موقع عقائد الشيعة الإمامية

 

صلح الإمام الحسن عليه السلام

معاوية وشيعة علي عليه السلام

 

 كانت السياسة الاموية التي وضعها معاوية ثم تبعه عليها الامراء الامويون من بعده، هي أن يخلقوا من أنفسهم سادة يستأثرون بكل محمدة في الناس، فما الكرم ولا الحلم ولا الدهاء ولا الشجاعة ولا الفصاحة الا بعض هباتهم الخاصة التي احتجزوها من دون الناس جميعاً، وقد وضعوا في سبيل تركيز هذه السياسة المتعمدة، التاريخ الزائف الذي ظل يفيض بسلسلة من الاحاديث الموضوعة، والقصص المصطنع، والاكاذيب المنوعة، والادعاء الفارغ، وأمروا الوّعاظ المأجورين، ومعلمي الكتاتيب في سائر بلدان المملكة الاسلامية، بدراسة الامالي الاموية بما فيها من مدح زائف أو قدح كاذب، وعملوا كل ما كان بوسعهم أن يعملوه ليثيروا في قلوب الناشئة من أولاد الناس الغرور بحبهم، والانقياد المطلق لدهائهم، فاذا بهذه الناشئة بعد لأي جنود لامية يتخاصمون بدمائهم البريئة لاهدافها، واذا بسيول الدماء تصبغ بقاع الارض لتستقيم صفوف الخدم والحشم والوكلاء والمقدمين في بلاد الاسياد المتغلبين.
 ولم يكن ثمة هدف آخر غير هدف الاستئثار بالسيادة والملك والثراء واللذات الدنيوية الرخيصة، وهو ما كان يضيق به المعنيون بدينهم من آل محمد صلى اللّه عليه وآله، ومن المسلمين الثابتين على الاخلاص للّه في اسلاميتهم، ومن هنا كان مبعث الشقاق المتواصل الحلقات بين هذه الطبقة من أموية الاسلام، وتلك الفئة من حملة تراث الاسلام ودعاته المخلصين.
 جاء في تاريخ الطبري (ج 7 ص 104) استطراد مقتضب يرفعه الى زيد بن أنس عن الوضع العام الذي كان يرزح تحته معاشر الشيعة في أيام معاوية، وكان فيما يقوله أحدهم وهو يخاطبهم: « انكم كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم!! ».
 والحديث على اقتضابه تفصيل غريب ومعرض رهيب لم يحدثنا المسعودي الا بطرف منه فيما نقلناه عنه قريباً.
 أما المدائني المتوفى سنة 225، وسليم بن قيس المتوفي سنة 70، فانهما عرضا صورة كاملة من هذه المعارض الرهيبة والمآسي الكئيبة، وكان سليم بن قيس أحد شهودها المروّعين بها، لانه عاش معاصراً لمعاوية ومات بعده بعشر سنين، ولا شاهد كشاهد عيان، ولذلك فلنؤثر لفظه، وان كان المدائني يكاد لا يختلف عنه في قليل ولا كثير، قال:
 « قدم معاوية حاجاً ـ في خلافته ـ بعدما قتل أمير المؤمنين وصالح الحسن.. واستقبله أهل المدينة وفيهم قيس بن سعد ـ وكان سيد الانصار وابن سيدهم ـ فدار بينهما الحديث حتى انتهيا الى [الخلافة]. فقال قيس: ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لاحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي وولده من بعده. فغضب معاوية.. ونادى مناديه وكتب بذلك نسخة واحدة الى عماله: (ألا برئت الذمة ممن روى حديثاً في مناقب علي وأهل بيته!!). وقامت الخطباء في كل كورة ومكان على المنابر بلعن علي بن أبي طالب والبراءة منه، والوقيعة في أهل بيته، واللعنة لهم بما ليس فيهم. ثم ان معاوية مرّ بحلقة من قريش، فلما رأوه قاموا اليه غير عبد اللّه بن عباس، فقال له: يا ابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك الا لموجدة عليّ بقتالي اياكم يوم صفين، يا ابن عباس ان ابن عمي عثمان قتل مظلوماً، قال ابن عباس: فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوماً فسلم الامر الى ولده، وهذا ابنه. قال: ان عمر قتله مشرك، قال ابن عباس: فمن قتل عثمان؟ قال: قتله المسلمون، قال: فذلك أدحض لحجتك، ان كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس الا بحق، قال: فانا كتبنا الى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته، فكف لسانك يا ابن عباس. قال: فتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا، قال: فتنهانا عن تأويله؟ قال: نعم، قال: فنقرأه ولا نسأل عما عنى اللّه به؟ قال: نعم، قال: فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال: العمل به، قال: فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى اللّه بما أنزل علينا؟ قال: سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك، قال: انما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط؟! قال: فاقرأوا القرآن ولا ترووا شيئاً مما أنزل اللّه فيكم ومما قال رسول اللّه، وارووا ما سوى ذلك! قال ابن عباس: قال اللّه تعالى: يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. قال معاوية: يا ابن عباس اكفني نفسك وكف عني لسانك، وان كنت لابد فاعلاً فليكن سراً ولا تسمعه أحداً علانية! ـ ثم رجع الى منزله واشتد البلاء بالامصار كلها على شيعة علي وأهل بيته، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة، واستعمل عليها زياداً، وجمع له العراقين، وكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عالم، لأنه كان منهم، فقتلهم تحت كل كوكب، وتحت كل حجر ومدر واحلأهم وأخافهم، وقطع الايدي والارجل منهم، وصلبهم على جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشردهم، وكتب معاوية الى قضاته وولاته في الامصار أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادة!! وكتب الى عماله، انظروا من قبلكم من شيعة عثمان الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه فأكرموهم وشرّفوهم، واكتبوا الي بما يروي كل واحد منهم فيه باسمه واسم أبيه، وبعث اليهم بالصلات والكُسا، وأكثر القطائع للعرب والموالي فكثروا، وتنافسوا في المنازل والضياع، واتسعت عليهم الدنيا، ثم كتب الى عماله: ان الحديث قد كثر في عثمان فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوهم الى الرواية في أبي بكر وعمر، فقرأ كل قاض وأمير كتابه على الناس، وأخذ الناس في الروايات فيهم وفي مناقبهم، ثم كتب نسخة جمع فيها جميع ما روي فيهم من المناقب، وأنفذها الى عماله، وأمرهم بقراءتها على المنابر. وفي كل كورة، وفي كل مسجد، وأمرهم أن ينفذوا الى معلمي الكتاتيب أن يعلموها صبيانهم حتى يرووها ويتعلموها كما يتعلمون القرآن حتى علموها بناتهم ونساءهم وخدمهم ـ ثم كتب الى عماله نسخة واحدة: (انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان)، ثم كتب كتاباً آخر: (من اتهمتموه ولم تقم عليه بينة فاقتلوه!!) فقتلوهم على التهم والظن والشبه تحت كل كوكب، حتى لقد كان الرجل يسقط بالكلمة فتضرب عنقه!!. وجعل الامر لا يزداد الا شدة، وكثر عددهم، وأظهروا أحاديثهم الكاذبة فنشأ الناس على ذلك، لا يتعلمون الا منهم. وكان أعظم الناس في ذلك القرّاء المراؤون المتصنعون الذين يظهرون الحزن والخشوع والنسك ويكذبون، ليحظوا عند ولاتهم، ويصيبوا بذلك الاموال والقطائع والمنازل. حتى صارت أحاديثهم في أيدي من يحسب انها حق فرووها وعلموها. وصارت في أيدي المتدينين الذين لا يستحلون الكذب، فقبلوها وهم يرون أنها حق، ولو علموا انها باطل لم يرووها ولم يتدينوا بها، فلما مات الحسن بن علي عليه السلام. لم تزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان ».
 اقول: وروى مثل ذلك بكامله ابو الحسن المدائني فيما أخذه عنه ابن أبي الحديد (ج 3 ص 15 ـ 16) وقال في آخره:
 « فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه السلام، فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل الا وهو خائف على دمه أو طريد في الارض ».
 وكان هذا أسلوباً من الحوادث تستسيغه المحاكمة في ظروف الفريقين، ويصدقه التناسق التاريخي في تسلسل الاحداث. ولا يضيره اغفال المؤرخين الآخرين لأنهم ـ ولنعذرهم ـ انما كانوا يكتبون للسياسة القائمة، أو لما لا يضيرها على الاقل.
 وتقدم أن الطبري والمسعودي ألمحا الى كل ذلك باختصار. وعلى هذا فمصادر هذه المادة: سليم بن قيس، المدائني، ابن ابي الحديد، الطبري، المسعودي.
 وفي سبيل اللّه أشلاء مضرجة، وشمل شتيت، وحطام من مساكن يشرد أهلها أو يساقون الى الجزر سوق القطيع! فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
 وتلك هي تعبئة معاوية لاقتناص الخلافة في الاسلام له ولبنيه!.
 وتلك هي طريقته البكر في وفائه بعهود اللّه ومواثيقه!.
 وزاد سليم بن قيس بعد ذلك فقال:
 « ولما كان قبل موت معاوية بسنة، حج الحسين بن علي وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر فجمع الحسين بني هاشم، ثم رجالهم ونساءهم ومواليهم ومن حج منهم من الانصار، ممن يعرفه الحسين عليه السلام وأهل بيته، ثم أرسل رسلاً: لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله المعروفين بالصلاح والنسك الا اجمعوهم لي، فاجتمع اليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل، وهم في سرادقه، عامتهم من التابعين، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. فقام فيهم خطيباً.
 « فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال: أما بعد، فان هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم. واني أريد أن اسألكم عن شيء فان صدقت فصدقوني وان كذبت فكذبوني، اسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثم ارجعوا الى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس، ووثقتم به فادعوهم الى ما تعلمون من حقنا. فاني أتخوف أن يدرس هذا الامر ويذهب الحق ويغلب، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون.
 « وما ترك شيئاً مما أنزله اللّه فيهم من القرآن الا تلاه وفسره، ولا شيئاً مما قاله رسول اللّه صلى الله عليه وآله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته الا رواه.. وكل ذلك يقول أصحابه، اللهم نعم وقد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي: اللهم قد حدثني به من أصدقه وأئتمنه من الصحابة. فقال: أنشدكم اللّه الا حدثتم به من تثقون به وبدينه ».
 معاوية وزعماء الشيعة
 وكان موقف معاوية من زعماء الشيعة بعد صلحه مع الحسن موقف المنتقم الحاقد الذي لا تأخذه بهم رأفة ولا ذمة ولا « عهد »، وكان لخوفه من الدعاوة الفعالة التي يحملها هؤلاء السادة من زعماء الشيعة أثره فيما توفر عليه من القصد الى ايذائهم واقصائهم وقتلهم والتنكيل بهم. ولسنا الآن بسبيل استقصاء ما عمله معاوية تجاه هؤلاء الشيعة، ولا استقصاء ما كان ينويه بهم من خطط بعيدة الاهداف. ولكننا ـ لندل على مدى وفاء هذا الاموي بشروطه وأيمانه ـ سنورد في هذا الفصل بعض أعماله تجاههم وبعض نواياه بهم. وفي قليل من هذه الامثلة كفاية عن الكثير آثرنا تركه أو خفي علينا علمه.
 وقد خسر تاريخ هؤلاء الشيعة انصاف المؤرخين بعد ذلك، ولعب التعصب الذميم دوره المهم في طمس معالم هذا التاريخ أحفل ما يكون بالقضايا البارزة التي كان من حقها أن تأخذ مكانها من عبرة الاجيال. وكان للسلطات الحاكمة عملها في توجيه ما يكتب للتاريخ أو يملى للحديث، حتى فيما يتناول أئمة الشيعة فضلاً عن زعمائهم أو سوادهم.
 « روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا.. قال: ان اكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً اليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم!.
 « وقال المدائني عن عصر معاوية: وظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان اعظم الناس في ذلك بليةً القراء المراؤون، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الاحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقرّبوا مجلسهم، ويصيبوا به الاموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الاخبار والاحاديث الى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها، وهم يظنون انها حق، ولو علموا انها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها (1) ».
 وقال ابن أبي الحديد: « وذكر شيخنا أبو جعفر الاسكافي.. أن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه. منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة. ومن التابعين عروة بن الزبير (2) ».
 اقول: وشيء قليل من حيدة في النظر ودقة في الاستنتاج يكفينا للقناعة بألوان التصرفات الكيفية الواسعة النطاق التي نكب بها كل من حديث الاسلام وتاريخ أحداثه معاً. حتى لقد يعز على المتتبع في ماجريات الحوادث الاسلامية الاولى ان لا يجد قضية من مهمات القضايا الاسلامية يومئذ سلمت في تناسقها التاريخي من الاصطدام بالمفارقات البعيدة التي تغمرها بالشك، ثم لا تزال تأخذ بها بين التيارات المتعاكسة ذات اليمين وذات الشمال.
 ولا حاجة بنا بعد ذلك الى جمع الشهادات والتصريحات على شيوع الوضع (3) وكثرة الوضاعين، لان خير شهود كل شيء ما كان منه مباشرة.
 وكانت قضية الحسن بن علي عليهما السلام بملابساتها وذيولها احدى هاتيك القضايا التي لعبت الاهواء في التحدث عنها وضعاً ورفعاً وجمعاً وتفريقاً، وفقدت تحت تأثير هذا التلاعب المؤسف الذي لم يكن كله مقصوداً، كما لم يكن كله غير مقصود، روعة واقعها الاول. وكان من طبيعة هذا الوضع أن تختلف عليه الافهام، ويكثر حوله النقض والابرام. وما هي الا كنموذج واحد من قضايا كثيرة في تاريخ الاسلام ظلمها التاريخ وجللها بالظلام.
 


