موقع عقائد الشيعة الإمامية

 

صلح الحسن عليه السلام

في الموقف السياسي

7- عناصر الجيش

 قال المفيد في الارشاد ( 169 ) : « وبعث الحسن حجر بن عديّ فأمر العمال ـ يعني امراء الاطراف ـ بالمسير ، واستنفر الناس للجهاد ، فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا ، وخف معه اخلاط من الناس ، بعضهم شيعة له ولابيه ، وبعضهم محكّمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكّاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين .. (1) ».
 اقول : علمنا مما سبق قريباً ان جيش الحسن تألف من زهاء عشرين الفاً ، أو يزيد قليلاً ، ولكنا لم نعلم بالتفصيل الطريقة التي اتخذت لتأليف هذا الجيش. والمعتقد انها كانت الطريقة البدائية التي لم تدخلها التحسينات المكتسبة بعد ذلك. وهي ـ اذ ذاك ـ الطريقة المتبعة في التجمعات الاسلامية مع القرون الاولى في الاسلام ، وهي الطريقة التي لا تشترط لقبول الجندي أو لقبول المجاهد أيّ قابليات شخصية ، ولا سناً خاصة ، ولا تنزع في مناهج تجنيدها الى الاجبار بمعناه المعروف اليوم. وللمسلم القادر على حمل السلاح وازعه الديني حين يسمع داعي اللّه بالجهاد فاما ان يبعث فيه هذا الوازع ، الشعور بالواجب فيتطوع بدمه في سبيل اللّه. واما ان يكون المغلوب على أمره بدوافع الدنيا ، فيخمد في نفسه هذا الشعور ، ويحرم نصيبه من الاجر ومن الغنيمة اذا قدّر لهذه الحرب الظفر والغنائم.
 اما النظم الحديثة المتبعة اليوم في الاجبار على خدمة العلم ، ودعوة ( مواليد ) السنوات المعينة ، وفحص القابليات المحدودة ، فلم تكن يومئذ ولا هي مما يتفق والتشريع الاسلامي بسعته وسماحته.
 


1 ـ وروى هذا النص الاربلي في كشف الغمة ( ص 161 ) والبحار ( ج 10 ص 110 ).


 وللاسلام اعتداده بصحة حقائقه التي تكفل له بعث الناس الى الطاعة والانقياد. وليس في عناصر هذا الدين إكراه أحد على الطاعة بالقوة. ولكنه دلّهم على السبيلين وأعان على خيرهما بالهدى « والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا » وكان هذا هو شعار الاسلام في جميع ما أمر به أو نهى عنه.
 وعلى ذلك جرى رؤساء المسلمين فيما دعوا الناس اليه ، وفيما حذّروا الناس منه.
 وكان لهم عند اعتزامهم الحرب ، دعاواتهم الرائعة ، في التحريض على الجهاد ، وأساليبهم المؤثرة التي لا تتأخر ـ غالباً ـ عن اقناع اكبر عدد من المطلوبين الى حمل السلاح.
 فمن ذلك ، أنهم كانوا يزيدون في مخصصات أهل العطاء من مقاتلتهم ، ويأمرون عمالهم على البلاد فيستنفرون الناس للجهاد ، ويبثون السنتهم وخطباءهم وذوي التأثير من رجالهم لبعث الناس الى التطوع في سبيل اللّه عز وجل.
 وفعل الحسن عليه السلام كل ذلك منذ ولي الخلافة في الكوفة ، ومنذ أعلن النفير للحرب. وكان من أوليّاته ـ كما اشير اليه آنفاً ـ : انه زاد المقاتلة مائة مائة ، وبعث حجر بن عديّ الى عماله يندبهم الى الجهاد ، ونهض معه مناطقته الافذاذ من خطباء الناس أمثال عديّ بن حاتم ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن صعصعة التيمي ، وقيس بن سعد الانصاري. فأنّبوا الناس (1) ، ولاموهم على تثاقلهم ، وحرضوهم على اجابة داعي اللّه ، ثم تسابقوا بأنفسهم الى صفوفهم في المعسكر العام ، يغلبون الناس عليه.
 ونشرت الوية الجهاد في « أسباع الكوفة » وفي مختلف مرافقها العامة ، تدعو الناس الى اللّه عزّ وجل ، وتدين بالطاعة لآل محمد عليهم السلام.


