عقائد الشيعة الإمامية >> الشيخ المفيد

 

 

عقائد الشيخ المفيد قدس سره

العدل

 

- لا بد في كل زمان من إمام يحتج الله تعالى به على عباده المكلفين ويكون بوجوده تمام المصلحة في الدين

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 39:

3- باب ما اتفقت الإمامية فيه على خلاف المعتزلة فيما اجتمعوا عليه من القول بالإمامة

اتفق أهل الإمامة على أنه لا بد في كل زمان من إمام موجود يحتج الله عز وجل به على عباده المكلفين، ويكون بوجوده تمام المصلحة في الدين.

وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وجواز خلو الأزمان الكثيرة من إمام موجود وشاركهم في هذا الرأي وخالف الإمامية فيه الخوارج والزيدية والمرجئة والعامة المنتسبون إلى الحديث.

 

 

- الله عز وجل عدل كريم خلق الخلق لعبادته وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته

- الله عز وجل عم عباده بهدايته بدأهم بالنعم وتفضل عليهم بالإحسان لم يكلف أحدا إلا دون الطاقة ولم يأمره إلا بما جعل له عليه الاستطاعة

- الله عز وجل لا عبث في صنعه ولا تفاوت في خلقه لا قبيح في فعله جل عن مشاركة عباده في الأفعال وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال

- الله عز وجل لا يعذب أحدا إلا على ذنب فعله ولا يلوم عبدا إلا على قبيح صنعه

- الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة فإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 57، 58:

26- القول في العدل والخلق

أقول: إن الله عز وجل عدل كريم، خلق الخلق لعبادته وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وعمهم بهدايته، بدأهم بالنعم وتفضل عليهم بالإحسان، لم يكلف أحدا إلا دون الطاقة، ولم يأمره إلا بما جعل له عليه الاستطاعة.

لا عبث في صنعه ولا تفاوت في خلقه لا قبيح في فعله، جل عن مشاركة عباده في الأفعال، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال.

لا يعذب أحدا إلا على ذنب فعله، ولا يلوم عبدا إلا على قبيح صنعه.

لا يظلم مثقال ذرة فإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما.

وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامية وبه تواترت الآثار عن آل محمد صلى الله عليه وآله.

وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلا ضرارا منها وأتباعه، وهو قول كثير من المرجئة وجماعة من الزيدية والمحكمة ونفر من أصحاب الحديث، وخالف فيه جمهور العامة وبقايا ممن عددناه، وزعموا أن الله تعالى خلق أكثر خلقه لمعصيته، وخص بعض عباده بعبادته، ولم يعمهم بنعمته وكلف أكثرهم ما لا يطيقون من طاعته، وخلق أفعال جميع بريته، وعذب العصاة على ما فعله فيهم من معصيته، وأمر بما لم يرد ونهى عما أراد، وقضى بظلم العباد وأحب الفساد وكره من أكثر عباده الرشاد، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

- الخلق يفعلون ويحدثون ويخترعون ويصنعون ويكتسبون ولا يطلق عليهم بأنهم يَخلِقون ولا خالقون

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 58، 59:

27- القول في كراهة إطلاق لفظ (خالق) على أحد من العباد

وأقول: إن الخلق يفعلون ويحدثون ويخترعون ويصنعون ويكتسبون، ولا أطلق القول عليهم بأنهم يخلقون ولا أقول إنهم خالقون، ولا أتعدى ذكر ذلك فيما ذكر الله تعالى، ولا أتجاوز به مواضعه من القرآن، وعلى هذا القول إجماع الإمامية.

والزيدية والبغداديين من المعتزلة وأكثر المرجئة وأصحاب الحديث. وخالف فيه البصريون من المعتزلة وأطلقوا على العباد أنهم خالقون، فخرجوا بذلك من إجماع المسلمين.

- الله تعالى لا يفعل بعباده ما داموا مكلفين إلا أصلح الأشياء لهم في دينهم ودنياهم ولا يدخرهم صلاحا ولا نفعا ومن أغناه فقد فعل به الأصلح في التدبير وكذلك من أفقره ومن أصحه ومن أمرضه

- ما أوجبه أصحاب اللطف من اللطف إنما وجب من جهة الجود والكرم لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه وأنه لو لم يفعله لكان ظالما

- من علم الله تعالى أنه إذا خلقه وكلفه لم يؤمن ولا آمن أحد من الخلق لخلقه أو بقائه أو تكليفه أو فعل من أفعاله ولا انتفع به في دينه منتفع لم يجز أن يخلقه ومن علم أنه إن أبقاه تاب من معصيته لم يجز أن يخترمه

- عدل الله تعالى وجوده وكرمه يوجب ما وصف هنا ويقضي به ولا يجوز منه خلافه لاستحالة تعلق وصف العبث به أو البخل والحاجة

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 59، 60:

28- القول في اللطف والأصلح

وأقول: إن الله تعالى لا يفعل بعباده ما داموا مكلفين إلا أصلح الأشياء لهم في دينهم ودنياهم وإنه لا يدخرهم صلاحا ولا نفعا، وإن من أغناه فقد فعل به الأصلح في التدبير، وكذلك من أفقره ومن أصحه ومن أمرضه فالقول فيه كذلك.

وأقول: إن ما أوجبه أصحاب اللطف من اللطف إنما وجب من جهة الجود والكرم لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه وأنه لو لم يفعله لكان ظالما.

وأقول: إن من علم الله تعالى أنه إذا خلقه وكلفه لم يؤمن ولا آمن أحد من الخلق لخلقه أو بقائه أو تكليفه أو فعل من أفعاله ولا انتفع به في دينه منتفع لم يجز أن يخلقه، ومن علم أنه إن أبقاه تاب من معصيته لم يجز أن يخترمه، وإن عدل الله جل اسمه وجوده وكرمه يوجب ما وصفت ويقضى به، ولا يجوز منه خلافه لاستحالة تعلق وصف العبث به أو البخل والحاجة، وهذا مذهب جمهور الإمامية.

والبغداديين كافة من المعتزلة، وكثير من المرجئة والزيدية والبصريون من المعتزلة على خلافه والمجبرة توافقهم في الخلاف عليه.

- لم يكن جائزا ابتداء الخلق في الجنة على وجه التنعيم من غير تكليف

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 60:

29- القول في ابتداء الخلق في الجنة

وأقول: إنه لم يكن جائزا ابتداء الخلق في الجنة على وجه التنعيم من غير تكليف، لأنه لو كان يكون اقتطاعا لمن علم الله تعالى منه أنه إن كلفه أطاع على النعيم المستحق على الأعمال الذي هو أعلى وأجل وأسنى من التفضل بالتنعيم، والله سبحانه أكرم من أن يقتطع أحدا عن نفع حسن أو يقتصر به على فضل غيره أفضل منه له وأصلح في التدبير، لأن ذلك لا يقع إلا من جاهل يحسن ذلك أو محتاج إلى منعه أو بخيل، والله تعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا. وهذا مذهب جمهور الإمامية. وقد جاءت به آثار عن الأئمة عليهم السلام.

