلينا يرجع بالولاء، أو رجل قاتلناه فقتلناه فمضى إلى النار أو رجل أخذنا منه الجزية عن يد وهو صاغر ولا رابع للقوم، فأي فضل لم نحزه وشرف لم نحصله بذلك؟.

- ما كان يستحسنه الشيخ المفيد من الشعر والنثر في حق أهل البيت عليهم السلام

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 39:

فصل: قال الشيخ أدام الله عزه: وإنني لاستحسن قول الفرزدق في كلمة التي يمدح فيها علي بن الحسين عليه السلام، وإنه ليليق بما تقدم في هذه الفصول ويجانسه حيث يقول وهو يعني زين العابدين عليه السلام:

يكاد يمسكه عرفان راحته  *  ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

مشتقة من رسول الله نبعته  *  طابت عناصره والخيم والشيم

ينجاب نور الهدى عن نور غرته  *  كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم

يغضي حياء ويغضى من مهابته  *  فلا يكلم إلا حين يبتسم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله  *  بجده أنبياء الله قد ختموا

وليس قولك من هذا بضائره  *  العرب تعرف من أنكرت والعجم

من معشر حبهم دين وبغضهم  *  كفر وقربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبهم  *  ويسترب به الإحسان والنعم

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم  *  في كل فرض ومختوم به الكلم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم  *  أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم  *  ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذما أزمة أزمت  *  والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

لا يقبض العسر بسطا من أكفهم  *  سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا

أي الخلايق ليست في رقابهم  *  لاولية هذا أوله نعم

ما قال لاقط إلا في تشهده  *  لولا التشهد كانت لاؤه نعم

من يعرف الله يعرف اولية ذا  *  فالدين من بيت هذا ناله الأمم

من جده دان فضل الأنبياء له  *  وفضل أمته دانت له الأمم

وفي مثله لعلي بن محمد العلوي الحماني رضي الله عنه:

بين الوصي وبين المصطفى نسب  *  تحتال فيه المعالي والمحاميد

كانأ كشمس نهار في البروج كما  *  أدارها ثم إحكام وتجويد

كسيرها انتقلا من طاهر علم  *  إلى مطهرة أبائها صيد

تفرقا عند عبد الله واقترنا  *  بعد النبوة توفيق وتسديد

وذر ذو العرش ذرا طاب بينهما  *  فانبث نور له في الأرض تخليد

نور تفرع عند البعث فانشعبت  *  منه شعوب لها في الدين تمهيد

هم فتية كسيوف الهند طال بهم  *  على المطاول آباء مناجيد

قوم لماء المعالي في وجوههم  *  عند التكرم تصويب وتصعيد

يدعون أحمد إن عد الفخار أبا  *  والعود ينبت في أفنانه العود

والمنعمون إذا ما لم تكن نعم  *  والذائدون إذا قل المذاويد

أوفوا من المجد والعلياء في قلل  *  شم قواعدهن الفضل والجود

ما سود الناس إلا من تمكن في  *  أحشائه لهم ود وتسويد

بسط الأكف إذا شيمت مخايلهم  *  أسد اللقاء إذا صد الصناديد

يزهي المطاف إذا طافوا بكعبته  *  ويستنير لهم منها القواعيد

في كل يوم لهم بأس يعاش به  *  وللمكارم من أفعالهم عيد

محسدون ومن يعقد بحبهم  *  حبل المودة يضحى وهو محسود

لا ينكر الدهر إن ألوى بحقهم  *  فالدهر مذكان مذموم ومحمود

ونظير هذا بيتان من قبله رحمه الله أيضا:

رأت بيعي على رغم الملاح  *  هو البيت المقابل للضراح

ووالدي المشار به إذا ما  *  دعا الداعي بحي على الفلاح

وفي مثل ذلك قول العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام محتجا بفضله على قريش التي هي أفضل الخلق جميعا:

وقالت قريش لنا مفخر  *  رفيع على الناس لا ينكر

فقد صدقوا لهم فضلهم  *  وبينهم رتب تقصر

وأدناهم رحما بالنبي  *  إذا فخروا فيه المفخر

بنا الفخر منكم على غيركم  *  فاقا علينا فلا تفخروا

ففضل النبي عليكم لنا  *  أقروا به بعدما أنكروا

فان طرتم بسوى مجدنا  *  فإن جناحكم الأقصر

ومما يدخل في جملة هذا النظم من نثر الكلام قول داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري رحمه الله وقد دخل على محمد بن عبد الله بن طاهر بعد قتل يحيى ابن عمر المقتول بشاهي رحمه الله، فقال له: أيها الأمير إنا قد جئناك لنهنيك بأمر لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله حيا لعزيناه به.

وفي مثله قول بعض الشيعة لرجل من الناصبة في محاورة له في فضل آل محمد عليهم السلام: أرأيت لو أن الله بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وآله أين ترى كان يحط رحله وثقله؟ فقال له الرجل الناصب: كان يحطه في أهله وولده فقال له المتشيع: فإني قد حططت هواي حيث يحط رسول الله صلى الله عليه وآله رحله وثقله.

