عقائد الشيعة الإمامية / أبو صلاح الحلبي

 

 

مسائل النبوة

 

مسألة: في كون الرئاسة واجبة في حكمته تعالى

تقريب المعارف - أبو الصلاح الحلبي – مسائل النبوة ص 143 - 168

الرئاسة واجبة في حكمته تعالى على كل مكلف يجوز منه إيثار القبيح، لكونها لطفا في فعل الواجب والتقريب إليه وترك القبيح أو التبعيد منه، بدليل عموم العلم للعقلاء بكون من هذه حاله عند وجود الرئيس المنبسط اليد الشديد التدبير القوي الرهبة إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، وكونهم عند فقده أو ضعفه بخلاف ذلك. وقد ثبت وجوب ماله هذه الصفة من الألطاف في حكمته تعالى، فوجب لذلك نصب الرؤساء في كل زمان اشتمل على مكلفين غير معصومين. والمخالف لنا في هذه لا يعدو خلافه أن يكون في الفرق بين وجود الرؤساء وعدمهم في باب الصلاح، أو في صلاح الخلق برئيس، أو في وقوع القبح عند وجودهم كفقدهم. فإن خالف في الأول فيجب مناظرته، لظهور هينه للعقلاء وعلمهم بكذبه على نفسه فيما يعلم ضرورة خلافه. وإن خالف في الثاني لم يضر، لأنا لا نقل إن صلاح الخلق نفع كل رئيس، وإنما دللنا على كون الرئاسة لطفا في الجملة، فصلاح العقلاء على رئيس دون رئيس لا يقدح، على أنا سنبين أن الرئاسة المطلوب بها لا فساد فيها، لعصمة من ثبتت له وتوفيقه. وإن خالف على الوجه الثالث لم يقدح أيضا، لأن الرئاسة لطف وليست ملجئة، فلا يخرجها عن ذلك وقوع القبيح عندها كسائر الألطاف، ولأن الواقع من القبيح عندها يسير من كثير، ولولاها لوقع أضعافه بقضية العادة. ولا فرق في وجوب الاستصلاح بما يرفع القبح جملة، أو بعضه، أو يبعد منه، أو يؤثر وقوع كل واجب واحد، أو يقرب إليه. ولا يقدح في ذلك إيثار بعض العقلاء لرئيس دون رئيس، واعتقاد الصلاح لفقد الرؤساء. لأنا لا نستدل بفعلهم، وإنما استدللنا بقضية العادة الجارية بعموم الصلاح بالرؤساء والفساد بفقدهم، فحكمنا بوجوب ما له هذه الصفة في حكمته سبحانه وقبح الاخلال به مع ثبوت التكليف، وليس في الدنيا عاقل عرف العادات ينازع فيما قضينا به من الفرق بين وجود الرؤساء المهيبين وعدمهم، بل حال ضعفهم. وفعل العقلاء أو بعضهم بخلاف ما يعلمونه لا يقدح في علمهم، كما لا يقدح إيثارهم للقبائح وإخلالهم بالواجبات الضرورية في وجوب هذه وقبح تلك. على أن دعواهم اعتقاد بعض العقلاء حصول الصلاح للخلق بعدم الرؤساء، كاعتقاد بعضهم عدم الصلاح بوجودهم. كذب على أنفسهم يشهد الوجود به، لعلمنا بأنه ليس في الدنيا عاقل سليم الرأي من الهوى يؤثر عدم الرؤساء جملة ويعتقد عموم الصلاح به والفساد بوجودهم، فالمعلوم من ذلك هو اعتقاد بعض العقلاء حصول الفساد برئاسة ما يختصه ضررها بحسد أو طمع أو خوف ضرر إلى غير ذلك، دون نفي الرئاسة جملة، كأهل الذعارة والمفسدين في الأرض الذين لا يتم لهم بلوغ ما يؤثرونه من أخذ الأموال والفساد في الأرض إلا بفقد الرؤساء المرهوبين، فلذلك آثروا فقدهم واعتقدوا حصول الصلاح لهم بعدمهم، ولا شبهة في قبح هذا الاعتقاد والإيثار. وهم مع ذلك غير منكرين لحصول الصلاح بجنس الرئاسة، ولهذا لا توجد فرقة منهم بغير رئيس مقدم يرجعون إلى سياسته، كالخوارج وغيرهم من فرق الضلال الذاهبين إلى قبح كل رئاسة تخالف ما هم عليه من النحلة، كاعتقاد الكفار والمنافقين ذلك في رئاسة الأنبياء والأئمة عليهم السلام. وإنما كرهوا رئاستهم واعتقدوا حصول الفساد بها والصلاح بعدمها، لاعتقادهم حصول المفسدة بها لكونها قبيحة، ولم ينكر أحد منهم وجوب الرئاسة جملة، ولهذا لم نر فرقة منهم إلا ولها رئيس مطاع. وكمعتقدي حصول صلاحهم برئاسة ما وعدمه بوجود أخرى، فهم يكرهون هذه ويؤثرون تلك، ككراهية قريش ومن وافقها في الرأي رئاسة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لاعتقادهم فوت الأماني بثبوتها، وإيثارهم رئاسة غيره، لظنهم بلوغ الأغراض الدنيوية بها، فهؤلاء أيضا لم ينكروا عموم الصلاح بالرئاسة في الجملة، وإنما كرهوا رئاسته لصارف عنها، وآثروا آخر لداع إليها. وكمن حسد بعض الرؤساء وشنأه من العقلاء إنما يكره رئاسته حسدا وبغضا، ولا يكره رئاسة من لا شنآن بينه وبينه، كقريش ومن وافقها على حسد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وبغضه في الفضل على جميعهم وتقدمه في الإسلام على سائرهم وعظيم نكايته فيهم، إنما كرهوا رئاسته لذلك، ولم يكرهوا رئاسة من لا داعي لهم إلى حسده وعداوته. وكمن يرى الرئاسة لأنفسهم ويرشحهم لها، إنما يكرهون كل رئاسة مناكسة لهم، ويعتقدون حصول الفساد بها فيما يخصهم، لأن مقصودهم لا يتم إلا بذلك، ككراهة المستخلفين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن تبعهم من خلفاء بني أمية وبني العباس رئاسة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وذريته عليهم السلام، لاعتقادهم حصول الفساد بها فيما يخصهم، لأن مقصودهم