موقع عقائد الشيعة الإمامية

 

صلح الإمام الحسن عليه السلام

الوفاء بالشروط

 

 عرفنا ـ الى هنا ـ بواعث كل من الفريقين فيما تطلعا به الى الصلح. وعرفنا شروط كُلٍ فيما اعتبره ضماناً لبواعثه تلك.
 وعرفنا ـ بعد ذلك ـ أنهما أرادا الجنوح الى التصالح عملياً، فاجتمعا في الكوفة، وكان من المنتظر لهذا الاجتماع التاريخي أن يبعث بينهما من التقارب ما لم تبعثه الصكوك التحريرية ولا المقاولات الرسمية، التي تبودلت بينهما في الصلح، لولا أن معاوية لم يشأ ان يلتزم في هذا الاجتماع جانب المجاملة، رغم أنه كان في ظرفه الخاص أحوج الرجلين الى هذا النمط من السلوك، وانه ليمر ـ اذ ذاك ـ بأدق امتحان في سياته العامة وفي شخصيته كملك يريد ان يحكم شعباً ما أحبه منذ أبغضه ـ على حد تعبير الاحنف بن قيس ـ، فاجتمع بالحسن ولكن كما يجتمع « ابن أبي سفيان » بابن فاتح مكة، لا كما يجتمع متناجزان القيا السلاح وتبادلا وثائق الصلح، وكان من هذا الخلق الثابت لمعاوية ـ رغم ما يتكلفه من الحلم الكثير أحياناً ـ ما هو أداة الحسن في حملته المنظمة التي جردها عليه في (ميدانه الثاني) ـ كما اشير اليه في آخر فصل مضى.
 واذ قد عرفنا ذلك كله من فصولنا القريبة السابقة، فلنعرف الآن موقف كلٍّ من شروطه وفاءً ونقضاً. وها نحن أولاء من هذه المرحلة بازاء النقطة الحساسة التي طال حسابها في التاريخ.
 وكان بودنا لو طوينا كشحاً عن استنطاق هذا الموضوع، بما تثيره تفاصيله من ذكريات: بعضها ألم، وبعضها فضيحة سافرة، وقليل منها تاريخ تعافه الامجاد. ولكننا ـ وقد أخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب مهمة البحث التحليلي المكشوف، عن قضية الحسن ومعاوية ـ لا نجد مجالاً للتغافل عن عناصر الموضوع التي كان لها أروع الاثر في النتائج التي توخاها الحسن بن علي من صلحه مع معاوية بن أبي سفيان. ولذلك، ولما لهذه التفاصيل الحساسة الثقيلة على النفس من الاهمية القصوى لموضوعنا العام، فلابد لنا من مسايرة هذا الموضوع في سائر خطواته، حتى ينتهى بنا أو ننتهي به الى النتائج الواضحة المملاة عن مقدماتها المسلمة، بما في هذه النتائج من مجد المظلوم (الغالب) وخزاية الظالم (المغلوب)، فنقول:

1
الوفاء بالشرط الاول

 كان هذا الشرط هو الشرط الوحيد الذي لمعاوية على الحسن.
 فكان هو الشرط الوحيد الذي حظي بالوفاء من شروط هذه المعاهدة اطلاقاً.
 ثم لا يعهد من الحسن بعد توقيعه الصلح، أي محاولة لنقض شرطه هذا ولا التحدث بذلك، ولا الرضا بالحديث عنه.
 وجاءه زعماء شيعته بعد أن أعلن معاوية التخلّف عن شروطه، فعرضوا عليه ـ وقد رجع الى المدينة ـ أنفسهم واتباعهم للجهاد بين يديه، ووعده الكوفيون منهم باخلاء الكوفة من عاملها الاموي، وضمنوا له الكراع والسلاح لاعادة الكرة على الشام، فلم تهزه العواصف ولا قلقلته حوافز الانصار المتوثبين.
 فقال له سليمان بن صرد، وهو اذ ذاك سيد العراق ورئيسهم ـ على حد تعبير ابن قتيبة عنه ـ: « وزعم ـ يعني معاوية ـ على رؤوس الناس ما قد سمعت: اني كنت شرطت لقوم شروطاً ووعدتهم عدات ومنيتهم أمانيّ..
فان كل ما هنالك تحت قدميَّ هاتين، وواللّه ما عنى بذلك الا نقض ما بينك وبينه، فأعد الحرب خدعة وأْذَنْ لي أشخص الى الكوفة، فأخرج عاملها منها وأُظهر فيها خلعه، وانبذ اليه على سواء، ان اللّه لا يهدي كيد الخائنين.
 « ثم سكت ابن صرد، فتكلم كل من حضر مجلسه بمثل مقالته، وكلهم يقول: ابعث سليمان بن صرد وابعثنا معه، ثم الحقنا، اذا علمت انا قد أشخصنا عامله، وأظهرنا خلعه (1) ».
 وجاءه ـ ايضاً ـ حجر بن عدي الكندي، ومركزه القويّ في العراق مركزه، كما ستعرف قريباً.
 وجاءه المسيب بن نجية، فارس مضر الحمراء كلها، اذا عدّ من أشرافها عشرة كان هو أحدهم ـ على حد تعبير زفر بن الحارث الكلابي عنه.
 وجاءه آخرون من نظرائهم، وكلهم لم يحظ من الحسن الا بالرّد الجميل والاستمهال الى موت معاوية، لانه صاحب عهده فيما تعاهدا عليه، ولانه كان قد درس من أحوال الكوفة في تجربته الاولى، ما أغناه عن تجارب أخرى.
 وكان آخر جوابه اليهم قوله: « ليكن كل رجل منكم حلساً من أحلاس (2) بيته ما دام معاوية حياً، فان يهلك معاوية، ونحن وانتم احياء، سألنا اللّه العزيمة على رشدنا، والمعونة على أمرنا، وأن لا يكلنا الى انفسنا، فان اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (3) ».