ومنه قول الكميت بن زيد رحمه الله:

ما أبالي إذا حفظت أبا القا  *  سم فيهم ملامة اللوام

ما ابالي ولن ابالي فيهم  *  أبدا رغم ساخطين رغام

فيهم شيعتي وقسمي من الا  *  مة حسبي من سائر الاقسام

- مناظرة بين هشام بن الحكم وعبد الله بن يزيد الأباضي في مذهب الخوارج

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 50:

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه أيضا قال: أحب الرشيد أن يسمع كلام هشام بن الحكم مع الخوارج فأمره بإحضاره وإحضار عبد الله بن يزيد الأباضي وجلس بحيث يسمع كلامهما ولا يرى القوم شخصه، وكان بالحضرة يحيى بن خالد. فقال يحيى لعبد الله بن يزيد: سل أبا محمد -يعني هشاما- عن شيء. فقال هشام: إنه لا مسألة للخوارج علينا. فقال عبد الله بن يزيد: وكيف ذلك؟ فقال هشام: لأنكم قوم قد اجتمعتم معنا على ولاية رجل وتعديله والإقرار بإمامته وفضله ثم فارقتمونا في عداوته والبراءة منه فنحن على اجتماعنا وشهادتكم لنا، وخلافكم علينا غير قادح في مذهبنا، ودعواكم غير مقبولة علينا إذ الاختلاف لا يقابل الاتفاق وشهادة الخصم لخصمه مقبولة وشهادته عليه مردودة. فقال يحيى بن خالد: لقد قربت قطعه يا أبا محمد ولكن جاره شيئا فإن أمير المؤمنين أطال الله بقاه يحب ذلك. قال: فقال هشام: أنا أفعل ذلك غير أن الكلام ربما انتهى إلى حد يغمض ويدق على الأفهام فيعاند أحد الخصمين أو يشتبه عليه، فإن أحب الإنصاف فليجعل بيني وبينه واسطة عدلا إن خرجت من الطريق ردني إليه وإن جار في حكمه شهد عليه. فقال عبد الله بن يزيد: لقد دعا أبو محمد إلى الإنصاف. فقال هشام: فمن يكون هذا الواسطة وما يكون مذهبه أيكون من أصحابي أو من أصحابك أو مخالفا للملة أو لنا جميعا؟ فقال عبد الله بن يزيد: اختر من شئت فقد رضيت به. قال هشام: أما أنا فأرى أنه إن كان من أصحابي لم يؤمن عليه العصبية لي وإن كان من أصحابك لم آمنه في الحكم علي، وإن كان مخالفا لنا جميعا لم يكن مأمونا علي ولا عليك ولكن يكون رجلا من أصحابي ورجلا من أصحابك لينظران فيما بيننا ويحكمان علينا بموجب الحق ومحض الحكم بالعدل. فقال عبد الله بن يزيد: قد أنصفت يا أبا محمد وكنت أنتظر هذا منك، فأقبل هشام على يحيى بن خالد فقال له: قد قطعته أيها الوزير ودمرت على مذاهبه كلها بأهون سعي ولم يبق معه شيء واستغنيت عن مناظرته. قال: فحرك الرشيد الستر فأصغى يحيى بن خالد فقال له: هذا متكلم الشيعة وافق الرجل موافقة لم تتضمن مناظرة ثم ادعى عليه أنه قد قطعه وأفسد عليه مذهبه فمره أن يبين عن صحة ما ادعاه على الرجل. فقال يحيى بن خالد لهشام: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تكشف عن صحة ما ادعيت على هذا الرجل. قال: فقال هشام: إن هؤلاء القوم لم يزالوا معنا على ولاية أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام حتى كان من أمر الحكمين ما كانه فأكفروه بالتحكيم وضللوه بذلك وهم الذين اضطروه إليه، والآن قد حكم هذا الشيخ وهو عماد أصحابه مختارا غير مضطر رجلين مختلفين في مذهبهما أحدهما يكفره والآخر يعدله، فإن كان مصيبا في ذلك فأمير المؤمنين عليه السلام أولى بالصواب منه، وإن كان مخطئا كافرا فقد أراحنا من نفسه بشهادته بالكفر عليها، والنظر في كفره وإيمانه أولى من النظر في إكفاره عليا عليه السلام، قال: فاستحسن ذلك الرشيد وأمر بصلته وجائزته.

- في شخصية هشام بن الحكم

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 52 :

فصل: قال الشيخ أدام الله عزه: وهشام بن الحكم كان من أكبر أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، وكان فقيها، وروى حديثا كثيرا وصحب أبا عبد الله عليه السلام وبعده أبا الحسن موسى عليه السلام، وكان يكنى أبا محمد وأبا الحكم، وكان مولى بني شيبان، وكان مقيما بالكوفة وبلغ من مرتبته وعلوه عند أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أنه دخل عليه بمنى وهو غلام أول ما اختط عارضاه وفي مجلسه شيوخ الشيعة كحمران بن أعين وقيس الماصر ويونس بن يعقوب وأبي جعفر الأحول وغيرهم فرفعه على جماعتهم وليس فيهم إلا من هو أكبر سنا منه. فلما رأى أبو عبد الله عليه السلام أن ذلك الفعل قد كبر على أصحابه قال: هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده، وقال له أبو عبد الله عليه السلام وقد سأله عن أسماء الله تعالى واشتقاقها فأجابه ثم قال له: أفهمت يا هشام فهما تدفع به أعداءنا الملحدين مع الله عزوجل؟ قال هشام: نعم، قال أبو عبد الله عليه السلام: نفعك الله به وثبتك عليه. قال هشام: فو الله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا.

قال الشيخ أيده الله: وقد روى عن أبي عبد الله عليه السلام ثمانية رجال كل واحد منهم يقال له هشام، فمنهم أبو محمد هشام بن الحكم مولى بني شيبان هذا، ومنهم هشام بن سالم مولى بشر بن مروان، وكان من سبي الجوزجان، ومنهم هشام الكندي الذي يروي عنه علي بن الحكم، ومنهم هشام المعروف بأبي عبد الله البزاز ومنهم هشام الصيداني، ومنهم هشام الخياط، ومنهم هشام بن يزيد، ومنهم هشام بن المثنى الكوفي.

