عقائد الشيعة الإمامية >> الشيخ المفيد

 

 

عقائد الشيخ المفيد قدس سره

فاطمة الزهراء عليها السلام

 

- في مناقشة وجوه الحديث نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة

- حديث نحن معاشر الأنبياء - الشيخ المفيد  ص 19:

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ المفيد رضي الله عنه: إذا سلم للخصوم ما ادعوه على النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، كان محمولا على          

على ان الذي تركه الانبياء عليهم السلام صدقة، فإنه لا يورث، ولم يكن محمولا على ان ما خلفوه من أملاكهم فهو صدقة لغير هم لا يورث.

والحجة على ذلك أن التأويل الأول موافق لعموم القرآن وتأويل الناصبة مانع من العموم، وما يوافق ظاهر القرآن أولى بالحق مما خالفه. فإن قالوا: هذا لا يصح، وذلك لان كل شيء تركه الخلق بأجمعهم صدقة وكان من صدقاتهم لم يورث ولم يصح ميراثه فلا يكون حينئذ لتخصيص الأنبياء عليهم السلام بذكره فائدة معقولة. قيل لهم: ليس الأمر كما ذكرتم، وذلك أن الشيء قد يعم بتخصيص البعض للتحقيق به أنهم أولى الناس بالعمل بمعناه وألزم الخلق له، وإن كان دينا لمن سواهم من المكلفين، قال الله عزوجل: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وان كان منذرا لجميع العقلاء. وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ} وان كان قد يعمرها الكفار ومن هو بخلاف هذه الصفة. وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وان كان في الكفار من إذا ذكر الله وجل قلبه وخاف، وفي المؤمنين من يسمع ذكر الله وهو مسرور بنعم الله أو مشغول بضرب من المباح، فلا يلحقه في الحال وجل ولا يعتريه خوف. وهذا محسوس معروف بالعادات وهو كقول القائل: نحن معاشر المسلمين لا نقر على منكر، وإن كان أهل الملل من غيرهم لا يقرون على ما يرونه من المنكرات، وفي المسلمين من يقر على منكر يعتقد صوابه بالشبهات. وكقول فقيه من الفقهاء: نحن معاشر الفقهاء لا نرى قبول شهادة الفاسقين، وقد ترى ذلك جماعة ممن ليس من الفقهاء. وكقول القائل: نحن معاشر القراء لا نستجيز خيانة الظالمين، وقد يدخل معهم من يحرم ذلك من غير القراء من العدول والفاسقين، وأمثال هذا في القول المعتاد كثير. وإنما المعنى في التخصيص به التحقيق بمعناه، والتقدم فيه، وأنهم قدوة لمن سواهم، وأئمتهم في العمل نحو ما ذكرناه. ووجه آخر وهو أنه يحتمل أن يكون قوله عليه وآله السلام -إن صح عنه- انه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه. صدقة لا يورث) أي لا يستحقه أحد من أولادنا وأقربائنا وإن صاروا إلى حال الفقراء التي من صار إليها من غيرهم حلت لهم صدقات أهليهم، لان الله تعالى حرم الصدقة على أولاد الأنبياء وأقاربهم تعظيما لهم ورفعا لأقدارهم عن الإدناس، وليس ذلك في من سواهم من الناس لان غير الأنبياء عليهم السلام إذا تركوا صدقات ووقوفا ووصايا للفقراء من سائر الناس فصار أولادهم وأقاربهم من بعدهم إلى حال الفقر كان لهم فيها حقوق أوكد من حقوق غيرهم من الأباعد. فمنع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذريته وأهل بيته من نيل ما تركه من صدقاته وإن افتقروا وخرجوا من حال الغنى، وكان المعنى في قوله (لا نورث) أي لا يصير من بعدنا إلى ورثتنا على حال، وهذا معروف في انتقال الأشياء من الأموات إلى الأحياء، والوصف له بأنه ميراث وان لم يوجد من جهة الإرث. قال الله عز وجل: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ}.