من رئاسة الأنام لا يتم إلا بذلك. ولم ينكر أحد منهم الرئاسة، وكيف ينكرونها مع حصول العلم بمثابرتهم عليها، ومنافستهم فيها، واستحلالهم بعد استقرارها لهم ذم القادح فيها، ومظاهرتهم بأن نظام الخلق وصلاح أمرهم لا يتم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، واستصلاحهم رعاياهم بالرؤساء، واجتهادهم في تخير ذوي البصائر لسياسة البلاد ومن فيها بالتأمير على أهلها، وكراهية رعية الظلمة من الرؤساء المسرفين في الفساد لرئاستهم لما فيها من الضرر دينا ودنيا، واعتقادهم الصلاح بفقدها لذلك. ولا يكره أحد من هؤلاء رئاسة ذوي العقل والإنصاف، ولا يعتقد حصول الفساد بها، بل يتمناها، لعلمه بما فيها من الصلاح. وعلى هذا يجري القول في كل طائفة من العقلاء كرهوا رئاسة رئيس، إنما يكرهونها لأمر يخصهم نفعه وضرره، فليتأمل يوجد ظاهرا، وشبهة الخصم به مضمحلة، ومن المقصود في إيجاب الرئاسة العامة أجنبية، والمنة لله. ولا يقدح في الاستصلاح بالرئيس ووجوب وجوده لذلك عقلا قولنا: إن العقاب لا يستحقه بعضنا على بعض. لأن المقصود يصح من دون ذلك، من حيث كان علم المكلف أو ظنه بأنه متى رام القبيح منعه منه الرئيس بالقهر صارفا له عنه، بل ملجئا في كثير من المواضع، ولأن العقاب وإن لم يستحقه بعضنا على بعض، فالمدافعة حسنة بكل ما يغلب في الظن ارتفاع القبح به، وإن، تلفت معه نفس المدافع. فإذا كان هذا ثابتا عقلا، وعلم المكلف بكون الرئيس القوي منصوبا لمدافعة مريدي الظلم عن المظلوم، صرفه ذلك عن إيثاره. على أنا و ( أن ) منعنا من كون العقاب مستحقا بعضنا ونفينا استحقاق القديم له قطعا، فإنا نجيز استحقاقه منه سبحانه على القبح عقلا، وتقطع به سمعا، وتجويز المكلف كون الرئيس الملطوف له به منصوصا له عقاب العاصي كاف في الزجر. ولا يقدح فيما ذكرناه القول: بأن الصلاح الحاصل بالرؤساء دنيوي، فلا يجب له نصبهم. لأنا قد بينا تخصصه بالدين وإن اقترن به الدنيوي، على أن وجودهم إذا أثر صلاح الدنيا - كالأمن فيها، والتصرف في ضروب المعايش بمنع الرؤساء المفسدين، وصرف من يتوهم منه الفساد عنه بالرهبة، وارتفاع هذا الصلاح الدنيوي بعدمهم يقهر الظالمين وأخافهم ذوي السلامة - عاد الأمر إلى الصلاح الديني بوجودهم المؤثر، لوقوع الحسن وارتفاع القبح، وفساد الدين بعدمهم، ولم ينفصل من الصلاح الدنيوي بغير إشكال. ولا يقدح في ذلك دعوى الالجاء لخوف الرئيس إلى فعل الواجب وترك القبح على ما اعتمده المتأخرون من مخالفينا. لأن ذلك يسقط ما لا يزالون يمنعون منه من تأثير الرئاسة في وقوع الواجب وارتفاع القبح، من حيث كان الشئ لا يكون ملجئا إلا بعد كونه غاية في التأثير، فكيف يجتمع القول بذلك مع نفي التأثير جملة لذي عقل سليم. وبعد فالملجئ إلى الفعل والترك هو ما لا يبقى معه صارف عن الفعل ولا داع إلى الترك، فيجب إذ ذاك وقوع هذا وارتفاع ذاك، والرئاسة بخلاف ذلك، لعلمنا ضرورة بتردد الدواعي إلى الواجب والقبيح والصوارف عنهما، ووقوع كثير من القبيح، وارتفاع كثير من الواجب عند وجود الرؤساء المهيبين، واستحقاق فاعل القبح والمخل بالواجب الذم والاستخفاف، واستحقاق مجتنب هذا وفاعل ذلك المدح، وكل هذا ينافي الالجاء بغير شبهة. ولا يمنع من عموم اللطف بالرئاسة تقدير وجود واحد منفرد لا يتقدر منه ظلم أحد، لأن من هذه صفته إذا كان الظلم مأمونا منه صح منه العزم على فعله متى تمكن منه، لأن العزم على القبح لا يفتقر إلى التمكن منه في الحال، لصحة عزم كل من جاز منه القبح على ما يقع بعد أحوال متراخية على العزم. وإذا صح هذا، فعلم هذا المفرد أن من ورائه رئيس متى رام الظلم منعه منه بالقهر أو أنزل به ضررا مستحقا أو مدافعا به، صرفه ذلك عن العزم عليه، كما يصرف ظن كل عاقل عن العزم على قتل السلطان أنه متى رام ذلك منع منه، ولا فرق والحال هذه بين كون الرئاسة لطفا في أفعال القلوب أو الجوارح. وهذا التحرير يقتضي كون الرئاسة لطفا في الجميع، لأن الصارف عن أفعال الجوارح صارف عن العزم عليها، كما أن الداعي إليها داع إلى العزم، والعزم على الشئ جز منه أو كالجزء في الحسن والقبح. ولا قدح بعموم المعرفة للأزمان والتكاليف والمكلفين في اللطف، وخصوص الغنى والفقر في تميز الرئاسة منهما فيما له كانت لطفا، لأن قياس الألطاف بعضها على بعض لا يجوز، لوقوف كونها ألطافا على ما يعلمه سبحانه، وإثبات أعيانها وأحكامها بالأدلة. فعموم المعرفة لعموم مقتضيها وأحكامها بالأدلة وخصوص الغنى والفقر لاختصاص موجبهما، لا لكونهما لطفا في الجملة، واختصاص الرئاسة بمن يجوز منه فعل القبيح في أفعال الجوارح وما يتعلق بها من أفعال القلوب، وبكل زمان وجد فيه مكلفون بهذه الصفة بحسب ما اقتضته الأدلة فيها، ولا يخرجها ذلك عن كونها لطفا لمخالفتها باقي الألطاف، كما لم يخرج كل لطف خالف لطفا سواه في مقتضاه عن كونه كذلك.