- السيد الحميري وكلامه وشعره في سوار القاضي

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 92، 95:

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا عن محمد بن أحمد بن أبان النخعي، قال: حدثني معاذ بن سعيد الحميري قال: شهد السيد إسماعيل بن محمد الحميري رحمه الله عند سوار القاضي بشهادة، فقال له: ألست إسماعيل بن محمد الذي يعرف بالسيد؟ فقال: نعم، فقال له: كيف أقدمت على الشهادة عندي، وأنا أعرف عداوتك للسلف؟ فقال السيد: قد أعاذني الله من عداوة أولياء الله وإنما هو شيء لزمني ثم نهض، فقال له: قم يا رافضي فوالله ما شهدت بحق، فخرج السيد رحمه الله وهو يقول:

أبوك ابن سارق عنز النبي  *  وأنت ابن بنت أبي جحدر

ونحن على رغمك الرافضو  *  ن لأهل الضلالة والمنكر

ثم عمل شعرا وكتبه في رقعة وأمر من ألقاها في الرقاع بين يدي سوار قال: فاخذ الرقعة سوار، فلما وقف عليها خرج إلى أبي جعفر المنصور وكان قد نزل الجسر الأكبر ليستعدي على السيد فسبقه السيد إلى المنصور فأنشا قصيدته التي يقول فيها:

يا أمين الله يا منصور يا خيره الولاة  *  إن سوار بن عبد الله من شر القضاة

نعثلي جملي لكم غير موات  *  جده سارق عنز فجرة من فجرات

والذي كان ينادي من وراء الحجرات  *  يا هنات أخرج إلينا إننا اهل هنات

فاكفنيه لا كفاه الله شر الطارقات  *  سن فينا سننا كانت مواريث الطغاة

قال: فضحك أبو جعفر المنصور وقال: نصبتك قاضيا فامدحه كما هجوته، فأنشد السيد رحمه الله يقول:

إني امرؤ من حمير أسرتي  *  بحيث تحوي سروها حمير

آليت لا أمدح ذا نائل  *   له سناء وله مفخر

إلا من الغر بني هاشم   *  إن لهم عندي يدا تشكر

إن لهم عندي يدا شكرها  *  حق وإن أنكرها منكر

يا أحمد الخير الذي إنما  *  كان علينا رحمة تنشر

حمزة والطيار في جنة  *  فحيث ما شاء دعا جعفر

منهم وهادينا الذي نحن من  *  بعد عمانا فيه نستبصر

لما دجا الدين ورق الهدى  *  وجار أهل الأرض واستكبروا

ذاك علي بن أبي طالب  *  ذاك الذي دانت له خيبر

دانت وما دانت له عنوة  *  حتى تدهدا عرشه الأكبر

ويوم سلع إذ أتى عاتيا   *  عمرو بن عبد مصلتا يخطر

يخطر بالسيف مدلا كما  *  يخطر فحل الصرمة الدوسر

إذ جلل السيف على رأسه  *   أبيض عضبا حده مبتر

فخر كالجذع وأوداجه  *  ينصب منها حلب أحمر

وكان أيضا مما جرى له مع سوار، ما حدث به الحرث بن عبيد الله الربعي قال: كنت جالسا في مجلس المنصور وهو بالجسر الأكبر وسوار عنده والسيد ينشده:

إن الإله الذي لا شيء يشبهه  *  آتاكم الملك للدنيا وللدين

أتاكم الله ملكا لا زوال له  *  حتى يقاد إليكم صاحب الصين

وصاحب الهند مأخوذ برمته  *  وصاحب الترك محبوس على هون

حتى أتى على القصيدة والمنصور مسرور فقال سوار: هذا والله يا أمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه، والله إن القوم الذين يدين بحبهم لغيركم وإنه لينطوي في عداوتكم.

فقال السيد: والله إنه لكاذب وإنني في مديحك لصادق ولكنه حمله الحسد إذ رآك على هذه الحال، وإن انقطاعي إليكم ومودتي لكم أهل البيت لمعرق فيها عن أبوي وإن هذا وقومه لأعداؤكم في الجاهلية والإسلام، وقد أنزل الله عز وجل على نبيه -عليه وآله السلام- في أهل بيت هذا: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فقال المنصور: صدقت.

فقال سوار يا أمير المؤمنين إنه يقول بالرجعة، ويتناول الشيخين بالسب والوقيعة فيهما، فقال السيد: أما قوله بأني أقول بالرجعة فان قولي في ذلك على ما قال الله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} وقد قال في موضع آخر: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} فعلمت أن هاهنا حشرين: أحدهما عام والآخر خاص، وقال سبحانه: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}، وقال الله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}.

فهذا كتاب الله عزوجل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "يحشر المتكبرون في صور الذر يوم القيامة"، وقال صلى الله عليه وآله: "لم يجر في بني إسرائيل شيء إلا ويكون في أمتي مثله حتى المسخ والخسف والقذف"، وقال حذيفة: "والله ما أبعد أن يمسخ كثيرا من هذه الأمة قردة وخنازير".

فالرجعة التي نذهب إليها هي ما نطق به القران وجاءت به السنة، وإنني لاعتقد أن الله تعالى يرد هذا -يعني سوارا- إلى الدنيا كلبا، أو قردا أو خنزيرا، أو ذرة، فإنه والله متجبر متكبر كافر، قال: فضحك المنصور وأنشد السيد يقول:

جاثيت سوارا أبا شملة  *  عند الإمام الحاكم العادل

فقال قولا خطأ كله  *  عند الورى الحافي والناعل

ما ذب عما قلت من وصمة  *  في أهله بل لج في الباطل

وبان للمنصور صدقي كما  *  قد بان كذب الأنوك الجاهل

يبغض ذا العرش ومن يصطفي  *  من رسله بالنير الفاضل

ويشنا الحبر الجواد الذي  *  فضل بالفضل على الفاضل

ويعتدى بالحكم في معشر  *  أدوا حقوق الرسل للراسل

فبين الله تزاويقه  *  فصار مثل الهائم الهائل

قال: فقال المنصور كف عنه، فقال السيد: يا أمير المؤمنين البادئ أظلم يكف عني حتى أكف عنه، فقال المنصور لسوار: تكلم بكلام فيه نصفة، كف عنه حتى لا يهجوك.