فصل: وقد تعلق بعضهم بلفظ آخر في هذا الخبر فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه هو صدقة) وهذا أيضا لا يصح. فالوجه فيه: أن الذي تركناه من حقوقتا وديوننا فلم نطالب في حياتنا ونستنجزه قبل مماتنا فهو صدقة على من هو في يده من بعد موتنا وليس يجوز لورثتنا أن يتعرضوا لتمليكه فانا قد عفونا لمن هو في يده عنه بتركنا قبضه منه في حياتنا، وليس معناه ما تأوله الخصوم.

والدليل على ذلك: أن الذي ذكرناه فيه موافق لعموم القرآن وظاهره. وما ادعاه المخالف دافع لعموم القرآن ومخالف لظاهره، وحمل السنة على وفاق العموم أولى من حمله على خلاف ذلك والله ولي التوفيق والحمد لله رب العالمين وصلواته على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.

تكميل:

وبعد تمام هذه الرسالة الثمينة ننقل بعض كلمات الأعلام حول هذا الحديث تتميما للفائدة وتبيينا للحق. اللهم أرنا الحق حقا حتى نتبعه وارنا الباطل باطلا حتى نجتنبه.

قال القرطبي في تفسيره: ويحتمل قوله عليه السلام: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث) أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وان كان فيهم من ورث ماله ك‍زكريا على أشهر الأقوال فيه. وهذا كما تقول: إنا معاشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة، والمراد أن ذلك فعل الأكثر، ومنه ما حكى سيبويه: إنا معاشر العرب أقرى الناس للضيف.

قال الفخر الرازي في تفسير الآية 11 من سورة النساء: الموضع الرابع من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، والشيعة خالفوا فيه. روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه، احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيص بخبر واحد.

ثم إن الشيعة قالوا: بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر واحد إلا أنه غير جائز ههنا، وبيانه من ثلاثة أوجه: احدها: انه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} قالوا ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والذين لان ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة، بل يكون كسبا جديدا مبتدأ، إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة.

وثانيها: أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الذين، وأما أبو بكر فانه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة، لأنه ما كان ممن يخطر بباله انه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا جاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة؟.

وثالثها: يحتمل أن قوله (ما تركناه صدقة صلة) (لا نورث) والتقدير: أن الشيء الذي تركناه صدقة، فذلك الشيء لا يورث فان قيل: فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك. قلنا: بل تبقى الخاصية لا حتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم.

قال العلامة الحلي رحمه الله: إن أبا بكر منع فاطمة إرثها فقالت: يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي!! واحتج عليها برواية تفرد هو بها عن جميع المسلمين، مع قلة رواياته وقلة علمه، وكونه الغريم لان الصدقة تحل عليه. فقال لها: إن النبي قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، والقرآن مخالف لذلك فإن صريحه يقتضي دخول النبي صلى الله عليه وآله فيه بقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}. وقد نص على أن الأنبياء يورثون، فقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}. وقال عن زكريا: {إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}، وناقض فعله أيضا هذه الرواية، لان أمير المؤمنين والعباس، اختلفا في بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيفه وعمامته وحكم بها ميراثا لأمير المؤمنين، ولو كانت صدقة لما حلت على علي عليه السلام، وكان يجب على أبي بكر انتزاعها منه، ولكان أهل البيت الذين حكى الله تعالى عنهم بأنه طهرهم تطهيرا مرتكبين ما لا يجوز، نعوذ بالله من هذه المقالات الردية والاعتقادات الفاسدة. وأخذ فدكا من فاطمة وقد وهبها إياها رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يصدقها، مع أن الله قد طهرها وزكاها واستعان بها النبي صلى الله عليه وآله في الدعاء على الكفار على ما حكى الله تعالى وأمره بذلك فقال تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} فكيف يأمره الله تعالى بالاستعانة -وهو سيد المرسلين- بابنته وهي كاذبة في دعواها غاصبة لمال غيرها نعوذ بالله من ذلك فجاءت بأمير المؤمنين عليه السلام فشهد لها فلم يقبل شهادته، قال: إنه يجر إلى نفسه، وهذا من قلة معرفته بالأحكام، ومع أن الله تعالى قد نص في آية المباهلة أنه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله فكيف يليق بمن هو بهذه المنزلة واستعان به رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر الله في الدعاء يوم المباهلة أن يشهد بالباطل ويكذب ويغصب المسلمين أموالهم نعوذ بالله من هذه المقالة.