1 ـ ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 14 ).


 وانبعث في الحاضرة المتخاذلة وعي جديد يشبه ان يكون تحسّساً بالواجب ، أو استعداداً له.
 وكان التثاقل عن الحرب حباً بالعافية أو انصهاراً بدعاوات الشام ، قد اخذ حظه من أهل الكوفة وممن حولها.
 اما هذا الوعي الجديد الذي يدين لهؤلاء الخطباء المفوَّهين ، فلم يلبث أن بعث في كثير من المتثاقلين رغبة ، فأثارت الرغبة نشاطاً ، فانبثق من النشاط حماس.
 ونجحت دعاوة الشيعة الى حد ما ، في اكتساب العدد الاكبر من المتحمسين للحرب ، رغم المواقف اللئيمة التي وقفها يومئذ المعارضون في الكوفة « ونشط الناس للخروج الى معسكرهم (1) ».
 ونجحت ـ الى حد بعيد ـ في اكتساب الرأي العام ، في الكوفة وأسباعها وقبائلها ، وفي الضواحي القريبة التي لا تنقطع بمواصلاتها اليومية ، عن اسواق الكوفة ، وعن مراكز القضاء والادارة فيها.
 وكان من براعة خطباء الحسن ، انهم أحسنوا استغلال الذهنية المؤاتية في الناس ، فبذلوا قصارى امكانياتهم في الدعوة الى أهل البيت تحت ستار الدعوة للجهاد.
 وبحّت حناجر الاولياء ، فيما يعرضون من مناقب آل محمد ومثالب أعدائهم. ومرّوا على مختلف نوادي الكوفة وأحيائها وأماكنها العامة ، ينبهون الناس الى المركز الممتاز الذي ينفرد به سيّدا شباب اهل الجنة اللذان لا يعدل بهما أحد من المسلمين ، والى الصلابة الدينية المركزة الموروثة في أهل بيت الوحي ، والمزايا التي يستأثر بها هذا الفخذ من هاشم في العلم والطهارة والزهد بالدنيا والتضحية في اللّه والعمل لاصلاح الامة ووجوب المودة على المؤمنين.


1 ـ نص عبارة ابن ابي الحديد في الموضوع ( ج 4 ص 14 ).