- نبينا خاصة والأئمة من ذريته لم يقع منهم صغيرة بعد النبوة والإمامة من ترك واجب ولا مندوب إليه

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 102، 104:

فصل: ومن كلامه أدام الله عزه أيضا: سئل الشيخ أدام الله حراسته عن معصية داود عليه السلام ما كانت؟.

فقال: فيها جوابان: أحدهما أن الله سبحانه لما جعله خليفة في الأرض بقوله: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أراد سبحانه وتعالى أن يهذبه ويؤدبه لأمر علمه منه فجعل ذلك بملائكته دون البشر وأهبط عليه الملكين في صورة بشرين، فقالا له: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} فقال داود عليه السلام للمدعي حاكما على المدعى عليه من غير أن يسأل المدعى عليه عن صحة دعوى المدعي {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}.

وقد كان الحكم يوجب أن لا يعجل بذلك حتى يسأل المدعى عليه فيقول له: ما تقول في هذه الدعوى؟ فلما عجل بالحكم قبل الاستثبات كان ذلك منه صغيرة ووجب عليه التوبة منها وتبين ذلك في الحال ففعل ما وجب عليه مما وصفناه، قال الله عز وجل {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.

والجواب الآخر: حكاه الناصر فأخبر أن داود عليه السلام ذكرت له امرأة أوريا بن حنان فسأله أن ينزل له عنها ليتزوج بها بعد انقضاء عدتها، وكان ذلك مباحا في شرعه ، فامتنع عليه أوريا ورغب بامرأته على جزع لحقه من الامتناع عليه ورهبة حصلت له منه. وكانت الخطيئة من داود عليه السلام أن طلب ذلك من أوريا بن حنان وهو نبي وملك مطاع وأوريا رعية وتابع، ولو سأل أوريا ذلك مثله من الرعية لما كان بسؤاله مخطئا لأنه لم يكن يحدث له عند الامتناع من الجزع والخوف والهلع ما حدث له عند الامتناع من نبيه وملكه ورئيسه داود عليه السلام، وهذا الجواب غير بعيد، والله نسأل التوفيق.

قال الشيخ أدام الله عزه: فإن قال قائل: أليس قد نطق القرآن بوقوع المعصية من نبي من أنبياء الله سبحانه في حال نبوته، وهذا خلاف مذهبك في ارتفاع المعاصي عن الأنبياء كلهم والأئمة عليه السلام لأنهم على أصلك معصومون من الذنوب والخطأ في الدين.

فالجواب: أن الذي أذهب إليه في هذا الباب أنه لا يقع من الأنبياء عليهم السلام ذنب بترك واجب مفترض، ولا يجوز عليهم خطأ في ذلك ولا سهو يوقعهم فيه وإن جاز منهم ترك نفل ومندوب إليه على غير القصد والتعمد، ومتى وقع ذلك منهم عوجلوا بالتنبيه عليه، فيزولون عنه في أسرع مدة وأقرب زمان.

فأما نبينا صلى الله عليه وآله خاصة والأئمة من ذريته عليه السلام فلم يقع منهم صغيرة بعد النبوة والإمامة من ترك واجب ولا مندوب إليه، لفضلهم على من تقدمهم من الحجج عليهم السلام وقد نطق القرآن بذلك وقامت الدلائل منه ومن غيره على ذلك للائمة من ذريته عليهم السلام قال الله تعالى وقد ذكر معصية آدم عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} فسمى المعصية غواية وذلك حكم كل معصية، إذ كان فاعلها يخيب بفعلها من ثواب تركها، وكانت الغواية هي الخيبة في وجه من الوجوه، وعلى مفهوم اللغة، قال الشاعر:

ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره        ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وقال الله سبحانه في آية الدين عند ذكر الشهود: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} يريد لئلا تنسى إحداهما فسمى النسيان ضلالا، وذلك معروف في اللغة، فلما تقرر أن كل معصية غواية وكل نسيان ضلال دل قوله سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} على أنه قد نفى عن نبيه عليه واله السلام المعامي على كل وجه والنسيان من كل وجه، وهذا بين لمن تأمله.

قال الشيخ أدام الله عزه: وأقول: إن ترك النفل قد يسمى معصية كما أن فعله قد يسمى طاعة لاسيما إذا وقع ذلك من نبي أو وصي أو صفي فإنهم لمنزلتهم عند الله سبحانه يؤاخذهم بالقليل من الفعل ولا يعذرهم فيه ليؤدبهم بذلك ويهذبهم ويزجرهم عن مثله في المستقبل، ولو وقع من غيرهم، ما كان ليؤاخذهم به ولا يعجل لهم الأدب عليه على ما قدمت ذكره.

- قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ نزلت في أمير المؤمنين وجرى حكمها في الأئمة من ذريته الصادقين

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 137، 141:

فصل: وسئل الشيخ أدام الله عزه عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}، فقيل له: فيمن نزلت هذه الآية؟ فقال: في أمير المؤمنين عليه السلام وجرى حكمها في الأئمة من ذريته الصادقين عليهم السلام.

قال الشيخ أدام الله عزه: وقد جاءت آثار كثيرة في ذلك، ومما يدل على صحة هذا التأويل ما أنا أذكره بمشيئة الله وعونه.