1 ـ ابن قتيبة (ج 1: ص 151).
2 ـ فلان حلس بيته يعني (ملازم بيته لا يبرحه).
3 ـ الامامة والسياسة (ج 1 ص 152).


2
الوفاء بالشرط الثاني

 أجمع المؤرخون ـ بما فيهم المتحزبون والمستقلون ـ على أن العهد لذي أعطاه معاوية للحسن في شروط الصلح، هو أن لا يعهد بالامر من بعده الى أحد، ومعنى ذلك رجوع الامر من بعده الى صاحبه الشرعي، أعني الحسن بن علي فان لم يكن فللحسين أخيه، تمشياً مع مفهوم الشرط القائل بتسليم الامر محدوداً بحياته، ومفهوم سلبه صلاحية العهد الى أحد من بعده.
 وأجمع المؤرخون ـ بعد ذلك ـ على أن معاوية نقض هذا العهد علناً، وعهد من بعده الى ابنه يزيد (المعروف !!!).
 ولسنا الآن بصدد مناقشة معاوية على نقضه العهد بعد ميثاقه، وهو ـ على كل حال ـ جماع غلطاته التي أركسه « الصلح » فيها من حيث يدري أو لا يدري، ولكنا وقد مررنا على موقف معاوية من عهوده مراتٍ ومرات، لا نريد ان نمر هنا على تعيينه يزيد ابنه لخلافة المسلمين دون أن نقول: انه ارتكب بهذا العمل الجريء أكبر اثم في دينه، وأفظع جريمة في الصالح العام. وقد كان من أبرز النتائج، لاعمال معاوية الارتجالية الجريئة هذه، ان تنحرف قيادة الاسلام عن منهجها القويم، وان تفقد الرعية قدوتها العملية، وان تسود الاثرة، ويضطرب حبل الثقة بين الافراد والجماعات، وأن ينعدم التجاوب والتفاعل الوجداني بين القادة والاتباع. فتتوزع الميول وتتباين المقاصد، ثم لا يزال الامر يأخذ بهم سفالاً، حتى يستعد الى الثورات الدامية والانتفاضات الداخلية التي كان لابد منها لتدارك الاخطاء والتنبه على الاخطار. دع عنك ما كان يقال عن يزيد هذا، وعن قابلياته الشخصية والخلقية التي عجت بها التواريخ، من يومه الى يومنا، والتي كان من آثارها ـ في حكومته ـ ما كان (مما لا نريد التوسع في ذكره)، وانما جل ما نريد هو التنبيه على الغلطة الكبرى التي أتاها معاوية، فتقمص بها مسؤولية الحرمات الاسلامية التي انتهكها بهذه الغلطة غير متحرج ولا متأثم.
 وكان من الاساليب العجيبة التي توفر على روايتها أصدقاء الرجل فضلاً عن أعدائه، فيما لجأ اليه يوم نصب ابنه ولياً لعهد المسلمين، ما يكفينا للتأكد من وزنه كمسلم فضلاً عن وزنه كخليفة !!.. وانها لصفحة من أنكد صفحات التاريخ، وأبعدها عن « الاسلام » روحاً ومعنى وأهدافاً، ولولا أنها ـ بنتائجها التي تنكشف عنها في معاوية وفي المجتمع الذي كان يدور في فلك معاوية ـ أحد شرايين بحثنا الواسع فيما يهدف اليه هذا البحث من بيان أسرار الحسن فيما أتاه من الصلح، لاعرضنا عن ذكرها، ولكُنّا أحرص على سترها، رغم افتضاحها المكشوف مدى ثلاثة عشر قرناً.
 أما الآن فسنعرض خلاصة من نصوص المؤرخين، دون ان نتعمد الشرح والتعليق في الاثناء، لان هذه النصوص بذاتها غنية عن الشرح والتعليق.
 هكذا بايع معاوية ليزيد:
 قال ابو الفرج الاصفهاني: « وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن وسعد بن ابي وقاص، فدس اليهما سماً، فماتا منه (1) ».
 وقال ابن قتيبة الدينوري: « ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن الا يسيراً حتى بايع ليزيد بالشام وكتب ببيعته الى الآفاق (2) ».
 وقال ابن الاثير: « وكان ابتداء ذلك وأوله من المغيرة بن شعبة، فان