 ثم ذكروا البيعة وما اللّه سائلهم عنه من طاعة اولي الامر ووجوب الوفاء بالميثاق.
 وعرضوا في حماستهم الى الانساب ، فاذا هي « مقامة » ظريفة جداً وصادقة جداً ومؤثرة جداً ، ملكت الالباب حتى أذهلت وأثارت الاعجاب حتى أدهشت.
 ذكروا الحسن ومعاوية فقالوا : أين ابن علي من ابن صخر ، وابن فاطمة من ابن هند ، وأين من جده رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله ) ممن جده حرب ، ومن جدته خديجة ممن جدته فتيلة ؟؟ .. ولعنوا أخمل الرجلين ذكراً ، وألأمهما حسباً ، وشرَّهما قديماً وحديثاً ، وأقدمهما كفراً ونفاقاً ، فعج الناس قائلين آمين آمين. ثم جاءت بعدهم الاجيال ، فما استعرض هذه الموازنة الظريفة مسلم من المسلمين ، الا سجّل على حسابه ( آمين ) جديدة.
 وعملت هذه الاساليب الحكيمة ، والخطب الحماسية البليغة عملها وانتشرت ـ كما قلنا ـ القناعة بخذلان الشام والثقة بظفر الكوفة.
 وفي الكوفة ، وهي الحاضرة الجديدة الجبارة التي طاولت أهم الحواضر الاسلامية الكبرى ـ يومئذ ـ أجناس من الجاليات العربية وعير العربية ومن حمراء الناس وصفرائها وممن لم يرضهم الاسلام ولم يُجدهم اعتناقه توجيهاً جديداً ، ولا أدباً اسلامياً ظاهراً ، الا أن يكونوا قد أنسوا منه وسيلته الى منافعهم العاجلة. فكان هؤلاء لا يفهمون من الجهاد اذا نودي بالجهاد الا دعوته للمنافع ووسيلته الى الغنائم. ورأوا من انتشار القناعة بنجاح هذه الحرب ، أن الالتحاق بجيش الحسن ( عليه السلام ) هو الذريعة المضمونة الى استعجال المنافع والرجوع بالغنائم ، فلم لا يكونون من السابقين الاولين الى هذا الجهاد ؟.
 ولعلك تتفق معي الآن ، على اكتشاف الحوافز التي اندفعت تحت تأثيرها « الاخلاط المختلفة » من رعاع الناس الى الالتحاق بجيش الحسن ، فاذا باصحاب الفتن ، وأصحاب الطمع بالغنائم ، وأصحاب العصبيات التي لا ترجع الى دين ، والشكاك ومن اليهم ـ جنود متطوعون في هذا الجيش ، أبعد ما يكونون في طماحهم وفي طباعهم عن أهدافه وغاياته.
 ولم يكن ثمة في نظم التجنيد المتبعة في التجمعات الاسلامية يومئذ ـ كما بينا آنفاً ـ ما يحول دون قبول هؤلاء كجنود أو كمجاهدين ، لان الكفاءة الاسلامية ، والقدرة على حمل السلاح ، هي كل شيء في حدود قابليات المجاهد المسلم.
 واما الخوارج ، فيقول المفيد رحمه اللّه في تعليل التحاقهم بجيش الحسن : « انهم كانوا يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ».
 ولكنا لا نؤمن بهذا التعليل على اجماله ، ولا ننكره على بعض وجوهه وقد يكون ما يقوله المفيد بعض هدفهم ، وقد يكون هدفهم شيئاً آخر غير هذا.
 وليس فيما نعهده من علاقات « الخوارج » مع الحسن وأبي الحسن عليهما السلام ما يشجعنا على الظن الحسن بهم ، وان لنا من دراسة أحداث النهروان ما يزيدنا فيهم ريباً على ريب. واذا صح أنهم انما أرادوا قتال معاوية حين تبعوا الحسن ، وأنهم كانوا لا يقصدون بالحسن سوءاً ، فأين كانوا عن معاوية قبل ذلك ، ولِم لم يتألبوا عليه كما كانوا يتألبون على علي عليه السلام في انتفاضاتهم التي حفظها التأريخ ؟ ..
 وكان للخوارج من ذحولهم القريبة العهد ، ومن اسلوب دعاوتهم النكراء ما يحفزنا حفزاً الى سوء الظن بما يهدفون اليه في خروجهم مع الحسن عليه السلام.
 وعلمنا من أحوالهم قبل خروجهم لهذه الحرب ، أنهم كانوا يداهنون الناس ويجاملون الحسن ، بعد وقيعتهم الكافرة بالامام الراحل عليه السلام ، يتقون بذلك غوائل الكراهة العامة التي غمرتهم في أعقاب الفاجعة الكبرى.
 أفلا يقرب الى الذهن ، أن يكون من جملة أساليب دهائهم الذي اضطروا اليه تحت ضغط الظروف الموقتة ، ان يتظاهروا بالتطوع في الجيش كما لو كانوا جنوداً مناصحين ، وان يبطنوا من وراء هذا التظاهر مقاصدهم فاذا هم جنود مبادئهم المعروفة بل مبادئهم المبطنة التي لم تعرف لحد الآن.
 وكانت فكرة « الخروج » بذرةً خبيثةً انبثقت عن قضية التحكيم بصفين ، ومنها سمّوا « المحكّمة » ، ورسخت جذور هذه الفكرة كعقيدة مكينة في نفوس هؤلاء ، واستطالت بمرور الزمن ، فبسقت عليها أشجار أثمرت للمسلمين الواناً من الخطوب والنكبات.
 وكان الخوارج على ظاهرتهم المخشوشنة في الدين ، قوماً يحسنون المكر كثيراً.
 فلم لا يغتنمون ظروف الحرب القائمة بين عدوين كبيرين من اعدائهم ؟. ولمَ لا يكونون في غمار هذا الجيش الزاحف من الكوفة يقتنصون الفرص المؤاتية ، بين تجهيزات المجاهدين ، والحركات السوقية ، والمعارك المنتظرة التي ستكون في كثير من أيامها سجالاً ـ والفرص في الحرب السجال أقرب تناولاً ، وأيسر حصولاً ، وأفظع مفعولاً ، اذا حذق المتآمرون استخدامها ـ ؟.
 ولا أريد أن انكر ـ بهذا ـ عداوتهم لمعاوية وايثارهم قتاله بكل حيلة كما أفاده شيخنا المفيد ( رحمه اللّه ). ولكني أرى أَنهم كانوا يرمون من خطتهم الى غرضين ... وما من غرض للخوارج في ثوراتهم ومؤامراتهم الا اقتناص الرؤوس العالية في الاسلام ! سواء في العراق أو في مصر أو في الشام. وعشعشت بين ظهراني هؤلاء القوم كوامن الغيلة فغلبت على سائر مناهجهم الاخرى ، فمشوا مع الحسن ولكن الى الفتنة ، وحبوا في طريق الجهاد ولكن الى الفساد. وكانت الطعنة المركزة الجريئة التي « أشوت » الحسن عليه السلام في « مظلم ساباط (1) » ، هي الحلقة الجهنمية الثانية من سلسلة جرائم هذه العصابة الخطرة في البيت النبوي العظيم.