قد ثبت أن الله سبحانه دعا المؤمنين في هذه الآية إلى اتباع الصادقين والكون معهم فيما يقتضيه الدين، وثبت أن المنادى به يجب أن يكون غير المنادى إليه لاستحالة أن يدعى الإنسان إلى الكون مع نفسه واتباعها. فلا يخلو أن يكون الصادقون الذين دعا الله تعالى إليهم جميع من صدق وكان صادقا حتى يعمهم اللفظ ويستغرق جنسهم أو يكونوا بعض الصادقين، وقد تقدم إفسادنا لمقال من زعم أنه عم الصادقين لان كل مؤمن فهو صادق بإيمانه فكان يجب بذلك أن يكون الدعاء للإنسان إلى اتباع نفسه وذلك محال على ما ذكرناه. وإن كانوا بعض المؤمنين دون بعض فلا يخلو من أن يكونوا معهودين معروفين فتكون الألف واللام إنما دخلا للمعهود أو يكونوا غير معهودين، فان كانوا معهودين فيجب أن يكونوا معروفين غير مختلف فيهم، وتأتي الروايات بأسمائهم والإشارة إليهم خاصة وأنهم طائفة معروفة عند من سمع الخطاب من الرسول صلى الله عليه وآله، وفي عدم ذلك دليل على بطلان مقال من ادعى أن هذه الآية نزلت في جماعة غير من ذكرناه كانوا معهودين. وإن كانوا غير معهودين فلا بد من الدلالة عليهم ليتميزوا ممن يدعي مقامهم وإلا بطلت الحجة لهم وسقط تكليف اتباعهم، وإذا ثبت أنه لا بد من الدليل عليهم ولم يدع أحد من الفرق دلالة على غير من ذكرناه، ثبت أنها فيهم خاصة لفساد خلو الأمة كلها من تأويلها وعدم أن يكون القصد إلى أحد منهم بها.

على أن الدليل قائم على أنها فيمن ذكرناه لأن الأمر ورد باتباعهم على الإطلاق وذلك يوجب عصمتهم وبراءة ساحتهم والأمان من زللهم بدلالة إطلاق الأمر باتباعهم، والعصمة توجب النص على صاحبها بلا ارتياب، وإذا اتفق مخالفونا على نفي العصمة والنص عمن ادعوا له تأويل هذه الآية، فقد ثبت أنها في الأئمة عليهم السلام لوجود النقل بالنص عليهم وإلا خرج الحق عن أمة محمد صلى الله عليه وآله وذلك فاسد.

مع أن في القرآن دليلا على ما ذكرناه وهو أن الله سبحانه قال: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فجمع الله تبارك اسمه وتعالى هذه الخصال كلها ثم شهد لمن كملت فيه بالصدق والتقى على الإطلاق، فكان مفهوم معنى الآيتين الأولى وهذه الثانية أن اتبعوا الصادقين الذين باجتماع هذه الخصال التي عددناها فيهم، استحقوا إطلاق الاسم بصادقين.

ولم نجد أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اجتمعت فيه هذه الخصال إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فوجب أنه الذي عناه الله سبحانه بالآية وأمر فيها باتباعه والكون معه فيما يقتضيه الدين، وذلك أنه ذكر الإيمان به جل اسمه وتعالى واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، فكان أمير المؤمنين عليه السلام أول الناس إيمانا به وبما وصف بالأخبار المتواترة بأنه أول من أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله من الذكور وبقول النبي لفاطمة عليها السلام: "زوّجتك أقدمهم سلما وأكثرهم علما". وقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أنا عبد الله وأخو رسوله لم يقلها أحد قبلي ولا يقولها أحد بعدي إلا كذاب مفتر صليت قبلهم سبع سنين"، وقوله عليه السلام: "اللهم إني لا أقر لأحد من هذه الأمة عبدك قبلي"، وقوله عليه السلام وقد بلغه من الخوارج مقالا أنكره، "لا أم يقولون إن عليا يكذب أفعلى من أكذب أعلى الله فأنا أول من عبده أم على رسول الله صلى الله عليه وآله فأنا أول من آمن به وصدقه ونصره" وقول الحسن عليه السلام صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه السلام: "لقد قبض في الليلة رجل ما سبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون" في أدلة يطول شرحها على ذلك. ثم أردف الوصف الذي تقدم ، بإيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب ووجدنا ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام بالتنزيل وتواتر الأخبار به على التفصيل. قال الله عزوجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} واتفقت الرواة من الفريقين الخاصة والعامة على أن هذه الآية بل السورة كلها نزلت في أمير المؤمنين وزوجته فاطمة وابنيه عليه السلام، وقال سبحانه: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. وجاءت الرواية أيضا مستفيضة بأن المعني بهذا أمير المؤمنين عليه السلام ولا خلاف أنه أعتق من كد يده جماعة لا يحصون كثرة ووقف أراضي كثيرة وعينا استخرجها عليه السلام وأحياها بعد موتها فانتظم الصفات على ما ذكرناه.

ثم أردف ذلك قوله: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}. وكان هو المعني بها عليه السلام بدلالة قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} واتفق أهل النقل على أنه صلوات الله عليه المزكي في حال ركوعه في الصلاة فطابق هذا الوصف وصفه في الآية المتقدمة وشاركه في معناها. ثم أعقب ذلك قوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} وليس أحد من الصحابة إلا من نقض العهد في الظاهر أو تقول ذلك عليه إلا أمير المؤمنين عليه السلام فانه لا يمكن لأحد أن يزعم أنه نقض ما عاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله من النصرة والمساواة فاختص أيضا بهذا الوصف.

ثم قال سبحانه: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ} ولم يوجد أحد صبر مع رسول الله صلى الله عليه وآله عند الشدائد غير أمير المؤمنين عليه السلام فأنه بإتفاق وليه وعدوه لم يول دبرا ولا فر من قرن ولا هاب في الحرب خصما. فلما استكمل عليه السلام هذه الخصال بأسرها قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} يعني به أن المدعو إلى اتباعه من جملة الصادقين، هو من دل على اجتماع الخصال فيه وذلك أمير المؤمنين عليه السلام، وإنما عبر عنه بحرف الجمع تعظيما له وتشريفا، إذ العرب تضع لفظ الجمع على الواحد إذا أرادت أن تدل على نباهته وعلو قدره وشرف محله، وإن كان قد يستعمل فيمن لا يراد له ذلك إذا كان الخطاب يتوجه إليه ويعم غيره بالحكم.