وشهد لها الحسنان عليهما السلام فرد شهادتهما وقال: هذان ابناك لا أقبل شهادتهما لأنهما يجران نفعا بشهادتهما، وهذا من قلة معرفته بالأحكام أيضا، مع أن الله قد أمر النبي صلى الله عليه وآله بالاستعانة بدعائهما يوم المباهلة فقال: {أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ}. وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله بأنهما سيدا شباب أهل الجنة، فكيف يجامع هذا شهادتهما بالزور والكذب وغصب المسلمين حقهم نعوذ بالله من ذلك. ثم جاءت بأم أيمن فقال: إمرأة لا يقبل قولها مع أن النبي صلى الله عليه وآله قال: >أم أيمن من أهل الجنة<، فعند ذلك غضبت عليه وعلى صاحبه وحلفت أن لا تكلمه ولا صاحبه، حتى تلقى أباها وتشكو إليه فلما حضرتها الوفاة أوصت أن تدفن ليلا ولا يدع أحدا منهم يصلي عليها. وقد رووا جميعا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: >إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك<.

قال العلامة الأميني في الغدير: لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذلك (أي حديث نحن معاشر...) لوجب أن يفشيه إلى آله وذويه الذين يدعون الوراثة منه ليقطع معاذيرهم في ذلك بالتمسك بعمومات الإرث من آي القرآن الكريم والسنة الشريفة، فلا يكون هناك صخب وحوار تتعقبهما محن، ولا تموت بضعته الطاهرة وهي واجدة على أصحاب أبيها ويكون ذلك كله مثارا للبغضاء والعداء في الأجيال المتعاقبة بين أشياع كل من الفريقين، وقد بعث هو صلى الله عليه وآله لكسح تلكم المعرات وعقد الإخاء بين الأمم والأفراد. ألم يكن صلى الله عليه وآله وسلم على بصيرة مما يحدث بعده من الفتن الناشئة من عدم إيقاف أهله وذويه على هذا الحكم المختص به صلى الله عليه وآله وسلم المخصص لشرعة الإرث؟ حاشاه. وعنده علم المنايا والبلايا والقضايا والفتن والملاحم. وهل ترى أن دعوى الصديق الأكبر أمير المؤمنين وحليلته الصديقة الكبرى صلوات الله عليهما وآلهما على أبي بكر ما استولت عليه يده مما تركه النبي صلى الله عليه وآله من ماله كانت بعد علم وتصديق منهما بتلك السنة المزعومة صفحا منهما عنها لاقتناء حطام الدنيا؟ أو كانت عن جهل منهما بما جاء به أبو بكر؟ نحن نقدس ساحتهما [أخذا بالكتاب والسنة] عن علم بسنة ثابتة والصفح عنها، وعن جهل يربكهما في الميزان.

ولماذا يصدق أبو بكر في دعواه الشاذة عن الكتاب والسنة، فيما لا يعلم إلا من قبل ورثته صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه الذي هتف صلى الله عليه وآله وسلم به وبوصايته من بدء دعوته في الأندية والمجتمعات؟!. ولم تكن أذن واعية لدعوى الصديقة وزوجها؟

قال ابن أبي الحديد في شرحه على النهج: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟. قال: نعم. قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكا وهي عنده صادقة؟. فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته. قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء لأنه قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. وهذا كلام صحيح وان كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل.

قال السيد شرف الدين في كتاب ( النص والاجتهاد). وإليك كلمة في هذا الموضوع لعيلم المنصورة الأستاذ محمود أبو رية المصري المعاصر، قال: بقي أمر لابد أن نقول فيه كلمة صريحة: ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وما فعل معها في ميراث أبيها، لانا إذا سلمنا بأن خبر الآحاد الظني يخصص الكتاب القطعي، وانه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله قد قال (انه لا يورث) وانه لا تخصيص في عموم هذا الخبر، فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة رضي الله عنها بعض تركة أبيها صلى الله عليه وآله كأن يخصها بفدك وهذا من حقه الذي لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للخليفة أن يخص من يشاء بما شاء. قال: وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبي. على أن فدكا هذه التي منعها أبو بكر لم تلبث أن اقطعها الخليفة عثمان لمروان -هذا كلامه بنصه-.