1 ـ الساباط لغة سقيفة بين دارين من تحتها طريق نافذ ، وساباط قرية في « المدائن » عندها قنطرة على « نهر الملك » ولعلها انما سميت بهذا الاسم لوجود سقيفة نادرة من « السوابيط » فيها ، والمظنون ان هذه السقيفة هي « مظلم ساباط ».


 وكلتا الجريمتين وليدة المؤامرات السرية النشيطة التي حذقها الخوارج الطغام ، في مختلف المناسبات.
 وشاء اللّه بلطفه أن لا تبلغ طعنة ابن سنان الاسدي (1) من الحسن ، ما بلغته بالامس القريب ضربة صاحبه ابن ملجم المرادي من أمير المؤمنين أبي الحسن عليه السلام.
 ومثّلت هذه المؤامرة الدنيئة أفظع قطيعة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من نوعها ، بما حاولته من القضاء على الامام الثاني ـ سبطه الاكبر ـ. وازدلفت الى معاوية بالخدمة الفريدة التي لا تفضلها خدمة اخرى لاهدافه ، من القوم الذين كان يقال عنهم « انهم انما خرجوا مع الحسن لانهم يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة » !!
 وهكذا ثبت للامام الحسن بصورة لا تقبل الشك ، نيات المحكّمة معه رغم مجاملاتهم الكاذبة له. وكان هو منذ البداية شديد الحذر منهم ولكنه كان يعاملهم ـ دائماً ـ على ضغن مكتوم.
 وليس أنكى من عدوّ في ثوب صديق. ذلك هو العدو الذي ينافقك ظاهراً ، ويحاربك سراً. وأنكى أقسام هذا العدو عدو يحاربك بذحوله وعصبيته كما حاربت الخوارج الحسن بذحولها وعصبيتها.
 وهكذا قدّر لجيش الحسن عليه السلام ، أن يتخم بالكثرة من هؤلاء واولئك جميعاً ، وأن يفقد بهذا التلوّن المنتشر في صفوفه ، روحية الجيش المؤمل لربح الوقائع. وأن يبتلي بالصريح والدخيل من كيد العدوين الداخل والخارج ، وفي المكانين العراق والشام معاً.


1 ـ ووهم حسن مراد في كتابه ( الدولة الاموية في الشام والاندلس ) ( الباب الرابع : ص 50 ) حيث نسب طعن الحسن عليه السلام بالخنجر الى اتباع الامويين دون الخوارج. وستقرأ في فصل « سر الموقف » نصوص الحادثة كما يرويها مؤرخوها القدامى وكما يجب أن يفهمها المحدثون.


