عقائد الشيعة الإمامية >> الشيخ المفيد

 

 

عقائد الشيخ المفيد قدس سره

الأنبياء

 

- كان من أنبياء الله عز وجل حفظة لشرائع الرسل وخلفائهم في المقام

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 45:

8 - القول في الفرق بين الرسل والأنبياء عليهم السلام

واتفقت الإمامية على أن كل رسول فهو نبي وليس كل نبي فهو رسول، وقد كان من أنبياء الله عز وجل حفظة لشرائع الرسل وخلفائهم في المقام، وإنما منع الشرع من تسمية أئمتنا بالنبوة دون أن يكون العقل مانعا من ذلك لحصولهم على المعنى الذي حصل لمن ذكرناه من الأنبياء عليهم السلام.

واتفقوا على جواز بعثة رسول يجدد شريعة من تقدمه وإن لم يستأنف شرعا ويؤكد نبوة من سلف وإن لم يفرض غير ذلك فرضا.

وأجمعت المعتزلة على خلاف هذين القولين، ومع الإمامية في تصحيحه جماعة من المرجئة وكافة أصحاب الحديث.

- أنبياء الله تعالى ورسله من البشر أفضل من الملائكة

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 49، 50:

17- القول في المفاضلة بين الأنبياء والملائكة عليهم السلام

واتفقت الإمامية على أن أنبياء الله تعالى عز وجل ورسله من البشر أفضل من الملائكة.

ووافقهم على ذلك أصحاب الحديث. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وزعم الجمهور منهم أن الملائكة أفضل من الأنبياء والرسل، وقال نفر منهم سوى من ذكرناه بالوقف في تفضيل أحد الفريقين على الآخر، وكان اختلافهم في هذا الباب على ما وصفناه وإجماعهم على خلاف القطع بفضل الأنبياء على الملائكة حسب ما شرحناه.

- المعرفة بالله تعالى اكتساب وكذا المعرفة بأنبيائه وكل غائب ولا يجوز الاضطرار إلى معرفة شيء مما ذكر

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 61:

30- القول في المعرفة

وأقول: إن المعرفة بالله تعالى اكتساب، وكذلك المعرفة بأنبيائه عليهم السلام وكل غائب، وإنه لا يجوز الاضطرار إلى معرفة شيء مما ذكرناه، وهو مذهب كثير من الإمامية.

والبغداديين من المعتزلة خاصة، ويخالف فيه البصريون من المعتزلة والمجبرة والحشوية من أصحاب الحديث.

- جميع أنبياء الله معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها وما يستخف فاعله من الصغائر كلها وأما ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة وعلى غير تعمد وممتنع منهم بعدها

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 62:

32 - القول في عصمة الأنبياء عليهم السلام

أقول: إن جميع أنبياء الله صلوات الله عليهم معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها وما يستخف فاعله من الصغائر كلها، وأما ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة وعلى غير تعمد وممتنع منهم بعدها على كل حال، وهذا مذهب جمهور الإمامية. والمعتزلة بأسرها تخالف فيه.

- منامات الرسل والأنبياء والأئمة صادقة لا تكذب وإن الله تعالى عصمهم عن الأحلام

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 70:

45 - القول في صدق منامات الرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام وارتفاع الشبهات عنهم والأحلام

وأقول: إن منامات الرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام صادقة لا تكذب، وإن الله تعالى عصمهم عن الأحلام، وبذلك جاءت الأخبار عنهم عليهم السلام على الظهور والانتشار، وعلى هذا القول جماعة فقهاء الإمامية وأصحاب النقل منهم، وأما متكلموهم فلا أعرف لهم نفيا ولا إثباتا ولا مسألة فيه ولا جوابا...

- في القول بفضل الأئمة الطاهرين على سائر من تقدم من الرسل والأنبياء سوى نبينا محمد

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 70،71:

46 - القول في المفاضلة بين الأئمة والأنبياء عليهم السلام

قد قطع قوم من أهل الإمامة بفضل الأئمة عليهم السلام من آل محمد صلى الله عليه وآله على سائر من تقدم من الرسل والأنبياء سوى نبينا محمد صلى الله عليه وآله، وأوجب فريق منهم لهم الفضل على جميع الأنبياء سوى أولي العزم منهم عليهم السلام، وأبى القولين فريق منهم آخر وقطعوا بفضل الأنبياء كلهم على سائر الأئمة عليهم السلام، وهذا باب ليس للعقول في إيجابه والمنع منه مجال ولا على أحد الأقوال فيه إجماع، وقد جاءت آثار عن النبي عليهم السلام في أمير المؤمنين عليه السلام وذريته من الأئمة، والأخبار عن الأئمة الصادقين أيضا من بعد، وفي القرآن مواضع تقوي العزم على ما قاله الفريق الأول في هذا المعنى، وأنا ناظر فيه وبالله اعتصم من الضلال.

- رسل الله تعالى من البشر وأنبياءه والأئمة من خلفائه بعد الوفاة ينقلون من تحت التراب فيسكنون بأجسامهم وأرواحهم جنة الله تعالى

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 72، 73:

49 - القول في احتمال الرسل والأنبياء والأئمة الآلام وأحوالهم بعد الممات

وأقول: إن رسل الله تعالى من البشر وأنبياءه والأئمة من خلفائه محدثون مصنوعون تلحقهم الآلام، وتحدث لهم اللذات، وتنمي أجسامهم بالأغذية، وتنقص على مرور الزمان، ويحل بهم الموت ويجوز عليهم الفناء، وعلى هذا القول إجماع أهل التوحيد. وقد خالفنا فيه المنتمون إلى التفويض وطبقات الغلاة.

وأما أحوالهم بعد الوفاة فإنهم ينقلون من تحت التراب فيسكنون بأجسامهم وأرواحهم جنة الله تعالى، فيكونون فيها أحياء يتنعمون إلى يوم الممات، يستبشرون بمن يلحق بهم من صالحي أممهم وشيعتهم، ويلقونه بالكرامات وينتظرون من يرد عليهم من أمثال السابقين من ذوي الديانات.