- دليل على إثبات الحكم بقول فاطمة الزهراء في شأن فدك

- فاطمة الزهراء معصومة يجب القطع بقولها ويستغنى عن الشهود في دعواها ولو شهد عليها شهود بما يوجب إقامة الحد من الفعل المنافي للعصمة لكان الشهود مبطلين في شهادتهم ووجب على الأمة تكذيبهم وعلى السلطان عقوبتهم

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 88 :

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله: عزه في إثبات الحكم بقول فاطمة عليها السلام قال الشيخ أيده الله: قد ثبت عصمة فاطمة عليها السلام بإجماع الأمة على ذلك فتيا مطلقة، وإجماعهم على أنه لو شهد عليها شهود بما يوجب إقامة الحد من الفعل المنافي للعصمة لكان الشهود مبطلين في شهادتهم ووجب على الأمة تكذيبهم وعلى السلطان عقوبتهم فإن تعالى قد دل على ذلك بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ولا خلاف بين نقلة الآثار أن فاطمة عليها السلام كانت من أهل هذه الآية، وقد بينا فيما سلف أن ذهاب الرجس عن أهل البيت الذين عنوا بالخطاب يوجب عصمتهم ولإجماع الأمة أيضا على قول النبي صلى الله عليه وآله: "من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عزوجل".

فلولا أن فاطمة عليها السلام كانت معصومة من الخطأ، مبرأة من الزلل لجاز منها وقوع ما يجب أذهاب به بالأدب والعقوبة، ولو وجب ذلك لوجب أذاها، ولو جاز وجوب أذاها لجاز أذى رسول الله صلى الله عليه وآله والأذى لله عز وجل فلقا بطل ذلك دل على أنها عليها السلام كانت معصومة حسبما ذكرناه.

وإذا ثبت عصمة فاطمة عليها السلام وجب القطع بقولها واستغنت عن الشهود في دعواها لان المدعي إنما افتقر للشهود له لارتفاع العصمة عنه وجواز ادعائه الباطل فيستظهر بالشهود على قوله لئلا يطمع كثير من الناس في أموال غيرهم وجحد الحقوق الواجبة عليهم.

وإذا كانت العصمة مغنية عن الشهادة وجب القطع على قول فاطمة عليها السلام وعلى ظلم مانعها فدكا ومطالبها بالبينة عليها.

ويكشف عن صحة ما ذكرناه أن الشاهدين إنما يقبل قولهما على الظاهر مع جواز أن يكونا مبطلين كاذبين فيما شهدا به، وليس يصح الاستظهار على قول من قد أمن منه الكذب بقول من لا يؤمن عليه ذلك، كما لا يصح الاستظهار على قول المؤمن بقول الكافر وعلى قول العدل البر بقول الفاسق الفاجر ويدل أيضا على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله استشهد على قوله فشهد خزيمة بن ثابت في ناقة نازعه فيها منازع، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: من أين علمت يا خزيمة أن هذه الناقة لي؟ أشهدت شراي لها؟ فقال: لا ولكني علمت أنها لك من حيث علمت أنك رسول الله، فأجاز النبي صلى الله عليه وآله شهادته كشهادة رجلين وحكم بقوله، فلولا أن العصمة دليل الصدق (و) تغني عن الاستشهاد لما حكم النبي صلى الله عليه وآله بقول خزيمة بن ثابت وحده وصوبه في الشهادة له على ما لم يره ولم يحضره باستدلاله عليه بدليل نبوته وصدقه على الله سبحانه فيما أداه إلى بريته.

وإذا وجب قبول قول فاطمة عليها السلام بدلائل صدقها واستغنت عن الشهود لها، ثبت أن من منع حقها وأوجب الشهود على صحة قولها قد جار في حكمه وظلم في فعله وآذى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله بإيذانه لفاطمة عليها السلام، وقد قال الله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}.