 وأحر بجيش يتألف من أمثال هذه العناصر ، أن يكون مهدداً لدى كل بادرة بالانقسام على نفسه ، والانتقاض على رؤسائه.
 ولم يكن الجهاد المقدس ـ يوماً من الايام ـ وسيلة لطمع مادي ، ولا مجالاً للمؤامرات الشائكة ، ولا مظهراً للعصبيات الجاهلية الهزيلة ، ولا مسرحاً لتجارب الشكاكين.
 و « ازدادت بصيرة الحسن بخذلان القوم له (1) » ، وتراءى له من خلال ظروفه شبح الخيبة الذي ينتظر هذه الحرب في نهاية مطافها ، اذ كانت العدة المدخرة لها ، هي هذا الجيش الذي لا يرجى استصلاحه بحال.
 وأثر عنه كلمات كثيرة في التعبير عن ضعف ثقته بجيشه.
 وكان من أبلغ ما أفضى به في هذا الصدد ـ مما يناسب موضوع هذا الفصل ـ خطابه الذي خاطب به جيشه في المدائن.
 وقال فيه :
 « وكنتم في مسيركم الى صفين ، ودينكم أمام دنياكم. وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. وأنتم بين قتيلين ، قتيل بصفين تبكون عليه ، وقتيل بالنهروان تطلبون (2) بثاره. فأما الباقي فخاذل ، واما الباكي فثائر .. ».
 وهذه هي خطبته الوحيدة التي تعرض الى تقسيم عناصر الجيش من ناحية نزعاته واهوائه في الحرب.
 فيشير بالباكي الثائر الى الكثرة من أصحابه وخاصته ، وبالطالب للثأر الى الخوارج الموجودين في معسكره [ وما كان ثأرهم الذي يعنيه الا عنده ] ويشير بالخاذل الى العناصر الاخرى من اصحاب الفتن واتباع المطامع وعبدة الاهواء.


1 ـ نص عبارة المفيد في الارشاد ( ص 170 ).
2 ـ وبرواية ابن طاووس في كتاب « الملاحم والفتن » ( ص 142 طبع النجف سنة 1368 ) : « وقتيل بالنهروان تطلبون منا ثاره ».