وإن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة من عترته خاصة لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم في دار الدنيا بإعلام الله تعالى لهم ذلك حالا بعد حال، ويسمعون كلام المناجي لهم في مشاهدهم المكرمة العظام بلطيفة من لطائف الله تعالى بينهم بها من جمهور العباد، وتبلغهم المناجاة من بعد كما جاءت به الرواية، وهذا مذهب فقهاء الإمامية كافة وحملة الآثار منهم، ولست أعرف فيه لمتكلميهم من قبل مقالا، وبلغني عن بني نوبخت رحمهم الله خلاف فيه، ولقيت جماعة من المقصرين عن المعرفة ممن ينتمي إلى الإمامة أيضا يأبونه، وقد قال الله تعالى فيما يدل على الجملة: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وما يتلو هذا من الكلام. وقال في قصة مؤمن آل فرعون: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله:"من سلم علي عند قبري سمعته، ومن سلم علي من بعيد بلغته سلام الله عليه ورحمة الله وبركاته". ثم الأخبار في تفصيل ما ذكرناه من الجمل عن أئمة آل محمد صلى الله عليه وآله بما وصفناه نصا ولفظا أكثر، وليس هذا الكتاب موضع ذكرها فكنت أوردها على التفصيل والبيان.

- كلام عيسى في المهد كان على كمال عقل وثبوت تكليف وبعد أداء واجب كان منه ونبوة حصلت له

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 125:

137 - القول في كلام عيسى عليه السلام في المهد

وأقول: إن كلام عيسى عليه السلام كان على كمال عقل وثبوت تكليف وبعد أداء واجب كان منه ونبوة حصلت له، وظاهر الذكر دليل على ذلك في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}، وهذا مذهب أهل الإمامة بأسرها وجماعة من أهل الشيعة غيرها.

قد ذهب إليه نفر من المعتزلة وكثير من أصحاب الحديث وخالف فيه الخوارج وبعض الزيدية وفرق من المعتزلة.

- جميع المؤمنين من الملائكة والنبيين والأئمة معصومون لأنهم متمسكون بطاعة الله تعالى

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 134، 135:

153 - القول في العصمة ما هي؟

أقول: إن العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنه امتنع به عن الوقوع فيما يكره، وليس هو جنسا من أجناس الفعل، ومنه قولهم: اعتصم فلان بالجبل، إذا امتنع به، ومنه سميت (العصم) وهي وعول الجبال لامتناعها بها.

والعصمة من الله تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان مما يكره إذا أتى بالطاعة، وذلك مثل إعطائنا رجلا غريقا حبلا ليتشبث به فيسلم، فهو إذا أمسكه واعتصم به سمي ذلك الشيء عصمة له لما تشبث وسلم به من الغرق ولو لم يعتصم به لم يسم (عصمة)، وكذلك سبيل اللطف إن الإنسان إذا أطاع سمي (توفيقا) و (عصمة)، وإن لم يطع لم يسم (توفيقا) ولا (عصمة)، وقد بين الله ذكر هذا المعنى في كتابه بقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، وحبل الله هو دينه، ألا ترى أنهم بامتثال أمره يسلمون من الوقوع في عقابه، فصار تمسكهم بأمره اعتصاما، وصار لطف الله لهم في الطاعة عصمة، فجميع المؤمنين من الملائكة والنبيين والأئمة معصومون لأنهم متمسكون بطاعة الله تعالى.

وهذه جملة من القول في العصمة ما أظن أحدا يخالف في حقيقتها، وإنما الخلاف في حكمها كيف تجب وعلى أي وجه تقع، وقد مضى ذكر ذلك في باب عصمة الأنبياء وعصمة نبينا عليه وعليهم الصلوة والسلام وهي في صدر الكتاب، وهذا الباب ينبغي أن يضاف إلى الكلام في الجليل، إن شاء الله تعالى.

- في معنى اليد في قوله تعالى وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ وجه وهو النعمة

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 30:

[تأويل اليد]

فصل: ومضى في كلام أبي جعفر رحمه الله شاهد اليد عن القدرة قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} فقال: ذو القوة.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: وفيه وجه آخر وهو أن اليد عبارة عن النعمة، قال الشاعر:

له علي أياد لست أكفرها       وإنما الكفر ألا تشكر النعم

فيحتمل أن قوله تعالى: {دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} يريد به ذا النعم، ومنه قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} يعني نعمتيه العامتين في الدنيا والآخرة.

- ذكر عدد من سترت ولادته من الأنبياء والملوك وسائر الناس

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 53، 58:

الكلام في الفصل الأول: وأقول: إن استتار ولادة المهدي بن الحسن بن علي عليهم السلام عن جمهور أهله وغيرهم، وخفاء ذلك عليهم، واستمرار استتاره عنهم ليس بخارج عن العرف، ولا مخالفا لحكم العادات، بل العلم محيط بتمام مثله في أولاد الملوك والسوقة، لأسباب تقتضيه لا شبهة فيها على العقلاء. فمنها:

أن يكون للإنسان ولد من جارية قد أستر تملكها من زوجته وأهله، فتحمل منه فيخفي ذلك عن كل من يشفق منه أن يذكره ويستره عمن لا يأ من إذاعة الخبر به، لئلا يفسد الأمر عليه مع زوجته بأهلها وأنصارها، ويتم الفساد به ضرر عليه يضعف عن دفاعه عنه، وينشئ الولد وليس أحد من أهل الرجل وبني عمه وإخوانه وأصدقائه يعرفه، ويمر على ذلك إلى أن يزول خوفه من الإخبار عنه، فيعرف به إذ ذاك، وما كان من ستر أمه حملها وإخفاء ولادتها لكيخسرو، وأمه هذه المسماة بوسفا فريد بنت فراسياب ملك الترك، فخفي أمره مع الجد كان من كيقاوس -جده الملك الأعظم- في البحث عن أمره والطلب له، فلم يظفر بذلك حينا طويلا. والخبر بأمره مشهور، وسبب ستره وإخفاء شخصه معروف، قد ذكره علماء الفرس، وأثبته محمد بن جرير الطبري في كتابه التاريخ. وهو نظير لما أنكره الخصوم في خفاء أمر ولد الحسن بن علي عليهما السلام، واستتار شخصه، ووجوده وولادته، بل ذلك أعجب. ومن الناس من يستر ولده عن أهله مخافة شنعتهم في حقه وطمعهم في ميراثه ما لم يكن له ولد، فلا يزال مستورا حتى يتمكن من إظهار على أمان منه عليه ممن سميناه. ومنهم من يستر ذلك ليرغب في العقد له من لا يؤثر مناكحة صاحب الولد من الناس، فيتم له في ستر ولده وإخفاء شخصه وأمره، والتظاهر بأنه لم يتعرض بنكاح من قبل ولا له ولد من حرة ولا أمة، وقد شاهدنا من فعل ذلك، والخبر عن النساء به أظهر منه عن الرجال.