والبغداديون من المعتزلة يوافقون فيه، والبصريون منهم يخالفون الجماعة عليه، ويوافقهم في هذا الخلاف المجبرة والمشبهة.

- الله جل جلاله عدل كريم لا يعذب أحدا إلا على ذنب اكتسبه أو جرم اجترمه أو قبيح نهاه عنه فارتكبه

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 61:

31- القول في أن الله لا يعذب إلا على ذنب أو على فعل قبيح

وأقول: إن الله جل جلاله عدل كريم لا يعذب أحدا إلا على ذنب اكتسبه أو جرم اجترمه أو قبيح نهاه عنه فارتكبه.

وهذا مذهب سائر أهل التوحيد سوى الجهم بن صفوان وعبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي. فأما الجهم بن صفوان فإنه كان يزعم أن الله يعذب من اضطره إلى المعصية ولم يجعل له قدرة عليها ولا على تركها من الطاعة، وأما عبد السلام الجبائي فإنه كان يزعم أن العبد قد يخلو من فعل الخير والقبيح معا ويخرج عن الفعل والترك جميعا فيعذبه الله سبحانه على إن لم يفعل الواجب وإن لم يكن بخروجه منهما فعل شيئا أو فعل به شيء، وهذا قول لم يسبقه إليه أحد من أهل التوحيد وهو في القبح كمذهب جهم وفي بعض الوجوه أعظم قبحا منه.

- جهة إعجاز القرآن هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن المعارضة للنبي بمثله في النظام عند تحديه لهم وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله وإن كان في مقدورهم دليلا على نبوته واللطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 63:

34 - القول في جهة إعجاز القرآن

وأقول: إن جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن المعارضة للنبي صلى الله عليه وآله بمثله في النظام عند تحديه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله وإن كان في مقدورهم دليلا على نبوته صلى الله عليه وآله، واللطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان، وهذا من أوضح برهان في الإعجاز وأعجب بيان. وهو مذهب النظام وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال.

- النبوة تفضل من الله تعالى على من اختصه بكرامته لعلمه بحميد عاقبته واجتماع الخلال الموجبة في الحكمة بنبوته في التفضيل على من سواه وأما التعظيم على القيام بالنبوة والتبجيل وفرض الطاعة فذلك يستحق بعلمه الذي ذكر

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 63، 64:

35 - القول في النبوة أهي تفضل أو استحقاق؟

وأقول: إن تعليق النبوة تفضل من الله تعالى على من اختصه بكرامته لعلمه بحميد عاقبته واجتماع الخلال الموجبة في الحكمة بنبوته في التفضيل على من سواه.

فأما التعظيم على القيام بالنبوة والتبجيل وفرض الطاعة فذلك يستحق بعلمه الذي ذكرناه، وهذا مذهب الجمهور من أهل الإمامة وجميع فقهائنا وأهل النقل منها، وإنما خالف فيه أصحاب التناسخ المعتزين إلى الإمامية وغيرهم، ووافقهم على ذلك من متكلمي الإمامية بنو نوبخت ومن اتبعهم بأسره من المنتمين إلى الكلام. وجمهور المعتزلة على القول بالتفضل فيها وأصحاب الحديث بأسرهم على مثل هذا المقال.

- تكليف الإمامة في معنى التفضل به من الله عز وجل على الإمام كالنبوة وأما التعظيم المفترض له والتبجيل والطاعة مستحق بعزمه على القيام بما كلفه من الأعمال وعلى أعماله الواقعة منه حالا بعد حال

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 64:

36 - القول في الإمامة، أهي تفضل من الله عز وجل أم استحقاق؟

وأقول: إن تكليف الإمامة في معنى التفضل به على الإمام كالنبوة على ما قدمت من المقال والتعظيم المفترض له والتبجيل والطاعة مستحق بعزمه على القيام بما كلفه من الأعمال وعلى أعماله الواقعة منه أيضا حالا بعد حال، وهذا مذهب الجمهور من الإمامية على ما ذكرت في النبوة، وقد خالف فيه منهم من قدمت ذكره. ومعي فيه جمهور المعتزلة وسائر أصحاب الحديث.

- إذا كان في علم الله تعالى أن العبد يؤمن إن أبقاه بعد كفره فلا يجوز أن يخترمه فيما إذا لم ينقض توبته ويرجع في كفر بعد تركه ويجوز بعد الإمهال فيمن أنظر فعاد إلى العصيان

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 109:

112 - القول في علم الله تعالى أن العبد يؤمن إن أبقاه بعد كفره، أو يتوب إن أبقاه من فسقه، أيجوز أن يخترمه دون ذلك أم لا؟

وأقول: إن ذلك غير جايز فيمن لم ينقض توبته ويرجع في كفر بعد تركه، وجايز بعد الامهال فيمن انظر فعاد إلى العصيان، لأنه لو وجب ذلك دائما أبدا لخرج عن الحكمة إلى العبث ولم يكن للتكليف أجر.

وهذا مذهب أبي القاسم الكعبي وجماعة كثيرة من أصحاب الأصلح، ويخالف فيه البصريون من المعتزلة ومانعوا اللطف منهم وساير المجبرة.

- العوض على الألم لمن يستصلح به غيره مستحق على الله تعالى في العدل وإن كان واجبا في وجوده لمن يجوز أن يفعله به من المؤمنين فأما ما يستصلح به غير المؤمنين من الآلام فلا بد من التعويض له عليه

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 109، 100:

113 - القول في الألم للمصلحة دون العوض

وأقول: إن العوض على الألم لمن يستصلح به غيره مستحق على الله تعالى في العدل وإن كان واجبا في وجوده لمن يجوز أن يفعله به من المؤمنين. فأما ما يستصلح به غير المؤمنين من الآلام فلا بد من التعويض له عليه وإلا كان ظلما، ولهذا قلت: (إن إيلام الكافر لا يستحق عليه عوضا لأنه لا يقع إلا عقابا له واستصلاحا له في نفسه وإن جاز أن يصلح به غيره).

وهذا مذهب من نفى الاحباط من أهل العدل والإرجاء وعلى خلافه البغداديون من المعتزلة والبصريون وساير المجبرة.

وقد جمعت فيه بين أصول يختص بي جمعها دون من وافقني في العدل والإرجاء بما كشف لي النظر عن صحته ولم يوحشني من خالف فيه إذ بالحجة لي أتم أنس ولا وحشة من حق والحمد لله.