ولو جعلنا المعنى في لفظ الجمع بالعبارة عن أمير المؤمنين عليه السلام لكان لذلك وجها لأنه وإن خص بالذكر فإن الحكم جار فيمن يليه من أئمة الهدى عليهم السلام على ما قد شرحناه. وهذا بين والله نسأل توفيقا نصل به إلى الرشاد بمنه.

- رسول الله والأئمة كافة لم يتزوجوا بالإماء ولا نكحوا الكتابيات ولا خالعوا ولا تزوجوا بالزنج ولا نكحوا السند ولا اتجروا إلى الأمصار ولا جلسوا باعة للتجارة

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 158، 162:

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في المتعة، قال الشيخ أدام الله عزه: حضرت دار بعض قواد الدولة وكان بالحضرة شيخ من الاسماعيلية يعرف بابن لؤلؤ فسألني ما الدليل على إباحة المتعة؟.

فقلت له: الدلالة على ذلك قول الله جل جلاله: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فاحل جل اسمه نكاح المتعة بصريح لفظها وبذكر أوصافه من الآجر عليها والتراضي بعد الفرض من الازدياد في الأجل وزيادة الأجر فيها.

فقال: ما أنكرت أن تكون هذه الآية منسوخة بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} فحظر الله تعالى النكاح إلا لزوجة أو ملك يمين، وإذا لم تكن المتعة زوجة ولا كانت ملك يمين فقد سقط قول من أحلها.

فقلت له: قد أخطأت في هذه المعارضة من وجهين: أحدهما أنك ادعيت أن المستمتع بها ليست بزوجة ومخالفك يدفعك عن ذلك ويثبتها زوجة في الحقيقة.

والثاني أن سورة المؤمنين مكية وسورة النساء مدنية والمكي متقدم للمدني فكيف يكون ناسخا له وهو متأخر عنه، وهذه غفلة شديدة فقال: لو كانت المتعة زوجة لكانت ترث ويقع بها الطلاق، وفي إجماع الشيعة على أنها غير وارثة ولا مطلقة، دليل على فساد هذا القول.

فقلت له: وهذا أيضا غلط منك في الديانة، وذلك أن الزوجة لم يجب لها الميراث ويقع بها الطلاق من حيث كانت زوجة فقط، وإنما حصل لها ذلك بصفة تزيد على الزوجية، والدليل على ذلك أن الأمة إذا كانت زوجة لم ترث ولم تورث والقاتلة لا ترث، والذمية لا ترث، والأمة المبيعة تبين بغير طلاق، والملاعنة تبين أيضا بغير طلاق وكذلك المختلعة والمرتدة والمرتد عنها زوجها والمرضعة قبل الفطام بما يوجب التحريم من لبن الأم أو الزوجة تبين بغير طلاق، وكل ما عددناه زوجات في الحقيقة فبطل ما توهمت فلم يأت بشيء.

فقال صاحب المجلس وهو رجل أعجمي لا معرفة له بالفقه وإنما يعرف الظواهر: أنا أسالك في هذا الباب عن مسالة خبرني هل تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله متعة أو تزوج أمير المؤمنين عليه السلام؟.

فقلت له: لم يأت بذلك خبر ولا علمته.

فقال لي: لو كان في المتعة خير ما تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام.

فقلت له: أيها القائد ليس كل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله كان محرما وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كافة لم يتزوجوا بالإماء، ولا نكحوا الكتابيات ولا خالعوا ولا تزوجوا بالزنج ولا نكحوا السند ولا اتجروا إلى الأمصار ولا جلسوا باعة للتجارة وليس ذلك كله محرما ولا منه شيء محظورا إلا ما اختصت الشيعة به دون مخالفيها من القول في نكاح الكتابيات.

فقال: دع هذا وخبرني عن رجل ورد من قم يريد الحج فدخل إلى مدينة السلام فاستمتع فيها بامرأة ثم انقضى أجلها فتركها وخرج إلى الحج وكانت حاملا منه ولم يعلم بحالها فحج ومضى إلى بلده وعاد بعد عشرين سنة وقد ولدت بنتا وشبت ثم عاد إلى مدينة السلام فوجد فيها تلك الابنة فاستمتع بها وهو لا يعلم أليس يكون قد نكح بنته وهذا فظيع جدا.

فقلت له: إن أوجب هذا الذي ذكره القائد تحريم المتعة وتقبيحها، أوجب تحريم نكاح الميراث وكل نكاح وتقبيحه، وذلك أنه قد يتفق فيه مثل ما وصفته وجعلته طريقا إلى حظر المتعة، وذلك أنه لا يمنع أن يخرج رجل من أهل السنة وأصحاب أحمد بن حنبل من خوارزم قاصدا للحج فينزل بمدينة السلام ويحتاج إلى النكاح، فيستدعي امرأة من جيرانه حنبلية سنية فيسألها أن تلتمس له امرأة ينكحها، فتدله على امرأة شابة ستيرة ثيب لا ولي لها فيرغب فيها وتجعل المرأة أمرها إلى إمام المحلة وصاحب مسجدها، فيحضر رجلين ممن يصلي معه ويعقد عليها النكاح للخوارزمي السني الذي لا يرى المتعة ويدخل بالمرأة ويقيم معها إلى وقت رحيل الحاج إلى مكة، فيستدعي الشيخ الذي عقد عليه النكاح فيطلقها بحضرته ويعطيها عدتها وما يجب عليه من نفقتها، ثم يخرج فيحج وينصرف من مكة على طريق البصرة إلى بلده وقد كانت المرأة حاملا وهو لا يعلم فيقيم عشرين سنة ثم يعود إلى مدينة السلام للحج، فينزل في تلك المحلة بعينها ويسأل عن العجوز فيفقدها لموتها فيسأل عن غيرها، فتاتيه قرابة لها أو نظيرة لها في الدلالة فتذكر له جارية هي بنت المتوفاة بعينها، فيرغب فيها ويعقد عليها كما عقد على أمها بولي وشاهدين ثم يدخل بها فيكون قد وطئ بنته فيجب على القائد أن يحرم لهذا الذي ذكرناه كل نكاح.