واشتهر من الملوك من ستر ولد وإخفاء شخصه من رعيته لضرب من التدبير، وفي إقامة خليفة له، وامتحان جنده بذلك في طاعته، إذ كانوا يرون أنه لا يجوز في التدبير استخلاف من ليس له بنسيب مع وجود ولده ثم يظهر بعد ذلك أمر الولد عند التمكن من إظهاره برضى القوم، وصرف الأمر عن الولد إلى غيره، أو لعزل مستخلف عن المقام، على وجه ينتظم للملك أمور لم يكن يتمكن من التدبير الذي كان منه على ما شرحناه. وغير ذلك مما يكثر تعداده من أسباب ستر الأولاد وإظهار موتهم، واستتار الملوك أنفسهم، والإرجاف بوفاتهم، وامتحان رعاياهم بذلك، وأغراض لهم معروفة قد جرت من المسلمين بالعمل عليها العادات.

وكم وجدنا من نسيب ثبت بعد موت أبيه بدهر طويل، ولم يكن أحد من الخلق يعرفه بذلك حتى شهد له بذلك رجلان مسلمان، وذلك لداع دعا الأب إلى ستر ولادته عن كل أحد من قريب وبعيد، إلا من شهد به من بعد عليه بإقراره به على الستر لذلك والوصية بكتمانه، أو بالفراش الموجب لحكم الشريعة إلحاق الولد بوالده.

فصل: وقد أجمع العلماء من الملل على ما كان من ستر ولادة أبي إبراهيم الخليل عليه السلام وأمه لذلك، وتدبيرهم في إخفاء أمره عن ملك زمانه لخوفهم عليه منه. وبستر ولادة موسى بن عمران عليه السلام، وبمجيء القرآن بشرح ذلك على البيان، والخبر بأن أمه ألقته في اليم على ثقة منها بسلامته وعوده إليها، وكان ذلك منها بالوحي إليها به بتدبير الله جل وعلا لمصالح العباد. فما الذي ينكر خصوم الإمامية من قولهم في ستر الحسن عليه السلام ولادة ابنه المهدي عن أهله وبني عمه وغيرهم من الناس، وأسباب ذلك أظهر من أسباب ستر من عددناه وسميناه، وسنذكرها عند الحاجة إلى ذكرها من بعد إن شاء الله.

- ذكر استتار وغيبة عدد من الأنبياء والصالحين

- المسائل العشر في الغيبة - الشيخ المفيد  ص 77، 89:

الفصل الخامس: وأما الكلام في الفصل الخامس، وهو قول الخصوم: إن دعوى الإمامية لصاحبهم أنه منذ ولد إلى وقتنا هذا مع طول المدة وتجاوزها الحد مستتر لا يعرف أحد مكانه ولا يعلم مستقره، ولا يدعي عدل من الناس لقاءه ولا يأتي بخبر عنه ولا يعرف له أثرا. خارجة عن العرف، إذ لم تجر العادة لأحد من الناس بذلك، إذ كان كل من اتفق له الاستتار عن الظالم لخوف منه على نفسه ولغير ذلك من الأغراض، تكون مدة استتاره مرتبة، ولا تبلغ عشرين سنة فضلا عما زاد عليها، ولا يخفى أيضا على الكل في مدة استتاره مكانه، بل لا بد من أن يعرف ذلك بعض أهله وأوليائه بلقائه، وبخبر منه يأتي إليهم عنه. وإذا خرج قول الإمامية في استتار صاحبهم وغيبته عن حكم العادات بطل ولم يرج قيام حجة.

فصل: وليس الأمر كما توهمه الخصوم في هذا الباب، والإمامية بأجمعها تدفعهم عن دعواهم وتقول: إن جماعة من أصحاب أبي محمد الحسن بن علي بن محمد عليهم السلام قد شاهدوا خلفه في حياته، وكانوا أصحابه وخاصته بعد وفاته، والوسائط بينه وبين شيعته دهرا طويلا في استتاره: ينقلون  إليهم عن معالم الدين، ويخرجون إليهم أجوبة عن مسائلهم فيه، ويقبضون منهم حقوقه لديهم. وهم جماعة كان الحسن بن علي عليه السلام عدلهم في حياته، واختصهم أمناء له في وقته، وجعل إليهم النظر في أملاكه والقيام بمآربه، معروفون بأسمائهم وأنسابهم وأمثالهم. كأبي عمر وعثمان بن سعيد السمان، وابنه أبي جعفر محمد بن عثمان، وبني الرحبا من نصيبين، وبني سعيد، وبني مهزيار بالأهواز، وبني الركولي بالكوفة، وبني نوبخت ببغداد، وجماعة من أهل قزوين وقم وغيرها من الجبال، مشهورون بذلك عند الإمامية والزيدية، معروفون بالإشارة إليه به عند كثير من العامة. وكانوا أهل عقل وأمانة وثقة ودراية وفهم وتحصيل ونباهة، وكان السلطان يعظم أقدارهم بجلالة محلهم في الدنيا، ويكرمهم الظاهر أمانتهم واشتهار عدالتهم، حتى أنه كان يدفع عنهم ما يضيفه إليهم خصومهم من أمرهم، ضنا بهم واعتقادا لبطلان قذفهم به، وذلك لما كان من شدة تحرزهم، وستر حالهم، واعتقادهم، وجودة آرائهم، وصواب تدبيرهم. وهذا يسقط دعوى الخصوم وفاق الإمامية لهم: أن صاحبهم لم ير منذ ادعوا ولادته، ولا عرف له مكان، ولا خبر أحد بلقائه.