- واجب في جود الله تعالى وكرمه تعويض البهائم على ما أصابها من الآلام في دار الدنيا سواء كان ذلك الألم من فعله جل اسمه أم من فعل غيره

- الاقتصاص من البهائم غير جائز

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 110:

114 - القول في تعويض البهائم واقتصاص بعضها من بعض

وأقول: إنه واجب في جود الله تعالى وكرمه تعويض البهائم على ما أصابها من الآلام في دار الدنيا سواء كان ذلك الألم من فعله جل اسمه أم من فعل غيره لأنه إنما خلقها لمنفعتها فلو حرمها العوض على ألمها لكان قد خلقها لمضرتها، والله يجل عن خلق شيء لمضرته وإيلامه لغير نفع يوصله إليه، لأن ذلك لا يقع إلا من سفيه ظالم، والله سبحانه عدل كريم حكيم عالم.

فأما الاقتصاص منها فغير جايز لأنها غير مكلفة ولا مأمورة ولا عالمة بقبح القبيح، والقصاص ضرب من العقوبة وليس بحكيم من عاقب غير مكلف ولا منته عن فعل القبيح. ولو جاز الاقتصاص من بعضها لبعض لجاز عقابها على جناياتها على بعض ولوجب ثوابها على إحسانها إلى ما أحسنت إليه من بعض وذلك كله محال. وهذا مذهب كثير من أهل العدل وقد خالف فيه بعضهم وجماعة ممن سواهم.

- نعيم أهل الجنة على ضربين ضرب منه تفضل محض لا يتضمن شيئا من الثواب وهو ما يتنعم به الأطفال والبله والبهائم والضرب الآخر تفضل من جهة وثواب من أخرى وهو تنعيم المكلفين وليس في نعيم أهل الجنة ثواب وليس بتفضل على شيء من الوجوه

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 111:

115 - القول في نعيم أهل الجنة أهو تفضل أو ثواب؟

وأقول: إن نعيم أهل الجنة على ضربين: فضرب منه تفضل محض لا يتضمن شيئا من الثواب، والضرب الآخر تفضل من جهة وثواب من أخرى. وليس في نعيم أهل الجنة ثواب وليس بتفضل على شيء من الوجوه، فأما التفضل منه المحض فهو ما يتنعم به الأطفال والبله والبهائم، إذ ليس لهؤلاء أعمال كلفوها، فوجب من الحكمة إثابتهم عليها.

وأما الضرب الآخر فهو تنعيم المكلفين وإنما كان تفضلا عليهم لأنهم لو منعوها ما كانوا مظلومين، إذ ما سلف لله تعالى عندهم من نعمه وفضله وإحسانه يوجب عليهم أداء شكره وطاعته وترك معصيته، فلو لم يثبهم بعد العمل ولا ينعمهم لما كان لهم ظالما فلذلك كان ثوابه لهم تفضلا.

وأما كونه ثوابا فلأن أعمالهم أوجبت في جود الله تعالى وكرمه تنعمهم وأعقبتهم الثواب وأثمرته لهم فصار ثوابا من هذه الجهة وإن كان تفضلا من جهة ما ذكرناه، وهذا مذهب كثير من أهل العدل من المعتزلة والشيعة، ويخالف فيه البصريون من المعتزلة والجهمية ومن اتبعهم من المجبرة.

- الله تعالى جل اسمه يثيب بعض خلقه على طاعتهم في الدنيا ببعض مستحقهم من الثواب ولا يصح أن يوفيهم أجورهم فيها وقد يعاقب بعض خلقه في الدنيا على معاصيهم فيها ببعض مستحقهم على خلافهم له وبجميعه أيضا

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 112:

116 - القول في ثواب الدنيا وعقابها وتعجيل المجازاة فيها

وأقول: إن الله تعالى جل اسمه يثيب بعض خلقه على طاعتهم في الدنيا ببعض مستحقهم من الثواب، ولا يصح أن يوفيهم أجورهم فيها لما يجب من إدامة جزاء المطيعين، وقد يعاقب بعض خلقه في الدنيا على معاصيهم فيها ببعض مستحقهم على خلافهم له وبجميعه أيضا، لأنه ليس كل معصية له يستحق عليها عذابا دائما كما ذكرنا في الطاعات، وقد قال الله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). وقال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} فوعدهم بضروب من الخيرات في الدنيا على الأعمال الصالحات. وقال في بعض من عصاه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. وقال في آخرين منه {لنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى}، {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ}. وجاء الخبر مستفيضا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:"حمى يوم كفارة ذنوب سنة" وقال:"صلة الرحم منسأة في الأجل". وهذا مذهب جماعة من أهل العدل وتفصيله على ما ذكرت في تعجيل بعض الثواب وكل العقاب وبعضه مذهب جمهور الشيعة وكثير من المرجئة.

- النصر من الله تعالى على ضربين أحدهما إقامة الحجة وإيضاح البرهان على قول المحق والضرب الثاني تثبيت نفوس المؤمنين في الحروب وعند لقاء الخصوم وإنزال السكينة عليهم وتوهين أمر أعدائهم

- الخذلان على ضربين كل واحد منهما نقيض ضده من النصر وعلى خلافه في الحكمة

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 115، 116:

121 - القول في النصر والخذلان

وأقول: إن النصر من الله تعالى يكون على ضربين: أحدهما إقامة الحجة وإيضاح البرهان على قول المحق، وذلك أوكد الألطاف في الدعاء إلى اتباع المحق، وهو النصر الحقيقي قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}. وقال جل اسمه: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} فالغلبة هيهنا بالحجة خاصة وما يكون من الانتصار في العاقبة لوجود كثير من رسله قد قهرهم الظالمون وسفك دمائهم المبطلون.

والضرب الثاني تثبيت نفوس المؤمنين في الحروب وعند لقاء الخصوم وإنزال السكينة عليهم، وتوهين أمر أعدائهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وإلزام الخوف والجزع أنفسهم، ومنه الإمداد بالملائكة وغيرهم من الناصرين بما يبعثهم إليه من ألطافه وأسباب توفيقاته على ما اقتضته العقول ودل عليه الكتاب المسطور.

والخذلان أيضا على ضربين: كل واحد منهما نقيض ضده من النصر وعلى خلافه في الحكمة. وهذا مذهب أهل العدل كافة من الشيعة والمعتزلة والمرجئة والخوارج والزيدية.

والمجبرة بأجمعهم على خلافه لأنهم يزعمون أن النصر هو قوة المنصور والخذلان هو استطاعة العاصي المخذول، وإن كان لهم بعد ذلك فيها تفصيل.