1 ـ و 2 ـ ابن أبي الحديد (ج 3 ص 16) و (ج 1 ص 358).
3 ـ وللعلامة الاميني النجفي في « كتاب الغدير » (ج 5 من ص 185 الى 329) بحثه القيم عن الوضاعين الكذابين جمع فيه ستمائة وعشرين كذاباً وضاعاً ممن سلكهم القوم في رواة الحديث والتاريخ. فليراجع.


 وانهم ليعرفون، وهم يؤرخون الحسن، مكانة الحسن في التاريخ ويعلمون أنهم انما يكتبون عن « أحد الاحدين » في العالم الاسلامي كله.
 فكيف بهم اذا جاوزوا فيما يؤرخون مثل هذه النقطة المركزة، الى نقاط لا تبلغ في موضوعها خطورة امام؟.
 لذلك يجب أن لا نطمع في موضوع [معاوية وزعماء الشيعة] بالحصول على الحقائق الكافية التي تملأ نهم البحث، ولا بالوقوف على الاحصاءات الصحيحة التي تسدّ نطاق الموضوع، بما يتناسب وحديث المدائني، وتفاصيل سليم بن قيس.
 ذلك لأن كل شيء من هذا القبيل، وكل شيء من تاريخ الشيعة الصحيح، قد طغت عليه التصرفات المعارضة، وأكلته الاكاذيب المأجورة على طول التاريخ.
 وليس لنا الآن، الا أن نعود فنتسقط الاخبار من هنا ومن هنالك لنعرض شيئاً له صورته التاريخية التي نعتقد أنها ـ على فظاعتها ـ قليل من كثير، وبعض من كل.
 واليك الآن القائمة المحزونة التي تحمل أسماء هؤلاء بما فيهم من صحابة وتابعين، ولندرس على ضوء هذه القائمة جواب معاوية على الشرط الخامس من شروط معاهدة الصلح. ثم لنتدرج مع فقرات هذا الشرط فيما نأتي عليه من فصول.

أ ـ الشهداء المقتولون صبراً

 1 ـ حجر بن عدي الكندي:
 يعرف بحجر الخير، ويكنى بأبي عبد الرحمن بن عدي بن الحرث بن عمرو بن حجر المقلب بآكل المرار [ملك الكنديين]. وقيل هو ابن عدي بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الاكرمين من كندة (1)، ومن ذؤابتها العليا.
 صحابي من أعيان أصحاب علي وابنه الحسن عليهما السلام، وسيد من سادات المسلمين في الكوفة ومن أبدالها.
 وفد هو وأخوه هانئ بن عدي على النبي صلى اللّه عليه وآله، قال في الاستيعاب: « كان حجر من فضلاء الصحابة، وصغر سنه عن كبارهم »، وذكره بمثل ذلك في أسد الغابة، ووصفه الحاكم في المستدرك بأنه: « راهب أصحاب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ».
 


1 ـ وكندة هي من بني كهلان، وبلادهم في اليمن، ثم كان من كبرائهم في العراق ـ وكهلان وحمير ابنا سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسبأ اسم يجمع القبيلتين كلتيهما. وكان يقال: ان العرب تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف بعد بيت هاشم بن عبد مناف أربعة بيوت: بيت قيس الفزاري، والدارميين، وبني شيبان، وبيت اليمن من بني الحارث بن كعب ـ واما كندة فلا يعدون من أهل البيوتات انما كانوا ملوكاً. ومنهم « الملك الضليل ـ امرؤ القيس » وكان لهم ملك باليمن وبالحجاز ـ وبقي لكندة مجدها في الاسلام، فمن كندة من كان له ذكر في الفتوح والثورات، ومنهم من ولي الولايات، ومنهم من تقلد القضاء كحسين بن حسن الحجري، ومنهم الشعراء كجعفر بن عفان المكفوف شاعر الشيعة، وكان هانئ بن الجعد بن عدي ـ ابن أخي حجر ـ من أشراف الكوفة، وكان جعفر بن الاشعث وابنه العباس بن جعفر من شيعة الامام ابي الحسن موسى بن جعفر وابنه الرضا عليهما السلام. اما الاشعث بن قيس الكندي فكان اكبر منافقي الكوفة. أسلم ثم ارتد بعد النبي ثم أسلم وقبل أبو بكر اسلامه، وزوجه أخته وهي أم محمد بن الاشعث، وتزوج الامام الحسن ابنته، وهي التي سقته السم باغراء معاوية اياها.


 وبلغ من عبادته أنه ما أحدث الا توضأ وما توضأ الا صلى. وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان ظاهر الزهد، مجاب الدعوة (1)، ثقة من الثقات المصطفين، اختار الآخرة على الدنيا حتى سلم نفسه للقتل دون البراءة من امامه، وانه مقام تزل فيه الاقدام وتزيغ الاحلام.
 كان في الجيش الذي فتح الشام، وفي الجيش الذي فتح القادسية، وشهد الجمل مع علي، وكان أمير كندة يوم صفين، وأمير الميسرة يوم النهروان، وهو الشجاع المطرق الذي قهر الضحاك بن قيس في غربي تدمر. وهو القائل: « نحن بنو الحرب وأهلها، نلقحها وننتجها، قد ضارستنا وضارسناها ».
 ثم كان أول من قتل صبراً في الاسلام.
 قتله وستة من أصحابه معاوية بن أبي سفيان سنة 51 في « مرج عذراء » بغوطة دمشق على بعد 12 ميلاً منها. وقبره الى اليوم ظاهر مشهور، وعليه قبة محكمة تظهر عليها آثار القدم في جانب مسجد واسع، ومعه في ضريحه أصحابه المقتولون معه وسنأتي على ذكرهم.
 وهدم زياد ابن أبيه دار حجر في الكوفة.
 السبب في قتله
 أنه كان يرد على المغيرة وزياد حين يشتمان علياً عليه السلام، ويقول: « أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أولى بالذم، وكان اذا جهر بكلمته هذه، وافقه أكثر من ثلثي الناس، وقالوا: « صدق واللّه حجر وبر ».
 


1 ـ قال في الاصابة (ج 1 ص 329): « أصابته جنابة ـ وهو أسير ـ فقال للموكل به أعطني شرابي أتطهر به، ولا تعطني غداً شيئاً، فقال: أخاف ان تموت عطشاً فيقتلني معاوية. قال: فدعا اللّه فانسكبت له سحابة بالماء، فأخذ منها الذي احتاج اليه فقال له أصحابه: ادع اللّه أن يخلصنا، فقال: اللهم خر لنا ».


 أما المغيرة بن شعبة فقد قدر المعنويات التي تعزز حجراً كصحابي فاضل، وكرأس من رجالات علي في الكوفة، وكأمير عربي يرث تاج الكنديين من أقرباء الجدود، وسمع بأذنيه تأييد الناس دعوته غير آبهين بالقوة، ولا خائفين نقمة السلطان، فرأى أن يتمهل في أمره وأن يعتذر الى ذوي مشورته الذين كانوا يحرضونه على التنكيل به. ثم قال لهم: « اني قد قتلته ». قالوا: « وكيف ذلك؟ » قال: « انه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيهاً بما ترونه، فيأخذه عند اول وهلة فيقتله شر قتلة ». وكان المغيرة في موقفه من حجر المنافق الحكيم، وكذلك كان فيما أجاب به صعصعة بن صوحان يوم فتنة المستورد بن علفة الخارجي سنة 43 قال له: « واياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شيئاً من فضل علي علانية، فانك لست بذاكر من فضل علي شيئاً أجهله، بل أنا أعلم بذلك!!. ولكن هذا السلطان ـ يعني معاوية ـ قد ظهر، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس، فنحن ندع كثيراً مما أمرنا به، ونذكر الشيء الذي لا نجد من ذكره بداً، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية (1) ».
 وولي ابن سمية الكوفة بعد هلاك المغيرة سنة 50 أو 51، فرأى أن يخدم أمويته « المزعومة » بقتل حجر بن عدي ليريحها من أكبر المشاغبين عليها. ولكنه جهل أن دم حجر سيظل يشاغب على تاريخ أمية ما عرف الناس هذين الاسمين.
 وأطال الوالي الجديد خطبته يوم الجمعة حتى ضاق وقت الصلاة ـ ولصلاة الجمعة وقتها المحدود ـ فقال حجر ـ وكان لا يفارق جمعتهم وجماعتهم ـ: « الصلاة! » فمضى زياد في خطبته. فقال ثانياً: « الصلاة! » فمضى في خطبته. وخشي حجر فوت الفريضة فضرب بيده الى كف من الحصا، وثار الى الصلاة وثار الناس معه.
 