فاعرض الشيخ السائل أولا فقال: عندنا أنه يجب على هذا الرجل أن يوصي إلى جيرانه باعتبار حالها، وهذا يسقط هذه الشناعة.

فقلت له: إن كان هذا عندكم واجبا فعندنا أوجب منه وأشد لزوما أن يومي المستمتع ثقة من إخوانه في البلد باعتبار حال المستمتع بها، فإن لم يجد أخا أوصى قوما من أهل البلد وذكر لهم أنها كانت زوجته ولم يذكر المتعة وهذا شرط عندنا فقد سقط أيضا ما توهمته.

ثم أقبلت على صاحب المجلس فقلت له: إن أمرنا مع هؤلاء المتفقهة عجيب وذلك أنهم مطبقون على تبديعنا في نكاح المتعة مع إجماعهم على أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد كان أذن فيها وأنها عملت على عهده، ومع ظاهر كتاب الله عز وجل في تحليلها، وإجماع آل محمد عليهم السلام على إباحتها، والاتفاق على أن عمر حرمها في أيامه مع إقراره بأنها كانت حلالا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، فلو كنا على ضلالة فيها لكنا في ذلك على شبهة تمنع ما يعتقده المخالف فينا من الضلال والبراءة منا.

وليس فيمن يخالفنا إلا من يقول في النكاح وغيره بضد القران وخلاف الإجماع ونقض شرع الإسلام والمنكر في الطباع وعند ذوي المروءات، ولا يرجع في ذلك إلى شبهة تسوغه في قوله وهم معه يتولى بعضهم بعضا ويعظم بعضهم بعضا، وليس ذلك إلا لاختصاص قولنا بآل محمد عليهم السلام فلعداوتهم لهم رمونا عن قوس واحد.

هذا أبو حنيفة النعمان بن ثابت يقول: لو أن رجلا عقد على أمه عقدة النكاح وهو يعلم أنها أمه ثم وطئها لسقط عنه الحد ولحق به الولد. وكذلك قوله في الأخت والبنت، وكذلك سائر المحرمات، ويزعم أن هذا نكاح شبهة أوجبت سقوط الحد عنه. ويقول: لو أن رجلا استأجر غسالة أو خياطة أو خبازة أو غير ذلك من أصحاب الصناعات ثم وثب عليها فوطئها وحملت منه سقط عنه الحد ولحق به الولد. ويقول: إذا لف الرجل على إحليله حريرة ثم أولجه في قبل امرأة ليست له بمحرم حتى ينزل لم يكن زانيا ولا وجب عليه الحد. ويقول: إن الرجل إذا يلوط بغلام فأوقب لم يجب عليه الحد ولكن يردع بالكلام الغليظ والأدب والخفقة بالنعل والخفقتين وما أشبه ذلك. ويقول: إن شرب النبيذ الصلب المسكر حلال طلق، وهو سنة وتحريمه بدعة.

وقال الشافعي: إذا فجر الرجل بامرأة فحملت منه فأولدت بنتا فانه يحل للفاجر أن يتزوج بهذه البنت ويطأها ويولدها، لا حرج عليه في ذلك، فاحل نكاح البنات، وقال: لو أن رجلا اشترى أخته من الرضاعة ووطئها لما وجب عليه الحد، وكان يجيز سماع الغناء بالقصب وأشباهه.

وقال مالك بن أنس: إن وطئ النساء في أحشاشهن حلال طلق، وكان يرى سماع الغناء بالدف وأشباهه من الملاهي، ويزعم أن ذلك سنة في العرسات والولائم.

وقال داود بن علي الإصفهاني: إن الجمع بين الأختين في ملك اليمين حلال طلق، والجمع بين الأم والبنت غير محظور.

فاقتسم هؤلاء الفجور وكل منكر فيما بينهم واستحلوه ولم ينكر بعضهم على بعض، مع أن الكتاب والسنة والإجماع تشهد بضلالهم في ذلك، ثم عظموا أمر المتعة والقران شاهد بتحليلها والسنة والإجماع يشهدان بذلك، فيعلم أنهم ليسوا من أهل الدين ولكنهم من أهل العصبية والعداوة لآل محمد عليهم السلام، فاستعظم صاحب المجلس ذلك وأنكره وأظهر البراءة من معتقديه وسهل عليه أمر المتعة والقول بها.

- البشارة بالنبي والأئمة في الكتب الأولى

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 43 :

فصل: البشارة بالنبي والأئمة في الكتب الأولى. وقد بشر الله عز وجل بالنبي والأئمة عليه السلام في الكتب الأولى، فقال في بعض كتبه التي أنزلها على أنبيائه عليهم السلام، وأهل الكتب يقرونه، واليهود والنصارى يعرفونه: أنه ناجى إبراهيم الخليل عليه السلام في مناجاته: "أني قد عظمتك وباركت عليك وعلى إسماعيل، وجعلت منه اثني عشر عظيما وكثرتهم جدا جدا، وجعلت منهم شعبا عظيما لأمة عظيمة".

- أصناف أحاديث الأئمة

فصل: أصناف أحاديث الأئمة:

وفي الجملة، إن أقوال الأئمة عليهم السلام كانت تخرج على ظاهر يوافق باطنه الأمن من العواقب في ذلك. ويخرج منها ما ظاهره خلاف باطنه للتقية والاضطرار. ومنها ما ظاهره الإيجاب والإلزام، وهو في نفسه ندب ونقل واستحباب. ومنها ما ظاهره نفل وندب، وهو على الوجوب. ومنها عام يراد به الخصوص، وخاص يراد به العموم، وظاهر مستعار في غير ما وضع له حقيقة الكلام، وتعريض في القول للاستصلاح والمداراة وحقن الدماء. وليس ذلك بعجيب منهم ولا ببدع، والقرآن الذي هو كلام الله عز وجل وفيه الشفاء والبيان قد اختلفت ظواهره، وتباين الناس في اعتقاد معانيه، وكذلك السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله، فالعلماء على اختلاف في معنى كلامه عليهم السلام فيها، ومع ذلك كله فالناس ممتحنون في الأخبار وسماعها: فساه في النقل، ومتعمد فيه الزيادة والنقصان، ومبدع في الشريعة، متصنع لحسن الظاهر يقصد به إضلال العباد. والله موفق للصواب.

