موقع عقائد الشيعة الإمامية

 

صلح الإمام الحسن عليه السلام

دوافع الفريقين للصلح

 

 وما كان بدعاً من محاولات معاوية فيما يهدف اليه، أن يبتدر هو الى طلب الصلح (1)، فيعطي الحسن كل شرط، ليأخذ عليه شرطاً واحداً هو «الملك».
 وقرر معاوية خطته هذه، في بحران نشاط الفريقين للحرب، وكان في توفره على تنفيذ هذه الخطة، أعنف منه في عمله لتنظيم المعسكرات وتدبير شؤون الحرب. ورأى ان يبادئ الحسن بطلب الصلح، فان أجيب اليه فذاك، والا فلينتزعه انتزاعاً، دون أن يلتحم والحسن في قتال.
 وكان عليه قبل كل شيء، أن يصطنع في سبيل التمهيد الى غايته، ظرفاً من شأنه ان ينبّه خصومه الى تذكر الصلح.
 ومن هنا طلعت على معسكرات الحسن عليه السلام، الوان الاراجيف، وعمرت سوق الرشوات، وجاء في قائمة وعوده التي خلب بها ألباب كثير من الزعماء أو المتزعمين: رئاسة جيش، وولاية قطر، ومصاهرة على أميرة اموية !!.. وجاء في أرقام رشواته النقدية الف الف [مليون]!.
 واستعمل في سبيل هذه الفكرة كل قواه وكل مواهبه وكل تجاربه، واستجاب له كثير من باعة الضمائر الذين كانوا لا يفارقون الحسن ظاهراً فاذا هم عيون معاوية التي ترى، وأصابعه التي تعمل، وعملاؤه الذين لا يدخرون وسعاً في ترويج اهدافه.


1 ـ هذا هو الصحيح كما دل عليه خطاب الحسن فيما استشار به اصحابه في « المدائن » فقال: « ألا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عز ولا نصفة.. »، وكما دلت عليه مصادر أخرى خلافاً لبعض المؤرخين الآخرين، والترجيح لخطاب الحسن عليه السلام.