1 ـ الطبري (ج 6 ص 108).


 وما كان أبو عبد الرحمن بمكانته الاجتماعية وبروحه العابدة الزاهدة بالذي يترخص في دينه أو يلجأ الى مجاملة المترخصين، وكان يظن ان في هؤلاء بقية من الحسن قد تنفعها الذكرى وقد يجدي معها الانكار، فأنكر انتصافاً للحق المهضوم، وجاهد لدينه ولامامه ولصلاته بلسانه، كما كان يجاهد بسيفه في فتوح الاسلام.
 وجاءت قائمة جرائمه ـ في عرف بني أمية ـ أنه يرد السب عن علي عليه السلام، وأنه يريد الصلاة لوقتها، ولا شيء غير ذلك!.
 ودعا زياد « حواشيه الطيعة » الذين كانوا يبادلونه الذمم بالنعم أمثال عمر بن سعد [قاتل الحسين عليه السلام]، والمنذر بن الزبير، وشمر بن ذي الجوشن العامري، واسماعيل واسحق ابني طلحة بن عبد اللّه، وخالد بن عرفطة، وشبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، وعمرو بن الحجاج، وزجر بن قيس.. و « درازن » أخرى من هذه النماذج التي طلقت المروءة ثلاثاً، وكانوا سبعين رجلاً، عدهم الطبري في تاريخه واحداً واحداً [ج 6 ص 150 ـ 151]، وماز من بينهم أبا بردة بن أبي موسى الاشعري لانه كان أضعفهم عنده او لانه كان أقواهم عند معاوية، وقال له اكتب: ـ
 « بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى الاشعري للّه رب العالمين!!، أشهد ان حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة!! ولعن الخليفة، ودعا الى الحرب، وجمع اليه الجموع يدعوهم الى نكث البيعة، وكفر باللّه عزّ وجل كفرة صلعاء!!.. ».
 وقال للسبعين: « على مثل هذه الشهادة فاشهدوا. أما واللّه لاجهدن على قطع خيط هذا الخائن الاحمق!! ». فشهد على هذه الصحيفة الخائنة الحمقاء سبعون من اشراف الكوفة و « ابناء البيوتات »!!.. وكتب الى معاوية في حجر وكثر عليه فكتب اليه معاوية: « شده في الحديد واحمله اليّ ».
 ولنتذكر هنا سوابق هذه الحفنة من أبناء بيوتات الكوفة في قضية الحسن بن علي عليهما السلام أيام خلافته، وهل كان الفارون من الزحف في مسكن، والمتألبون على الشر في المدائن، والمكاتبون معاوية على الغدر بالامام وتسليمه اياه الا هؤلاء؟. فمن هو اذاً الذي خلع الطاعة وفارق الجماعة ونكث البيعة أحجر بن عدي أم هم؟
 ثم لنتذكر مواقف هؤلاء أنفسهم في فاجعة الحسين عليه السلام بكربلاء، وكانوا يومئذ سيوف الجبابرة الامويين الذين تحملوا مسؤوليات تلك الاحداث المؤلمة التي لا حد لفظاعتها في تاريخ العرب والاسلام.
 موقف الكوفة في حادثة حجر:
 وكان باستطاعة حجر ان يشعل نار الثورة التي تقض مضجع معاوية في الكوفة، لو انه شاء المقاومة بالسلاح. وفهم معاوية ذلك حين راح يقول ـ بعد مقتل حجر ـ: « لو بقي حجر لاشفقت أن يعيدها حرباً أخرى »، وفهم زياد ذلك حين اتبع حجراً بريده وقال له: « اركض الى معاوية وقل له: ان كان لك في سلطانك حاجة فاكفني حجراً ».
 ولكن الزعيم الشيعي الذي كان قد درس على الامام الحسن بن علي عليهما السلام تضحياته الغالية في سبيل حقن الدماء، منع قومه من الحرب صريحاً.
 ولكن جماعة من أصحابه اشتبكت بشرطة زياد و (بخاريته) عند أبواب كندة، وجماعة أخرى التحمت بهم عند باب داره ـ قرب جبانة كندة ـ وكان من ابطال هاتين الموقعتين عبد اللّه بن خليفة الطائي، وعمرو بن الحمق الخزاعي ـ وسنأتي على ذكرهما في الفصول القريبة ـ، وعبد الرحمن بن محرز الطمحي، وعائذ بن حملة التميمي، وقيس بن يزيد، وعبيدة بن عمرو، وقيس بن شمر، وعمير بن يزيد الكندي المعروف (بأبي العمرّطة). قالوا: « وكان سيف أبي العمرطة أول سيف ضرب به في الكوفة يوم حجر ». ـ وخرج قيس بن فهدان الكندي على حمار له، يسير في مجالس كندة يحرضهم على الحرب.
 وحصب أهل الكوفة زياداً (1) ـ وكان ذلك هو ميراثه الشرعي من اُمه سمية.
 أما حجر نفسه فأصر على قومه بأن يردوا السيوف الى أغمادها، وقال لهم: « لا تقاتلوا فاني لا أحب ان اعرضكم للهلاك.. وانا آخذ في بعض هذه السكك ».
 وأخطأته عيون زياد التي كانت تلاحقه، لان الناس كلهم أو اكثر من ثلثي الناس كانوا يمنعون حجراً من هذه العيون.
 وهكذا ضاق زياد بحجر وأصحابه، فجمع اشراف الكوفة وقال لهم: « يا أهل الكوفة: اتشجون بيد وتأسون بأخرى، أبدانكم معي، وأهواؤكم مع حجر، أنتم معي واخوانكم وابناؤكم وعشائركم مع حجر. هذا واللّه من دحسكم وغشكم. واللّه لتظهرن لي براءتكم، أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم ».. ثم قال: « فليقم كل امرئ منكم الى هذه الجماعة حول حجر. فليدع كل رجل منكم أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته، حتى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه ».
 ثم أمر زياد أمير شرطته [شداد بن الهيثم الهلالي] بالقبض على حجر. وعلم ان شرطته ستعجز عنه، فدعا محمد بن الاشعث الكندي، وقال له: « يا أبا ميثاء، أما واللّه لتأتينني بحجر، أو لا ادع لك نخلة الا قطعتها، ولا داراً الا هدمتها، ثم لا تسلم حتى أقطعك ارباً ارباً! » قال له: « أمهلني حتى أطلبه ». قال « امهلتك ثلاثاً، فان جئت به والا عّد نفسك في الهلكى! ».
 أقول: ولِمَ كلّ هذا الحنق؟ أللدين وما كان ابن سمية بأولى به من الصحابي العابد الذي كان يصلي كل يوم وليلة الف ركعة، ثم لا ذنب له الا أن ينهى عن المنكر ويريد الفرائض لوقتها؟! ـ أم للدنيا، وقد خسروا في مقتل حجر صبابة معنوياتهم في التاريخ!!
 


1 ـ قال الطبري: « ومن يومه اتخذ المقصورة » (ج 6 ص 132).


 

 وحاول زياد ان يقتل الكنديين بعضهم ببعض بما أمر به ابن الاشعث الكندي، وكان ذلك من جملة الاساليب الرثة التي يتوارثها الحاكمون بأمرهم في الشعوب المغلوبة على أمرها في القديم والحديث.
 وعلم حجر ما أراده زياد في الكنديين وأصحابهم فقال: « ولكن سمع وطاعة ».
 ودارت الشرطة للقبض على الاسماء البارزة من مؤازريه، فجمعوا تسعة من أهل الكوفة وأربعة من غيرها ـ برواية المسعودي.
 وعدهم ابن الاثير هكذا: « حجر بن عدي الكندي، والارقم بن عبد اللّه الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسان العنزيان، ومحرز بن شهاب التميمي، وعبد اللّه بن حوبة السعدي التميمي ». قال: « فهؤلاء اثنا عشر رجلاً. واتبعهم زياد برجلين وهما: عتبة بن الاخنس من سعد بن بكر، وسعد بن نمران الهمداني. فقوموا أربعة عشر رجلاً ».
 ونشط ـ اذ ذاك ـ المشاؤون بالنميم، وما كان أكثرهم في هذا البلد المنكوب!
 ومكث حجر في سجن الكوفة عشرة أيام حتى جمعوا اليه من أصحابه من ذكرنا، ثم أمر بهم فسيقوا الى الشام. وكان كل ما في الكوفة يدل على تمخض الوضع عن وثبة لا يدرى مدى بلائها على الحاكم والمحكوم.
 ولكن زياداً فطن الى ذلك، فأمر باخراجهم « عشية » ليتستر بالظلام، فيخفف من عرامة هذا الظلم المفضوح.
 ونظر قبيصة بن ربيعة ـ أحد اصحاب حجر ـ فاذا هو يمر على داره في جبانة « عرزم » واذا بناته مشرفات يبكينه، فكلمهن ووعظهن بما سنأتي على ذكره عند ترجمته، ثم انصرف.
 وانشأت ابنة حجر في احدى لياليها السود وقد قطع الخوف على أبيها نياط قلبها وهي تخاطب القمر ـ وقيل بل الابيات لهند بنت زيد الانصارية ترثي حجراً:

ترفّع أيها القمر المنير يسير الى معاوية بن حرب ويصلبه على بابي دمشق تجبرت الجبابر بعد حجر وأصبحت البلاد له محولاً ألا يا حجر حجر بني عدي أخاف عليك ما أردى علياً فان تهلك فكل عميد قوم

لعلك أن ترى حجراً يسير ليقتله كما زعم الامير وتأكل من محاسنه النسور وطاب لها الخورنق والسدير كأن لم يحيها مزن مطير تلقتك السلامة والسرور وشيخاً في دمشق له زئير من الدنيا الى هلك يصير