1 ـ المقاتل (ص 29).
2 ـ الامامة والسياسة (ج 1: ص 160).


معاوية أراد ان يعزله عن الكوفة، ويستعمل عوضه سعيد بن العاص، فبلغه ذلك، فقال: الرأي ان أشخص الى معاوية فاستعفيه، ليظهر للناس كراهتي للولاية، فسار الى معاوية وقال لاصحابه حين وصل اليه: ان لم أكسبكم الآن ولاية وامارة لا أفعل ذلك ابداً، ومضى حتى دخل على يزيد (1) وقال له: انه ذهب أعيان اصحاب النبي صلى اللّه عليه (وآله) وسلم، وكبراء قريش وذوو أسنانهم ! (2) وانما بقي أبناؤهم، وأنت من أفضلهم ! وأحسنهم رأياً ! وأعلمهم بالسنة !! والسياسة !، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة ؟ قال: أَوَترى ذلك يتم ؟ قال: نعم. فدخل على أبيه، وأخبره بما قال المغيرة، فأحضر المغيرة وقال له: ما يقول يزيد ؟. فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد خلف (!)، فاعقد له، فان حدث بك حادث كان كهفاً للناس وخلفاً منك، ولا تسفك دماءٌ (!!). ولا تكون فتنة (!!). قال: ومن لي بهذا ؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. قال: فارجع الى عملك، وتحدث مع من تثق اليه في ذلك، وترى ونرى.
 « فودّعه ورجع الى أصحابه. فقالوا: مه ؟. قال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد !!، وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً ! (3) ».
 


1 ـ وذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ (ج 1: ص 108) مناورة المغيرة بن شعبة هذه، ولكنه رأى أو روى ان المغيرة ابتدأ بمعاوية اولاً، وان معاوية لما وثق منه أرجعه الى عمله وقال له: « انصرف الى عملك، وأحكم الامر لابن اخيك، وأعاده على البريد يركض (كذا) ».
2 ـ انظر الى مكانة السن في عرف المغيرة..
3 ـ كامل ابن الاثير (ج 3: ص 198 ـ 201). وفي هذا الحديث ما يشعرك بروحية المغيرة بن شعبة ومدى غيرة هذا الصحابي ذي الفتوق على أمة محمد (ص) !.


 « وتواطأ معاوية مع رؤساء الوفود المناصحين له، أن يخطبوا ويذكروا فضل يزيد !!.. فلما اجتمعت عند معاوية وفود الامصار، وفيهم الاحنف بن قيس الفهري، فقال له: اذا جلست على المنبر، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي فاستأذن للقيام فاذا أذنا لك، فاحمد اللّه تعالى واذكر يزيد، وقل فيه الذي يحق له من حسن الثناء عليه !!.. ثم ادعني الى توليته !. ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبيد اللّه بن مسعدة الفزاري وثور بن معن السلمي وعبد اللّه بن عصام الاشعري، فأمرهم ان يقوموا اذا فرغ الضحاك، وان يصدقوا قوله !! فقام هؤلاء النفر خطباء يشيدون بيزيد !!.. الى أن قام الاحنف بن قيس[ ولم يكن من الممثلين الذين رتبهم معاوية لهذه الرواية] فقال:
 « أصلح اللّه الامير، ان الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان مؤتنف، وقد حلبت الدهور وجربت الامور، فاعرف من تسند اليه الامر بعدك، ثم اعص من يأمرك، ولا يغررك من يشير عليك ولا ينظر اليك، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق، لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما دام الحسن حياً ».
 ثم أردف قائلاً:
 « وقد علمت يا معاوية، أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليه مقصاً، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود اللّه ما قد علمت، ليكون له الامر من بعدك (1). فان تف فأنت أهل الوفاء، وان تغدر تظلم. واللّه ان وراء الحسن خيولاً جياداً، وأذرعاً شداداً، وسيوفاً حداداً. وان تدن له شبراً من غدر، تجد وراءه باعاً من نصر. وانك تعلم من أهل العراق، ما أحبوك منذ أبغضوك، ولا أبغضوا علياً وحسناً منذ أحبوهما، وما نزل