- بحث في موقف فاطمة الزهراء من دعوى أبي بكر أنه سمع  رسول الله يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 331، 336:

فصل: ومن حكايات الشيخ وكلامه قال الشيخ أيده الله: حضرت مجلسا لبعض الرؤساء وكان فيه جمع كثير من المتكلمين والفقهاء فألفيت أبا الحسن علي بن عيسى الرماني يكلم رجلا من الشيعة يعرف بأبي الصقر الموصلي في شيء يتعلق بالحكم في فدك ووجدته قد انتهى في كلامه إلى أن قال له: قد علمنا باضطرار أن أبا بكر قال لفاطمة عليها السلام عند مطالبتها له بالميراث: "سمعت رسول الله يقول نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فسلمت عليها السلام لقوله ولم ترده عليه، وليس يجوز على فاطمة عليها السلام أن تصبر على المنكر وتترك المعروف وتسلم للباطل لاسيما وأنتم تقولون إن عليا عليه السلام كان حاضرا للمجلس، ولا شك أن جماعة من المسلمين حضروه واتصل خبره بالباقين فلم ينكره أحد من الأمة ولا علمنا أن أحدا رد على أبي بكر وأكذبه في الخبر، فلولا أنه كان محقا فيما رواه من ذلك لما سلمت الجماعة له ذلك.

فاعترضه الرجل الإمامي بما روي عن فاطمة عليها السلام من ردها عليه وإنكارها لروايته وخطبتها في ذلك واستشهادها على بطلان خبره بظاهر القرآن وأورد كلاما في هذا المعنى على حسب ما يقتضيه واتسعت له الحال.

فقال علي بن عيسى: هذا الذي ذكرته شيء تختص أنت وأصحابك به، والذي ذكرته من الحكم عليها شيء عليه الإجماع وبه حاصل علم الاضطرار فلو كان ما تدعونه من خلافه حقا، لارتفع معه الخلاف وحصل عليه الإجماع كما حصل على ما ذكرت لك من رواية أبي بكر وحكمه، فلما لم يكن الأمر كذلك دل على بطلانه. فكلمه الإمامي بكلام لم أرتضه، وتكرر منهما جميعا، فأشار صاحب المجلس إلي لآخذ الكلام فأحس بذلك علي بن عيسى فقال لي: إنني قد جعلت على نفسي أن لا أتكلم في مسالة واحدة مع نفسين في مجلس واحد فأمسكت عنه وتركته حتى انقطع الكلام بينه وبين الرجل. ثم قلت له: خبرني عن المختلف فيه هل يدل الاختلاف على بطلانه؟ فظن أنني أريد شيئا غير المسالة الماضية وأنني لا أكسر شرطه فقال: لست أدري أي شيء تريد بهذا الكلام فأبن لي عن غرضك لأتكلم عليه، فقلت له: لم آتك بكلام مشكل ولا خاطبتك بغير العربية، وغرضي في نفس هذا السؤال مفهوم لكل ذي سمع من العرب إذا أصغى إليه ولم يله عنه، اللهم إلا أن تريد أن أبين لك عن غرضي فيما أجري بهذه المسألة إليه فلست أفعل ذلك بأول وهلة إلا أن تلزمني في حكم النظر، والذي استخبرتك عنه معروف صحته وأنا أكرره: أتقول إن الشيء إذا اختلف العقلاء في وجوده أو صحته وفساده كان اختلافهم دليلا على بطلانه، أو قد يكون حقا وإن اختلفت العقلاء فيه؟ فقال: ليس يكون الشيء باطلا من حيث اختلف الناس فيه ولا يذهب إلى ذلك عاقل.

فقلت له: فما أنكرت الآن أن تكون فاطمة عليها السلام قد أنكرت على أبي بكر حكمه، وردت عليه في خبره، واحتجت عليه في بطلان قضائه، واستشهدت بالقرآن على ما جاء الأثر به ولا يجب أن يقع الاتفاق على ذلك وإن كان حقا ولا يكون الخلاف فيه علامة على كذب مدعيه بل قد يكون صدقا وإن اختلف فيه على ما أعطيت في الفتيا التي قررناك عليها.