 مقتله
 وصاروا بهم الى عذراء، وكانت قرية على اثني عشر ميلاً من دمشق، فحبسوا هناك، ودار البريد بين معاوية وزياد، فما زادهم التأخير الا عذاباً. وجاءهم أعور معاوية في رهط من أصحابه يحملون أمره بقتلهم ومعهم اكفانهم فقال لحجر: « انَّ امير المؤمنين أمرني بقتلك يا رأس الضلال!!.. ومعدن الكفر والطغيان!!.. والمتولي لابي تراب، وقتل أصحابك الا أن ترجعوا عن كفركم، وتلعنوا صاحبكم وتتبرأوا منه » ـ فقال حجر وأصحابه: « ان الصبر على حد السيف لأيسر علينا مما تدعوننا اليه ثم القدوم على اللّه وعلى نبيه وعلى وصيّه أحبّ الينا من دخول النار ».
 وحفرت القبور، وقام حجر وأصحابه يصلون عامة الليل، فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم فقال لهم حجر: « اتركوني اتوضأ وأصل فاني ما توضأت الا صليت ». فتركوه فصلى ثم انصرف، وقال: « واللّه ما صليت صلاة أخفّ منها، ولولا أن تظنوا فيّ جزعاً من الموت لاستكثرت منها ».
 ثم قال: « اللهم انا نستعديك على أمتنا، فان اهل الكوفة شهدوا علينا، وان أهل الشام يقتلوننا، أما واللّه لئن قتلتموني بها، فاني لاول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها (1) ».
 ثم مشى اليه هدبة بن فياض القضاعي بالسيف، فارتعد ـ فقالوا له: « زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك وندعك!! ».
 فقال: « مالي لا أجزع وأرى قبراً محفوراً، وكفناً منشوراً، وسيفاً مشهوراً، واني واللّه ان جزعت من القتل، لا أقول ما يسخط الرب! ».
 وشفع في سبعة من أصحاب حجر ذوو حزانتهم من المقربين لدى معاوية في الشام.
 وعرض الباقون على السيف، وقال حجر في آخر ما قال: « لا تطلقوا عني حديداً، ولا تغسلوا عني دماً، فاني لاق معاوية غداً على الجادة واني مخاصم ». وذكر معاوية كلمة حجر هذه فغصّ بها ساعة هلك ـ معاوية ـ فجعل يغرغر بالصوت ويقول: « يومي منك يا حجر يوم طويل ».
 


1 ـ ابن الاثير (ج 3 ص 192) وقال ابن سعد ومصعب الزبيري فيما رواه الحاكم عنه عند ذكر حجر: « وقتل بمرج عذراء بامر معاوية وكان حجر هو الذي افتتحها فغدر بها ». أقول: وهو معنى قوله هنا: « وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها » يعني يوم فتحها.


 

 فاجعته في المسلمين
 حج معاوية بعد قتله حجراً وأصحابه فمر بعائشة « واستأذن عليها فأذنت له، فلما قعد قالت له: يا معاوية أأمنت ان اخبئ لك من يقتلك؟ قال: بيت الامن دخلت، قالت: يا معاوية أما خشيت اللّه في قتل حجر وأصحابه؟ (1) ». وقالت: « لولا انا لم نغير شيئاً الا صارت بنا الامور الى ما هو اشد منه لغيَّرنا قتل حجر، أما واللّه ان كان ما علمتُ لمسلماً حجاجاً معتمراً (2) ».

 وكتب شريح بن هاني الى معاوية يذكر حجراً ويفتيه بحرمة دمه وماله ويقول فيه: « انه ممن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال (3) ».
 وكان ابن عمر ـ منذ أخذ حجر ـ يتخبر عنه فأخبر بقتله وهو بالسوق فأطلق حبوته وولى وهو يبكي (4).
 ودخل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على معاوية وقد قتل حجراً وأصحابه، فقال له: « أين غاب عنك حلم أبي سفيان!؟ » قال: « غاب عني حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت!! » قال: « واللّه لا تعد لك العرب حلماً بعد هذا أبداً ولا رأياً، قتلت قوماً بعث بهم اليك أسارى من المسلمين.. ».
 وقال مالك بن هبيرة السكوني حين أبى معاوية أن يهب له حجراً، وقد اجتمع اليه قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير، فقال: « واللّه لنحن اغنى عن معاوية من معاوية عنا وانا لنجد في قومه (5) منه بدلاً ولا يجد منا في الناس خلفاً.. ».
 وقيل لابي اسحق السبيعي: « متى ذل الناس؟ » فقال: « حين مات الحسن، وادُّعي زياد، وقتل حجر بن عدي (6) ».
 


1 ـ الطبري (ج 6 ص 156).
2 ـ ابن الاثير (ج 3 ص 193).
3 ـ و 4 ـ الطبري (ج 6 ص 153).
5 ـ يعني بني هاشم.
6 ـ ابن ابي الحديد (ج 4 ص 18).


 وقال الحسن البصري: « أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الامة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها ـ يعني الخلافة ـ بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً. ويل له من حجر وأصحاب حجر ـ مرتين ـ (1) ».
 ومات الربيع بن زياد الحارثي غماً لمقتل حجر، وكان عاملاً لمعاوية على خراسان. قال ابن الاثير (ج 3 ص 195): « وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدي، حتى انه قال: لا تزال العرب تقتل صبراً بعده، ولو نفرت عند قتله، لم يقتل رجل منهم صبراً، ولكنها قرت فذلت، ثم مكث بعد هذا الكلام جمعة، ثم خرج يوم الجمعة فقال: أيها الناس، انى قد مللت الحياة فاني داع بدعوة فأمنوا. ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال: اللهم ان كان لي عندك خير فاقبضني اليك عاجلاً، وأمن الناس ـ ثم خرج، فما توارت ثيابه حتى سقط (2) ».
 وكتب الحسين عليه السلام الى معاوية في رسالة له: « ألست القاتل حجراً أخا كندة، والمصلين العابدين، الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في اللّه لومة لائم؟. قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنت أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة [يشير الى نصوص المادة الخامسة من معاهدة الصلح] أن لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا باحنة تجدها في نفسك عليهم (3) ».
 ثم جاء دور التاريخ فخصص نصر بن مزاحم المنقري كتاباً في مقتل حجر بن عدي، ولوط بن يحيى بن سعيد الازدي كتاباً (4)، وهشام بن محمد


1 ـ الطبري (ج 6 ص 157) وغيره.
2 ـ وذكر ذلك كل من الاستيعاب واسد الغابة والدرجات الرفيعة والشيخ في الامالي.
3 ـ البحار (ج 10 ص 149).
4 ـ فهرست ابن النديم (ص 136).


(339)

ابن السائب كتاباً في حجر، وكتاباً آخر في مقتل رشيد وميثم وجويرية بن مشهر (1) ».
 الاحاديث في حجر وأصحابه
 قال ابن عساكر: « ان عائشة بعد أن انكرت على معاوية قتله حجراً وأصحابه، قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم يقول: سيقتل بعذراء ـ الموضع الذي قتل فيه حجر وأصحابه ـ أناس يغضب الله لهم وأهل السماء ».
 وروى مثله بطريق آخر عنها.
 وروى البيهقي في الدلائل ويعقوب بن سفيان في تاريخه: « عن عبد اللّه بن زرير الغافقي قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: يا أهل العراق، سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الاخدود ».
 الشهداء من أصحاب حجر
 علمنا ـ مما سبق ـ أن اصحاب حجر صفوة من رجال اللّه القليلين، وأنهم « المصلون العابدون، الذين ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في اللّه لومة لائم » على حد تعبير الحسين عليه السلام عنهم فيما كتبه الى معاوية.
 ورأينا ـ الى ذلك ـ كيف يذكرهم كبراء المسلمين الآخرون كلما ذكروا حجراً.
 واذا شاءت المقادير، أو شاءت الرقابات الاموية طمس أخبارهم وتناسي آثارهم، فانهم شهداء المبادئ، وقرابين الحق المغصوب، وكفاهم ذلك فضلاً ومجداً وظهوراً في التاريخ.


1 ـ النجاشي (ص 306).


 ولقي معاوية في حجته « المقبولة.. » بعد قتل هذه الزمرة الكريمة، الحسين بن علي عليهما السلام في مكة، فقال له ـ مزهواً ـ: « هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه شيعة أبيك؟ ». قال: « وما صنعت بهم؟ » قال: « قتلناهم وكفنّاهم وصلينا عليهم ودفناهم!! » فضحك الحسين عليه السلام، ثم قال: « خصمك القوم يا معاوية، لكنا لو قتلنا شيعتك، ما كفنّاهم، ولا صلينا عليهم، ولا قبرناهم (1) ».
 واليك الآن اسماء الشهداء الممتحنين مرتبة على الحروف وملحقة بما يتصل بكل منهم من معلومات:
 أ ـ شريك بن شداد أو ثداد الحضرمي وسماه آخر عريك بن شداد.
 ب ـ صيفي بن فسيل الشيباني، رأس في اصحاب حجر حديد القلب شديد العقيدة سديد القول. القي القبض عليه واحضر لزياد فقال له: « يا عدو اللّه!! ما تقول في أبي تراب؟ »، قال: « ما اعرف ابا تراب »، قال: « ما أعرفك به؟ »، قال: « ما أعرفه »، قال: « اما تعرف علي بن أبي طالب؟ »، قال: « بلى »، قال: « فذاك ابو تراب »، قال: « كلا، ذاك أبو الحسن والحسين عليه السلام ». فقال له صاحب الشرطة: « يقول لك الامير: هو أبو تراب، وتقول انت: لا؟ »، قال: « وان كذب الامير أتريد ان أكذب انا واشهد على باطل كما شهد!؟ » [انظر الى خلقه وصلابته] قال له زياد: « وهذا ايضاً مع ذنبك!!، عليَّ بالعصا »، فأتي بها، فقال: « ما قولك؟ »، قال: « أحسن قول أنا قائله في عبد من عباد اللّه المؤمنين »، قال: « اضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالارض »، فضرب حتى لزم الارض!! ثم قال: « أقلعوا عنه ـ ايه ما قولك في علي؟ »،


1 ـ البحار وغيره، وروى مثلها الطبري عن الحسن ولا يصح لان فجائع حجر وأصحابه كانت بعد وفاة الحسن بسنتين. وروى مثلها ابن الاثير عن الحسن البصري قال: « فقال: حجوهم ورب الكعبة ».