- الطبع من الله تعالى على القلوب والختم بمعنى واحد وهو الشهادة عليها بأنها لا تعي الذكر مختارة ولا تعتمد على الهدى مؤثرة لذلك غير مضطرة

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 116، 117:

122 - القول في الطبع والختم

وأقول: إن الطبع من الله تعالى على القلوب والختم بمعنى واحد وهو الشهادة عليها بأنها لا تعي الذكر مختارة ولا تعتمد على الهدى مؤثرة لذلك غير مضطرة، وذلك معروف في اللسان، ألا ترى إلى قولهم: (ختمت على فلان بأنه لا يفلح) يريدون بذلك قطعت بذلك شهادة عليه وأخبرت به عنه وأن الطبع على الشيء إنما هو علامة للطابع عليه. وإذا كانت الشهادة من الله تعالى على الشيء علامة لعباده جاز أن يسمى طبعا وختما. وهذا مستمر على أصول أهل العدل، ومذاهب المجبرة بخلافه.

- فعل الله تعالى الموت بالإحياء لينقلهم من دار العمل والامتحان إلى دار الجزاء والمكافأة

- ليس يميت الله عبدا من عبيده إلا وإماتته أصلح له من بقائه ولا يحييه إلا وحياته أصلح له من موته وكل ما يفعله الله تعالى بخلقه فهو أصلح لهم وأصوب في التدبير

- قد يمتحن الله تعالى كثيرا من خلقه بالآلام الشديدة قبل الموت ويعفي آخرين من ذلك وقد يكون الألم المتقدم للموت ضربا من العقوبة لمن حل به ويكون استصلاحا له ولغيره ويعقبه نفعا عظيما وعوضا كثيرا

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 94، 97:

فصل: فيما وصف به الشيخ أبو جعفر الموت قال أبو جعفر: باب الموت، قيل لأمير المؤمنين... إلى آخره.

قال الشيخ أبو عبد الله: ترجم الباب بالموت وذكر غيره، وقد كان ينبغي أن يذكر حقيقة الموت أو يترجم الباب بمال الموت وعاقبة الأموات، فالموت، هو يضاد الحياة، يبطل معه النمو ويستحيل معه الإحساس، وهو محل الحياة فينفيها، وهو من فعل الله تعالى وليس لأحد فيه صنع ولا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.

قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فأضاف الإحياء [إلى نفسه، وأضاف الإماتة إليها].

وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فالحياة ما كان بها النمو والإحساس وتصح معها القدرة والعلم، والموت ما استحال معه النمو والإحساس ولم تصح معه القدرة والعلم، وفعل الله تعالى الموت بالإحياء لينقلهم من دار العمل والامتحان إلى دار الجزاء والمكافأة، وليس يميت الله عبدا من عبيده إلا وإماتته أصلح له من بقائه، ولا يحييه إلا وحياته أصلح له من موته، وكل ما يفعله الله تعالى بخلقه فهو أصلح لهم وأصوب في التدبير.

وقد يمتحن الله تعالى كثيرا من خلقه بالآلام الشديدة قبل الموت، ويعفي آخرين من ذلك، وقد يكون الألم المتقدم للموت [ضربا من] العقوبة لمن حل به، ويكون استصلاحا له ولغيره، ويعقبه نفعا عظيما، وعوضا كثيرا، وليس كل من صعب عليه خروج نفسه كان بذلك معاقبا، ولا كل من سهل عليه الأمر في ذلك كان به مكرما مثابا.

وقد ورد الخبر بأن الآلام التي تتقدم الموت تكون كفارات لذنوب المؤمنين، وتكون عقابا للكافرين، وتكون الراحة قبل الموت استدراجا للكافرين، وضربا من ثواب المؤمنين. وهذا أمر مغيب عن الخلق، لم يظهر الله تعالى أحدا من خلقه على إرادته فيه تنبيها له، حتى يتميز له حال الامتحان من حال العقاب، وحال الثواب من حال الاستدراج، وتغليظا للمحنة ليتم التدبير الحكيم في الخلق.

فأما ما ذكره أبو جعفر من أحوال الموتى بعد وفاتهم، فقد جاءت الآثار به على التفصيل.

وقد أورد بعض ما جاء في ذلك إلا أنه ليس مما ترجم به الباب في شيء، والموت على كل حال أحد بشارات المؤمن، إذ كان أول طرقه إلى محل النعيم، وبه يصل ثواب الأعمال الجميلة في الدنيا، وهو أول شدة تلحق الكافر من شدائد العذاب، وأول طرقه إلى حلول العقاب، إذ كان الله تعالى جعل الجزاء على الأعمال بعده وصيره سببا لنقله من دار التكليف إلى دار الجزاء، وحال المؤمن بعد موته أحسن من حاله قبله، وحال الكافر بعد مماته أسوء من حاله قبله، إذ المؤمن صائر إلى جزائه بعد مماته، والكافر صائر إلى جزائه بعد مماته.

وقد جاء في الحديث عن آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أنهم قالوا: الدنيا سجن المؤمن، والقبر بيته، والجنة مأواه، والدنيا جنة الكافر، والقبر سجنه، والنار مأواه.

وروي عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: الخير كله بعد الموت، والشر كله بعد الموت. ولا حاجة بنا مع نص القرآن بالعواقب إلى الأخبار، [ومع شاهد] العقول إلى الأحاديث.

وقد ذكر الله تعالى جزاء الصالحين فبينه، وذكر عقاب الفاسقين ففضله، وفي بيان الله سبحانه وتفصيله غنى عما سواه.

- في العدل

- العدل هو الجزاء على العمل بقدر المستحق عليه والظلم هو منع الحقوق

- الله تعالى عدل كريم جواد متفضل رحيم قد ضمن الجزاء على الأعمال والعوض على المبتدئ من الآلام ووعد التفضل بعد ذلك بزيادة من عنده

- الحق الذي للعبد هو ما جعله الله تعالى حقا له واقتضاه جود الله وكرمه وإن كان لو حاسبه بالعدل لم يكن له عليه بعد النعم التي أسلفها حق

- الله تعالى ابتدأ خلقه بالنعم وأوجب عليهم بها الشكر وليس أحد من الخلق يكافئ نعم الله تعالى عليه بعمل ولا يشكره أحد إلا وهو مقصر بالشكر عن حق النعمة

- من قال إني وفيت جميع ما لله تعالى علي وكافأت نعمه بالشكر فهو ضال

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 103، 105:

فصل: فيما ذكر الشيخ أبو جعفر في العدل

قال أبو جعفر: باب الاعتقاد في العدل... إلى آخره.

قال الشيخ المفيد أبو عبد الله رحمه الله: العدل، هو الجزاء على العمل بقدر المستحق عليه، والظلم، هو منع الحقوق، والله تعالى عدل كريم جواد متفضل رحيم، قد ضمن الجزاء على الأعمال، والعوض على المبتدئ من الآلام، ووعد التفضل بعد ذلك بزيادة من عنده.

فقال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الآية، فخبر أن للمحسنين الثواب المستحق وزيادة من عنده وقال: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} يعني له عشر أمثال ما يستحق عليها. {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} يريد أنه لا يجازيه بأكثر مما يستحقه، ثم ضمن بعد ذلك العفو ووعد بالغفران.