فقال: أنا لا أعتمد على ما سمعت مني من الكلام مع الرجل على الاختلاف فيما ادعاه إلا بعد أن قدمت معه مقدمات لم تحصرها، والذي أعتمد عليه الآن معك أن الذي يدل على صدق أبي بكر فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله من أنه لا يورث وصوابه فيما حكم به، ما جاء به الخبر عن علي عليه السلام أنه قال: "ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر" فلو لم يكن عنده صادقا أمينا عادلا، لما عدل عن استحلافه ولا صدقه في روايته ولا ميز بينه وبين الكافة في خبره، وهذا يدل على أن ما يدعونه على أبي بكر من تخرص الخبر فاسد محال.

فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد تركت الاعتلال الذي اعتمدته بدئا ورغبت عنه بعد أن كنت راغبا فيه وأحلتنا على شيء لا نعرفه ولا سمعناه وإنما بينا الكلام على الاعتلال الذي حضرناه ولسنا نشاحك في هذا الباب لكنا نكلمك على ما استأنفته من الكلام.

أنت تعلم وكل عاقل عرف المذاهب وسمع الأخبار، أن الشيعة لا تروي هذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام ولا تصححه بل تشهد بفساده وكذب رواته، وإنما يرويه آحاد من العامة ويسلمه من دان بإمامة أبي بكر خاصة، فإن لزم الشيعة أمر بحديث تفرد به خصومهم لزم المخالفين ما تفردت الشيعة بروايته، وهذا على شرط الإنصاف وحقيقة النظر والعدل فيه فيجب أن تصير إلى اعتقاد ضلالة كل من روت الشيعة عن النبي صلى الله عليه وآله وعن علي والأئمة من ذريته عليهم السلام ما يوجب ضلالتهم، فإن لم تقبل ذلك ولم تلتزمه لتفرد القوم بنقله دونك فكيف استجزت إلزامهم الإقرار برواية ما تفردت به دونهم لولا التحكم دون الإنصاف.

على أن أقرب الأمور في هذا الكلام أن تتكافأ الروايات ولا يلزم أحد الفريقين منهما إلا ما حصل عليه الإجماع أو يضم إليه دليل يقوم مقام الإجماع في الحجة والبيان، وفي هذا إسقاط الاحتجاج بالخبر من أصله. مع أني أسلمه لك تسليم جدل وأبين لك أنك لم توف الدليل حقه ولا اعتمدت على برهان، وذلك أنه ليس من شرط الكاذب في خبر أن يكون كاذبا في جميع الأخبار، ولا من شرط من صدق في شيء أن يصدق في كل الأخبار وقد وجدنا اليهود والنصارى والملحدين يكذبون في أشياء ويصدقون في غيرها، فلا يجب لصدقهم فيما صدقوا فيه أن نصدقهم فيما كذبوا فيه، ولا نكذبهم فيما صدقوا لأجل كذبهم في الأمور الأخر ولا نعلم أن أحدا من العقلاء جعل التصديق لزيد في مقالة واحدة دليلا على صدقه في كل أخباره.

وإذا كان ذلك كذلك فما أنكرت أن يكون الرجل مخطئا فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله في الميراث وأن أمير المؤمنين عليه السلام قد صدقه فيما رواه من الحديث الذي لم يستحلفه فيه، فيكون وجه تصديقه له وعلة ذلك أنه عليه السلام شاركه في سماعه من النبي صلى الله عليه وآله فكان حفظه له عنه يغنيه عن استحلافه، ويدله على صدقه فيما أخبر به ولا يكون ذلك من حيث التعديل له والحكم على ظاهره.  على أن الذي رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وآله يدل على صحته العقل ويشهد بصوابه القرآن فكان تصديق أمير المؤمنين عليه السلام له من حيث العقل والقرآن لا من جهة روايته هو عن النبي صلى الله عليه وآله ولا لحسن ظاهر له على ما قدمناه. وذلك أن الخبر الذي رواه أبو بكر هو أن قال: سمعت رسول الله يقول: "ما من عبد يذنب ذنبا فيندم عليه ويخرج إلى صحراء فلاة فيصلي ركعتين ثم يعترف به ويستغفر الله عز وجل فيه إلا غفر الله له" وهذا شيء قد نطق به القران، قال الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} والعقل يدل على قبول التوبة. وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما تعلقت به وكان ذكره لأبي بكر خاصة لانه لم يحدثه بحديث غير هذا، فصدقه لما ذكرناه وأخبر عن تصديقه بما وصفناه، ولم يكن ذلك لتعديله على ما ظننت، ولا لتصويبه في الأحكام كلها على ما قدمت بما شرحناه.