 

اشتراط العصمة في الرئيس

وهذا اللطف لا يتم إلا بوجود رئيس أو رؤساء لا يد على أيديهم ترجع إليه أو إليهم الرئاسات، ولا يكون كذلك إلا بكونه معصوما، لأنا قد بينا وجوب استصلاح كل مكلف غير معصوم بالرئاسة، فاقتضى ذلك وجوب رجوع الرئاسات إلى رئيس معصوم، وإلا اقتضى وجود ما لا يتناها من الرؤساء، أو الاخلال بالواجب في عدله تعالى، وكلاها فاسد. ولنا تحرير الدلالة على وجه آخر، فنقول: العلم بوجوب الحاجة إلى رئيس لا ينفصل من العلم بوجه الحاجة، لأنا إنما علمنا حاجة المكلفين إلى رئيس من حيث وجدناه لطفا في فعل الواجب واجتناب القبيح، وهذا لا يتقدر إلا في من ليس بمعصوم، فصار العلم بالوجوب لا ينفصل من العلم بوجهه. وترتيب الأول أولى، لبعده من الشبهة وإسقاطه الاعتراض بعصمة كل رئيس، وافتقار هذا إلى استئناف كلام لإسقاط ذلك.

 

ما يتعلق بالرئيس

ولا بد من كون الرئيس أعلم الرعية بالسياسة، لكونه رئيسا فيها، وقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه فيه. ولا بد من كونه أفضلهم ظاهرا، لهذا الوجه بعينه. وأكثرهم ثوابا، لوجوب تعظيمه عليهم وخضوعهم له، والتعظيم قسط من الثواب واستحقاق ذمته منه ما لا يساويه فيه أحد من الرعية يقتضي كونه من أفضلهم بكثرة الثواب. ولا سبيل إلى تميزه إلا بمعجز يظهر عليه، أو نص يستند إلى معجز، لما قدمناه من وجوب صفاته، لمتعذر علمها على غير القديم تعالى. ولا اعتراض بما لا يزالون يهذون به: من كون الاختيار طريقا إذا علم سبحانه اتفاق اختيار المعصوم. لأن هذا أولا لا يتقدر من دون نص على اختيار الرئيس، ونحن في أحكام عقلية فبل السمع، وبعد فما له قبح تكليف اختيار الأنبياء عليهم السلام والشرائع وإن علم اتفاق إصابة المختارين للمصلحة يقتضي قبح تكليب اختيار الرئيس. وأيضا فتكليف ما لا دليل عليه ولا إمارة تميزه بصفته قبل وقوعه قبيح، وإذا فقد المكلف الأدلة والأمارات المميزة لذي الصفة المطلوبة بالاختيار قبح تكليفه، ولم ينفعه علمه بعد وقوع الاختيار بصفة المختار. على أن هذا المعلوم لا يخلو أن يختصه تعالى دونهم، أو ينص لهم على أن اختيارهم يوافق المعصوم، والأول لا يؤثر شيئا فيما قصدوه، والثاني نص على عين المعصوم، لأنه لا فرق بين أن ينص سبحانه على عينه أو على تميزه بفعل غيره. ويصح هذا اللطف برئيس واحد في الزمان بهذه الصفة، ويستصلح أهل الأصقاع بأمرائه الملطوف لهم، ويجوز كونه بوجود عدة رؤساء بالصفات التي بيناها في وقت واحد. ويجب ذلك في كل صقع في ابتداء الرئاسة، وفي كل حال تعذر العلم بوجود الرئيس المخصوص فيها ومن قبله من الأمراء، لأن تعذر العلم في ابتداء الرئاسة لطف فيه. وإن كنا قد أمنا هذا التجويز والقطع في شريعتنا، لحصول العلم بأن الرئيس واحد، وأنه لا مكلف تكليفا عقليا ولا سمعيا خارج عن تكليف نبوة نبينا وإمامة الأئمة عليهم السلام وما جاء به من الشرعيات، وأن التكليف من دون المعلم أو إمكانه قبيح، فاقتضى ذلك رفع الجائز العقلي وما ابتنى عليه من الوجوب.

 

تقسيم الرئاسة إلى نبوة وإمامة

وهذه الرئاسة قد تكون نبوة، وكل نبي رسول وإمام إذا كان رئيسا، وقد تكون إمامة ليست بنبوة. ومعنى قولنا: نبي، يفيد الإخبار من أنبأ ينبئ ونبا بالتشديد، من التعظيم، مأخوذ من النبوة، وهو: الموضع المرتفع. وفي عرف الشرائع: المؤدي عن الله بغير واسطة من البشر، وهذه الحقيقة الشرعية تتناول المعنيين المذكورين، لأن المؤذي عن الله تعالى مخبر ومستحق في حال أدائه التعظيم والاجلال. وأما رسول، فمقتض لمرسل وقبول منه للارسال، كوكيل ووصي. وهو في عرف الشرائع مختص بمن أرسله الله تعالى مبينا لمصالح من أرسل إليه من مفاسده. وفي عرف شريعتنا: مختص بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلوات الله عليه وآله، لأنه لا يفهم من قول القائل: قال رسول الله صلى الله ( عليه وآله ) وروي عن الرسول، غيره. والإمام هو: المتقدم على رعيته المتبع فيما قال وفعل.