فقال سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}.

وقال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} والحق الذي للعبد هو ما جعله الله تعالى حقا له واقتضاه [جود الله وكرمه]، وإن كان لو حاسبه بالعدل لم يكن له عليه بعد النعم التي أسلفها حق، لأنه تعالى ابتدأ خلقه بالنعم وأوجب عليهم بها الشكر، وليس أحد من الخلق يكافئ نعم الله تعالى عليه بعمل، ولا يشكره أحد إلا وهو مقصر بالشكر عن حق النعمة.

وقد أجمع أهل القبلة على أن من قال: إني وفيت جميع ما لله تعالى علي وكافأت نعمه بالشكر، فهو ضال، وأجمعوا على أنهم مقصرون عن حق الشكر، وأن لله عليهم حقوقا لو مد في أعمارهم إلى آخر مدى الزمان لما وفوا لله سبحانه بما له عليهم، فدل ذلك على أن ما جعله حقا لهم فإنما جعله بفضله وجوده وكرمه.

ولأن حال العامل الشاكر بخلاف حال من لا عمل له في العقول، وذلك أن الشاكر يستحق في العقول الحمد، ومن لا عمل له فليس في العقول له حمد، وإذا ثبت الفضل بين العامل ومن لا عمل له كان ما يجب في العقول من حمده هو الذي يحكم عليه بحقه ويشار إليه بذلك، وإذا أوجبت العقول له مزية على من لا عمل له كان العدل من الله تعالى معاملته بما جعله في العقول له حقا.

وقد أمر الله تعالى بالعدل ونهى عن الجور، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}.

- في العصمة

- العصمة من الله تعالى لحججه هي التوفيق واللطف والاعتصام من الحجج بها عن الذنوب والغلط في دين الله تعالى والعصمة تفضل من الله تعالى على من علم أنه يتمسك بعصمته

- ليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن ولا ملجئة له إليه بل هي الشيء الذي يعلم الله تعالى أنه إذا فعله بعبد من عبيده لم يؤثر معه معصيته له

- الأنبياء والأئمة من بعدهم معصومون في حال نبوتهم وإمامتهم من الكبائر كلها والصغائر وسالمون من ترك المندوب والمفترض قبل حال إمامتهم وبعدها

- الوصف للأنبياء والأئمة بالكمال في كل أحوالهم فإن المقطوع به كمالهم في جميع أحوالهم التي كانوا فيها حججا لله تعالى على خلقه

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 128، 130:

فصل: في العصمة

قال أبو جعفر رحمه الله: باب الاعتقاد في العصمة.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: العصمة من الله تعالى لحججه هي التوفيق واللطف والاعتصام من الحجج بها عن الذنوب والغلط في دين الله تعالى، والعصمة [تفضل من الله] تعالى على من علم أنه يتمسك بعصمته، والاعتصام فعل المعتصم، وليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح، ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن، ولا ملجئة له إليه، بل هي الشيء الذي يعلم الله تعالى أنه إذا فعله بعبد من عبيده لم يؤثر معه معصيته له، وليس كل الخلق يعلم هذا من حاله، بل المعلوم منهم ذلك هم الصفوة والأخيار.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} الآية، وقال سبحانه: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وقال سبحانه: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ}.

والأنبياء والأئمة عليهم السلام من بعدهم معصومون في حال نبوتهم وإمامتهم من الكبائر كلها والصغائر، والعقل يجوز عليهم ترك مندوب إليه على غير التعمد للتقصير والعصيان، ولا يجوز عليهم ترك مفترض إلا أن نبينا صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام من بعده كانوا سالمين من ترك المندوب، والمفترض قبل حال إمامتهم وبعدها.

فصل: فأما الوصف لهم بالكمال في كل أحوالهم، فإن المقطوع به كمالهم في جميع أحوالهم التي كانوا فيها حججا لله تعالى على خلقه.

وقد جاء الخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام من ذريته كانوا حججا لله تعالى منذ أكمل عقولهم إلى أن قبضهم، ولم يكن لهم قبل أحوال التكليف أحوال نقص وجهل، فإنهم يجرون مجرى عيسى ويحيى عليهما السلام في حصول الكمال لهم مع صغر السن وقبل بلوغ الحلم.

وهذا أمر تجوزه العقول ولا تنكره، وليس إلى تكذيب الأخبار سبيل، والوجه أن نقطع على كمالهم عليهم السلام في العلم والعصمة في أحوال النبوة والإمامة، ونتوقف فيما قبل ذلك، وهل كانت أحوال نبوة وإمامة أم لا ونقطع على أن العصمة لازمة لهم منذ أكمل الله تعالى عقولهم إلى أن قبضهم عليهم السلام.

- الله تعالى لا يحابي خلقه ولا يبخس أحدا منهم حقه

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 36:

والجواب عن السؤال الثاني: أن الدلائل قد قامت على أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم ينطق عن الهوى، ولا فعل في شرعة شيئا ولا قال إلا بوحي يوحى، وقد علمنا أن الوحي من الله جل اسمه العالم بالسر وأخفى، وأنه جل اسمه لا يحابي خلقه، ولا يبخس أحدا منهم حقه.

فلولا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان الأفضل عنده جل اسمه لما فرض على نبيه صلى الله عليه وآلهالتفضيل له على الكافة، والتنويه بفضله من بين الجماعة، والإقرار له من التعظيم بما لم يشركه فيه غيره، لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان محابيا له وباخسا لغيره حقه، أو غير عالم بحقيقة الأمر في مستحقه، وذلك كله محال، فثبت أن الفضل الذي بان به أمير المؤمنين عليه السلام في الظاهر من الجماعة بأفعال الرسول صلى الله عليه وآله وأقواله، أدل دليل على فضله في الحقيقة، وعند الله سبحانه على ما ذكرناه.

- الله تعالى لا يكلف عباده المحال ولا يشرع ذلك من النبي الكريم

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 219، 224:

مسألة أخرى: فإن قالوا: فما تصنعون في الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لأصحابه: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" أليس هذا نص منه على إمامتهما، وإيجاب على الأمة جميعا فرض طاعتهما، وفي ذلك أدل دليل على طهارتهما وصوابهما فيما صنعاه من التقدم على أمير المؤمنين، وصحة خلافتهما؟!.

جواب: قيل لهم: هذا حديث موضوع، والخلل في سنده مشهور، والتناقض في معناه ظاهر، وحاله في متضمنه لائحة للمعتبر الناظر.

فأما خلل إسناده: فإنه معزى إلى عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، ثم من بعده تارة يعزى إلى حذيفة بن اليمان، وتارة إلى حفصة بنت عمر بن الخطاب.