فأما بعد انقراض من سميناه من أصحاب أبيه وأصحابه عليهما السلام، فقد كانت الأخبار عمن تقدم من أئمة آل محمد عليهم السلام متناصرة: بأنه لا بد للقائم المنتظر من غيبتين، إحداهما أطول من الأخرى، يعرف خبره الخاص في القصرى ولا يعرف العام له مستقرا في الطولى، إلا من تولى خدمته من ثقاة أوليائه، ولم ينقطع عنه إلى الاشتغال بغيره.

والأخبار بذلك موجودة في مصنفات الشيعة الإمامية قبل مولد أبي محمد وأبيه وجده عليهم السلام، وظهر حقها عند مضي الوكلاء والسفراء الذين سميناهم رحمهم الله، وبأن صدق رواتها بالغيبة الطولى، فكان ذلك من الآيات الباهرات في صحة ما ذهبت إليه الإمامية ودانت به في معناه. وليس يمكن أن يخرج عن عادة أزماننا هذه غيبة بشر لله تعالى، في استتاره تدبير لمصالح خلقه لا يعلمها إلا هو، وامتحان لهم بذلك في عبادته، مع أنا لم نحط علما بأن كل غائب عن الخلق مستترا بأمر دينه لأمر يؤمه عنهم -كما ادعاه الخصوم- يعرف جماعة من الناس مكانه ويخبرون عن مستقره. وكم ولي لله تعالى، يقطع الأرض بعبادة ربه تعالى والتفرد من الظالمين بعمله، ونأى بذلك عن دار المجرمين وتبعد بدينه عن محل الفاسقين، لا يعرف أحد من الخلق له مكانا ولا يدعي إنسان له لقاء ولا معه اجتماعا، وهو الخضر عليه السلام، موجود قبل زمان موسى عليه السلام إلى وقتنا هذا، بإجماع أهل النقل واتفاق أصحاب السير والأخبار، سائحا في الأرض، لا يعرف له أحد مستقرا ولا يدعي له اصطحابا، إلا ما جاء في القرآن به من قصته مع موسى عليه السلام، وما يذكره بعض الناس من أنه يظهر أحيانا ولا يعرف، ويظن بعض من رآه أنه بعض الزهاد فإذا فارق مكانه توهمه المسمى بالخضر، وإن لم يكن يعرف بعينه في الحال ولا ظنه، بل اعتقد أنه بعض أهل الزمان.

وقد كان من غيبة موسى بن عمران عليه السلام عن وطنه وفراره من فرعون ورهطه ما نطق به الكتاب، ولم يظهر عليه أحد مدة غيبته عنهم فيعرف له مكانا، حتى ناجاه الله عز وجل وبعثه نبيا، فدعا إليه وعرفه الولي والعدو إذ ذاك.

وكان من قصة يوسف بن يعقوب عليهما السلام ما جاءت به سورة كاملة بمعناه، وتضمنت ذكر استتار خبره عن أبيه، وهو نبي الله تعالى يأتيه الوحي منه سبحانه صباحا ومساء، وأمره مطوي عنه وعن إخوته، وهم يعاملونه ويبايعونه ويبتاعون منه ويلقونه ويشاهدونه فيعرفهم ولا يعرفونه، حتى مضت على ذلك السنون وانقضت فيه الأزمان، وبلغ من حزن أبيه عليه السلام عليه لفقده، ويأسه من لقائه، وظنه خروجه من الدنيا بوفاته ما انحنى له ظهره، وأنهك به جسمه، وذهب لبكائه عليه بصره. وليس في زماننا الآن مثل ذلك، ولا سمعنا بنظير له في سواه.

وكان من أمر يونس نبي الله عليه السلام مع قومه وفراره عنهم عند تطاوله المدة في خلافهم عليه واستخفافهم بحقوقه، وغيبته عنهم لذلك عن كل أحد من الناس حتى لم يعلم بشر من الخلق مستقره ومكانه إلا الله تعالى، إذ كان المتولي لحبسه في جوف الحوت في قرار بحر، وقد أمسك عليه رمقه حتى بقي حيا، ثم أخرجه من ذلك إلى تحت شجرة من يقطين، بحيث لم يكن له معرفة بذلك المكان من الأرض ولم يخطر له ببال سكناه. وهذا أيضا خارج عن عادتنا وبعيد من تعارفنا، وقد نطق به القرآن وأجمع عليه أهل الإسلام وغيرهم من أهل الملل والأديان. وأمر أصحاب الكهف نظير لما ذكرناه، وقد نزل القرآن بخبرهم وشرح أمرهم في فرارهم بدينهم من قومهم وحصولهم في كهف ناء عن بلدهم، فأماتهم الله فيه وبقي كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد، ودبر أمرهم في بقاء أجسامهم على حال أجساد الحيوان لا يلحقها بالموت تغير، فكان يقلبهم ذات اليمين وذات شمال كالحي الذي يتقلب في منامه بالطبع والاختيار، ويقيهم حر الشمس التي تغير الألوان، والرياح التي تمزق الأجساد فبقوا على ذلك ثلاث مائة سنة وتسع سنين على ما جاء به الذكر الحكيم. ثم أحياهم فعادوا إلى معاملة قومهم ومبايعتهم، وأنفذوا إليهم بورقهم ليبتاعوا منهم أحل الطعام وأطيبه وأزكاه بحسب ما تضمن القرآن من شرح قصتهم، مع استتار أمرهم عن قومهم وطول غيبتهم عنهم وخفاء أمرهم عليهم. وليس في عادتنا مثل ذلك ولا عرفناه، ولولا أن القرآن جاء بذكر هؤلاء القوم وخبرهم وما ذكرناه من حالهم لتسرعت الناصبة إلى إنكار ذلك كما يتسرع إلى إنكاره الملحدون والزنادقة والدهريون ويحيلون صحة الخبر به، وقد تقول: لن يكون في المقدور.

