موقع عقائد الشيعة الإمامية

 

صلح الحسن عليه السلام

في الموقف السياسي

 

2- بيعة الإمام الحسن عليه السلام

 اذا كان الدين في الاسلام ، هو ما يبلّغه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لانه الذي لا ينطق عن الهوى « ان هو الا وحي يوحى » ، واذا كان الخليفة في الاسلام هو من يعيّنه النبي للخلافة ، لانه المرجع الأعلى في الاثبات والنفي ، فالحسن بن علي ، هو الخليفة الشرعي ، بايعه الناس أو لم يبايعوه.
 ذكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باسمه في سلسلة أسماء خلفائه الاثني عشر ، كما تضافر به الحديث عنه ، فيما رواه علماء السنة (1) ، وفيما أجمع على روايته علماء الشيعة ، وفيما اتفق عليه الفريقان ، من قوله له ولاخيه الحسين: « انتما الامامان ولأُمَّكما الشفاعة (2) ». وقوله وهو يشير الى الحسين: « هذا امام ابن امام أخو امام أبو أئمة تسعة (3) » ـ الحديث.
 وأمره أبوه أمير المؤمنين ـ منذ اعتل ـ أن يصلي (4) بالناس ، وأوصى اليه عند وفاته قائلاً: « يا بنيّ أنت ولي الامر وولي الدم ، وأشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ودفع اليه الكتاب والسلاح ، ثم قال له: « يا بنيّ أمرني رسول اللّه أن اوصي اليك ، وأن أدفع اليك كتبي وسلاحي ، كما أوصى اليّ رسول اللّه ودفع اليّ


1 ـ تجد ذلك مفصلاً في ينابيع المودة (ج 2 ص 440) فيما يرويه عن الحمويني في فرائد السمطين ، وعن الموفق بن احمد الخوارزمي في مسنده. وروى ذلك ابن الخشاب في تاريخه وابن الصباغ في « الفصول المهمة » ، والحافظ الكنجي في « البيان ». وأسعد بن ابراهيم بن الحسن بن علي الحنبلي في « أربعينه ». والحافظ البخاري (خاجه بارسا) في « فصل الخطاب ».
2 ـ الاتحاف بحب الاشراف ، للشبراوي الشافعي (ص 129 ط مصر) ونزهة المجالس. للصفوري الشافعي (ج 2 ص 184).
3 ـ ابن تيمية في منهاجه (ج 4 ص 210).
4 ـ المسعودي (هامش ابن الاثير ج 6 ص 61).


 

كتبه وسلاحه. وأمرني أن آمرك ، اذا حضرك الموت أن تدفعها الى اخيك الحسين ». ثم أقبل على الحسين فقال: « وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك هذا ». ثم اخذ بيد علي بن الحسين وقال: « وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك محمد. فأقرِئه من رسول اللّه ومني السلام » (1).
 صورة تحكيها كل كتب الحديث التي تعرض لهذه المواضيع ، وترفعها مسندة بالطرق الصحيحة الموثقة ، الى مراجعها من اهل البيت عليهم السلام وغيرهم. وهي الصورة التي تناسق الوضع المنتظر لمثل ظرفها. والا فما الذي كان ينبغي غير ذلك؟
 وهذه هي طريقة الامامية من الشيعة في اثبات الامامة.
 ـ نصوص نبوية متواترة من طرقهم ، ومروية بوضوح من طرق غيرهم ، تحصر الامامة في اثني عشر اماماً كلهم من قريش (2) ، وتذكر ـ ضمناً ـ أو في مناسبة اخرى ، أسماءهم اماماً اماماً الى آخرهم ، وهو المهدي المنتظر الذي يملأ اللّه به الارض قسطاً وعدلاً ، بعد أن تكون قد امتلأت ظلماً وجوراً.
 ـ ونصوص خاصة ، من كل امام على خلفه الذي يجب أن يرجع اليه الناس.
 ثم يكون من تفوّق الامام ، في علمه وعمله ومكارمه وكراماته ، أدلة وجدانية اخرى ، هي بمثابة تأييد لتلك النصوص بنوعيها.