فأما عبد الملك بن عمير فمن أبناء الشام، وأجلاف محاربي أمير المؤمنين عليه السلام، المشتهرين بالنصب والعداوة له ولعترته، ولم يزل يتقرب إلى بني أمية بتوليد الأخبار الكاذبة في أبي بكر وعمر، والطعن في أمير المؤمنين عليه السلام حتى قلدوه القضاء، وكان يقبل فيه الرشا، ويحكم بالجور والعدوان، وكان متجاهرا بالفجور والعبث بالنساء، فمن ذلك أن الوليد بن سريع خاصم أخته كلثم بنت سريع إليه في أموال وعقار، وكانت كلثم من أحسن نساء وقتها وأجملهن فأعجبته، فوجه القضاء على أخيها تقربا إليها، وطمعا فيها، فظهر ذلك عليه واستفاض عنه، فقال فيه هذيل الأشجعي:

أتاه وليد بالشهود يقودهم  *  على ما ادعى من صامت المال والخول

يسوق إليه كلثما وكلامها  *  شفاء من الداء المخامر والخبل

فما برحت تومي إليه بطرفها  *  وتومض أحيانا إذا خصمها غفل

وكان لها دل وعين كحيلة  *  فأدلت بحسن الدل منها وبالكحل

فأفتنت القبطي حتى قضى لها  *  بغير قضاء الله في المال والطول

فلو كان من في القصر يعلم علمه  *  لما استعمل القبطي فينا على عمل

له حين يقضي للنساء تخاوص  *  وكان وما منه التخاوص والحول

إذا ذات دل كلمته بحاجة  *  فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل

وبرق عينيه ولاك لسانه  *  يرى كل شيء ما خلا سخطها خبل

ثم الذي عزاه إليه هو ربعي بن حراش عند أصحاب الحديث من المعدودين في جملة الروافض المستهزئين على أبي بكر وعمر، وإضافته إليه -مع ما وصفناه- ظاهرة البطلان، مع أن المشهور عن حذيفة بن اليمان في أصحاب العقبة يضاد روايته هذا الحديث عنه.

وأما روايته عن حفصة بنت عمر بن الخطاب فهي من البرهان على فساده، ووجوب سقوطه في باب الحجاج، لأن حفصة متهمة فيما ترويه من فضل أبيها وصاحبه، ومعروفة بعداوتها لأمير المؤمنين عليه السلام، وتظاهرها ببغضه وسبه والإغراء به، والانحطاط في هوى أختها عائشة بنت أبي بكر في حربه والتألب عليه، ثم لاجترارها بما يتضمنه أفضل وجوه النفع إليهما به، وقد سلف كتاب في هذا المعنى ما يستغنى به عن الإطالة في هذا المقام ، والله ولي التوفيق.

فصل: على أنه لو ثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله لأوجب عصمة أبي بكر وعمر من الآثام، وقضى لهما بالكمال، ونفى السهو والغلط عنهما على كل حال، وذلك أن فرض الاقتداء بهما يوجب صواب الفاعل له عند الله تعالى، وأن علمه في ذلك واقع موقع الرضا، فلو لم يكونا معصومين من الخطأ لا يؤمن منهما وقوعه، وكان المقتدي بهما فيه ضالا عن الصراط، وموقعا من الفعل ما ليس بصواب عند الله تعالى، ولا موافق لرضاه، كما أن الله تعالى لما فرض طاعة نبيه صلى الله عليه وآله وأمر بالاقتداء به، كما أمره بالاقتداء بمن تقدم من أنبيائه عليهم السلام، حيث يقول: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أوجب عصمته صلى الله عليه وآله كما أوجب عصمة من تقدم من الأنبياء عليه السلام، ولم يجز في حكمته فرض الاقتداء بمن ذكرناه مع ارتفاع العصمة منهم لما بيناه.

وفي الإجماع أن أبا بكر وعمر لم يكونا معصومين عن الخطأ، وإقرارهما على أنفسهما بذلك أظهر حجة على اختلاف الخبر وفساده كما ذكرناه.

فصل آخر: مع أن التباين بين أبي بكر وعمر في كثير من الأحكام يمنع من فرض الاقتداء بهما على كل حال، لاستحالة اتباعهما فيما اختلفا فيه، ووجوب خلاف أحدهما في وفاق صاحبه، وخلاف صاحبه في اتباعه.

وقد ثبت أن الله تعالى لا يكلف عباده المحال، ولا يشرع ذلك منه صلى الله عليه وآله، وإذا بطل وجوب الاقتداء بهما في العموم لما بيناه، لم يبق -إن سلم الحديث- إلا وجوبه في الخصوص، وذلك غير موجب للفضل فيهما، ولا مانع من ضلالهما ونقصهما، وهو حاصل في مثل ذلك من أهل الكتاب، ولو فاق المسلمين لهم في خاص من الأقوال مع كفرهم وضلالهم بالإجماع، فبان بما وصفناه سقوط الحديث وفساد معانيه على ما قدمناه.

فصل آخر: على أن أصحاب الحديث قد رووه بلفظين مختلفين، على وجهين من الأعراب متباينين: أحدهما الخفض، وقد سلف قولنا بما بيناه، والآخر النصب، وله معنى غير ما ذهب إليه أهل الخلاف. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما دعا الأمة إلى التمسك بكتاب الله تعالى، وبعترته عليه وعليهم السلام، حيث يقول: "إني مخلف فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض". وكان عالما بما أوحى الله تعالى إليه، أن أول ناقض لأمره في ذلك وعادل عنه هذان الرجلان، فأراد عليه السلام تأكيد الحجة عليهما، بتخصيصهما بالأمر باتباع الكتاب، والعترة بعد عمومها به، ودخولهما في جملة المخاطبين من سائر الناس، فناداهما على التخصيص لما قدمناه من التوكيد في الحجة عليهما، فقال: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" وكانا هما المناديين بالاتباع دون أن يكون النداء إليهما على ما شرحناه. وليس بمنكر أن يبتدئ بالأمر بلفظ الجمع لاثنين، أو بلفظ الاثنين للجمع اتساعا، كما يعبر عن الواحد وليس فيه من معاني الجمع قليل ولا كثير بلفظ الاثنين أو الجمع، قال الله عز وجل: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}. وقال: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ -إلى قوله- خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ}.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد سقط ما تعلق به الناصبة من الحديث، ولم يبق فيه شبهة، والحمد لله.

- في حسن العفو مع صدور الوعيد

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 67، 69:

فصل: قال الشيخ أدام الله عزه: حكى أبو القاسم الكعبي في كتاب الغرر عن أبي الحسن الخياط، قال: حدثني أبو مخالد قال: مر أبو عمرو بن العلاء بعمرو بن عبيد وهو يتكلم في الوعيد فقال يعني أبا عمرو: إنما أتيتم من العجمة لأن العرب لا ترى ترك الوعيد ذما وإنما ترى ترك الوعد ذما وأنشد:

وإني وإن أوعدته ووعدته لأخلف إيعادي وأنجز موعدي

قال: فقال له عمرو أفليس يسقى تارك الإيعاد مخلفا؟ قال: بلى. قال: فنسمي الله عز وجل مخلفا إذا لم يفعل ما أوعد؟. قال: لا. قال: فقد أبطلت شاهدك.