1 ـ واخطأ فهم هذه الحقبة من الزمن كثير ممن كتب عنها، فقال حسن مراد في « الدولة الاموية » (ص 70): « ومن هنا نرى أن عهد معاوية بالخلافة لابنه يزيد على ما سيجيء لم يكن انتقالاً غير منتظر !! ». وقد عرفت من كلام الاحنف هنا ومن كلامنا في البحوث الآنفة أنه كان انتقالاً غير منتظر.


عليهم في ذلك غيَرٌ من السماء، وان السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين، لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم (1) ».
 أقول: وكلام الاحنف هذا، صريح بأن معاوية حاول البيعة لابنه يزيد في حياة الحسن بن علي، بينما صرح آخرون، بأن بيعة يزيد انما وقعت بعد وفاة الحسن، حتى قال ابو الفرج: « انه سم الحسن وسعد بن ابي وقاص تمهيداً لبيعة ابنه يزيد » (كما اشير اليه). اذاً فقد كان لمعاوية محاولتان لهذا التصميم: احداهما في حياة الحسن رغم العهود والأيمان والمواثيق، وهي انما فشلت لمكان وجود صاحب العهد حياً. وثانيتهما بعد وفاة الحسن عليه السلام، وهي التي تمت بأساليبها الظالمة التي عرضها أكثر المؤرخين.
 « فعزل مروان عن المدينة حين عجز عن أخذ البيعة على أهلها ليزيد، وولى المدينة سعيد بن العاص، فاظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة، وسطاً بكل من ابطأ عن البيعة ليزيد، فأبطأ الناس عنها الا اليسير، لا سيما بني هاشم، فانه لم يجبه منهم أحد.
 « أما مروان فذهب الى الشام مغاضباً، وواجه معاوية بكلام طويل قال فيه: وأقم الامر يا ابن أبي سفيان، واهدأ من تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك نظراء، وأنهم على مناوأتك وزراء..
 ـ ثم سكت لانه رزقه الف دينار في كل هلال !! ـ
 « وكتب معاوية الى عبد اللّه بن عباس والى عبد اللّه بن الزبير والى عبد اللّه بن جعفر والى الحسين بن علي، يدعوهم الى البيعة ليزيد !.
 ـ وكان كتابه الى الحسين عليه السلام ما لفظه ـ:
 


1 ـ ابن قتيبة (ج 1 ص 156 ـ 158)، والمسعودي ـ هامش ابن الاثير (ج 6 ص 100 ـ 102).


 « أما بعد. فقد انتهت اليَّ منك امور، لم اكن اظنك بها، رغبةً بك عنها، وان احق الناس بالوفاء من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك اللّه بها، فلا تنازع الى قطيعتك، واتق اللّه !!. ولا تردَّنَّ هذه الامة في فتنة !!. وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد، ولا يستخفنَّك الذين لا يوقنون !! ».
 ـ فكتب اليه الحسين بما يلي ـ:
 « أما بعد فقد جاءني كتابك، تذكر فيه أنها انتهت اليك مني أمور لم تكن تظنني بها رغبةً بي عنها، وان الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد عليها الا اللّه تعالى. واما ما ذكرت انه رقى اليك عني، فانما رقاه الملاقون المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الجمع. وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حرباً ولا خلافاً. واني اخشى اللّه في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلين، حزب الظلم وأعوان الشيطان الرجيم. الست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ؟. فقتلتهم ظلماً وعدواناً، من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكدة، جراءة على اللّه واستخفافاً بعهده، أَوَلست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة ؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم (1) لنزلت من شعف (2) الجبال. أولست المدعي زياداً في الاسلام فزعمت أنه ابن أبي سفيان ؟، وقد قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم سلطته على أهل الاسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم على جذوع النخل !. سبحان اللّه يا معاوية، لكأنك لست من هذه الامة وليسوا منك !!. أولست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه اليك زياد أنه على دين علي ؟، ودين علي هو دين ابن عمه صلى اللّه عليه وسلم الذي أجلسك مجلسك الذي انت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين، رحلة الشتاء والصيف، فوضعها اللّه عنكم بنا، منةً عليكم !.
 