1 ـ اصول الكافي (ص 151) وكشف الغمة (ص 159) وغيرهما.
2 ـ ففي صحيح مسلم (ج 2 ص 119) في باب « الناس تبع لقريش » عن جابر بن سمرة قال: « سمعت رسول اللّه (ص) يقول: لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ». وروى نحواً منه البخاري (ج 4 ص 164) وابو داود والترمذي في جامعه والحميدي في جمعه بين الصحيحين. ورواه غيرهم. والحديث بحصره العدد في الاثني عشر من قريش ، وبما يفصله صحيح مسلم من كون هذا العدد هو عدد الخلفاء الى ان تقوم الساعة ، صريح بما يقوله الامامية في ائمتهم ، دون ما وقع في التاريخ من أعداد الخلفاء ومختلف عناصرهم.


 

 اما بيعة الناس فليست شرطاً في امامة الامام. وانما على الناس أن يبايعوا من أرادته النصوص النبوية. ولا تصحّح الامامية بيعة غيره. ولا تقع من أحدهم الا اضطراراً.
 وقضت الظروف بدوافعها الزمنيّة ، أن لا يبايع الناس من الائمة المنصوص عليهم ، الا الامامين علياً والحسن عليهما السلام.
 وابتدأ بعد الحسن عهد « الخلافات » الاسمية ، التي ترتكز في نفوذها على السلاح ، وتقوم في بيعتها على شراء الضمائر بالمال. أو كما قال الغزالي « وأفضت الخلافة الى قوم تولوها بغير استحقاق (1) ».
 وكان الاولى بالمسلمين ، أو بمؤرخة الاسلام على الاخص ، ان يغلقوا عهد « الخلافة » بنهاية عهد الحسن عليه السلام ، ليشرعوا بعده عهد « الملك » بظواهره وسياسته وارتجالاته ولو فعلوا لحفظوا مثالية الاسلام مجلوّةً بما ترسَّمه خلفاؤه المثاليون من سيرة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولصانوا الاسلام عن كثير مما وصمه به هؤلاء الملوك الذين فرضوا على المسلمين خلافاتهم فرضاً ، ثم جاء التاريخ فرضي أن يسميّهم « الخلفاء » من دون استحقاق لهذا الاسم ، وأساء الى الاسلام من حيث أراد الاحسان.
 ترى ، أيصح للخليفة الذي يجب أن يكون أقرب الناس شبهاً بصاحب الرسالة في ورعه وعلمه والتزامه بحرفية الاسلام ، أن يصلي « الجمعة » يوم الاربعاء ، أو يصليها مرةً اخرى في ضحى النهار ، أو يتطلب محرماً ، أو يبيع الذهب باكثر منه وزناً ، أو يلحق العهار بالنسب ، أو يقتل المؤمن صبراً ، أو يرد الكافر بالمال ليتجهز على اخوانه المسلمين بالحرب؟ الى غير ذلك والى أنكى من ذلك من ظواهر الملك التي لا يجوز نسبتها الى الدين. فَلمَ لا يكون صاحبها رئيس دنيا و « ملكاً » بدل أن نسميه رئيس دينٍ و « خليفةً »؟. وناهيك بمن جاء بعد معاوية من خلائف هذه الشجرة المنعوتة في القرآن ـ نعتها اللائق بها. فماذا كان من يزيد وماذا كان من عبد الملك ومن الوليد ، ومن آخرين وآخرين.
 


1 ـ تراجع « دائرة المعارف » لفريد وجدي مادة « حسن » (ج 3 ص 231).