(341)

قال: « واللّه لو شرحتني بالمواسي والمدى ما قلت الا ما سمعت مني ». قال: « لَتَلعننَّه، أو لاضربن عنقك! » قال: « اذاً تضربها واللّه قبل ذلك، فان أبيت الا ان تضربها، رضيتُ باللّه وشقيت أنت! ».
 قال: « ادفعوا في رقبته » ـ ثم قال ـ: « أوقروه حديداً، والقوه في السجن! ».
 ثم كان في قافلة الموت مع حجر، ومن شهداء عذراء الميامين.
 ج ـ عبد الرحمن بن حسان العنزي. كان من أصحاب حجر وسيق معه مكبّلاً بالحديد، ولما كانوا في مرج عذراء طلب ان يبعثوا به الى معاوية ـ وكأنه ظن أن معاوية خير من ابن سمية. فلما ادخل عليه، قال له معاوية: « يا اخا ربيعة! ما تقول في علي؟ » قال: « دعني ولا تسألني، فهو خير لك! »، قال: « واللّه لا ادعك »، قال: أشهد انه كان من الذاكرين اللّه كثيراً، والآمرين بالحق، والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس ». قال: « فما قولك في عثمان؟ »، قال: « هو اول من فتح باب الظلم واغلق أبواب الحق »، قال: « قتلت نفسك »، قال: « بل اياك قتلت، ولا ربيعة بالوادي » ـ يعني ليشفعوا فيه أو يدفعوا عنه. فردّه معاوية الى زياد في الكوفة وأمره بقتله شرَّ قتلة!!..
 وكان عبد الرحمن هذا هو القائل يوم كبسهم جلادو معاوية في مرج عذراء: « اللهم اجعلني ممن تكرم بهوانهم وأنت عني راضٍ، فطالما عرضت نفسي للقتل فأبى اللّه الا ما أراد ».
 وذكره حبة العرني، فيما حدث عنه في تاريخ الكوفة، (ص 274) قال: « وكان عبد الرحمن بن حسان العنزي من أصحاب علي عليه السلام، اقام بالكوفة يحرض الناس على بني أمية، فقبض عليه زياد، وأرسله الى الشام، فدعاه معاوية الى البراءة من علي عليه السلام، فأغلظ عبد الرحمن بالجواب، فردّه معاوية الى زياد فقتله ».
 وقال ابن الاثير (ج 3 ص 192) والطبري (ج 6 ص 155) أنه دفنه حياً بقس الناطف (1).
 أقول: ولو أدرك معاوية قتلات زياد لشيعة علي في الكوفة، وقطعه الايدي والارجل والالسنة، وسمله العيون، لما زاده وصاة بابن حسان العنزي حين أمره بان يقتله شر قتلة، وهل قتلة شرّ من هذه الفتلات والمثلات؟ ولكن زياداً نزل على وصية معاوية فابتدع قتلة الدفن حياً!!. (2).
 وما أدراك ما سيلقى معاوية على هذه الوصاة، وما سيجازى زياد على هذه القتلات يوم يردون جميعاً الى اللّه مولاهم الحق؟؟.
 د ـ قبيصة بن ربيعة العبسي. وسماه بعضهم ابن ضبيعة ـ بدل ربيعة ـ وهو الشجاع المقدام الذي صمم على المقاومة بسلاحه وبقومه، لولا أن صاحب الشرطة آمنه على دمه وماله، فوضع يده في أيديهم، ايماناً ببراءة « الامان » الذي كان لا يزال متبعاً لدى العرب فضلاً عن أهل الاسلام، ولولا أن الخلائق الاسلامية والعربية معاً، كانت قد تبخرت عند القوم، أو انهم كانوا قد فهموها على أنها وسائل للغلبة والبطش فحسب!.
 وأُحضر ابن ضبيعة العبسي لزياد فقال له: « اما واللّه لاجعلن لك شاغلاً عن تلقيح الفتن والتوثب على الامراء!! » [انظر الى المنفذ الضيق الذي ينظر منه الاقوياء]، قال: « اني لم آتك الا على الامان »، قال: « انطلقوا به الى السجن ».
 


1 ـ موضع قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي ويقابله « المروحة » على شاطئها الغربي كانت فيه موقعة أبي عبيد والد المختار الثقفي.
2 ـ ثم كان هذا النوع من القتل السنة السيئة التي تبعه عليها الجبابرة من بعده. ولما غضب بنو أمية على عمر المقصوص وهو مؤدب معاوية بن يزيد بن معاوية، الذي استقال من خلافتهم احتجاجاً عليهم، أخذوه ودفنوه حياً!. الدميري في حياة الحيوان (ص 62) وروى هناك خطبة معاوية هذا التي يشرح فيها حيثيات استقالته بما يشعر بتشيعه لاهل البيت عليهم السلام.


 ثم كان بعد ذلك في الركب المثقل بالحديد الذي يسار به الى القتل صبراً. وفي الحديث: « من آمن رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وان كان المقتول كافراً (1) ».
 ومروا به ـ ولما يخرجوا بالقافلة من الكوفة ـ على داره فاذا بناته مشرئبات اليه يبكينه، فقال للحرسيين وائل وكثير: « ائذنا لي فاوصي الى أهلي »، فلما دنا منهن وهن يبكين سكت عنهن ـ ساعة ـ، ثم قال لهن: « اسكتن »، فسكتن، فقال: « اتقين اللّه عزّ وجل واصبرن فاني ارجو من ربي في وجهي هذا احدى الحسنيين: اما الشهادة وهي السعادة، واما الانصراف اليكن في عافية. وان الذي يرزقكن مؤونتكن هو اللّه تعالى، وهو حي لا يموت [انظر الى النفس الملائكية في اهاب البشر الانساني] أرجو ان لا يضيعكنَّ، وأن يحفظني فيكن ». ثم انصرف.
 وباتت الاسرة اليائسة الولهى (كما يشاء معاوية) تخلط البكاء بالبكاء، وتصل الدعاء بالدعاء، وكم لبنات قبيصة يومئذ من أمثال.
 قال الطبري: « ووقع قبيصة من ضبيعة في يدي أبي شريف البدّي فقال له قبيصة: ان الشر بين قومي وبين قومك آمن فليقتلني سواك، فقال: برّتك رحم! ثم قتله القضاعي! ».
 أقول: وأيّ نفس قوية هذه التي تنتبه في مثل هذه اللحظة الى الحؤول دون الشرّ بين القومين والاحتياط على الاصلاح.
 ه ـ كدام بن حيان العنزي.
 و ـ محرز بن شهاب بن بجير بن سفيان بن خالد بن منقر التميمي (2)


1 ـ الاصابة (ج 4 ص 294).
2 ـ يراجع عما كتبناه في حجر واصحابه: الدينوري وابن الاثير والطبري وابن أبي الحديد والاستيعاب والنصائح الكافية وتاريخ الكوفة.


 وكان من رؤساء الناس، ومن نقاوة الشيعة المعروفين بتشيعهم، وكان محرز هذا على ميسرة جيش معقل بن قيس في حربه للخوارج سنة 43، وكان جيش معقل في هذه الحرب ثلاثة آلاف هم نقاوة الشيعة وفرسانهم على حد تعبير الطبري فيما وصفهم به (ج 6 ص 108).
 2 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي:
 هو ابن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن ذراح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي.
 أسلم قبل الفتح، وهاجر الى المدينة، فكان الصحابيّ البر الذي حظي بدعوة النبي صلى اللّه عليه وآله بأن يمتعه اللّه بشبابه، فمرت عليه ثمانون سنة ولم ير له شعرة بيضاء على صباحة في وجهه كانت تزيده بهاء. وصحب بعده امير المؤمنين علياً عليه السلام، فكان الحواري المخلص الذي يقول له بحق: « ليت في جندي مائة مثلك ». وشهد معه الجمل وصفين والنهروان.
 ودعا له امير المؤمنين بقوله: « اللهم نور قلبه بالتقى، واهده الى صراطك المستقيم ». وقال له: « يا عمرو انك لمقتول بعدي، وان رأسك لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الاسلام. والويل لقاتلك (1) ».
 قال ابن الاثير (ج 3 ص 183): « ولما قدم زياد الكوفة قال له عمارة بن عقبة بن ابي معيط: ان عمرو بن الحمق يجمع اليه شيعة أبي تراب، فأرسل اليه زياد: ما هذه الجماعات عندك؟ من أردت كلامه ففي المسجد (2) ».


1 ـ سفينة البحار (ج 2 ص 360).
2 ـ وذكر الطبري وشاية عمارة بن عقبة ثم قال: « ويقال ان الذي رفع على عمرو بن الحمق وقال له: قد انغل المصرين هو يزيد بن رويم ».


 « ثم لم يزل عمرو [فيما يروي الطبري] خائفاً مترقباً حتى كانت حادثة حجر بن عدي الكندي فأبلى فيها بلاء حسناً وضربه رجل من الحمراء ـ شرطة زياد ـ يدعى بكر بن عبيد بعمود على رأسه فوقع وحمله الشيعة فخبأوه في دار رجل من الازد، ثم خرج فاراً وصحبه الزعيم الآخر [رفاعة بن شداد] فيمما المدائن ثم ارتحلا حتى أتيا ارض الموصل فكمنا في جبل هناك، واستنكر عامل ذلك الرستاق شأنهما فسار اليهما بالخيل، فأما عمرو فلم يصل الموصل الا مريضاً بالاستسقاء، ولم يكن عنده امتناع. واما رفاعة بن شداد ـ وكان شاباً قوياً ـ فوثب على فرس له جواد، وقال لعمرو: أقاتل عنك، قال: وما ينفعني ان تقاتل، انج بنفسك ان استطعت. فحمل عليهم فأفرجوا له، فخرج تنفر به فرسه، وخرجت الخيل في طلبه ـ وكان رامياً ـ فأخذ لا يلحقه فارس الا رماه فجرحه او عقره فانصرفوا عنه. وسألوا عمراً: من انت؟ فقال: من ان تركتموه كان أسلم لكم، وان قتلتموه كان أضرّ لكم!. فسألوه فأبى ان يخبرهم، فبعث به ابن أبي بلتعة، عامل الرستاق، الى عامل الموصل، وهو (عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عثمان الثقفي)، فلما رأى عمرو بن الحمق عرفه، وكتب الى معاوية بخبره، فأمره معاوية بأن يطعنه تسع طعنات كما كان فعل بعثمان فطعن ومات بالاولى منهن أو الثانية ».
 وخالف ابن كثير رواية الطبري هذه، فقال: « ان اصحاب معاوية عثروا عليه في الغار ميتاً، فحزّوا رأسه، وبعثوا به الى معاوية، وهو اول رأس طيف به في الاسلام. ثم بعث معاوية برأسه الى زوجته (آمنة بنت الشريد) وكانت في سجن معاوية [انظر الى أفظع الوان الارهاب] فألقي في حجرها، فوضعت كفها على جبينه، ولثمت فمه، وقالت: غيبتموه عني طويلاً، ثم أهديتموه اليّ قتيلاً، فأهلاً به من هدية غير قالية ولا مقلية.
 « ثم كان فيما كتب به الحسين عليه السلام الى معاوية: الست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ـ العبد الصالح الذي أبلته العبادة ـ فأنحلت جسمه، وصفرت لونه، بعدما أمنته واعطيته من عهود اللّه ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل اليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأة على ربك واستخفافاً بذلك العهد ».
 اقول: هو يشير بذلك « العهد » الى نصوص المادة الخامسة في معاهدة الصلح.
 وقال في سفينة البحار: « وقبره بظاهر الموصل، ابتدأ بعمارته أبو عبد اللّه سعيد بن حمدان، ابن عم سيف الدولة، في شعبان من سنة 336 ».
 وجاء في أصول التاريخ والادب (ج 9 ص 2):
 « قال أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي في كتاب الزيارات: وظاهر الموصل على الشرف الاعلى مشهد عمرو بن الحمق، دفنت جثته، ورأسه حمل الى دمشق، وقيل هو أول رأس حمل في الاسلام، وفي المشهد بعض الاشراف من ولد الحسين عليه السلام ».
 3 ـ عبد اللّه بن يحيى الحضرمي واصحابه
 عن محمد بن بحر الشيباني في كتابه « الفروق بين الاباطيل والحقوق » فيما أسنده الى القاسم بن مجيمة: « ما وفي معاوية للحسن بن علي بشيء عاهده عليه، واني قرأت كتاب الحسن الى معاوية يعدد عليه ذنوبه اليه والى شيعة علي عليه السلام فبدأ بذكر عبد اللّه بن يحيى الحضرمي ومن قتلهم معه (1) ».
 أقول: ولا نعرف الآن من أحوال الحضرمي وحادثة قتله وعدة اصحابه المستشهدين شيئاً، ولكنا نعرف أن هذا الرجل كان من رجال أمير المؤمنين وأنه الذي قال له يوم الجمل: « ابشر يا ابن يحيى أنت وأبوك ».
 