1 ـ العصم[ جمع اعصم] وهو: (الظبي في ذراعيه او في احداهما بياض وسائره أسود او احمر).
2 ـ الشعفة بالتحريك: (رأس الجبل). وشعفة كل شيء: (اعلاه) وجمعه:[ شعف] محركاً في النص.


 وقلت فيما قلت: لا تردَّ هذه الامة في فتنة. واني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.
 وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولامة محمد، واني واللّه ما أعرف أفضل من جهادك (أي: قتالك)، فان أفعل، فانه قربة الى ربي، وان لم أفعل، فأستغفر اللّه لذنبي، واسأله التوفيق لما يحب ويرضى.
 وقلت فيما قلت: متى تكدني أكدك، فكدني يا معاوية فيما بدا لك، فلعمري لقديماً يُكاد الصالحون، واني لارجو ان لا تضر الا نفسك، ولا تمحق الا عملك، فكدني ما بدا لك !.
 « واتق اللّه يا معاوية !، واعلم ان للّه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ! واعلم ان اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنة وأخذك بالتهمة، وامارتك صبياً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب !!. ما أراك الا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية، والسلام (1) ».
 ثم قدم معاوية بعد ذلك الى المدينة، ومعه خلق كثير من أهل الشام عدهم ابن الاثير بألف فارس. قال: « ثم دخل على عائشة، وكان قد بلغها انه ذكر الحسين وأصحابه وقال: لاقتلنهم ان لم يبايعوا.. فقالت له فيما قالت: وارفق بهم فانهم يصيرون الى ما تحب، ان شاء اللّه !! (2) ».
 وقال الدينوري (3) بعد ذكره ورود معاوية الى المدينة: « ثم جلس معاوية صبيحة اليوم الثاني، وأجلس كتابه بحيث يسمعون ما يأمر به، وأمر حاجبه ان لا يأذن لاحد من الناس وان قرب. ثم أرسل الى الحسين بن علي وعبد اللّه بن عباس، فسبق ابن عباس، فأجلسه عن يساره، وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين ودخل، فأجلسه عن يمينه، وسأله عن حال بني الحسن (!!) وأسنانهم، فأخبره.
 


1 ـ ابن قتيبة (ج 1 ص 63 ـ 65).
2 ـ أقول: ولنا ان نفهم من هذه اللغة أن ام المؤمنين نفسها كانت قد صارت الى ما يحب معاوية من البيعة ليزيد !!
3 ـ (ج 1 ص 168 ـ 172).


 « ثم خطب معاوية خطبة أثنى فيها على اللّه ورسوله وذكر الشيخين وعثمان، ثم ذكر أمر يزيد، وانه يحاول ببيعته سدّ خلل الرعية !، وذكر علمه بالقرآن والسنة !، واتصافه بالحلم !، وأنه يفوقهما سياسة ومناظرة ! وان كانا أكبر منه سناً (1)، وأفضل قرابة. واستشهد بتولية النبي صلى اللّه عليه (وآله) وسلم عمرو بن العاص في غزوة « ذات السلاسل » على أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة ثم استجابهما عما ذكر ».
 قال: « فتهيأ ابن عباس للكلام، فقال له الحسين: على رسلك، فانا المراد (2)، ونصيبي في التهمة أوفر.
 وقام الحسين، فحمد اللّه تعالى وصلى على الرسول صلى اللّه عليه وآله وقال:
 « أما بعد ـ يا معاوية ـ، فلن يؤدي القائل وان أطنب في صفة الرسول صلى اللّه عليه وسلم من جميع جزءاً، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول اللّه (3) من ايجاز الصفة، والتنكب عن استبلاغ البيعة. وهيهات هيهات يا معاوية، فضح الصبح فحمة الدجا، وبهرت الشمس انوار السُرُج، ولقد فضلت حتى أفرطتَ، واستأثرت حتى أجحفت ومنعت حتى بخلتَ، وجرتَ حتى جاوزتَ، ما بذلتَ لذي حق من اسمٍ حقه


1 ـ سبق ان معاوية كان يحتج على الحسن بكبر سنه، ولم تكن له حجة غيرها على استحقاقه الخلافة دونه. فما لهذه الباء لا تجر هنا ؟!!.
2 ـ لانه هو صاحب الحق بالخلافة بعد الحسن، كما نص عليه جده رسول اللّه (ص) اولاً، وكما نصت عليه معاهدة الصلح ثانياً.
3 ـ يشير الى اعراضه عن ذكر أمير المؤمنين عليه السلام فيمن ذكره بعد رسول اللّه (ص).


من نصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الاوفر (1)، ونصيبه الأكمل.
 « وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لامة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عما كأنك احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السُبَّق لاترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي ـ تجده ناصراً.
 ودع عنك ما تحاول !!. فما أغناك ان تلقى اللّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فواللّه ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملئت الاسقية، وما بينك وبين الموت الا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص..
 « وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما صار ذلك لعمرو يومئذ، حتى أنف القوم امرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا عليه أفعاله، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم. فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الاحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب ؟ أم كيف ضاهيت بصاحب تابعاً ؟ وحولك من يؤمن في صحبته، ويعتمد في دينه وقرابته، تتخطاهم الى مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة، يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك. ان هذا لهو الخسران المبين، واستغفر اللّه لي ولكم ».
 قال: « فنظر معاوية الى ابن عباس، فقال: ما هذا يا ابن عباس ؟ ولما عندك أدهى وأمرّ !.. فقال ابن عباس: لعمر اللّه، انه لذرية الرسول، وأحد أصحاب الكساء، ومن البيت المطهر فالهُ عما تريد، فان لك في الناس مقنعاً، حتى يحكم اللّه بأمره، وهو خير الحاكمين.
 


1 ـ يريد ان هذا الاجحاف المقصود كان هو منية الشيطان في تأريث الخلاف..


 ثم خرج معاوية الى مكة كما يحدثنا ابن الاثير وغيره من المؤرخين، قال: « وسبقه الحسين بن علي وعبد اللّه بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر اليها. ولما كان آخر أيامه بمكة، أحضر هؤلاء... وقال لهم: اني أحببت ان اتقدم اليكم، انه قد أعذر من انذر، اني كنت اخطب فيكم، فيقوم اليَّ القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح. واني قائم بمقالة، فأقسم باللّه لئن ردَّ عليَّ أحدكم كلمةٌ في مقامي هذا، لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه، فلا يبقينَّ رجل الا على نفسه !.
 ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، ومع كل واحد سيف، فان ذهب رجل منهم يردّ عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما !!..
 ثم خرج وخرجوا معه، حتى أتى المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: ان هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يبتز أمرٌ دونهم، ولا يقضى الا عن مشورتهم. وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد !! فبايعوا على اسم اللّه !. فبايع الناس. انتهى ملخصاً.
 وولدت هذه البيعة البغيضة ولكن بعد اعسار شديد، لم تنجع فيه الا السيوف المشهورة على رؤوس الرجال، فاذا هي بنت مؤامرات ومناورات وارهاب !.
 واذا كانت هذه هي خلافة الاسلام، فعلى الاسلام السلام.
 وأخرج البخاري في صحيحه عن النبي (ص): « ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم، الا حرم اللّه عليه الجنة ».

3
الوفاء بالشرط الثالث

 قال ابن الاثير « ان معاوية كان اذا قنت سبّ علياً وابن عباس والحسن والحسين والاشتر (1) ». ونقل أبو عثمان الجاحظ في كتاب[ الرد على الامامية]: « ان معاوية كان يقول في آخر خطبته: اللهم ان أبا تراب ـ يعني علياً ـ الحد في دينك، وصدَّ عن سبيلك، فالعنه لعناً وبيلاً وعذبه عذاباً اليماً. وكتب بذلك الى الآفاق، فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر (2) ».
 وقيل لمروان: « ما لكم تسبونه على المنابر ؟ » فقال: « لا يستقيم لنا الامر الا بذلك !! »..
 وكان من مجهود معاوية في هذا السبيل ما طفحت به السير والتواريخ. وهو ـ على هذا ـ أول من سن الجهر بسب صحابة الرسول، وأول من فتح هذا الباب على مصراعيه لمن جاء من بعده، ولا نعرف أن أحداً سبقه الى مثل هذا اللهم الا ما كان من عائشة يوم قالت: « اقتلوا نعثلاً فقد كفر !! »، ثم لا نعهد في علماء المسلمين من حكم على عائشة بالكفر، ولا على معاوية بالمروق من الدين، لانهما استباحا سبَّ الصحابة، أو لانهما أوغلا في السب حتى عمدا الى التكفير. ومما لا شك فيه أن حكم الامثال واحد لا يختلف مع الزمان، ولذلك، فانا لا نجد مساغاً الى الحكم على من نال من معاوية أو نال من صحابي آخر، الا بما حكم به علماء المسلمين على معاوية وعائشة في نيلهما من علي وعثمان، لا أقل ولا أكثر.
 