- أصحاب الذنوب إذا ضموها إلى التوحيد ومعرفة الله تعالى ورسوله وأئمة الهدى وكانوا يحدثون أنفسهم بالإقلاع عن المعصية وخرجوا من الدنيا من غير توبة فمرجو لهم العفو من الله تعالى والشفاعة من رسول الله ومن أئمة الهدى ومخوف عليهم العقاب

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 96، 101:

المسالة الحادية عشرة: أصحاب الكبائر

ما قوله أدام الله تعالى رفعته في إخراج الله تعالى من ارتكب الكبائر من النار، أو العفو عنه في القيامة عند حسابه؟. والشيخ الجليل المفيد أدام الله مدته يحتسب الأجر في إملاء مسألة كافية في هذا الباب حسب ما ثبت عنده عن الأئمة الهادية عليهم السلام، ويورد شبه المعتزلة فيه، ويجيب عنها، ويتكلم عليها بعبارته اللطيفة حسب ما يحسم أشاغيب الخصوم في هذا الباب، فقل متفضلا إن شاء الله.

الجواب: إن الذين يردون القيامة مستحقين العقاب ودخول النار صنفان: أحدهما: الكافر على اختلاف كفره، واختلاف أحكامهم في الدنيا. وصنف: أصحاب ذنوب قد ضموها إلى التوحيد ومعرفة الله تعالى ورسوله وأئمة الهدى عليهم السلام، خرجوا من الدنيا من غير توبة، فاخترمتهم المنية على الحوية، وكانوا قبل ذلك يسوفون التوبة، ويحدثون أنفسهم بالإقلاع عن المعصية ففاتهم ذلك لاخترام المنية لهم دونه. فهذا الصنف مرجو لهم العفو من الله تعالى، والشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وآله ومن أئمة الهدى عليهم السلام، ومخوف عليهم العقاب. غير أنهم إن عوقبوا فلا بد من انقطاع عقابهم ونقلهم من النار إلى الجنة ليوفيهم الله تبارك وتعالى جزاء أعمالهم الحسنة الصالحة التي وافوا بها الآخرة من:  المعارف، والتوحيد، والإقرار بالنبوة والأئمة، والأعمال الصالحات، لأنه لا يجوز في حكم العدل أن يأتي العبد بطاعة ومعصية فيخلد في النار بالمعصية ولا يعطى الثواب على الطاعة، لان من منع ما عليه واستوفى ماله كان ظالما معبثا وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وبهذا قضت العقول، ونزل الكتاب المسطور، وثبتت الأخبار عن أئمة أهل بيت محمد عليهم السلام، وإجماع شيعتهم المحدثين العلماء منهم المستبصرين. ومن خالف في ذلك من منتحلي مذهب الإمامية فهو شاذ عن الطائفة، وخارق لإجماع العصابة. والمخالف في ذلك هم المعتزلة، وفرق من الخوارج والزيدية.

فصل: أدلة بطلان القول بالحبط

ومما يدل على صحة ما ذكرناه في هذا الباب ما قدمناه القول في معناه في أن العارف الموحد يستحق بالعقول على طاعته وقربته ثوابا دائما. وقد ثبت أن معصيته لا تنافي طاعاته، وذنوبه لا تضاد حسناته واستحقاقه الثواب. وأنه لا تحابط بين المعاصي والطاعات، لاجتماعها من المكلف في حالة واحدة. وأن استحقاق الثواب لا يضاد استحقاق العقاب، إذ لو ضادة لتضاد الجمع بين المعاصي والطاعات، إذ بهما يستحق الثواب والعقاب. وإذا ثبت اجتماع الطاعة والمعصية دل على استحقاق الثواب والعقاب. وهذا يبطل قول المعتزلة في التحابط المخالف لدليل الاعتبار. وقد قال الله عز وجل: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}. وقال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}. وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. وقال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. وقال سبحانه: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}. فأخبر تعالى أنه لا يضيع أجر المحسنين، وأنه يوفي العاملين أجرهم بغير حساب، وأنه لا يظلم مثقال ذرة ، فأبطل بهذه الآيات دعوى المعتزلة على الله تعالى أنه يحبط الأعمال الصالحات، أو بعضها، ولا يعطي عليها أجرا. وأبطل قولهم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. هذا مع قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} فأخبر أنه لا يغفر الشرك مع عدم التوبة منه، وأنه يغفر ما سواه بغير التوبة، ولولا ذلك لم يكن لتفريقه بين الشرك وما دونه في حكم الغفران معنى معقول. وقال تبارك وتعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}. وهذا القول لا يجوز أن يكون متوجها إلى المؤمنين الذين لا تبعة بينهم وبين الله تعالى، ولا متوجها إلى الكافرين الذين قد قطع الله على خلودهم في النار، فلم يبق إلا أنه توجه إلى مستحق العقاب من أهل المعرفة والتوحيد.

وفيما ذكرنا أدلة يطول شرحها، والذي اثبتناه هاهنا مقنع لمن تأمله إن شاء الله. وقد أمليت في هذا المعنى كتابا سميته (الموضح في الوعد والوعيد) إن وصل إلى السيد الشريف الفاضل الخطير أدام الله تعالى رفعته أغناه عن غيره من الكتب في المعنى إن شاء الله تعالى.