1 ـ البحار (ج 10 ص 101).


 وعلمنا فيما علل به بعضهم تقديم الحسن عليه السلام ذكر الحضرمي على غيره ممن قتلهم معاوية من الشيعة، أن الحضرمي هذا كان أبعدهم عن الدنيا وأقربهم الى حياة الرهبنة التي لا توهم أي خطر على سياسة الملك. قالوا: « وعلم معاوية ما كان عليه ابن يحيى وأصحابه من الحزن لوفاة علي أمير المؤمنين، وحبهم اياه، وافاضتهم في ذكره وفضله، فجاء بهم وضرب أعناقهم صبراً. ومن أنزل راهباً من صومعته فقتله بلا جناية منه الى قاتله أعجب ممن يخرج قساً من دير فيقتله، لأن صاحب الدير أقرب الى بسط اليد لتناول ما معه من صاحب الصومعة الذي هو بين السماء والارض، فتقديم الحسن ـ فيما عدده على معاوية من الذنوب ـ العباد على العباد، والزهاد على الزهاد، ومصابيح البلاد على مصابيح البلاد، لا يتعجب منه، بل يتعجب لو قدم في الذكر مقصراً على مخبت ومقتصداً على مجتهد (1) ».

 وفاجعة (عبد اللّه بن يحيى) أشبه بفاجعة حجر بن عدي، وكلاهما قتلا صبراً، وكلاهما قتل معهما أصحاب، وكلاهما أخذا بغير ذنب الا الذنب الذي هو عنوان فضيلتهما.
 4 ـ رشيد الهجري (2)
 تلميذ علي عليه السلام، وصاحبه المنقطع اليه، والعالم المعترف له بعلم البلايا والمنايا، يروي عنه ناس كثيرون، ولكنهم جميعاً سكتوا عن اسمه خوف السلطان الاموي، فلم ترو عنه علناً الا ابنته الوحيدة التي كانت قد حضرت مقتله، وهي التي جمعت أطرافه ـ يديه ورجليه ـ وقد قطعها ابن سمية!.
 قالت تسأله حين قطعت أطرافه: « يا أبت هل تجد ألماً لما أصابك؟ فقال: « لا يا بنيتي الا كالزحام بين الناس! ».


1 ـ البحار (ج 10 ص 102).
2 ـ رشيد [بالتصغير] وهجري (بفتح اوليه) نسبة الى بلاد الهجر ـ البحرين.


 أتي به الى زياد فقال له: « ما قال لك خليلك ـ يعني علياً عليه السلام ـ انا فاعلون بك؟ »، قال: « تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني »، فقال زياد: « أما واللّه لأكذبن حديثه، خلوا سبيله ». فلما أراد أن يخرج، قال: « ردوه، لا نجد لك شيئاً أصلح مما قال صاحبك، انك لن تزال تبغي لنا سوءاً ان بقيت، اقطعوا يديه ورجليه »، فقطعوها وهو يتكلم!، فقال: « اصلبوه خنقاً في عنقه »، فقال رُشَيد: « قد بقي لي عندكم شيء ما أراكم فعلتموه »، فقال زياد: « اقطعوا لسانه »، فلما أخرجوا لسانه قال: « نفّسوا عني حتى أتكلم كلمة واحدة »، فنفسوا عنه فقال: « هذا واللّه تصديق خبر أمير المؤمنين، أخبرني بقطع لساني ».
 وأخرج من القصر مقطعاً، فاجتمع الناس حوله، ومات من ليلته رضوان اللّه عليه.
 قالت ابنته: « قلت لأبي: ما أشد اجتهادك! »، قال: « يا بنية يأتي قوم بعدنا بصائرهم في دينهم أفضل من اجتهادنا ».
 وقال لها: « يا بنيتي أميتي الحديث بالكتمان، واجعلي القلب مسكن الامانة (1) ».
 


1 ـ سفينة البحار (ج 1 ص 522).


 

 5 ـ جويرية بن مسهر العبدي
 قال ابن أبي الحديد: « ونظر اليه علي عليه السلام يوماً فناداه: يا جويرية الحق بي فاني اذا رأيتك هويتك، ثم حدثه بأمور سراً، وفي آخر ما حدثه قال: يا جويرية أَحبَّ حبيبنا ما أحبنا فاذا أبغضنا فابغضه، وابغض بغيضنا ما أبغضنا فاذا أحبنا فأحبَّه. وكان من اختصاصه بعلي عليه السلام ما روى انه دخل يوماً عليه وهو عليه السلام مضطجع، وعنده قوم من أصحابه، فناداه جويرية: أيها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب منها لحيتك. قال: فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام، ثم قال: وأحدثك يا جويرية بأمرك، أما والذي نفسي بيده لتعتلنَّ (1) الى العُتُلّ الزنيم، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر! قال: فواللّه ما مضت الايام على ذلك حتى أخذ زياد جويرية فقطع يده ورجله، وصلبه الى جانب جذع ابن معكبر، وكان جذعاً طويلاً، فصلبه على جذع قصير الى جانبه ».
 أقول: وروى هذا الحديث أيضاً حبة العرني رحمه اللّه. وزاد قوله: « وكان زياد ابن أبيه ممن نصب العداوة لامير المؤمنين عليه السلام وكان يتتبع أصحاب علي وهو بهم أبصر فيقتلهم تحت كل حجر ومدر ».
 6 ـ أوفى بن حصن:
 أحد فرائس الظلم الاموي. طلبه زياد فأبى مواجهته، واستعرض زياد الناس فمر به فقال: « من هذا؟ » فقيل له: « أوفى بن حصن »، فقال زياد: « أتتك بخائن رجلاه »، وقال له: « ما رأيك في عثمان؟ » قال: « ختن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على ابنتيه » قال: « فما تقول في معاوية؟ » قال: « جواد حليم ».
 وكان أوفى لبقاً في لغته وأسلوبه فلم يجد عليه زياد ملزماً.
 وعاد عليه فقال له: « فما تقول فيّ؟ » قال: « بلغني أنك قلت بالبصرة: واللّه لآخذن البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر »، قال: « قد قلت ذاك (2) » قال: « خبطتها خبط عشواء! ».
 


1 ـ عتله: جذبه ـ والعتل ـ الجافي الغليظ ـ والزنيم: الدعي.
2 ـ روى خطبته أكثر المؤرخين، وروينا هذا الفصل منها في هوامش الفصل الحادي عشر.


 أقول: وكان من لباقة هذا الرجل الحصيف أنه تدرج في أجوبته لزياد ـ كما ترى ـ الى طريقة حكيمة من الوعظ حاول بها تنبيهه الى أخطائه. ولا تنس أنه كان يقف من عدوه ساعتئذ بين النطع والسيف، ومن ذمته بين الحق والباطل. وهذا هو ما يزيدنا اعجاباً بهؤلاء الابطال من تلامذة علي عليه السلام، ولكن شيئاً من وعظه لم يجده نفعاً سوى أن يقول زياد فيه: « ليس النفاخ بشر الزمرة » ثم أمر به فقتل (1) ».
 ولا ادري، ولا أظن زياداً نفسه يدري، بأي جريرة أخذ ابن حصن فأشاط بدمه و « كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله » ـ كما في الحديث ـ؟.
 والرجل في أجوبته كلها كما رأيت لم يفضح سراً، ولم يهتك أمراً. ولكن الذي ناقض الكتاب صريحاً فأخذ البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر خلافاً لقوله تعالى: « ولا تزر وازرة وزر أخرى » لحري بأن لا يفهم لغة الحديث ولا لغة الكتاب.
 واعتصم بغلوائه فاذا الناس من حوله في أشد محن الدنيا: جماعات تساق الى السجون، وزرافات تطارد أينما تكون، ومئات تعرض عليه كل يوم لتسمل عيونهم، أو لتقطع أطرافهم، أو ليؤمر بهم فتحطم ضلوعهم (2). وبين الكوفة والشام فرائس أخرى ترزح بالاصفاد. وما في الكوفة الا الارهاب المميت، وما في الشام لهؤلاء الا الموت المرهوب.
 وخشعت الكوفة التي كانت تفور ـ في أمسها القريب ـ بالمؤامرات والمعارضات خشوع الجناح الكسير، بما وسعها من مظالم الحكام الامويين. وكان المتآمرون بالامس هم المتآمرين بالجور اليوم، وكانوا هم الحاكمين بأمرههم فيما يسنون أو فيما ينفذون، فما بالها لا ترتجف فرقاً؟ وما بال أهلها لا يلوذون بالفرار هرباً؟..


1 ـ يراجع ابن الاثير (ج 3 ص 183)، والطبري (ج 6 ص 130 ـ 132).
2 ـ جيء الى زياد بعمير بن يزيد (من أصحاب حجر بن عدي) وقد أعطي الامان على دمه وماله، فأمر به زياد فأوقر بالحديد، ثم أخذته الرجال ترفعه حين اذا بلغ سورها ـ أعلى القامة ـ ألقوه فوقع على الارض ثم رفعوه ففعلوا به ذلك مراراً! الطبري (ج 6 ص 147).