1 ـ « النصائح الكافية » لابن عقيل (ص 19 ـ 20).
2 ـ « النصائح الكافية » لابن عقيل (ص 19 ـ 20).


 وأما الاثر المزعوم القائل « بأيهم اقتديتم اهتديتم »، فقد خُصَّ حتى سقط عمومه عن الحجية، والا لكان السبابون للصحابة من الصحابة أولى بالعمل به. ولو كف معاوية لسانه عن النجوم من آل محمد (ص) الذين كان عليه ان يقتدي بهم ليهتدي، لكف الناس ألسنتهم عنه وعن أمثاله من الظالمين، ولماتت النعرات ولتم الصلح بصلاح المسلمين.
 ولكنها كانت البذرة الخبيثة التي زرعها الرجل عامداً، ثم تعاهدها هو وذووه بالتغذية والسَّقي، فاذا بها شجرة العوسج في تاريخ الاسلام، استغفلوا بها البسطاء ولبسوا بها على عقول الجهلاء، وجعلوا من السبّة في التاريخ « سُنّة » في المسلمين، يتنادون عليها، ويحتفلون بها، ويحتجون (1) على تركها اذا تركت !!..
 وما لمعاوية فيما قدم لنفسه من هذه الباقيات من عذر يرجى، ولا فيما أخَّر لتاريخه من مجد يحسد عليه أو يطرى. واذا كان الدهاء هو فشل الانسان فيما قدّم وفيما أخّر، فمعاوية أدهى الدهاة !.
 وكان من أروع مظاهر الدهاء فيه موقفه من صلح الحسن عليه السلام بما جرَّ عليه هذا الصلح من ويلات معنوية ونكبات تاريخية في حياته وبعد مماته !!.
 وكان معنى الصلح في مفهوم الناس، واعني الصلح الذي لج هو في تحصيله حتى أقام الدنيا وأقعدها ـ هو ان يُحطم السنان وان يكمَّ اللسان وان يكون كل وشأنه. وفق الحدود التي ستقررها المعاهدة فيما يتفق عليه الفريقان. وجاءت المادة الثالثة من اتفاقيتهما، وهي صريحة بوجوب الكف عن السب، فكان على معاوية ان يكف، لو انه أراد الصلح حقيقة، أو أراد الوفاء بالشروط كما يفرضه الذمام والعهد والايمان.
 


1 ـ سبق في الفصل (14) زيادة توضيح للبحث مع ذكر المصادر بأرقامها.