 واستطرد التاريخ بين صفحاته أسطراً قاتمة دامية. بما انقاد اليه الاغرار المفتونون من هذه « العناصر » ، وبما صبغوا به ميدان الجهاد المقدس ـ بعد ذلك ـ من اساليب الغدر ، والخلاف ، ونقض العهود ، والمؤامرات ، ونسيان الدين ، وخفر الذمام ... حتى قد عادت بقية آثار النبوة ـ متمثلة بالطيبين من آل محمد وبنيه عليهم السلام ـ نهباً صيح في حجراتها. ولعلنا سنأتي على استطراد صورة من هذه المآسي في محلها المناسب لذكرها من الكتاب.
 تتميم :
 وبقي علينا ان نستمع هنا الى ما يدور في خلد كثير من الناس حين يدرسون هذا العرض المؤسف لعناصر جيش الحسن عليه السلام ، فيسألون : لماذا فسح الحسن مجاله لهذه العناصر ؟ ولماذا تأخر بعد ذلك عن تصفية جيشه بسبيل من هذه السبل التي يفزع اليها رؤساء الجيوش في تصفية جيوشهم بقطع العضو الفاسد ، أو بادانته ، أو باقصائه على الاقل ؟.
 ونحن من هذه النقطة بازاء قلب المشكلة وصميمها على الاكثر.
 ونقول في الجواب على هذا السؤال :
 اولاً :
 ان الاسلام كما الغى الطبقات فيما شرعه من شؤون الاجتماع ، الغاها في الجهاد ايضاً ، فكان على اولياء الامور أن لا يفرقوا في قبولهم الجنود بين سائر طبقات المسلمين ، ما دام المتطوع للجندية مدّعياً للاسلام وقادراً على حمل السلاح. ولما لم يكن أحد من هؤلاء « الاخلاط » الذين التحقوا بالحسن ، الا مدّعياً للاسلام وقادراً على حمل السلاح ، فلا مندوحة للامام ـ بالنظر الى صميم التشريع الاسلامي ـ عن قبوله.
 وثانياً :
 ان النبي نفسه صلى اللّه عليه وآله ، وأمير المؤمنين ايضاً ، منيا في بعض وقائعهما بمثل هذا الجيش ، ولا يؤثر عنهما انهما منعا قبول أمثال هؤلاء الجنود في صفوفهما ، ولا طردا أحداً منهم بعد قبوله ، مع العلم بأن كلاً منهما ، جنى بعد ذلك أضرار وجود هذه العناصر في كل من ميدانيهما.
 فقالت السير عن واقعة حنين ما لفظه بحرفه : « رأى بعض المسلمين كثرة جيشهم فأعجبتهم كثرتهم ، وقالوا سوف لا نغلب من قلة ، ولكن جيش المسلمين كان خليطاً ، وبينهم الكثيرون ممن جاء للغنيمة .. ».
 وجاء في حوادث اقفال المسلمين من غزوة بني المصطلق ما يشعر بمثل ذلك.
 وقالوا عن حروب علي عليه السلام : « كان جند علي في صفين خليطاً من امم وقبائل شتى ، وهو جند مشاكس معاكس لا يرضخ لامر ولا يعمل بنصيحة .. ».
 وقال معاوية ـ فيما يحكيه البيهقي في « المحاسن والمساوئ » : « وكان ـ يعني علياً عليه السلام ـ في أخبث جيش وأشدهم خلافاً ، وكنت في أطوع جند واقلهم خلافاً ».
 اقول : وما على الحسن الا أن يسير بسنة جده وبسيرة أبيه ، ومن الحيف أن يطالب بأكثر مما اتى به جده وأبوه ، وكفى بهما اسوة حسنة وقدوة صالحة.
 وكان التحرّج في الدين والالتزام بحرفية الاسلام يقيدان الحسن في كل حركة وسكون ، ولكنهما لا يقيدان خصومه فيما يفعلون أو يتركون ، ولولا ذلك لرأيت تاريخ هذه الحقبة من الزمن تكتب على غير ما تقرأه اليوم.
 وثالثاً :
 فان معالجة الوضع بما يرجع اليه رؤساء الجيوش في تنقية جيوشهم بالقتل ، أو بالافصاء ، أو بالادانة ، كان في مثل ظروف الحسن تعجلاً للنكبة قبل أوانها ـ كما ألمحنا اليه في غمار الفصل الرابع ـ وسبباً مباشراً لاثارة الشقاق واعلان الخلاف ورفع راية العصيان في نصف جيشه على أقل تقدير ومعنى ذلك القصد الى اشعال نار الثورة في صميم الجيش. ومعنى هذا ان ينقلب الجهاد المقدس الى حرب داخلية شعواء ، هي أقصى ما كان يتمناه معاوية في موقفه من الحسن وأصحابه ، وهي أقصى ما يحذره الحسن في موقفه من معاوية وأحابيله.
 وشيء آخر :
 هو أن الحسن عليه السلام ، لم يكن له من عهده القصير الذي احتوشته فيه النكبات بشتى ألوانها ، مجال للعمل على استصلاح هذه الالوان من الناس ، وجمعهم على رأي واحد. بل ان ذلك لم يكن ـ في وقته ـ من مقدور أحد الا اللّه عزّ وجل ، ذلك لان الصلاح في الاخلاق ليس مما يمكن تزريقه في الزمن القليل ، وانما هو تهذيب الدين وصقال الدهر الطويل ، ولان التيارات المعاكسة التي طلعت على ذلك الجيل بأنواع المغريات ، حالت دون امكان الاصلاح وجمع الاهواء ، الا من طريق المطامع نفسها ، وكان معنى ذلك معالجة الداء بالداء ، وكان من دون هذه الاساليب في عرف الحسن حاجز من أمر اللّه.

الفهرس