قال الشيخ أدام الله عزه: ووجدت أبا القاسم قد اعتمد على هذا الكلام واستحسنه ورأيته قد وضعه في أماكن شتى من كتبه واحتج به على أصحابنا الراجئة.

فيقال له: إن عمرو بن عبيد ذهب عن موضع الحجة في الشعر وغالط أبا عمرو بن العلاء أو جهل مواضع العمدة من كلامه، وذلك أنه إذا كانت العرب والعجم وكل عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد ولا يعلقون بصاحبه ذما فقد بطل أن يكون العفو من التعالي مع الوعيد قبيحا، لأنه لو جاز أن يكون منه قبيحا ما هو حسن في الشاهد عند كل عاقل، لجاز أن يكون منه حسنا ما هو قبيح في الشاهد عند كل عاقل، وهذا نقض العدل، والمصير إلى قول أهل التجوير والجبر. مع أنه إذا كان العفو مستحسنا مع الخلف فهو أولى بان يكون حسنا مع عدم الخلف ونحن إذا قلنا إن الله سبحانه يعفو مع الوعيد فإنما نقول بأنه توعد بشرط يخرجه عن الخلف في وعيده لأنه حكيم لا يعبث.

وإذا كان حسن العفو في الشاهد منا يغمر قبح الخلف حتى يسقط الذم عليه وهو لو حصل في موضع لم يجر به إلى العفو أو ما حصل في معناه من الحسن لكان الذم عليه قائما ويجعل وجود الخلف كعدمه في ارتفاع اللوم عليه، فهو في إخراج الشرط المشهور عن القبح إلى صفة الحسن وإيجاب الحمد والشكر لصاحبه أخرى وأولى من إخراجه الخلف عما كان يستحق عليه من الذم عند حسن العفو وأوضح في باب البرهان وهذا بين لمن تدبره.

وشيء آخر وهو أنا لا نطلق على كل تارك الإيعاد الوصف بأنه مخلف لأنه نجوز أن يكون قد شرط في وعيده شرطا أخرجه به عن الخلف، وإن أطلقنا ذلك في البعض فلإحاطة العلم أو عدم الدليل على الشرط فنحكم على الظاهر وإن كان أبو عمرو بن العلاء أطلق القول في الجواب إطلاقا فإنما أراد به الخصوص دون العموم وتكلم على معنى البيت الذي استشهد به.

وما رأيت أعجب من متكلم يقطع على حسن معنى مع مضامته لقبيح ويجعل حسنه مسقطا للذم على القبيح ثم يمتنع من حسن ذلك المعنى مع تعريه من ذلك القبيح ثم يفتخر بهذه النكتة عند أصحابه ويستحسنون احتجاجه المؤدي إلى هذه المناقضة ولكن العصبية ترين القلوب!.

- أقوال في الشفاعة ومستحقيها

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 78، 81:

فصل: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه قال: وقال أبو القاسم الكعبي: سمعت أبا الحسين الخياط يحتج في إبطال قول المرجئة في الشفاعة بقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} قال: والشفاعة لا تكون إلا لمن استحق العقاب.

قال: فيقال له: ما كان أغفل أبا الحسين وأعظم رقدته أترى أن الراجئة إذا قالت إن النبي صلى الله عليه وآله يشفع فيشفع فيمن يستحق العقاب، قالوا إنه هو الذي ينقذ من في النار أم يقولون إن الله سبحانه هو الذي أنقذه بتفضله ورحمته وجعل ذلك إكراما لنبيه صلى الله عليه وآله فأين وجه الحجة فيما تلاه؟ أو ما علم أن من مذهب خصومه القول بالوقف في الأخبار وأنهم لا يقطعون بالظاهر على العموم والاستيعاب، فلو كان القول يتضمن نفي خروج أحد من النار لما كان ذلك ظاهرا ولا مقطوعا به عند القوم، وكيف ونفس الكلام يدل على الخصوص دون العموم بقوله {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ}، وإنما يعلم من المراد بذلك بدليل دون نفسه وقد حصل الإجماع على أنه توجه إلى الكفار وليس أحد من أهل القبلة يدين بجواز الشفاعة للكفار فيكون ما تعلق به الخياط حجة عليه.

ثم قال أبو القاسم: وكان أبو الحسين -يعني الخياط- يتلو في ذلك أيضا قوله عز وجل: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}.

قال الشيخ أدام الله عز: فيقال لهم: ما رأيت أعجب منكم يا معاشر المعتزلة تتكلمون فيما قد شارككم الناس فيه من العدل والتوحيد أحسن كلام حتى إذا صرتم إلى الكلام في الإمامة والإرجاء صرتم فيهما عامة حشوية تخبطون خبط عشواء لا تدرون ما تأتون وما تذرون، ولكن لا أعجب من ذلك وأنتم إنما جودتم فيما عاونكم عليه غيركم واستفدتموه من سواكم وقصرتم فيما تفردتم به لا سيما في نصرة الباطل الذي لا يقدر على نصرته في الحقيقة قادر، ولكن العجب منكم في ادعائكم الفضيلة والبينونة بها من سائر الناس، ولو والله حكى هذا الاستدلال مخالف لكم لارتبنا بحكايته، ولكن لا ريب وشيوخكم يحكونه عن مشايخهم ثم لا يقنعون حتى يوردوه على سبيل التبجح به والاستحسان له، وأنت أيها الرجل من غلوك فيه جعلته أحد الغرر فأنت وإن كنت أعجمي الأصل والمنشأ فأنت عربي اللسان صحيح الحس، وظاهر الآية في الكفار خاصة ولا يخفى ذلك على الأنباط فضلا عن غيرهم حيث يقول الله تعالى حاكيا عن الفرقة بعينها وهي تعني معبوداتها دون الله وتخاطبها فتقول: {إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فيعترفون بالشرك بالله ثم يقولون: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} وقبل ذلك يقسمون فيقولون: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}.