 

الغرض من بعثة النبي

والغرض في بعثة النبي - زائدا على الاستصلاح برئاسته إن كان رئيسا عقليا من الوجه الذي ذكرناه - بيان مصالح المرسل إليهم من مفاسدهم التي لا يعلمها غير مكلفهم سبحانه، وهو الوجه في حسن البعثة، لكون اللطف غير مختص بجنس من جنس، ولا بوجه من وجه، ولا وقت من وقت، وإنما يعلم ذلك عالم المصالح. وقد بينا وجوب فعل ما يعلمه لطفا من فعله سبحانه، وبيان ما يعلمه كذلك من أفعال المكلف، فيجب متى علم أن من جنس أفعاله ما يدعوه إلى الواجب ويصرفه عن القبيح، أو يجتمع له الوصفان، أو يكون مقربا أو مبعدا، أن يبين ذلك للملطوف له بالإيحاء إلى من يعلم من حاله تحمله بأعباء البلاغ، وكونه بصفة من تسكن الأنفس إليه، وإقامة البرهان على صدقه متى علم تخصص المصلحة ببيانه عليه السلام دون فعله تعالى العلم بذلك في قلبه، أو خطابه على وجه لا ريب فيه، أو ببعض ملائكته، أو كونه نائبا في بيان المصلحة مناب ما تصح النيابة فيه.

 

صفات الرسول

والصفات التي يجب كون الرسول عليه السلام عليها، هي أن يكون معصوما فيما يؤدي، لأن تجويز الخطأ عليه في الأداء يمنع من الثقة به، ويسقط فرض اتباعه، وذلك ينقض جملة الغرض بإرساله، وأن يكون معصوما من القبائح لكونه رئيسا وملطوفا برئاسته لغيره حسب ما دللنا عليه، ولأن تجويز القبيح عليه ينفر عن النظر في معجزه، ولأنه قدوة فيما قال وفعل، وتجويز القبيح عليه يقتضي إيجاب القبيح، ولأن تعظيمه واجب على الإطلاق والاستخفاف به فسق على مذاهب من خالفنا وكفر عندنا، ووقوع القبيح منه يوجب الاستخفاف، فيقتضي ذلك وجوب البراءة منه مع وجوب الموالاة له.

 

المعجز وشرطه

والطريق إلى تميزه المعجز أو النص المستند إليه، لاختصاصه من الصفات بما لا يعلمه إلا مرسله تعالى. ويفتقر المعجز إلى شروط ثلاثة: منها: أن يكون خارقا للعادة، من فعله تعالى، مطابقا لدعواه. واعتبرنا فيه خرق العادة، لأن دعوى التصديق بالمعتاد لا تقف على مدع من مدع، ولا تميز صادقا من كاذب وإن كان من فعله تعالى، كطلوع الشمس من المشرق ومجئ المطر في الشتاء والحر في الصيف، وطريق العلم بذلك اعتبار العادات وما يحدث فيها، وخروج الفعل الظاهر على يد المدعي عن ذلك. واعتبرنا كونه من فعله تعالى، لجواز القبيح على كل محدث، وجوازه يمنع من القطع على صدق المدعي وكون ما أتى به مصلحة، وطريق العلم بذلك أن يختص خرق العادة بمقدوراته تعالى، كإيجاد الجواهر وفعل الحياة، أو يقع الجنس من مقدورات العباد على وجه لا تمكن إضافته إلى غيره، كرجوع الشمس وانشقاق القمر وأمثال ذلك. واعتبرنا كونه مطابقا للدعوى، لأنه متى لم يكن خرق العادة متعلقا بدعوى مخصوصة لم يكن أحد أولى به من أحد. فإذا تكاملت هذه الشروط، فلا بد من كونه دلالة على صدق المدعى، لكون هذا التصديق نائبا مناب لو قال تعالى: صدق هذا فيما يؤذيه عني، كما لا فرق في كون الملك الحكيم مصدقا لمدعي إرساله له بين أن يقول: صدق علي، أو يفعل ما ادعى كونه مصدقا له به مما لم تجر عادة الملك بفعله. فإن كان ما ذكرناه مشاهدا، ففرض المشاهد له النظر فيه، لكونه خائفا من فوت مصالح وتعلق مفاسد، وإن كان نائيا عن حدوث المعجز أو موجودا بعد تقضيه، فلا بد مع تكليف ما أتى به النبي عليه السلام من نصب دلالة على صدقه وصحة ما أتى به، لقبح التكليف من دونهما. وذلك يكون بأحد شيئين: إما قول من يعلم صدقه وإن كان واحدا، أو تواتر نقل لا يتقدر في ناقليه الكذب بتواطئ وافتعال، أو إنفاق لبلوغهم حدا في الكثرة وتنائي الديار والأغراض، أو وقوع نقلهم على صفة يعلم الناظر فيها تعذر الكذب في مخبرهم من أحد الوجوه بقضية العادة وإن قلوا، وإن كانت هذه الطبقة تنقل عن غيرها وجب ثبوت هذه الصفات في من ينقل عنه، ثم كذا حتى يتصل النقل بجماعة شاهدت المعجز لا يجوز على مثلها الكذب. وذلك لا يتم إلا بتعين الأزمنة للناظر في النقل وتميز الناقلين ذوي الصفة المخصوصة في كل زمان، لأن الجهل بأعيان الأزمنة يقتضي الجهل بأهلها، وتعين الأزمنة مع الجهل بأعيان الناقلين الموصوفين يقتضي تجويز انقطاع النقل وتجويز افتعاله واستناده إلى معتقدين دون الناقلين. فمتى اختل شرط مما ذكرناه ارتفع الأمان من كذب الخبر المنقول، ومتى تكاملت الشروط حصلت الثقة بالمنقول. وهذه الصفات متكاملة في نبينا صلوات الله عليه، ومن عداه من الأنبياء عليهم السلام، فطريق العلم بنبوتهم إخباره عليه السلام، لكونهم غير مشاهدين، ولا تواتر بمعجز أحد منهم، لافتقار التواتر إلى الشروط المعلوم ضرورة تعذرها في نقل من عدا المسلمين. وإذا وجب ذلك اقتضى القطع على نبوة من أخبر بنبوته من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء على التفصيل والجملة، وكونهم بالصفات التي دللنا على كون النبي عليها، وتأول كل ظاهر سمعي خالفها بقريب أو بعيد، لوقوف صحته على أحكام العقول وفساد تضمنه ما يناقضها، إذ كان تجويز انتقاضها به يخرجها من كونها دلالة على فساد سمع أو غيره، وهذا ظاهر الفساد.