 

 كل ذلك كان يجب أن يستحث المسلمين الى الانتصاف للاسلام ، فلا يضيفون الى مراكزه الدينية العليا ، الا الاكفاء المتوفرين بتربيتهم على مثاليّته والذين هم أقرب الناس شبهاً بمصدر عظمته الاول (ص).
 وعلمنا ـ مما تقدم ـ أن الحسن بن علي عليهما السلام ، كان أشبه الناس برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خلقاً وخلقاً وهيأة وسؤدداً (1). وانه كان عليه سيماء الانبياء وبهاء الملوك. وعلمنا أنه كان سيد شباب أهل الجنة في الآخرة. والسيد في الآخرة هو السيد في الدنيا غير منازع. و « السيد » المطلق لقبه الشخصيّ الذي لقبه به جدّه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
 وعلمنا أنه كان أشرف الناس نسباً ، وخيرهم أباً واماً وعماً وعمة وخالاً وخالة وجداً وجدة. كما وصفه مالك بن العجلان في مجلس معاوية (2).
 فلم لا يكون ـ على هذا ـ هو المرشح بالتزكية القطعية للبيعة العامة. كما كان ـ الى ذلك ـ هو الامام المقطوع على أمره بالنص. ولم لا يضاف

اليه المركز الدينيّ الأعلى ، وهو من عرفت مقامه وسموّه ومميزاته. واذا تعذر علينا أن نفهم الامامة والكفاءة للخلافة ، من هذه القابليات الممتازة والمناقب الفضلى ، فأي علامة اخرى تنوب عنها أو تكفينا فهمها.
 


1 ـ الارشاد (ص 167) واليعقوبي (ج 2 ص 201) وغيرهما.
2 ـ قال معاوية ذات يوم ـ وعنده اشراف الناس من قريش وغيرهم: « اخبروني بخير الناس اباً واماً وعماً وعمة خالاً وخالة وجداً وجدة » ، فقام مالك بن العجلان ، فأومأ الى الحسن فقال: « ها هو ذا ابوه علي بن ابي طالب ، وامه فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعمه جعفر الطيار في الجنان ، وعمته ام هانئ بنت ابي طالب ، وخاله القاسم ابن رسول اللّه وخالته بنت رسول اللّه زينب ، وجده رسول اللّه ، وجدته خديجة بنت خويلد ». فسكت القوم. ونهض الحسن. فاقبل عمرو بن العاص على مالك فقال: « أحب بني هاشم حملك على ان تكلمت بالباطل؟ ». فقال ابن العجلان: « ما قلت الا حقاً ، وما احد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق ، الا لم يعط امنيته في دنياه ، وختم له بالشقاء في آخرته. بنو هاشم انضرهم عوداً ، وأوراهم زنداً ، كذلك يا معاوية؟ قال: اللهم نعم ». (البيهقي ج 1 ص 62).


 خرج عليه السلام الى الناس ، غير ناظر الى ما يكون من أمرهم معه ، ولكنه وقف على منبر أبيه ، ليؤبن أباه بعد الفاجعة الكبرى في مقتله صلوات اللّه وسلامه عليه.
 فقال: « لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الاولون ، ولا يدركه الآخرون. لقد كان يجاهد مع رسول اللّه فيقيه بنفسه. ولقد كان يوجّهه برايته ، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه. ولقد تُوفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران. ورفع بها عيسى بن مريم ، وانزل القرآن. وما خلّف صفراء ولا بيضاء الا سبعمائة درهم من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً لاهله (1) ».
 وتأبين الحسن هذا ـ بأسلوبه الخطابي ـ فريد لا عهد لنا بمثله ، لانه ـ كما ترى ـ لم يعرض الى ذكر المزايا المعروفة في الراحل العظيم ، كما هي العادة المتبعة في أمثال هذه المواقف ، ولا سيما في تأبين الرجال الذين احتوشوا الفضائل ، فكان لهم أفضل درجاتها ، ومرنوا على المكارم فاذا هم في القمة من ذرواتها ، علماً وحلماً وفصاحة وشجاعة وسماحة ونسباً وحسباً ونبلاً ووفاء واباء ، كعلي الذي حيّر المادحين مدح علاه. فلماذا يعزف الحسن عليه السلام ، فيما يؤبنه به عن الطريقة المألوفة في تأبين العظماء؟. ترى أكانت الصدمة القوية في مصيبته به ، هي التي سدّت عليه ـ وهو الخطيب المصقع وابن أخطب العرب ـ أبواب القول فيما ينبغي أن يقول ، أم أنه كان قد عمد الى هذا الاسلوب قاصداً ، فكان في اختيار الاسلوب الخاص ، ابلغ الخطباء وابرعهم اصابة للمناسبات ، وأطولهم خطابة على اختصار الكلمات.
 