وقد كان من أمر صاحب الحمار الذي نزل بذكر قصته القرآن، وأهل الكتاب يزعمون أنه نبي الله تعالى، وقد كان {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} فاستبعد عمارتها وعودها إلى ما كانت عليه ورجوع الموتى منها بعد هلاكهم بالوفاة، ف‍  {قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} وبقي طعامه وشرابه بحاله لم يغيره تغيير طبائع الزمان كل طعام وشراب عن حاله، فجرت بذلك العادة في طعام صاحب الحمار وشرابه، وبقي حماره قائما في مكانه لم ينفق ولم يتغير عن حاله حي يأكل ويشرب، لم يضره طول عمره ولا أضعف ولا غير له صفة من صفاته. فلما أحياه  الله تعالى -المذكور بالعجب من حياة الأموات وقد أماته مائة عام- قال له: {انظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}، يريد به: لم يتغير بطول مدة بقائه، {وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا}، يعني: عظام الأموات من الناس كيف نخرجها من تحت التراب {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} فتعود حيوانا كما كانت بعد تفرق أجزائها واندراسها بالموت {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} ذلك وشاهد الأعجوبة فيه {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وهذا منصوص في القرآن مشروح في الذكر والبيان لا يختلف فيه المسلمون وأهل الكتاب، وهو خارج عن عادتنا وبعيد من تعارفنا، منكر عند الملحدين ومستحيل على مذهب الدهريين والمنجمين وأصحاب الطبائع من اليونانيين وغيرهم من المدعين الفلسفة والمتطببين.

على [أن] ما يذهب إليه الإمامية في تمام استتار صاحبها وغيبته ومقامه على ذلك طول مدته أقرب في العقول والعادات [مما] أوردناه من أخبار المذكورين في القرآن. فأي الطريق للمقر بالإسلام إلى إنكار مذهبنا في ذلك، لولا أنهم بعداء من التوفيق مستمالون بالخذلان.

وأمثال ما ذكرناه -وإن لم يكن قد جاء به القرآن- كثير، قد رواه أصحاب الأخبار وسطره في الصحف أصحاب السير والآثار من غيبات ملوك الفرس عن رعاياهم دهرا طويلا لضروب من التدبيرات، لم يعرف أحد لهم فيها مستقرا ولا عثر لهم على موضع ولا مكان، ثم ظهروا بعد ذلك وعادوا إلى ملكهم بأحسن حال، وكذلك جماعة من حكماء الروم والهند وملوكهم. فكم كانت لهم غيبات وأخبار بأحوال تخرج عن العادات لم نتعرض لذكر شيء من ذلك، لعلمنا بتسرع الخصوم إلى إنكاره، لجهلهم ودفعهم صحة الأخبار به وتعويلهم في إبطاله على بعده من عاداتهم وعرفهم. فاعتمدنا القرآن فيما يحتاج إليه منه، وإجماع أهل الإسلام، الإقرار الخصم بصحة ذلك وأنه من عند الله تعالى، واعترافهم بحجة الإجماع. وإن كنا نعرف من كثير منهم نفاقهم بذلك، ونتحقق استبطانهم بخلافه، لعلمنا بإلحادهم في الدين واستهزائهم به، وأنهم كانوا ينحلون بظاهره خوفا من السيف وتصنعا أيضا، لاكتساب الحطام به من الدنيا، ولولا ذلك لصرحوا بما ينتمون وظاهروا بمذاهب الزنادقة التي بها يدينون ولها يعتقدون. ونعوذ بالله من سيء الاتفاق، ونسأله العصمة من الضلال.

- لا تجوز نبوة  المفضول على الفاضل

- الإمامة تشارك النبوة في معنى التقدم والرفعة والرئاسة وفرض الطاعة

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 37:

والجواب عن السؤال الثالث: ما قدمناه في فساد نبوة المفضول على الفاضل، ومشاركة الإمامة للنبوة في معنى التقدم والرفعة والرئاسة وفرض الطاعة، وبما يفسد به علو المفضول على الفاضل في الثواب، ودلالة التعظيم الديني على منزلة المعظم في استحقاق الجزاء بالأعمال، وثبوت علو تعظيم الإمام على الرعية في شرعية الإسلام، وفي كل ملة، وعند أهل كل نحلة وكتاب.

- في الفرق بين المكلم والمتكلم

 - الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 75، 76:

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه على عبد الله بن كلاب، قال الشيخ أيده الله: استدل ابن كلاب على أن معنى المكلم غير معنى المتكلم بان قال: قد يقول القائل فلان مكلم لفلان ولا يصح أن يقول هو متكلم لفلان قال: فتعلم أن لفظة متكلم لا تدل على أكثر من موصوف بالكلام وهر يجري مجرى العالم والمعلم في أنه ليس معنى أحدهما معنى الآخر.

فيقال له ليس بيننا وبينك خلاف في اختلاف المعنيين وأن أحد الوصفين يتعدى والآخر لا يتعدى وإنما الخلاف بيننا وبينك في وجه آخر وهو أن هذا الوصف لابد من أن يتعدى إذا كان الموصوف به حكيما ولم يك محتاجا وإلا بطل المعقول. ألا ترى أنه متى تعرى المتكلم من الآفة والحاجة لم يعقل في الشاهد إلا وهو مكلم وإنما يخرج عن هذا الوصف المتعدي إلى ما يختص به من لفظ متكلم بآفة تعرض له أو لحاجة به إلى فعل الكلام، ولا متكلم غيره كالمغني ليطرب والمحدث نفسه للضجر والمتحفظ لكلامه قد سمعه أو يريد تأليفه أو يكون مألوفا بالنوم الذي يغمر عقله أو الجنة أو ضرب من السوداء وما جانسها مما يغمر العقل فيقع الكلام منه مع عدم القصد، وإذا ثبت أن القديم تعالى ليس بمحتاج ولا يصح عليه تعلق الآفات به فقد ثبت أنه لا يكون متكلما إلا وهو مكلم فلو جاز خلاف ذلك مع كون الحقيقة في الشاهد على ما بيناه لجاز قلب الحقائق كلها وهو محال فاسد.