 

طريق العلم بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم

وطريق العلم بنبوته عليه السلام من وجهين: أحدهما: القرآن. والثاني: ما عداه من الآيات، كانشقاق القمر، ورجوع الشمس، ونبوع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير باليسير من الطعام، وغير ذلك. والقرآن يدل على نبوته عليه السلام من وجوه: أحدها: حصول العلم باختصاصه به عليه السلام، وتحديه الفصحاء به، وتقريعهم بالعجز عن معارضته، كما يعلم ظهوره عليه السلام ودعواه النبوة، وقد تضمن آيات التحدي بقوله: ( فأتوا بعشر سور )، ( فأتوا بسورة من مثله )، ثم قطع على مغيبهم فقال سبحانه: ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ومعلوم توفر دواعيهم إلى معارضته، وخلوصها من الصوارف وارتفاعها. فلا يخلو أن تكون جهة الإعجاز تعذر جنس الكلام، أو مجرد الفصاحة والنظم، أو مجموعهما، أو سلب العلوم التي معها تتأتى المعارضة. والأول ظاهر الفساد، لكون كل محدث سليم الآلة قادرا على جنس الكلام، ومن جملته القرآن، ولهذا يصح النطق بمثله من كل ناطق. والثاني يقتضي حصول الفرق بين قصير سورة وفصيح الكلام على وجه لا لبس فيه على أحد أنس بموضع الفصاحة، لكون كل سورة منه معجزا وما عداه معتادا، كالفرق بين انقلاب العصا حية وتحريكها، وفلق البحر والخوض فيه، وظفر البحر وجدوله. وفي علمنا بخلاف ذلك وأنا على مقدار بصيرتنا بالفصاحة نفرن بين شعر النابغة وزهير وشعر المتنبي فرقا لا لبس فيه، مع كونهما معتادين، ولا يحصل لنا مثل هذا بين قصير سورة وفصيح كلام العرب، مع وجوب تضاعف ظهور الفرق بينهما، لكون أحدهما معجزا والآخر معتادا، دليل على أنه لم يخرق العادة بفصاحته. ولا يجوز كون النظم معجزا، لأنه لا تفاوت فيه، ولهذا نجد من أنس بنظم شئ من الشعر قدر على جميع الأوزان بركيك الكلام أو جيده، وإنما يقع التفاوت بالفصاحة. ولا يجوز أن يكون الإعجاز بمجموعهما من وجهين: أحدهما: أنا قد بينا تعلق الفصاحة والنظم بمقدور العباد منفردين، وذلك يقتضي صحة الجمع بينهما، لأن القادر على إيجاد الجنس على وجهين منفردين يجب أن يكون قادرا على إيجاده عليهما مجتمعين، إذ كان الجمع بينهما صحيحا، لولا هذه لخرج عن كونه قادرا عليهما. الثاني: أنه لو كان نظم الفصاحة المخصوصة يحتاج إلى علم زائد، لكان علمنا بأن العرب الفصحاء قد نظموا ما قارب القرآن في الفصاحة تسعرا وسجعا وخطبا دليلا واضحا على كونهم قادرين على نظم فصاحتهم في مثل أسلوب القرآن، لأنا قد بينا أن القدرة على نظم واحد تقتضي القدرة على كل نظم. وإذا بطلت سائر الوجوه ثبت أن جهة الإعجاز كونهم مصروفين، وجرى ذلك مجرى من ادعى الإرسال إلى جماعة قادرين على الكلام والتصرف في الجهات، وجعل الدلالة على صدقه تعذر النطق بكلام مخصوص وسلوك طريق مخصوص، في أن تعذر ذين الأمرين مع كونهم قادرين عليهما قبل التحدي وبعد تقضي وقته من أوضح برهان على كونه معجزا، لاختصاصه بمقدوره تعالى وتكامل الشروط فيه. إن قيل: بينوا جهة الصرف وحاله، وعن أي شئ حصل ؟ قيل: معنى الصرف هو: نفي العلوم بأضدادها، أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة التي لولا انتفاؤها لصحت منهم المعارضة، وهذا الضرب مختص بالفصاحة والنظم معا، لأن التحدي واقع بهما، وعن الجمع بينهما كان الصرف. وأيضا فلو لا ذلك لكان القرآن معارضا، لأنا قد بينا عدم الفرق المقتضي للاعجاز بينه وبين فصيح كلامهم، وكون النظم والفصاحة والجمع بينهما مقدورا، ولأنه عليه السلام جرى في التحدي على عادتهم، ومعلوم أن معارض المتحدي بالوزن المخصوص لا يكون معارضا حتى تماثل في الفصاحة والوزن والقافية، وإنما وجب هذا لتعلق التحدي بالرتبة في الفصاحة والطريقة في النظم. ولا يملان أحدا دعوى معارضة للقرآن. لأنه عليه السلام لو عورض مع ظهور كلمة المعارض وضعفه عليه السلام لكانت المعارضة أظهر من القرآن، وما وجب كونه كذلك لا يجوز إستاره فيما بعد على مجرى العادات. ولأنه لو عورض لكانت المعارضة هي الحجة والقرآن هو الشبهة، وذلك يقتضي ظهورها، ليكون للمكلف طريق إلى النظر يفرق ما بين الحق والباطل. وليس لأحد أن يقول: إنما لم يعارضوا لأنهم ظنوا أن الحرب أحسم. لأن الحرب لم تكن إلا بعد مضي الزمان الطويل الذي تصح في بعضه المعارضة بلا مشقة ولا خطر وفيها الحجة، والحرب خطر بالأنفس والأموال ولا حجة فيها، والعاقل لا يعدل عن الحجة مع سهولتها إلى ما لا حجة فيه مع كونه خطرا إلا للعجز عن الحجة، ولهذا لو رأينا متحديا ذوي صناعة بشئ منها ومفاخرا لهم به، ومدعيا التقدم عليه فيها، ثم تحداهم به فعدلوا عن معارضته إلى شتمه وضربه، لم تدخل علينا شبهة في عجزهم عما تحداهم، ولا ريب في عنادهم، وهذه حال القوم المتحدين بالقرآن بلا قبح. وببعض هذا تسقط شبهة من يقول: إنه عليه السلام شغلهم بالحرب عن معارضته، لأن الحرب لا تكن إلا بعد مضي أزمنة يصح في بعضها وقوع المقدور الذي صارف عنه مع خلوص الدواعي إليه، ولأن الحرب لا تمنع من الكلام، ولهذا اقترنت بالنظم والنثر ولم تنقص رتبة ما قالوه من ذلك في زمنها في الفصاحة عما قالوه في غيرها، على أن الحرب لم تستمر، وإنما كانت أحيانا نادرة في مدة البعثة ومختصة في حالها بقوم من الفصحاء دون آخرين. ومن وجوه إعجاز القرآن: قوله تعالى: ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا )، فقطع على عدم له، فكان كما أخبر، وهذا يقتضي اختصاص هذا الإخبار بالقديم تعالى المختص بعلم الكائنات القادر على منعهم من التمني بالقول، ويجري ذلك مجرى لو قال لهم: الدلالة على صدقي أنه لا يستطيع أحد منكم أن ينطق بكذا، مع كونهم قادرين على الكلام، في ارتفاع اللبس أن تعذره يقتضي كون ذلك معجزا. ومنها: ما تضمنه من أخبار الأمم السالفة وقصص الرسل، مع حصول نشوئه عليه السلام بعيدا عن مخالطة أهل الكتب والكتابة أميا فيها، نائيا عن سماع أخبار الأنبياء. ومنها: ما تضمنه من الإخبار عن بواطن أهل النفاق وإظهارهم خلاف ما يبطنون، والعلم في النفوس موقوف عليه تعالى، فيجب كونه دلالة على نبوته. ومنها: ما تضمنه من الإخبار عن الكائنات، ومطابقة الخبر المخبر في قوله تعالى: ( سيهزم الجمع ويولون الدبر )، و ( لتدخلن المسجد الحرام ) ( ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون )، وقوله تعالى: ( لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار )، وقوله: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) الآية، وقوله: ( إذا جاء نصر الله والفتح ). وأمثال ذلك من الآيات والأخبار بما يكون مستقبلا، ووقوع ذلك أجمع مطابقا للخبر، مع علمنا بوقوف ذلك عليه تعالى. وهذه الأخبار إنما تدل على صدق المخبر بعد وقوع المخبر عنه، ولا يجوز أن يجعلها دلالة على افتتاح الدعوة، لتأخر ( ها ) عنها. وأما دلالة الآيات الخارجة من القرآن الدالة على نبوته عليه السلام، فتفتقر إلى شيئين: أحدهما: إثبات كونها. الثاني: كونها معجزات. والدلالة على الأول: أنا نعلم وكل مخالط لأهل الإسلام تعين الناقلين من فرق المسلمين وانقسامهم إلى شيعة وغيرهم، وبلوغ كل طبقة في كل زمان حدا لا يجوز معه الكذب، وإخبار من بينا من الفريقين عن أمثالهم، وأمثالهم عن أمثالهم، حتى يتصلوا بمن هذه صفته من معاصري النبي عليه السلام. وأنه انشق له القمر، وردت الشمس، ونبع الماء من بين أصابعه، وأشبع الجماعة بقوت واحد، مع حصول العلم بتميز أزمانهم ووجود من هذه صفته في كل زمان، ( و ) ذلك يقتضي صدقهم، لأن الكذب لا يتقدر فيمن بلغ مبلغهم إلا بأمور: إما باتفاق من كل واحد، أو بتواطؤ، أو بافتعال من نفر يسير وانتشاره فيما بعد. والأول ظاهر الفساد، لأن العادة لم تجر بأن ينظم شاعر بيتا فيتفق نظم مثله لكل شاعر في بلده فضلا من شعراء أهل الأرض. والثاني يحيله تنائي ديارهم واختلاف أغراضهم وعدم معرفة بعضهم لبعض، ولو جاز لوقع العلم به ضرورة، لأنه لا يكون إلا باجتماع في مكان واحد أو بتكاتب وتراسل، وكل منهما لو وقع من الجماعات المتباعدة الديار لحصل العلم به لكل عاقل. وافتعاله ابتداء بنفر يسير وانتشاره فيما بعد يسقط من وجهين: أحدها: تضمن نقل من ذكرناه صفة الناقلين واتصالهم بالنبي لصفتهم المتعذر معها الافتعال في المنقول، فما منع من كذبهم في النقل للخبر يمنع منه في صفة الناقلين. والثاني: أن النقل لهذه المعجزات لو كان مفتعلا من نفر يسير ثم انتشر لوجب أن نميزهم بأعيانهم، ونعلم الزمان الذي افتعلوه فيه، حسب ما جرت به العادات في كل مفتعل مذهبا: كملكا ويعقوب ونشطور ومنتحلي الإنجيل كمتا ولوقاوينا، وكمنشئي القول بالمنزلة بين المنزلتين من واصل وعمرو بن عبيد، وما أفتاه جهم بن صفوان، وما ابتدعه أبو الحسن الأشعري، وما اخترعه ابن كرام، وتميز الأوقات بذلك وتعين المحدث فيها. وإذا وجبت هذه القضية في كل مفتعل، وفقدنا العلم والظن بمفتعل هذه الآيات وزمان افتعالها، بطل كونها مفتعلة، وإذا تعذرت الوجوه التي معها يكون الخبر كذبا في مخبر الناقلين لأيام النبي، ثبت صدقهم. وأما الدلالة على الثاني فهو: أن كل متأمل يعلم تعذر رد الشمس وانشقاق القمر على كل محدث، وأما نبوع الماء من بين الأصابع فمختص بإيجاد الجواهر وما فيها من الرطوبات التي لا يتعلق بمقدور محدث، وكذلك القول في إشباع الخلق الكثير بيسير الطعام وهو لا محالة مستند إلى ما لا يقدر عليه غيره تعالى، لرجوعه إلى إيجاد الجواهر المماثلة للمأكول، مع علمنا بتعذرها على المحدثين. ولا يقدح في نقل هذه الآيات اختصاصه بالدائنين به، لأن المعتبر في صدق الناقل وصحة المنقول ثبوت الصفة التي معها يتعذر الكذب وإن كان الناقل فاسقا، وقد دللنا على ثبوتها لناقلي المعجزات، فيجب القطع على صدقهم وسقوط السؤال. على أن النقل مفتقر إلى داع خالص من الصوارف، ولا داعي لمخالف الإسلام الراكن إلى التقليد العاشق لمذهب سلفه لنقل ما هو حجة عليه مفسد لنحلته، بل الصوارف عنه خالصة من الدواعي، فلذلك لم ينقل مشاهدو المعجزات من مخالفي الله لما شاهدوه ونشأ خلفهم عن سلف لم ينقلوها إليهم، فانقطع نقلها منهم، ولا يقيم هذا عذرهم لثبوت الحجة بنقلها ممن بيناه، مع كونهم مخوفين من العذاب الدائم بجحدها. ويقلب هذا السؤال على مثبتي النبوات من مخالفي الإسلام، بأن يقال: لو كانت المعجزات اللاتي يدعون ظهورها على إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ثابتة لنقلها كل مخالف، فمهما انفصلوا به كان انفصالا منهم. وإذا ثبتت بنبوة نبينا عليه السلام وجب اتباعه والعمل بما جاء به على الوجه الذي شرعه، والحكم بفساد كل ما خالفه من النحل، وضلال مخالفه والقطع على كفره، لكون ذلك معلوما من دينه عليه السلام.