1 ـ اليعقوبي (ج 2 ص 190) وابن الاثير (ج 3 ص 16) ومقاتل الطالبيين.


 

 نعم انه يؤبّنه بما لا يسع أحداً في التاريخ أن يؤبن به غيره. وكل تأبين على غير هذا الاسلوب ، كان بالامكان أن يؤبَّن على غراره غيره وغيره من عظماء الناس. اما الاوصاف الفريدة التي ذكرها الحسن لأبيه في هذا التأبين ، فكانت الخصائص العلوية التي لا تصح لغير علي في التاريخ ، ولا يشاركه فيها أحد من العظماء ولا من الاولياء.
 انه ينظر اليه من زاويته الربانية ـ نظر امام الى امام ـ فاذا هو الراحل الذي لا يشبهه راحل ولا مقيم ، ولا يضاهيه ـ في شتى مراحله ـ وليٌّ ولا زعيم.
 رجلٌ ولكنه الذي لم يسبقه الاولون ولا يدركه الآخرون. وانسان ولكنه بين جبرئيل وميكائيل ، وهل هذا الا الانسان الملائكي. ترفع روحه يوم يرفع عيسى ، ويموت يوم يموت موسى ، وينزل الى قبره يوم ينزل القرآن الى الارض! مراحل كلها بين ملَكٍ مقرّب ونبي مرسلٍ وكتاب منزل ، ومع رسول اللّه يقيه بنفسه. فما شأن مكارم الدنيا ، الى جنب هذه المكرمات الكرائم ، حتى يعرض اليها في تأبينه.
 ولعلك تتفق معي الآن الى أن هذا الاسلوب الرائع « الفريد » فيما أبن به الحسن أباه عليهما السلام ، كان أبلغ تأبين في ظرفه ، وأليقه بهذا الفقيد.
 وهذه احدى مواقفه الخطابية ، التي دلت بموهبتها الممتازة على نسبها القريب ، من جده ومن أبيه (صلى اللّه عليهما وعلى آلهما). وسيكثر منذ اليوم أمثالها ، من الحسن « الخليفة » عليه السلام ، بحكم نزوله الى قبول البيعة من الناس ، وبما سيستقبله من طوارئ كثيرة ، تستدعيه للكلام وللقول وللخطابة في مختلف المناسبات.
 ووقف بحذاء المنبر في المسجد الجامع ـ وقد غص بالناس ـ ابن عمه « عبيد اللّه بن عباس بن عبد المطلب ». ينتظر هدوء العاصفة الباكية المرَّنة ، التي اجتاحت الحفل ، في أعقاب تأبين الامام الحسن لابيه عليهما السلام.
 ثم قال ـ بصوته الجهوريّ الموروث ـ الذي يدوّي في الارض دويّ أصوات السماء ، وما كان عبيد اللّه منذ اليوم ، الا داعي السماء الى الارض:
 « معاشر الناس هذا ابن نبيكم ، ووصي امامكم فبايعوه » « يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ، ويهديهم الى صراط مستقيم ».
 وفي الناس الى ذلك اليوم ، كثير ممن سمع نص رسول اللّه صلى اللّه عليه واله ، على امامته بعد ابيه. فقالوا: « ما أحبّه الينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة ». وبادروا الى بيعته راغبين.
 وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان ، يوم وفاة ابيه عليه السلام ، سنة اربعين للهجرة (1).
 وهكذا وفقت الكوفة لان تضع الثقة الاسلامية في نصابها المفروض لها ، من اللّه عز وجل ومن العدل الاجتماعي ، وبايعته ـ معها ـ البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة ، وبايعه الحجاز واليمن على يد القائد العظيم « جارية بن قدامة » ، وفارس على يد عاملها « زياد بن عبيد » ، وبايعه ـ الى ذلك ـ من بقي في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والانصار ، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد ، ولم يتخلف عن بيعته ـ فيما نعلم ـ الا معاوية ومن اليه ، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين ، وجرى مع الحسن مجراه مع أبيه بالامس. وتخلّف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعّاد.