على أنه يقال له: أليس قد ثبت أن المكلم لا يكون مكلما إلا بكلام كما أن المحرك لا يكون محركا إلا بحركة ولا مسكنا إلا بسكون، فلا يخلو أن القديم تعالى في كلامه لموسى بن عمران عليه السلام من إحدى منزلتين إما أن يكون مكلما له بكلامه الذي هو عنده قديم فيلزم أن يكون فيما لم يزل مكلما له كما أنه لو حركه بحركة لم تزل لوجب أن يكون فيما لم يزل له محركا، وفي هذا نقض مذهبه الذي اجتباه لنفسه في الفرق بين المكلم والمتكلم وإثبات القديم متكلما دون أن يكون مكلما، أو يكون مكلما له بكلام غير كلامه القديم فيكون مكلما بالكلام المحدث وذلك أيضا نقض مذهبه لقوله إنه لا يكون مكلما إلا بكلامه ومحال أن يكون كلامه محدثا.

- في معصية داود

- نبينا خاصة والأئمة من ذريته لم يقع منهم صغيرة بعد النبوة والإمامة من ترك واجب ولا مندوب إليه

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 102، 104:

فصل: ومن كلامه أدام الله عزه أيضا: سئل الشيخ أدام الله حراسته عن معصية داود عليه السلام ما كانت؟.

فقال: فيها جوابان: أحدهما أن الله سبحانه لما جعله خليفة في الأرض بقوله: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أراد سبحانه وتعالى أن يهذبه ويؤدبه لأمر علمه منه فجعل ذلك بملائكته دون البشر وأهبط عليه الملكين في صورة بشرين، فقالا له: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} فقال داود عليه السلام للمدعي حاكما على المدعى عليه من غير أن يسأل المدعى عليه عن صحة دعوى المدعي {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}.

وقد كان الحكم يوجب أن لا يعجل بذلك حتى يسأل المدعى عليه فيقول له: ما تقول في هذه الدعوى؟ فلما عجل بالحكم قبل الاستثبات كان ذلك منه صغيرة ووجب عليه التوبة منها وتبين ذلك في الحال ففعل ما وجب عليه مما وصفناه، قال الله عز وجل {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.

والجواب الآخر: حكاه الناصر فأخبر أن داود عليه السلام ذكرت له امرأة أوريا بن حنان فسأله أن ينزل له عنها ليتزوج بها بعد انقضاء عدتها، وكان ذلك مباحا في شرعه ، فامتنع عليه أوريا ورغب بامرأته على جزع لحقه من الامتناع عليه ورهبة حصلت له منه. وكانت الخطيئة من داود عليه السلام أن طلب ذلك من أوريا بن حنان وهو نبي وملك مطاع وأوريا رعية وتابع، ولو سأل أوريا ذلك مثله من الرعية لما كان بسؤاله مخطئا لأنه لم يكن يحدث له عند الامتناع من الجزع والخوف والهلع ما حدث له عند الامتناع من نبيه وملكه ورئيسه داود عليه السلام، وهذا الجواب غير بعيد، والله نسأل التوفيق.

قال الشيخ أدام الله عزه: فإن قال قائل: أليس قد نطق القرآن بوقوع المعصية من نبي من أنبياء الله سبحانه في حال نبوته، وهذا خلاف مذهبك في ارتفاع المعاصي عن الأنبياء كلهم والأئمة عليه السلام لأنهم على أصلك معصومون من الذنوب والخطأ في الدين.

فالجواب: أن الذي أذهب إليه في هذا الباب أنه لا يقع من الأنبياء عليهم السلام ذنب بترك واجب مفترض، ولا يجوز عليهم خطأ في ذلك ولا سهو يوقعهم فيه وإن جاز منهم ترك نفل ومندوب إليه على غير القصد والتعمد، ومتى وقع ذلك منهم عوجلوا بالتنبيه عليه، فيزولون عنه في أسرع مدة وأقرب زمان.

فأما نبينا صلى الله عليه وآله خاصة والأئمة من ذريته عليه السلام فلم يقع منهم صغيرة بعد النبوة والإمامة من ترك واجب ولا مندوب إليه، لفضلهم على من تقدمهم من الحجج عليهم السلام وقد نطق القرآن بذلك وقامت الدلائل منه ومن غيره على ذلك للائمة من ذريته عليهم السلام قال الله تعالى وقد ذكر معصية آدم عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} فسمى المعصية غواية وذلك حكم كل معصية، إذ كان فاعلها يخيب بفعلها من ثواب تركها، وكانت الغواية هي الخيبة في وجه من الوجوه، وعلى مفهوم اللغة، قال الشاعر:

ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وقال الله سبحانه في آية الدين عند ذكر الشهود: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} يريد لئلا تنسى إحداهما فسمى النسيان ضلالا، وذلك معروف في اللغة، فلما تقرر أن كل معصية غواية وكل نسيان ضلال دل قوله سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} على أنه قد نفى عن نبيه عليه واله السلام المعامي على كل وجه والنسيان من كل وجه، وهذا بين لمن تأمله.

قال الشيخ أدام الله عزه: وأقول: إن ترك النفل قد يسمى معصية كما أن فعله قد يسمى طاعة لاسيما إذا وقع ذلك من نبي أو وصي أو صفي فإنهم لمنزلتهم عند الله سبحانه يؤاخذهم بالقليل من الفعل ولا يعذرهم فيه ليؤدبهم بذلك ويهذبهم ويزجرهم عن مثله في المستقبل، ولو وقع من غيرهم، ما كان ليؤاخذهم به ولا يعجل لهم الأدب عليه على ما قدمت ذكره.