 وخفي على معاوية وعلى ابن أبيه ورجال مدرسته أن الامعان بالعنف من أكبر الاسباب التي تغذي المثل الاعلى الذي يحاربه الحاكم العنيف، وان العنف لن يستطيع ان يقتل الفكرة التي كتب لها الخلود، ولكنها ستظل نواة الشجرة التي ستبسق مع التاريخ.
 وهذا حييت مئات الملايين ـ بعد ذلك ـ وهي تشارك الكوفة في فكرتها، وتحمل لمعاوية ورجاله وترها الذي لا تخلقه الايام.
 التعذيب بغير القتل:
 وكان للغارة الاموية ألوان أخرى غير القتل والتشريد وهدم البيوت ومصادرة الاموال وكم الافواه.
 فقال ابن الاثير عند ذكره لفاجعة (أوفى بن حصن): « وكأن أول قتيل قتله زياد، بعد حادثة الثلاثين أو الثمانين الذين قطع أيديهم!! ».
 واستبطن معاوية دخائل البصرة والكوفة فلم يدع في هذين المصرين رئيس قوم، ولا صاحب سيف، ولا خطيباً مرهوباً، ولا شاعراً موهوباً من الشيعة، الا أزعجه عن مقره، فسجنه، أو غله، أو شرّده، أو أهدر دمه!.
 واليك فيما يلي أمثلة قليلة من هذه النكبات التي قارفها أبو يزيد في الشخصيات البارزة من رؤساء الشيعة يومئذ.

ب ـ زعماء الشيعة المرعون

 1 ـ عبد اللّه بن هاشم المرقال:
 كان كبير قريش في البصرة، ورأس الشيعة فيها.
 وكان أبوه هاشم ـ المرقال ـ بن عتبة بن أبي وقاص، القائد الجريء المقدام الذي لقي منه معاوية في صفين الرعب المميت، وهو يومئذ على ميسرة علي عليه السلام.
 كتب معاوية الى عامله زياد: « اما بعد، فانظر عبد اللّه بن هاشم بن عتبة، فشدَّ يده على عنقه، ثم ابعث به اليّ ».
 فطرقه زياد في منزله ليلاً، وحمله مقيداً مغلولاً الى دمشق. فأدخل على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: « هل تعرف هذا؟ » قال: « هذا الذي يقول أبوه يوم صفين... » وقرأ رجزه وكان يحفظه ثم قال متمثلاً:
 « وقد ينبت المرعى على دمن الثرى***وتبقى حزازات النفوس كما هيا »
 واستمر قائلاً: « دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب، فاشخب أوداجه على أثباجه، ولا ترده الى العراق، فانه لا يصبر على النفاق، وهم أهل غدر وشقاق وحزب ابليس ليوم هيجانه، وانه له هوى سيوديه، ورأياً سيطغيه، وبطانة ستقويه، وجزاء سيئة مثلها ».
 وكان مثل هذا المحضر ومثل هذا التحامل على العراق وأهله هو شنشنة عمرو بن العاص المعروفة عنه، ولا نعرف أحداً وصف أهل العراق هذا الوصف العدو قبله.
 أمّا ابن المرقال فلم يكن الرعديد الذي يغلق التهويل عليه قريحته، وهو الشبل الذي تنميه الاسود الضراغم ـ فقال، وتوجه بكلامه الى ابن العاص: « يا عمرو! ان اقتل، فرجل أسلمه قومه، وادركه يومه. أفلا كان هذا منك اذ تحيد عن القتال، ونحن ندعوك الى النزال، وانت تلوذ بشمال النطاف (1)، وعقائق الرصاف (2)، كالأمة السوداء، والنعجة القوداء، لا تدفع يد لامس؟ ».


1 ـ أي بأشام الجانبين من الماء القليل.
2 ـ العقائق: سهام الاعتذار. كانوا يرمون بها نحو السماء ـ والرصاف: الحجارة المرصوف بعضها على بعض في مسيل الماء، فكأنه يقول له: انك تلوذ في أرض صلبة عند ماء قليل ترمي بسهام الاعتذار.


 فقال عمرو: « أما واللّه لقد وقعت في لهاذم شدقم (1) للأقران ذي لبد، ولا أحسبك منفلتاً من مخالب أمير المؤمنين ».
 فقال عبد اللّه: « أما واللّه يا ابن العاص انك لبطر في الرخاء، جبان عند اللقاء، غشوم اذا وليت، هياب اذا لقيت، تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجرى الشوك، لا يستعجل في المدة، ولا يرتجى في الشدة. أفلا كان هذا منك، اذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغاراً، ولم يمرقوا كباراً، لهم أيد شداد، والسنة حداد، يدعمون العوج، ويذهبون الحرج، يكثرون القليل، ويشفون الغليل، ويعزون الذليل »؟.
 فقال عمرو: « أما واللّه لقد رأيت أباك يومئذ تخقق (2) أحشاؤه، وتبق أمعاؤه، وتضطرب اصلاؤه (3) كما انطبق عليه ضمد ».
 فقال عبد اللّه: « يا عمرو! انا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوباً غادراً، خلوت بأقوام لا يعرفونك، وجند لا يساومونك، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ (4) عليك عقلك، ولتلجلج لسانك، ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي اثقله حمله ».
 فقال معاوية: « ايها عنكما ». وأمر باطلاق عبد اللّه لنسيبه. فلم يزل عمرو بن العاص يلومه على اطلاقه ويقول:

« أمرتك أمراً عازماً فعصيتني أليس أبوه يا معاوية الذي فلم ينثن حتى جرت من دمائنا وهذا ابنه والمرء يشبه شيخه

وكان من التوفيق قتل ابن هاشم أعان علياً يوم حز الغلاصم؟ بصفين أمثال البحور الخضارم ويوشك ان تقرع به سن نادم »


1 ـ أي واسع الشدقين.
2 ـ تشقق.
3 ـ اوساط الظهر.
4 ـ جحظ اليه عمله نظر في عمله فرأى سوى ما صنع، وجحط اليه عقله أي نظر الى رأيه فرأى سوء ما ارتأى.


 

 2 ـ عدي بن حاتم الطائي
 صحابي كريم، كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يكرمه اذا دخل عليه، وزعيم عظيم، وخطيب مدره، وشجاع مرهوب. أسلم سنة تسع وحسن اسلامه. قال: « فلما قدمت المدينة استشرفني الناس فقالوا: عدي بن حاتم! وقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: يا عدي أسلم تسلم، قلت: ان لي ديناً، قال: أنا أعلم بدينك منك.. قد أظن أنه انما يمنعك غضاضة تراها ممن حولي، وأنك ترى الناس علينا الباً واحداً. قال: هل اتيت الحيرة؟ قلت: لم آتها وقد علمت مكانها. قال: يوشك ان تخرج الظعينة منها بغير جوار حتى تطوف بالبيت، ولتفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز. فقلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم وليفيضن المال حتى يهم الرجل من يقبل صدقته ». قال عدي: « فرأيت اثنتين: الظعينة، وكنت في أول خيل غارت على كنوز كسرى، وأحلف باللّه لتجيئن الثالثة (1) ». وقال: « أتيت عمر في أناس من قومي فجعل يفرض للرجل ويعرض عني، فاستقبلته فقلت: أتعرفني؟. قال: نعم آمنت اذ كفروا، وعرفت اذ نكروا، ووفيت اذ غدروا، وأقبلت اذ أدبروا. ان أول صدقة بيضت وجوه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صدقة طيئ (2) ». وقال: « ما اقيمت الصلاة منذ أسلمت الا وأنا على وضوء (3) ».
 ونازعه الراية يوم صفين عائذ بن قيس الحزمري الطائي، وكانت بنو حزمر أكثر من « عدي » (4) رهط حاتم، فوثب عليهم « عبد اللّه بن خليفة الطائي » البولاني عند علي عليه السلام فقال: « يا بني حزمر أعلى عدي تتوثبون؟ وهل فيكم مثل عدي؟. أو في آبائكم مثل أبي عدي؟ أليس بحامي القربة؟. ومانع الماء يوم (رويّة)؟ أليس بابن ذي المرباع وابن جواد العرب؟. أليس بابن المنهب ماله ومانع جاره؟ أليس من لم يغدر، ولم يفجر، ولم يجهل، ولم يبخل، ولم يمنن ولم يجبن؟. هاتوا في آبائكم مثل أبيه!، أو هاتوا فيكم مثله!. أَوَليس أفضلكم في الاسلام؟. أَوَليس وافدكم الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟. أليس برأسكم ـ يوم النخيلة ـ ويوم القادسية ـ ويوم المدائن ـ ويوم جلولاء الوقيعة ـ ويوم نهاوند ـ ويوم تستر؟. فما لكم وله!. واللّه ما من قومكم أحد يطلب مثل الذي تطلبون ».
 


1 ـ و 2 ـ و 3 ـ الاصابة (ج 4 ص 228 ـ 229).
4 ـ هو الاب الخامس لعدي. فعدي الصحابي هو ابن حاتم بن عبد اللّه بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي ـ هذا.


 فقال له علي عليه السلام: « حسبك يا ابن خليفة. هلم أيها القوم اليّ، وعلي بجماعة طي ». فأتوه جميعاً. فقال علي عليه السلام: « من كان رأسكم في هذه المواطن؟ »، قالت له طيئ: « عدي ». فقال له ابن خليفة: « فسلهم يا أمير المؤمنين: أليسوا راضين مسلمين لعدي الرياسة »، ففعل. فقالوا: « نعم ». فقال لهم: « عديّ أحقكم بالراية. فسلموها له (1) ».
 وبعث اليه زياد سنة (51) وكان في مسجده الذي يعرف (بمسجد عدي) في الكوفة فأخرجه منه، وحبسه. فلم يبق رجل من أهل المصر من اليمن وربيعة ومضر الا فزع لعدي بن حاتم. فأتوا زياداً وكلموه فيه، وقالوا: « تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟ ».
 وطلب زياد من عدي أن يجيئه بعبد اللّه بن خليفة الطائي، وكان من أصحاب حجر بن عدي أشدائهم على شرطة زياد « الحمراء »، فأبى ثم رضي زياد من عدي أن يغيب ابن خليفة عن الكوفة (2).
 


1 ـ الطبري (ج 6 ص 5).
2 ـ ابن الاثير (ج 3 ص 189).