1 ـ يرجع فيما ذكرناه هنا الى شرح النهج لابن ابي الحديد (ج 4 ص 11) وذكر غيره مكان عبيد اللّه أخاه عبد اللّه. وسنشير في فصل « القيادة والنفير » الى ان عبد اللّه لم يكن في الكوفة أيام بيعة الحسن.


 

 اما الخلافة الشرعية. فقد تمت « على ظاهرتها العامة » من طريق البيعة الاختيارية ، للمرة الثانية في تاريخ آل محمد صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين وطلعت على المسلمين من الزاوية المباركة التي طلعت عليهم بالنبوة قبل نصف قرن. فكانت من ناحية صلتها برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، امتداداً لمادة النور النبويّ ، في المصباح الذي يستضيء به الناس. ومع الخليفة الجديد كل العناصر المادية والمعنوية التي تحملها الوراثة في كينونته ومثاليته.
 فكان على ذلك الأولى بقول الشاعر:

نال الخلافة اذ كانت له قدراً

كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ

 ويعود الامام الحسن عليه السلام ـ بعد أن أُخذت البيعة له ـ فيفتتح عهده الجديد ، بخطابه التاريخيّ البليغ ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الامر ، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات واخطار..
 فيقول. (وهو بعض خطابه):
 « نحن حزب اللّه الغالبون ، وعترة رسول اللّه الاقربون ، وأهل بيته الطيبون الطاهرون ، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول اللّه في امته ، ثاني كتاب اللّه الذي فيه تفصيل كل شيء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فالمعوّل علينا في تفسيره ، لا نتظنن تأويله بل نتيقن حقائقه ، فأطيعونا فان طاعتنا مفروضة ، اذ كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة ، قال اللّه عزّ وجل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرسول وقال: ولو ردّوه الى الرسول واولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ».
 ثم يمضي في خطابه ، ويردف أخيراً بقوله:
 « واحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان فانه لكم عدوّ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس واني جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني بريء منكم اني أرى ما لا تَرون. فستلقون للرماح وردا ، وللسيوف جزرا ، وللعُمُد حطما ، وللسهام غَرَضا. ثم لا ينفع نفساً ايمانها ، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً (1) »..
 ثم نزل من على منبره ، فرتب العمّال ، وأمَّر الامراء ونظر في الامور (2).
 قبول الخلافة
 وتحذلق بعض المترفهين بالنقد ، فرأى من « التسرع » قبول الحسن للخلافة ، في مثل الظرف الذي بايعه فيه الناس ، بما كان يؤذن به هذا الظرف من زعازع ونتائج ، بعضها ألم ، وبعضها خسران.
 ولكي نتبين مبلغ الاصابة في التسرع الى هذا النقد. نقول:
 اما اولاً:
 فلما كان الواجب على الناس ديناً ، الانقياد الى بيعة الامام المنصوص عليه ، كان الواجب على الامام ـ مع قيام الحجة بوجود الناصر ـ قبول البيعة من الناس.
 اما قيام الحجة ـ فيما نحن فيه ـ فقد كان من انثيال الناس طواعية الى البيعة في مختلف بلاد الاسلام ، ما يكفي ـ بظاهر الحال ـ دليلاً عليه. ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه.
 واما ثانياً:
 فان مبعث هذا الانعكاس البدائي ، عن قضية الحسن عليه السلام هو


1 ـ روى هذه الخطبة هشام بن حسان. وقال: انها بعض خطبته بعد البيعة له بالامر البحار (ج 10 ص 99) والمسعودي.
2 ـ وروى هذا النص اكثر المؤرخين.