 ولكن الرجل لم يطلب الصلح الا ليسرح الجنود، وليأمن غائلة حربه مع الحسن ابن رسول اللّه (ص) ـ كما اشير اليه ـ، لم يشأ ان يرجع في صلحه الى التزام المقررات، أو الاكتراث بالمعاهدات، فوقَّع الصلح ولكنه انما وقعه حبراً على ورق، وحلف الايمان وأعطى المواثيق ولكنه أرسلها ارسالاً لا يتحسس من ورائه ذمةً ولا سؤالاً. وجاء الكوفة، وسبق الى منبرها فذكر علياً ونال منه، ثم نال من الحسن، فقام الحسين ليرد عليه، فأخذ الحسن بيده فأجلسه، ثم قام فقال ما شاء أن يقول من أسلوب حكيم، ودعوة حق الى صراط مستقيم..[ وقد مرّت خطبة الحسن بطولها وما قاله معاوية قبلها في الفصل (18)].
 وكان فيما هتف الناس به للحسن على خطابه وجوابه، ما لم يرض له معاوية، وهو اذ ذاك لا يزال ثملاً بخمرة الانتصار الموهوم، فرأى أن ينظم حملة جديدة لتربيب الخلق الذي لا يُحسد عليه ـ خلق السباب والشتم والطعن في الناس ـ، رغم أن المثالية الاسلامية تناقض هذا الخلق وتنكره على الناس وتدعوهم الى التراحم والتحابب والاخوة في الدين، وتقول فيما تقول: « لا يكون المؤمن سباباً ولا فحّاشاً ولا طعاناً ولا لعاناً ».
 « فقال ابو الحسن علي بن محمد بن أبي يوسف المدائني في كتاب الاحداث: كتب معاوية نسخة واحدة بعد عام الجماعة، أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب ـ يعني علياً عليه السلام ـ وأهل بيته. فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر، يلعنون علياً ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي عليه السلام (1) ».
 ودعا المغيرة بن شعبة وهو يريد أن يستعمله على الكوفة ـ بعد الصلح ـ فقال له: أما بعد. فان لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا، ولا يجزي عنك الحليم بغير التعليم، وقد أردت ايصاءك بأشياء كثيرة، انا تاركها، اعتماداً على بصرك. ولست تاركاً ايصاءك بخصلة واحدة، لا تترك شتم علي وذمه !! (2) ».
 ثم خلفَ المغيرة على الكوفة زياد « فكان يجمع الناس بباب قصره يحرضهم على لعن علي، فمن أبى عرضه على السيف !! (1) ».
 وأما في البصرة. فانه استعمل عليها بسر بن أرطاة « فكان يخطب على منبرها فيشتم علياً، ويقول: ناشدت اللّه رجلاً علم أني صادق الا صدقني أو كاذب الا كذبني ». قال الطبري في تاريخه: « فقال له أبو بكرة: اللهم انا لا نعلمك الا كاذباً !، قال: فأمر به فخنق، ثم أنقذوه منه !! (2) ».
 واما في المدينة، وواليه عليها مروان بن الحكم، فكان لا يدع سب علي عليه السلام على المنبر كل جمعة. قال ابن حجر المكي: « وكان الحسن يعلم ذلك ولا يدخل المسجد الا عند الاقامة، فلم يرض بذلك مروان، حتى أرسل الى الحسن في بيته بالسب البليغ لابيه وله !! (3) ».
 « ولما حج معاوية ـ بعد الصلح ـ طاف بالبيت ومعه سعد بن أبي وقاص، فلما فرغ انصرف معاوية الى دار الندوة، فأجلسه معه على سريره، ووقع معاوية في علي وشرع في سبه، فزحف سعد، ثم قال: أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي !. واللّه لأن يكون فيَّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحبّ اليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس !. واللّه لأن اكون صهر الرسول صلى اللّه عليه وسلم، لي من الولد ما لعلي، أحب اليَّ من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس !. وللّه لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لي ما قاله يوم خيبر: لاعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبه اللّه ورسوله ويحب اللّه ورسوله، ليس بفرّار، يفتح اللّه على يديه، أحب اليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس !. واللّه لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لي ما قاله له في غزوة تبوك: ألا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي، أحب اليَّ من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس !، وايم اللّه


1 ـ المسعودي (هامش ابن الاثير ج 6 ص 99).
2 ـ الطبري (ج 6 ص 96) وابن الاثير (ج 3 ص 105).
3 ـ يراجع النصائح الكافية (ص 73 الطبعة الاولى).


لادخلت لك داراً ما بقيت (1) ».
 وروى المسعودي من جواب معاوية لسعد، ما نربأ بقلمنا عن التصريح به لقبحه، ولكنه على كل حال دليل جديد على مبلغ اسفاف الرجل في خلقه وفي آدابه وفي مجاملاته..

4
الوفاء بالشرط الرابع

 قال الطبري (ج 6 ص 95): « وحال أهل البصرة بينه ـ يعني بين الحسن ـ وبين خراج دارابجرد، وقالوا: فيئُنا ».
 وقال ابن الاثير (ج 3 ص 162): « وكان منعهم ـ يعني منع أهل البصرة ـ بأمر من معاوية ايضاً !! ».

5
الوفاء بالشرط الخامس

 وكان الشرط ـ كما علمت ـ هو العهد بالامان العام، والامان لشيعة علي على الخصوص، وأن لا يبغي للحسنين عليهما السلام وأهل بيتهما غائلة سراً ولا جهراً.
 وللمؤرخين فيما يرجع الى موضوع هذا الشرط نصوص كثيرة، بعضها وصف للكوارث الداجية التي جوبه بها الشيعة من الحكام الامويين في عهد معاوية، وبعضها قضايا فردية فيما نكب به معاوية الشخصيات الممتازة من أصحاب أمير المؤمنين، وبعضها خيانته تجاه الحسن والحسين خاصة. وليكن عرضنا لهذه النصوص هنا على الترتيب المذكور ايضاً.


1 ـ المسعودي (هامش ابن الاثير ج 6 ص 81 ـ 82).

 

الفهرس