 ودخل عدي بن حاتم على معاوية، وان معاوية ليهابه ويعرف سداده الحصيف في مزالق الفتن، وتمرسه البصير في الشدائد، وبصيرته النافذة وتجاربه الكثيرة الماضية، فجرى في حديثه معه عند « موهبته الخاصة » التي كان يفزع اليها في منازلة العظماء من أعدائه، فقال: « يا عدي أين الطرفات؟ ـ يعني بنيه طريفاً وطارفاً وطرفة ـ » قال: « قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب ». فقال: « ما أنصفك ابن أبي طالب، اذ قدم بنيك واخر بنيه ». قال، « بل ما أنصفت أنا علياً، اذ قتل وبقيت بعده ». فقال معاوية: « أما انه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها الا دم شريف من أشراف اليمن! ». فقال عدي: « واللّه ان قلوبنا التي ابغضناك بها لفي صدورنا، وان أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت لنا من الغدر فترا لندنين اليك من الشر شبراً! وان حز الحلقوم، وحشرجة الحيزوم، لاهون علينا من أن نسمع المساءة في علي فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف ».
 فقال معاوية: « هذه كلمات حكم فاكتبوها » ـ هزيمة منكرة من معاوية ـ وأقبل على عدي يحادثه كأنه ما خاطبه بشيء (1).

« ولا خير في حلم اذا لم يكن له

بوادر تحمي صفوه ان يكدرا »

 ثم قال له: « صف لي علياً ». فقال: « ان رأيت ان تعفيني ». قال: « لا أعفيك ». قال:
 « كان واللّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول عدلاً، ويحكم فصلاً، تتفجر الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه. يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته. وكان واللّه غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه اذا خلا، ويقلب كفيه على ما مضى. يعجبه من اللباس القصير، ومن المعاش الخشن. وكان فينا كأحدنا يجيبنا اذا سألناه، ويدنينا اذا أتيناه. ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا اليه لعظمته. فان تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم. يعظم أهل الدين، ويتحبب الى المساكين. لا يخاف القوي ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله. فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه، وأرخى الليل سرباله، وغارت نجومه، ودموعه تتحادر على لحيته، وهو يتململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول:
 


1 ـ المسعودي هامش ابن الاثير (ج 6 ص 65).


 « يا دنيا! اليّ تعرضت أم الي أقبلت؟، غري غيري، لاحان حينك، قد طلقتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيك، فعيشك حقير، وخطرك يسير. آهٍ من قلة الزاد وبعد السفر وقلة الانيس ».
 فوكفت عينا معاوية، وجعل ينشفهما بكمه. ثم قال: « يرحم اللّه أبا الحسن، كان كذلك. فكيف صبرك عنه؟ » قال: « كصبر من ذبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقأ دمعتها، ولا تسكن عبرتها ». قال: « فكيف ذكرك له؟ » قال: « وهل يتركني الدهر أن انساه؟ (1) ».
 اقول: وتوفي عدي بن حاتم في عهد المختار بن أبي عبيد سنة (68) (2) وهو ابن مائة وعشرين سنة فماتت معه نفس كريمة لا تخلق الا في ملك، ورأي حصيف لا يختمر الا في حكيم، وايمان صادق لا يعهد الا في وليّ.
 3 ـ صعصعة بن صوحان
 سيد من سادات العرب، وعظيم من اقطاب الفضل والحسب. أسلم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولكنه لم يلقه لصغره، وأشكلت على عمر أيام خلافته قضية فخطب الناس وسألهم عما يقولون ـ فقام صعصعة، وهو غلام شاب، فأماط الحجاب، وأوضح منهاج الصواب ـ، وعملوا برأيه ـ، وكان من أصحاب الخطط في الكوفة، وشهد مع أمير المؤمنين « الجمل » و « صفين ». قال في الاصابة (3) « ان المغيرة نفى صعصعة بأمر معاوية من الكوفة الى الجزيرة او الى البحرين، وقيل الى جزيرة ابن كافان فمات بها ».


1 ـ البيهقي في المحاسن والمساوئ (ج 1 ص 33).
2 ـ تاريخ الكوفة (ص 388) والاصابة (ج 4 ص 119).
3 ـ (ج 3 ص 23).


 و « حبس (1) معاوية صعصعة بن صوحان العبدي وعبد اللّه بن الكواء اليشكري ورجالاً من أصحاب علي مع رجال من قريش، فدخل عليهم معاوية يوماً فقال: نشدتكم باللّه الا ما قلتم حقاً وصدقاً، أيّ الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكواء: لولا انك عزمت علينا ما قلنا، لانك جبار عنيد، لا تراقب اللّه في قتل الاخيار، ولكنا نقول: انك ما علمنا واسع الدنيا ضيق الآخرة، قريب الثرى بعيد المرعى، تجعل الظلمات نوراً والنور ظلمات، فقال معاوية: ان اللّه أكرم هذا الامر بأهل الشام الذابين عن بيضته، التاركين لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال اهل العراق المنتهكين لمحارم اللّه، والمحلين ما حرم اللّه، والمحرمين ما احل الله. فقال عبد الله ابن الكواء: يا ابن ابي سفيان ان لكل كلام جواباً، ونحن نخاف جبروتك، فان كنت تطلق السنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في اللّه لومة لائم، والا فانا صابرون حتى يحكم اللّه ويضعنا على فرحه. قال: واللّه لا يطلق لك لسان ـ ثم تكلم صعصعة فقال: تكلمت يا ابن ابي سفيان فأبلغت ولم تقصر عما أردت، وليس الامر على ما ذكرت، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً، ودانهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً، أما واللّه مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى، وما كنت فيه الا كما قال القائل: لا حلى ولا سيرى، ولقد كنت أنت وابوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم. وانما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم. فأنى تصلح الخلافة لطليق؟. فقال معاوية: لولا أني ارجع الى قول أبي طالب حيث يقول:

قابلت جهلهمو حلماً ومغفرة

والعفو عن قدرة ضرب من الكرم


1 ـ المسعودي هامش ابن الاثير (ج 6 ص 117).


 لقتلتكم، وسأله معاوية: من البررة ومن الفسقة؟ فقال: يا ابن ابي سفيان ترك الخداع من كشف القناع، علي وأصحابه من الائمة الابرار، وأنت وأصحابك من اولئك. وسأله عن أهل الشام فقال: اطوع الناس لمخلوق، وأعصاهم للخالق، عصاة الجبار، وخلفة الاشرار، فعليهم الدمار، ولهم سوء الدار. فقال معاوية: واللّه يا ابن صوحان انك لحامل مديتك منذ أزمان، الا أن حلم ابن ابي سفيان يرد عنك. فقال صعصعة: بل أمر اللّه وقدرته، ان امر اللّه كان قدراً مقدوراً ».
 قال المسعودي: « ولصعصعة بن صوحان أخبار حسان وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة والايضاح عن المعاني على ايجاز واختصار ».
 وكان صعصعة شخصية بارزة في أصحاب امير المؤمنين. ووصفه أمير المؤمنين بالخطيب الشحشح، ثم وصفه الجاحظ بأنه من أفصح الناس.
 وقال له معاوية يوم دخل الكوفة بعد الصلح: « أما واللّه اني كنت لابغض ان تدخل في أماني ». قال: « وأنا واللّه أبغض أن اسميك بهذا الاسم ». ثم سلّم عليه بالخلافة فقال معاوية: « ان كنت صادقاً فاصعد المنبر والعن علياً ». فصعد المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: « أيها الناس أتيتكم من عند رجل قدم شره، وأخر خيره. وانه أمرني ان العن علياً فالعنوه لعنه اللّه ». فضج أهل المسجد بآمين. فلما رجع اليه فأخبره بما قال. قال: « لا واللّه ما عنيت غيري، ارجع حتى تسميه باسمه ». فرجع وصعد المنبر ثم قال: « ايها الناس ان امير المؤمنين أمرني أن العن علي بن أبي طالب فالعنوه ». فضجوا بآمين. فلما أخبر معاوية قال: « واللّه ما عني غيري، أخرجوه لا يساكنني في بلد ». فأخرجوه (1).
 وقال ابن عبد ربه: « دخل صعصعة بن صوحان على معاوية ومعه عمرو بن العاص جالس على سريره فقال: وسّع له على ترابية (2) فيه. فقال صعصعة: اني واللّه لترابي، منه خلقت واليه أعود ومنه ابعث، وانك مارج من مارج من نار ».
 وقدم وفد العراقيين على معاوية، فقدم في وفد الكوفة عدي بن حاتم، وفي وفد البصرة الاحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان. فقال عمرو بن العاص لمعاوية: « هؤلاء رجال الدنيا، وهم شيعة علي الذين قاتلوا معه يوم الجمل ويوم صفين فكن منهم على حذر ».


1 ـ السفينة (ج 2 ص 31).
2 ـ يعني على حبه لابي تراب. ويكنون بها عن علي عليه السلام.


 وفي أحاديث سيد عبد القيس صعصعة بن صوحان سعة لا يلم بها ما نقصده من الايجاز. وانما أردنا ان نعطي بهذا صفحة من تاريخه مع معاوية وموقف معاوية منه.
 4 ـ عبد اللّه بن خليفة الطائي
 مسعار حرب. كان من مواقفه في العذيب، وجلولاء الوقيعة، ونهاوند، وتستر، وصفين ما شهد له بالبطولة النادرة، وهو الخطيب الذي رد الطائيين يوم صفين عن مزاحمة (عدي بن حاتم) على الراية ـ كما مر عليك في الحديث عن عدي.
 وصحب حجر بن عدي الكندي في موقفه القوي الذي وقفه في الذب عن أمير المؤمنين عليه السلام.
 وطاردته شرطة زياد [وهم أهل الحمراء يومئذ] فامتنع عليهم، وهزمهم بقومه. خرجت أخته النوار فقالت: « يا معشر طيء أتسلمون سنانكم ولسانكم عبد اللّه بن خليفة؟ » فشد الطائيون على الشرط فضربوهم، وأعيت الحيلة به زياداً فقبض على زعيم قبيلته (عدي بن حاتم) فحبسه أو يأتيه بابن خليفة. وأبى عدي أن يأتيه به ليقتله، فرضي زياد منه بأن يغيّبه عن الكوفة.
 فأشار عدي على عبد اللّه بمغادرة الكوفة ووعده أن لا يألو جهداً في ارجاعه اليها، فسار الى « الجبلين (1) » وقيل الى « صنعاء ». ولم يزل مشرداً هناك مشبوب الاشواق الى وطنه.
 وطال عليه الامد فكتب الى عدي يستنجزه وعده، وكان شاعراً يجيد الوصف، وله عدة قصائد ومقطوعات يعاتب بها عدياً ويذكره سوابقه وغربته واسارته، ولكن ظروف عدي لم تساعده على اسعافه، فبقي هناك حتى مات رحمه اللّه (2) قبل موت (زياد) بقليل.


1 ـ هما جبلاً طيء: أجأ وسلمى، بينهما وبين « فدك » يوم، وبين « خيبر » خمس ليال، وبينهما وبين المدينة ثلاث مراحل.
2 ـ يراجع الطبري (ج 6 ص 5 وص 157 ـ 160).


 

الفهرس