فقال عند سماع هذا الكلام: أنا لم أعتمد في عدالة أبي بكر وصحة حكمه على الخبر وإنما جعلته توطئة للاعتماد فطولت الكلام فيه وأطنبت في معناه، والذي أعتمده في هذا الباب أني وجدت أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع أبا بكر وأخذ عطاءه وصلى خلفه ولم ينكر عليه بيد ولا لسان، فلو كان أبو بكر ظالما لفاطمة عليها السلام، لما جاز أن يرضى به أمير المؤمنين عليه السلام إماما ينتهي في طاعته إلى ما وصفت.

فقلت له: هذا انتقال ثان بعد انتقال أول وتدارك فائت وتلافي فارط وتذكر ما كان منسيا، وإن عملنا على هذه المجازفة انقطع المجلس بنشر المسائل والتنقل فيها والتحيز وخرج الأمر عن حده وصار مجلس مذاكرة دون تحقيق جدل ومناظرة، وأنت لا تزال تعتذر في كل دفعة عندما يظهر من وهن متعمداتك بأنك لم تردها ولكنك وطأت بها، فخبرني الآن هل هذا الذي ذكرته أخيرا هو توطئة أو عماد؟ فإن كان توطئة عدلنا عن الكلام فيه وسألناك عن المعتمد، وإن كان أصلا لألممناك عليه.

مع أني لست أفهم منك معنى التوطئة لأن كل كلام اعتل به معتل ففسد فقد انهدم ما بناه عليه ووضح فساد ما بينه إن بناه عليه، فاعتذارك في فساد ما تقدم ما بناه توطئة لا معنى له. ولكننا نتجاوز هذا الباب ونقول لك: ما أنكرت على من قال لك إن ما ادعيته من أن أمير المؤمنين عليه السلام بايع الرجل دعوى عرية عن برهان ولا فرق بينها وبين قولك إنه كان مصيبا فيما حكم به على فاطمة عليها السلام فدل على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع على ما ادعيت ثم ابن عليه، فإما أن تعتمد على الدعوى المحضة فإنها تضر ولا تنفع، وقولك إنه عليه السلام صلى خلف الرجل، فإن كنت تريد أنه صلى متأخرا عن مقامه فلسنا ننكر ذلك وليس فيه دلالة على رضاه به، وإن أردت أنه صلى مقتديا به ومؤتما فما الدليل على ذلك فإنا نخالفك فيه وعنه ندفعك، وهذه دعوى كالأولى تضر من اعتمد عليها أيضا ولا تنفع.

وأما قولك إنه أخذ العطاء فالأمر كما وصفت، ولكن لم زعمت أن في ذلك دلالة على رضاه بإمامته والتسليم له في حكمه، أو ليس تعلم أن خصومك يقولون في ذلك إنه أخذ بعض حقه ولم يكن يحل له الامتناع من أخذه لان في ذلك تضييعا لماله وقد نهى الله تعالى عن التضييع وأكل الأموال بالباطل.

وبعد فما الفصل بينك وبين من جعل هذا الذي اعتمدت عليه بعينه حجة في إمامة معاوية، فقال: وجدت الحسن والحسن و عبد الله بن عباس و عبد الله بن جعفر وغيرهم من المهاجرين والأنصار قد بايعوا معاوية بن أبي سفيان بعد صلح الحسن عليه السلام وأخذوا منه العطاء وصلوا خلفه الفرائض ولم ينكروا عليه بيد ولا لسان فكل ما جعلته إسقاطا لهذا الاعتماد فهو بعينه دليل على فساد ما اعتمدته حذو النعل بالنعل، فلم يأت بشيء تجب حكايته.