 

في النسخ

ولا يقدح في ثبوت النبوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يقوله بعض اليهود: من أن النسخ يؤدي إلى البداء. لأن الفعل لا يكون بداء إلا أن يكون المأمور به هو المنهي عنه بعينه، وأن يكون المكلف واحدا، والوقت واحدا، والوجه واحدا، لأنه لا وجه للنهي عن المأمور به مع تكامل الشرائط المذكورة إلا أن الآمر ظهر له ما كان مستترا، وهذا مستحيل فيه تعالى، لكونه عالما لنفسه، ومتى اختل شرط واحد لم يكن بداء بغير شبهة، بل تكليف حسن. وما أتى به نبينا عليه السلام ليس ببداء، لأن المنهي عنه به عليه السلام غير المأمور به موسى، والمكلف غير المكلف، والوقت غير الوقت، والوجه والصفة غير الوجه والصفة، وإنما هو تكليف اقتضت المصلحة بيانه. وقد بينا أن الوجه في البعثة بيان المصالح من المفاسد، وما هو كذلك موقوف على ما يعلمه سبحانه، فمتى علم اختصاص المصلحة بفعل أو ترك مدة، وكون ذلك بعد انقضائها مفسدة أو لا مصلحة فيه، فلا بد من اختصاص المصلحة بفعل أو ترك مدة، وكون ذلك بعد انقضائها مفسدة أو لا مصلحة فيه، فلا بد من إسقاطه، وإلا كان نبوته مفسدة أو ظلما لا يجوزان عليه سبحانه. ولذلك متى علم سبحانه في عمل معين كونه مصلحة لمكلف ومفسدة لآخر وجب أمر أحدها به ونهي الآخر عنه، وإن علم في فعل معين كونه مصلحة لمكلف وفي فعل آخر مفسدة له فلا بد من أمره بأحدهما ونهيه عن الآخر، وإن علم أن الفعل في وقت مصلحة وفي آخر مفسدة فلا بد من أمره به في وقت المصلحة ونهيه عن مثله في وقت المفسدة، وإن علم أن إيقاع الفعل على وجه يكون مصلحة وعلى آخر يكون مفسدة فلا بد من الأمر بإيقاعه على وجه المصلحة والنهي عن وجه المفسدة. الدلالة على حسن التكليف مع هذه الوجوه قبح ذم من كلف مع تكاملها أو بعضها، ولأن تجويز قبح التكليف والحال هذه ينقض النبوات، لأنه لا وجه لها إلا ما ذكرناه، ولا انفصال من الملحدة والبراهمة فيما يقدحون به - من اختصاص الامساك بالسبت دون الأحد، ووجوب العبادة في وقت معين وقبحها في غيره، وتحليل مثل المحرم في وقتي الصوم والافطار وفي تحريمه مثل المحلل على كل حال، كالشحم والمختلط باللحم والمتميز منه، ووجوب السبت على من بعث إليه موسى دون غيره ممن تقدم أو عامر أو تأخر - إلا بإسناد ذلك إلى المصلحة الموقوفة على ما يعلمه سبحانه. وإذا تقرر هذا، وكان ما أتى به نبينا عليه السلام من الشرائع مغايرا لأعيان ما كلفوه، وفي غير وقته، وعلى غير وجهه، وبغير مكلفيه حسب ما بيناه ثبت حسنه ووجوبه، لكونه مصلحة معلومة بصدق المبين. أما إن قيل: بينوا لنا ما النسخ لنعلم تميزه من البداء ؟ قيل: هو كل دليل رفع، مثل الحكم الشرعي الثابت بالنص بدليل لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه. وقلنا: رفع مثله. لأن رفع عين المأمور به بداء. وقلنا: شرعي. لأنه لا مدخل للنسخ في العقليات. وقلنا: ثابتا. لأنه لا يرفع ما لم يجب مثله. وقلنا: بدليل. لأن سقوط التكليف بعجز أو منع أو فقد آلة أو غير ذلك من الموانع لا يكون نسخا. وقلنا: مع تراخيه عنه. لأن المقارن لا يكون نسخا، لو قال تعالى: صل مدة سنة كل يوم ركعتين، لم يكن سقوط هذا التكليف بانقضاء الحول نسخا. ومتى تكاملت هذه الشروط كان نسخا، والمرفوع منسوخا، والرافع ناسخا. وتأمل كل ناسخ ومنسوخ في شرعنا يوضح عن تكامل هذه الشروط فيه. وامتناعهم من النظر في دعوتنا وتحرزهم من تخويفنا - بدعواهم أن موسى عليه السلام أمرهم بإمساك السبت أبدا وتكذيب من نسخه - إخلال بواجب التحرز، واعتصام بغير حجة، لأنه لا طريق لهم إلى العلم بصحة هذا الخبر، بل لا طريق لهم إلى إثباته واحدا، وإنما يخبرون عن اعتقادات متوارثة عن تقليد، لافتقار ثبوت النقل المتواتر وما ورد من طريق الآحاد إلى العلم بأعيان الأزمنة وتعيين الناقلين في كل زمان، لأن الجهل بالزمان يقتضي الجهل