- في حقيقة الأشباح التي رآها آدم

- في الأسماء المكتوبة على العرش

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 37 ، 41:

المسألة الثانية: في الأشباح والذر والأرواح ما قوله أدام الله تأييده في معنى الأخبار المروية عن الأئمة الهادية عليهم السلام في الأشباح، وخلق الله تعالى الأرواح قبل خلقه آدم عليه السلام بألفي عام، وإخراج الذرية بن صلبه على صور الذر؟ ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"؟

الجواب: وبالله التوفيق، إن الأخبار بذكر الأشباح تختلف ألفاظها وتتباين معانيها، وقد بنت الغلاة عليها أباطيل كثيرة، وصنفوا فيها كتبا لغوا فيها وهذوا فيما أثبتوه منه في معانيها، وأضافوا ما حوتة الكتب إلى جماعة من شيوخ أهل الحق وتخرصوا الباطل بإضافتها إليهم، من جملتها كتاب سموه  (كتاب الأشباح والأظلة) ونسبوا تأليفه إلى محمد بن سنان. ولسنا نعلم صحة ما ذكروه في هذا الباب عنه، فإن كان صحيحا فإن ابن سنان قد طعن عليه، وهو متهم بالغلو. فإن صدقوا في إضافة هذا الكتاب إليه فهو ضال بضلاله عن الحق، وإن كذبوا فقد تحملوا أوزار ذلك.

- الصحيح من حديث الأشباح التي رآها آدم على العرش الرواية التي جاءت عن الثقات بأن آدم رأى على العرش أشباحا يلمع نورها فسأل الله تعالى عنها فأوحى إليه إنها أشباح رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وأعلمه أن لولا الأشباح التي رآها ما خلقه ولا خلق سماء ولا أرضا

- الوجه فيما أظهره الله تعالى من الأشباح والصور لآدم أن دله على تعظيمهم وتبجيلهم وجعل ذلك إجلالا لهم ومقدمة لما يفترضه من طاعتهم ودليلا على أن مصالح الدين والدنيا لا تتم إلا بهم ولم يكونوا في تلك الحال صورا محياة ولا أرواحا ناطقة

والصحيح من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقات: بأن آدم عليه السلام رأى على العرش أشباحا يلمع نورها، فسأل الله تعالى عنها، فأوحى إليه: "إنها أشباح رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم" وأعلمه أن لولا الأشباح التي رآها ما خلقه ولا خلق سماء ولا أرضا.

والوجه فيما أظهره الله تعالى من الأشباح والصور لأدم عليه السلام أن دله على تعظيمهم وتبجيلهم، وجعل ذلك إجلالا لهم ومقدمة لما يفترضه من طاعتهم، ودليلا على أن مصالح الدين والدنيا لا تتم إلا بهم. ولم يكونوا في تلك الحال صورا محياة، ولا أرواحا ناطقة، لكنها كانت صورا على مثل صورهم في البشرية تدل على ما يكونون عليه في المستقبل من الهيئة، والنور الذي جعله عليهم يدل  على نور الدين بهم، وضياء الحق بحججهم. وقد روي أن أسماءهم كانت مكتوبة إذ ذاك على العرش، وأن آدم عليه السلام لما تاب إلى الله عز وجل وناجاه بقبول توبته سأله بحقهم عليه ومحلهم عنده  فأجابه. وهذا غير منكر في العقول ولا مضاد للشرع المعقول، وقد رواه الصالحون الثقات المأمونون، وسلم لروايته طائفة الحق، ولا طريق إلى إنكاره، والله ولي التوفيق.

- ظهور صورة شخص النبي وأشخاص أهل بيته لآدم قبل إخراجهم إلى العالم هو مثل بشارة الأنبياء أجمعهم في الكتب الأولى بظهور النبي قبل إخراجه إلى العالم بالوجود ولك إجلالا من الله تعالى وإعظاما له  وأن يأخذ العهد له على الأنبياء والأمم كلها

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 41، 42:

فصل: البشارة بالنبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام. ومثل ما بشر به آدم عليه السلام من تأهيله نبيه عليه وآله السلام لما أهله له، وتأهيل أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام لما أهلهم له ، وفرض عليه تعظيمهم وإجلالهم، كما بشر به في الكتب الأولى من بعثه لنبينا صلى الله عليه وآله، فقال في محكم كتابه: {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وقوله تعالى مخبرا عن المسيح عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. وقوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} يعني رسول الله صلى الله عليه وآله. فحصلت البشائر به من الأنبياء أجمعهم قبل إخراجه إلى العالم بالوجود، وإنما أراد جل اسمه بذلك إجلاله وإعظامه، وأن يأخذ العهد له على الأنبياء والأمم كلها، فلذلك أظهر لآدم عليه السلام صورة شخصه وأشخاص أهل بيته عليهم السلام، وأثبت أسماءهم له ليخبره بعاقبتهم ويبين له عن محلهم عنده ومنزلتهم لديه. ولم يكونوا في تلك الحال أحياء ناطقين ولا أرواحا مكلفين، وإنما كانت أشباحهم دالة عليهم حسب ما ذكرناه.

- في إخراج الذرية من صلب آدم على صورة الذر

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 44، 47:

فصل: حديث الذر: أما الحديث في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام على صورة الذر، فقد جاء الحديث بذلك على اختلاف ألفاظه ومعانيه. والصحيح أنه أخرج الذرية من ظهره كالذر فملأ بهم الأفق وجعل على بعضهم نورا لا يشوبه ظلمة، وعلى بعضهم ظلمة لا يشوبها نور، وعلى بعضهم نورا وظلمة، فلما رآهم ادم عليه السلام عجب من كثرتهم وما عليهم من النور والظلمة، فقال: أيا رب، ما هؤلاء؟  قال الله عز وجل له: "هؤلاء ذريتك" يريد تعريفه كثرتهم وامتلاء الآفاق بهم، وأن نسله يكون في الكثرة كالذر الذي رآه ليعرفه قدرته، ويبشره باتصال نسله وكثرتهم. فقال آدم عليه السلام: يا رب، مالي أرى على بعضهم نورا لا ظلمة فيه، وعلى بعضهم ظلمة لا يشوبها نور، وعلى بعضهم ظلمة ونورا؟ فقال تبارك وتعالى: "أما الذين عليهم النور منهم بلا ظلمة فهم أصفيائي من ولدك، الذين يطيعوني ولا يعصوني في شيء من أمري، فأولئك سكان الجنة. وأما الذين عليهم ظلمة لا يشوبها نور فهم الكفار من ولدك الذين يعصوني ولا يطيعوني في شيء من أمري، فهؤلاء حطب جهنم. وأما الذين عليهم نور وظلمة فأولئك الذين يطيعوني من ولدك ويعصوني، فيخلطون أعمالهم السيئة بأعمال حسنة، فهؤلاء أمرهم إلي، إن شئت عذبتهم فبعدلي، وإن شئت عفوت عنهم فبفضلي". فأنبأه الله تعالى بما يكون من ولده، وشبههم بالذر الذي أخرجه من ظفره، وجعله علامة على كثرة ولده.

ويحتمل أن يكون ما أخرجه من ظهره أصول أجسام ذريته دون أرواحهم، وإنما فعل الله تعالى ذلك ليدل آدم عليه السلام على العاقبة منه، ويظهر له من قدرته وسلطانه وعجائب صنعه، وأعلمه بالكائن قبل كونه ليزداد آدم عليه السلام يقينا بربه، ويدعوه ذلك إلا التوفر على طاعته، والتمسك بأوامره، والاجتناب لزواجره.

فأما الأخبار التي جاءت بان ذرية آدم عليه السلام استنطقوا في الذر فنطقوا، فاخذ عليهم العهد فأقروا، فهي من أخبار التناسخية، وقد خلطوا فيها ومزجوا الحق بالباطل. والمعتمد من إخراج الذرية ما ذكرناه -دون ما عداه- مما يستمر القول به على الأدلة العقلية والحجج السمعية، وإنما هو تخليط لا يثبت به أثر على ما وصفناه.

- بحث في معنى  قوله تعالى قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا في الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 47، 52:

فصل: شبهة في إنطاق الذر فإن تعلق متعلق بقوله تبارك اسمه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فظن بظاهر هذا القول تحقق ما رواه أهل التناسخ والحشوية والعامة في إنطاق  الذرية وخطابهم، وأنهم كانوا أحياء ناطقين.

فالجواب عنه: أن هذه الآية من المجاز في اللغة، كنظائرها مما هو مجاز واستعارة، والمعنى فيها: أن الله تبارك وتعالى أخذ من كل مكلف يخرج من ظهر آدم، وظهور ذريته العهد عليه بربوبيته من حيث أكمل عقله ودله بآثار الصنعة على حدوثه، وأن له محدثا أحدثه لا يشبهه، يستحق العبادة منه بنعمه عليه. فذلك هو أخذ العهد منهم، وآثار الصنعة فيهم هو إشهاده لهم على أنفسهم بان الله تعالى ربهم. وقوله تعالى: {قَالُواْ بَلَى} يريد به أنهم لم يمتنعوا من لزوم آثار الصنعة فيهم ودلائل حدوثهم اللازمة لهم، وحجة العقل عليهم في إثبات صانعهم، فكأنه سبحانه لما ألزمهم الحجة بعقولهم على حدوثهم ووجود محدثهم قال لهم: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ}؟ فلما يقدروا على الامتناع من لزوم دلائل الحدوث لهم كانوا كالقائلين: {بَلَى شَهِدْنَا}.

وقوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}. ألا ترى أنه احتج عليهم بما لا يقدرون يوم القيامة أن يتأولوا في إنكاره ولا يستطيعون؟ وقد قال سبحانه: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} ولم يرد أن المذكور يسجد كسجود البشر في الصلاة، إنما أراد أنه غير ممتنع من فعل الله، فهو كالمطيع لله، وهو معبر عنه بالساجد. قال الشاعر:

بجمع تضل البلق في حجراته      ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

يريد أن الحوافر تذل الأكم بوطئها عليها.

وقال الآخر:

سجودا له غسان يرجون فضله      وترك ورهط الأعجمين وكابل

يريد أنهم مطيعون له، وعبر عن طاعتهم بالسجود.

وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. وهو سبحانه لم يخاطب السماء بكلام، ولا السماء قالت قولا مسموعا، وإنما أراد أنه عمد  إلى السماء فخلقها ولم يتعذر عليه صنعها، فكأنه سبحانه لما خلقها قال لها وللأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} فلما انفعلت بقدرته كانتا كالقائل: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.

ومثله قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} والله تعالى يجل عن خطاب النار، وهي مما لا يعقل ولا يتكلم، وإنما عبر عن سعتها، وإنها لا تضيق بمن يحلها من المعاقبين. وذلك كله على مذهب أهل اللغة وعادتهم في المجاز، ألا ترى إلى قول الشاعر:

وقالت له العينان سمعا وطاعة      وأسبلتا بالدر لمــــا يثقب

والعينان لم تقولا قولا مسموعا، ولكنه أراد منهما البكاء، فكانتا كما أراد من غير تعذر عليه. ومثله قول عنترة:

فازور من وقع القنا بلبانه  وشكا إلي بعبرة وتحمحم

والفرس لا يشتكي قولا، لكنه ظهر منه علامة الخوف والجزع فسمى ذلك قولا. ومنه قول الآخر:

شكا إلي جملي طول السرى

والجمل لا يتكلم، لكنه لما ظهر منه النصب والوصب لطول السرى عبر عن هذه العلامة بالشكوى التي تكون بالنطق والكلام. ومنه قولهم أيضا: امتلأ الحوض وقال: قطني حسبك منى قد ملأت بطني. والحوض لم يقل قطني، لكنه لما امتلأ بالماء عبر عنه بأنه قال: حسبي.

ولذلك أمثال كثيرة في منثور كلام العرب ومنظومه، وهو من الشواهد على ما ذكرناه في تأويل الآية، والله تعالى نسأل التوفيق.