فهل يا أبا القاسم -أصلحك الله- تعرف أحدا من خصومك في الإرجاء والشفاعة يذهب إلى جواز الشفاعة لعباد الأصنام المشركين بالله عز وجل، والكفار برسله عليهم السلام حتى استحسنت استدلال شيخك بهذه الآية على المشبهة، كما زعمت، والمجبرة ومن ذهب مذهبهم من العامة، فإن ادعيت علم ذلك تجاهلت، وإن زعمت أنه إذا بطلت الشفاعة للكفار فقد بطلت للفساق، أتيت بقياس طريف من القياس الذي حكي عن أبي حنيفة أنه قال فيه: "البول في المسجد أحيانا أحسن من بعض (نقض ن خ) القياس". وكيف تزعم ذلك وأنت إنما حكيت مجرد القول في الآية، ولم تذكر وجه الاستدلال منها وإن ما توهمت أن الحجة في ظاهرها غفلة عظيمة حصلت منك على أنه إنما يصح القياس على العلل والمعاني دون الصور والألفاظ، والكفار إنما بطل قول من ادعى الشفاعة لهم -إن لو ادعاها مدع- بصريح القرآن لا غير فيجب أن لا تبطل الشفاعة لفساق أهل الملة إلا بنص القرآن أيضا أو قول من الرسول صلى الله عليه وآله يجري مجرى القران في الحجة، وإذا عدم ذلك بطل القياس فيه. مع أنا قد بينا أنك لم تقصد القياس وإنما تعلقت بظاهر القرآن وكشفنا عن غفلتك في المتعلق به، فليتأمل ذلك أصحابك وليستحيوا لك منه. على أنه قد روي عن الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه قال: في هذه الآيات دلالة على وجود الشفاعة، قال: وذلك أن أهل النار لو لم يروا يوم القيامة شافعين يشفعون لبعض من استحق العقاب فيشفعون ويخرجون بشفاعتهم من النار أو يعفون منها بعد الاستحقاق، لما تعاظمت حسراتهم ولا صدر عنهم هذا المقال لكنهم لما رأوا شافعا يشفع فيشفع، وصديقا حميما يشفع لصديقه فيشفع، عظمت حسراتهم عند ذلك فقالوا: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. ولعمري إن مثل هذا الكلام لا يرد إلا عن إمام هدى، أو احد من الأئمة أئمة الهدى عليهم السلام، فأما ما حكاه أبو القاسم فيليق بمقام الخياطين ونتيجة عقول السخفاء والضعفاء في الدين.

- لا يجوز في حكم العدل أن يأتي العبد بطاعة ومعصية فيخلد في النار بالمعصية ولا يعطى الثواب على الطاعة

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 96، 101:

المسالة الحادية عشرة: أصحاب الكبائر

ما قوله أدام الله تعالى رفعته في إخراج الله تعالى من ارتكب الكبائر من النار، أو العفو عنه في القيامة عند حسابه؟. والشيخ الجليل المفيد أدام الله مدته يحتسب الأجر في إملاء مسألة كافية في هذا الباب حسب ما ثبت عنده عن الأئمة الهادية عليهم السلام، ويورد شبه المعتزلة فيه، ويجيب عنها، ويتكلم عليها بعبارته اللطيفة حسب ما يحسم أشاغيب الخصوم في هذا الباب، فقل متفضلا إن شاء الله.

الجواب: إن الذين يردون القيامة مستحقين العقاب ودخول النار صنفان: أحدهما: الكافر على اختلاف كفره، واختلاف أحكامهم في الدنيا. وصنف: أصحاب ذنوب قد ضموها إلى التوحيد ومعرفة الله تعالى ورسوله وأئمة الهدى عليهم السلام، خرجوا من الدنيا من غير توبة، فاخترمتهم المنية على الحوية، وكانوا قبل ذلك يسوفون التوبة، ويحدثون أنفسهم بالإقلاع عن المعصية ففاتهم ذلك لاخترام المنية لهم دونه. فهذا الصنف مرجو لهم العفو من الله تعالى، والشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وآله ومن أئمة الهدى عليهم السلام، ومخوف عليهم العقاب. غير أنهم إن عوقبوا فلا بد من انقطاع عقابهم ونقلهم من النار إلى الجنة ليوفيهم الله تبارك وتعالى جزاء أعمالهم الحسنة الصالحة التي وافوا بها الآخرة من:  المعارف، والتوحيد، والإقرار بالنبوة والأئمة، والأعمال الصالحات، لأنه لا يجوز في حكم العدل أن يأتي العبد بطاعة ومعصية فيخلد في النار بالمعصية ولا يعطى الثواب على الطاعة، لان من منع ما عليه واستوفى ماله كان ظالما معبثا وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وبهذا قضت العقول، ونزل الكتاب المسطور، وثبتت الأخبار عن أئمة أهل بيت محمد عليهم السلام، وإجماع شيعتهم المحدثين العلماء منهم المستبصرين. ومن خالف في ذلك من منتحلي مذهب الإمامية فهو شاذ عن الطائفة، وخارق لإجماع العصابة. والمخالف في ذلك هم المعتزلة، وفرق من الخوارج والزيدية.

فصل: أدلة بطلان القول بالحبط

ومما يدل على صحة ما ذكرناه في هذا الباب ما قدمناه القول في معناه في أن العارف الموحد يستحق بالعقول على طاعته وقربته ثوابا دائما. وقد ثبت أن معصيته لا تنافي طاعاته، وذنوبه لا تضاد حسناته واستحقاقه الثواب. وأنه لا تحابط بين المعاصي والطاعات، لاجتماعها من المكلف في حالة واحدة. وأن استحقاق الثواب لا يضاد استحقاق العقاب، إذ لو ضادة لتضاد الجمع بين المعاصي والطاعات، إذ بهما يستحق الثواب والعقاب. وإذا ثبت اجتماع الطاعة والمعصية دل على استحقاق الثواب والعقاب. وهذا يبطل قول المعتزلة في التحابط المخالف لدليل الاعتبار. وقد قال الله عز وجل: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}. وقال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}. وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. وقال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. وقال سبحانه: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}. فأخبر تعالى أنه لا يضيع أجر المحسنين، وأنه يوفي العاملين أجرهم بغير حساب، وأنه لا يظلم مثقال ذرة ، فأبطل بهذه الآيات دعوى المعتزلة على الله تعالى أنه يحبط الأعمال الصالحات، أو بعضها، ولا يعطي عليها أجرا. وأبطل قولهم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ}. هذا مع قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} فأخبر أنه لا يغفر الشرك مع عدم التوبة منه، وأنه يغفر ما سواه بغير التوبة، ولولا ذلك لم يكن لتفريقه بين الشرك وما دونه في حكم الغفران معنى معقول. وقال تبارك وتعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}. وهذا القول لا يجوز أن يكون متوجها إلى المؤمنين الذين لا تبعة بينهم وبين الله تعالى، ولا متوجها إلى الكافرين الذين قد قطع الله على خلودهم في النار، فلم يبق إلا أنه توجه إلى مستحق العقاب من أهل المعرفة والتوحيد.

وفيما ذكرنا أدلة يطول شرحها، والذي اثبتناه هاهنا مقنع لمن تأمله إن شاء الله. وقد أمليت في هذا المعنى كتابا سميته (الموضح في الوعد والوعيد) إن وصل إلى السيد الشريف الفاضل الخطير أدام الله تعالى رفعته أغناه عن غيره من الكتب في المعنى إن شاء الله تعالى.