بمن فيه وتعذر العلم به، وفقد العلم بثبوت الناقلين فيه يمنع من العلم بالتواتر والآحاد بغير إشكال. وهذان الأمران متعذران على اليهود، لأنه لا يمكن أحدا منهم دعوى حصول النص بأعيان الأزمنة متصلة بوجود اليهود فيها إلى زمن موسى، وإن ادعاه طولب بالحجة، ولن يجدها بضرورة ولا دلالة، والأزمان المعلوم وجود اليهود فيها لا سبيل لمم إلى إثبات ناقلين من جملتهم آحاد فضلا عن متواترين. وإذا تعذر الأمران لم يبق لاعتقادهم صحة هذا الإخبار إلا التقليد الذي لا يؤمن مخوفا ولا يقتضي تحرزا. ولأن وجوب التحرز من تخويفنا ضروري، والعلم بما تخوف منه ممكن لكل ناظر في الأدلة، وما يدعى على موسى إذا لم يكن إثباته على ما أوضحناه قبح التكليف معه، وهو سبحانه لا يكلف على وجه يقبح، فيجب لذلك القطع على سقوط تكليف شرعهم وفرض التمسك به بخبر غير ثابت بعلم ولا ظن، مع الخوف العظيم من المتمسك به. على أن الخبر المذكور من جنس الأقوال المحتملة للاشتراط والتخصيص والتقييد والتجوز بغير إشكال، والمعجز بخلاف ذلك، فلو فرضنا صحته لوجب تخصصه أو اشتراطه أو تقييده أو نقله عن حقيقة إلى المجاز لثبوت النسخ لشرعهم بالمعجز الذي لا يحتمل التأويل، إذ لا فرق بين تخصيص القول أو اشتراطه أو نقله عن أصله بالدليل الأصلي واللفظ والعقلي، بل العقلي آكد، وإذا جاز نقل الألفاظ عن موضعها بمثلها، فبالأدلة العقلية أجوز. على أن موسى عليه السلام إن كان قال هذا لم يخل من أحد وجهين: إما أن يريد الامتناع بالنسخ وتكذيب من أتى به وإن كان صادقا بالمعجز. أو يريد ذلك مع فقد علم التصديق. وإرادة الأول لا يجوز لكونه قادحا في نبوته، بل في جميع النبوات، لوقوف صحتها على ظهور العلم بالمعجز وفساد كونه دالا في موضع دون موضع. فلم يبق إلا أنه عليه السلام إن كان قال ذلك فعلى الوجه الثاني الذي لا ينفعهم ولا يضرنا. وليس لمم أن يتعذروا مما لزمناهم: بفقد دليل على نبوة من ادعى نسخ شرعهم. لأن فقد ذلك ليس بمعلوم ضرورة، فيجب عليهم أن يجتنبوا السكون إلى ما هم عليه حتى ينظروا فيما يدعوا إليه وبخوفوا منه، ومتى فعلوا الواجب عليهم علموا صحة نبوة نبينا عليه السلام وفساد ما يدينون به، لأنا قد دللنا بثبوت الأدلة الواضحة على نبؤته عليه السلام، وإلا يفعلوا يؤتون في فقد العلم بالحق من قبل أنفسهم وبسوء اختيارهم والحجة لازمة لهم. ثم يقال لهم: دلوا على نبؤة من تزعمون أنكم على شرعه. فإن فزعوا إلى ترتيب العبارة عن الاستدلال بالتواتر بمعجزات موسى عليه السلام، طولبوا بإثبات صفات التواتر، فإنهم لا يجدون سبيلا إليها حسب ما أوضحناه، وإذا تعذر ذلك سقط دعواهم ولزمتهم الحجة. ثم يسلم لهم دعوى التواتر وتقابلوا بالنصارى، فلا يجدون محيصا عن التزام النصرانية وتصديق عيسى، أو تكذيبه وموسى عليهما السلام، إذ إثبات أحد الأمرين والامتناع من تساويهما لا يمكن. وكل شئ يقدحون به في نقل النصارى يقابلون بمثله من البراهمة، وللنصارى أكبر المزية، لحصول العلم للأكل مخالط باتصال وجودهم في الأزمنة إلى من شاهد المعجزات وتعذر مثل ذلك فيهم، ولا انفصال لهم من النصارى بضلالهم في إلهية المسيح عليه السلام، أو القول بالنبوة، أو الاتحاد، لتميز النقل من الاعتقاد بصحة دخول الشبهة في الاعتقاد وارتفاعها عن التواتر، وثبوت صدق المتواترين وإن كانوا ضلالا أو اعتقدوا عند هذا النقل ضلالا. ألا ترى إلى وجود كثير من العقلاء قد ضلوا عند ظهور المعجزات على الأنبياء والأئمة عليهم السلام، فاعتقدوا لذلك إلهيتهم، ولم يمنع ذلك من صدقهم فيها، لانفصال أحد الأمرين من الآخر. وإلزامهم على هذه الطريقة نبوة نبينا عليه السلام لتواتر المسلمين في الحقيقة بالمعجزات الظاهرة عقيب دعواه أبلغ في الحجة، لأنه لا يمكنهم القدح في نقل المسلمين بشئ مما قدحنا به في نقلهم وما قدحوا به على النصارى. وهذا كاف، والمنة لله.