 

النظر اليها من ناحيتها الدنيوية فحسب. بينما الانسب بقضية « امام » ان يستنطقها الباحث من ناحيتها الدينية على الاكثر. وكثير هو الفرق بين الدنيا والدين في نظر امام. والقضية من هذه الناحية ظفر لا خسارة ـ كما سنأتي على توضيحه في محله المناسب ـ وهي وان تكن معرض آلام ، ولكنها آلام في سبيل الاسلام ، ومن أولى من الحسن بالاسلام وتحمّل آلامه. وانما هو نبت بيته.
 واما ثالثاً :
 فلم يكن الحسن في رفعة مكانه من زعماء المسلمين ، وفي نسبه الممتاز ومركزه من العلم ، بالذي يستطيع الفراغ وان أراده عن عمد ، ولا بالذي يتركه الناس وان أراد هو ان يتركهم ، وكان لابد للرجات العنيفة في المجتمع الاسلامي ، أن تتدافع اليه ، تستدعيه للوثوب احقاقاً للحق وانكاراً للمنكر ـ كما وقع لاخيه الحسين عليه السلام في ظرفه.
 وأيضاً. فلو ترك الناس وتجافى عن بيعتهم ، أو تركه الناس وأعفوه خلافتهم ، فلن يتركه المتغلبون على الناس. وانهم لينظرون اليه ـ دائماً ـ كشبح مخيف ، بما يدور حوله من الدعوة الى الاصلاح ، او النقمة الصارخة على الوضع ، التي كان يتطوع لها مختلف الطبقات ، من الساخطين والمعارضين والدعاة للّه ، ولن يجد هؤلاء يومئذ ملجأ يفيئون اليه ، خيراً من ابن رسول اللّه الامام المحبوب. وهل كانت الوفود التي عرضت عليه استعدادها لمناوأة الحكام الامويين واعادة الكرة (1) لاسترجاع الحق المغصوب ، الا ظاهرة هذه النقمة الصارخة التي كان يعج بها المجتمع الاسلامي يوم ذاك. وأنى لسلطان المتغلبين أن يستقر ما دام هذا المنار قائماً يفيء اليه الناس.
 ولنتذكر أنه قتل مسموماً. ولماذا يقتلونه وقد صالحهم وترك لهم الدنيا برمتها ، لولا أنهم خافوه على سلطانهم ، ورأوا من وجوده حاجزاً


1 ـ الامامة والسياسة ( ص 151 ).


 يمنعهم من النفوذ الى قلوب الناس ؟ وهل ذلك الا دليل انقياد الناس ـ في عقيدتهم ـ اليه دونهم ؟
 وهذا كله بعد الصلح ، وبعد ظهور جماعات من شيعته وغير شيعته ينكرون عليه موقفه من الصلح.
 ترى فكيف كانت قوته في الناس لو انه أبى الخلافة من أول الامر ، وبقي شغف المسلمين الى بيعته على حدّته ، فهل كان من المحتمل ، أن يظل محور الامل ومفزع الناقمين والمعارضين ، ثم تنام عنه العيون الحذرة على دنياها ، فلا تعاجله بما ختمت به حياته المقدسة اخيراً ؟ وهل كان الا طعمة الاغتيالات الكافرة في سنته الاولى بعد ابيه ـ على اغلب الظن ـ ؟.
 فأيّ منطق هذا الذي يرى من قبول الحسن للخلافة تسرّعاً !
 والخلافة ـ في أصلها ـ مقام ابيه وميراثه وميراث أخيه ـ على حد تعبير الامام علي بن موسى بن جعفر عليهم السلام.
 واما الزعازع التي لوّح بها هذا النقد ، فما كانت الا خطط المناوئين في الكوفة ، وليس شيء منها بالذي يضير الحسن ابان نشاط الناس معه ـ كما هو في ابان بيعته ـ وأي خليفة أو زعيم ليس له مناوئون ؟
 فلم لا يكون قبول البيعة هو الارجح على مختلف الوجوه ؟.
 بل هو الواجب لضرورة الوقت وللمصلحة العامة ولاحقاق الحق.

 

الفهرس