 وكانت الجيوش والاسلحة والحركات السوقية في الزحف الى المعسكرات، هي الاخرى بعض وسائله الى الصلح، ولم يشأ أن يبدأ بهم غاراته على العراق، لانه لن يلتحم مع الحسن بقتال، الا اذا اعيته الوسائل كلها، والوسائل في عرف معاوية، غير الوسائل في عرف الناس أو في عرف الدين الجديد.
 ومن الحق أن نقول: ان وسائله في هذا الميدان، كانت من النوع المحبوك الصنع، الدقيق الاساليب، الموفق كل التوفيق، في سبيل الغرض الذي رمى اليه، من اصطناع الظرف الخاص الذي يذكر عدوه بالصلح.
 فاذا باع القائد في جبهة العراق ضميره لمعاوية بالمال، وباع معه أكثر الرؤساء ضمائرهم بالعِدات.
 واذا أصبح المعسكران في مسكن والمدائن يعجان بالشائعات التي راحت تمطرهما بوابل من الويل والثبور والمخاوف.
 واذا أصبح الحسن نفسه لا يتسنى له تنفيذ أوامره في جيشه بما فعلته الاراجيف من حوله، بل لا يستطيع الظهور بشخصه أمام الكثرة من جنوده، الا ليغتال بين مضاربه وعلى سواعد أصحابه.
 فهل من سبيل الا الصلح ؟..
 انه الظرف الذي استعصى صلاحه بفساد ناسه، ولا تثريب على الحسن من ظرفه اذا فسد، وناسه اذا فشت فيهم الفتنة، وان لانحراف الطبائع حكمه، ولحداثة الاسلام خاصتها، في القلقين من المسلمين أو في المفروضين على الاسلام فرضاً.
 واذا قدر للحسن أن يخسر بخيانة جنوده، أو ببراعة الفتن التي تسلح بها عدوه « معركته الاولى »، فليكن منذ اليوم عند « معركته الثانية » التي لا تنالها خيانة الجنود، ولا يضيرها انحراف الطبائع، ولا تزيدها دسائس العدوّ ولا أساليب فتنه البارعة الا مضاءً ونفوذاً وانتصاراً مع الايام.
 وتلك هي « الفذلكة » التي أجاد الحسن استغلالها كأحسن ما تكون الاجادة، واستغفل بها معاوية أشد ما يكون في موقفه من الحسن يقَظةً ونشاطاً وانتباهاً.
 انه لبى طلب معاوية للصلح، ولكنه لم يلبه الا ليركسه في شروط لا يسع رجلاً كمعاوية الا أن يجهر في غده القريب بنقضها شرطاً شرطاً. ثم لا يسع الناس ـ اذا هو فعل ذلك ـ الا ان يجاهروه السخط والانكار، فاذا بالصلح نواة السخط الممتد مع الاجيال، واذا بهذا السخط نواة الثورات التي تعاونت على تصفية السيطرة الاغتصابية في التاريخ.
 وليكن هذا هو التصميم السياسي الذي نزل الحسن من طريقه الى قبول الصلح، ولتكن هذه هي الفذلكة التي استغفل بها معاوية فكانت من أبرز معاني العبقرية المظلومة في الامام المظلوم.
 وأيّ غضاضة على الحسن ـ بعد هذا ـ اذا هو وقّع الصلح وفق الخطط المرسومة.
 وان له من حراجة ميدانه الاول، ومن الامل بنتائج ميدانه الثاني ما يزين له حديث الصلح، فضلاً عما يستأثر به هذا الحديث من ظاهرة الاصلاح في الامة، وما يتفق معه من حقن الدماء وصيانة المقدسات، وتحقيق وجهة النظر الاسلامي.
 وكانت اشهراً لم تناهز عدد الاصابع العشر، ولكنها ناهزت عدد النجوم هزاهز وزعازع، وكانت قطعة من الزمن يتجه اليها القلب بكل ما يملكه من حبٍّ واعجاب، فاحت بروائح النبوة، وتجلت فيها مزايا الامامة الصادقة، وتكشفت على قلتها وقصر مدتها عن حقائق كثير كثير من الناس هنا وهناك. وهي الاشهر التي ختمت أعمالها بأفضل خواتيم الاعمال في الاصلاح، ووصلت بخاتمتها الفضلى مصلحة الدنيا بمصلحة السماء.
 واذا بالحسن بن علي، هو ذلك المصلح الاكبر، الذي بشّر به جده رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الحديث الذي سبق ذكره: « ان ابني هذا سيد وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ».
 وان اللّه سبحانه عوّد أهل هذا البيت أن يحفظ لهم الشرف في أعلى مراتبه وفي مختلف ميادينه، فان لم يكن بالانتصار بالسلاح، فليكن بالشهادة الكريمة في اللّه وفي التاريخ. وان لم يكن بهذا ولا ذاك فليكن بالاصلاح وجمع الكلمة وتوحيد أهل التوحيد. وكفى بالاصلاح شرفاً وكفى ببقاء الشرف انتصاراً. وبقاء الشرف ضمان لبقاء العزة. والعزة حافز دائب يدفع الى الحياة ويقوم على السيادة.
 ومن السهل ان نفهم دوافع الحسن الى الصلح مما ذكرنا.
 أما دوافع معاوية التي اندلف بها من جانبه الى طلب الصلح، فقد كانت من نوع آخر لا يرجع في جوهره الى العجز عن القتال، ولا ينظر في واقعه الى وجهة نظر دين أو اصلاح أو حقن دماء، فلا الاصلاح ولا حقن الدماء بالذي يعنى به معاوية فينزل له عن مطامعه في الفتح. وفي غاراته على المدينة ومكة واليمن، ومواقفه الجريئة بصفين، ما يزيدنا بصيرةً في معرفة الرجل وان قلّ عارفوه.
 اذاً، فليكن طموحاً نفعياً خالصاً، هو الاشبه بتاريخ معاوية الذي جاء تاريخه أشبه باسطورة.
 انه خُيّل اليه بأن تنازل الحسن له عن الحكم، سيكون معناه في الرأي العام، تنازله عن « الخلافة ». وظن أنه سيصبح ـ على هذا ـ
 « الخليفة الشرعي في المسلمين (1) ».
 وكان الحلم اللذيذ الذي استرخص في سبيله كل غال، وخفي عليه أن الاسلام أعز جانباً من أن يهضم الاساليب الهوج، أو يعطي اقليده للطلقاء وأبناء الطلقاء.
 هذا، ولا ننكر ان يكون لمعاوية بواعث أخرى جعلت منه انساناً آخر ينكر الحرب ويمد يده الى الصلح ويوقع الشروط ويحلف الايمان ويؤكد المواثيق. ولكنا ـ اذ نتحرى بواعثه الاخرى ـ لا نزول عن الاعتقاد بأن الحلم اللذيذ الذي ذكرنا، كان أكبر دوافعه وأشد بواعثه.
 وفيما يلي قائمة مناسبات، تصلح لان تكون بعض دوافعه الى الصلح:
 1 ـ انه كان يرى أن الحسن بن علي عليهما السلام، هو صاحب الحق في الامر، ولا سبيل الى اقتناص « الامر » الا من طريق اسكات الحسن ـ ولو ظاهراً ـ، ولا سبيل الى اسكاته الا بالصلح.
 


1 ـ وللحسن البصري كلمته الذهبية في هذا الموضوع [ انتظرها فيما تقرأه عن « معاوية والخلافة » في الفصل 17 ]. وأخرج أحمد في مسنده وأبو يعلى والترمذي وابن حيان وأبو داود والحاكم قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: « الخلافة بعدي ثلاثون ثم ملك بعد ذلك » وبلفظ ابي نعيم في الفتن والبيهقي في الدلائل وغيرهما: « ثم تكون ملكاً عضوضاً ». والحديث عند جماعة أهل السنة صحيح على شرطهم، وقال قائلهم فيما علق عليه: « انتهت الثلاثون سنة بعده صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم بخلافة الحسن بن علي عليهما السلام »، وأخرج أبو سعيد عن عبد الرحمن بن أبزي عن عمر أنه قال: « هذا الامر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل احد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء ».
أقول: أما بيعته التي أخذها على الناس بأساليبها المعروفة، فلن تجعل غير الجائز جائزاً.


 اما رأيه بأولوية الحسن بالامر، فقد جاء صريحاً في كتاب اليه قبيل زحفهما للصراع في مَسكِن، بقوله له: « انك أولى بهذا الامر وأحق به ». وجاء صريحاً فيما قاله لابنه يزيد على ذكر أهل البيت: « يا بنيَّ ان الحق حقهم (1) »، وفيما كتبه الى زياد ابن ابيه حيث يقول له على ذكر الحسن عليه السلام: « وأما تسلطه عليك بالامر فحق للحسن أن يتسلط (2) ».
 وكذلك رأيناه يستفتي الامام الحسن، فيما يعرض له من معضلات كمن يعترف بامامته (3).
 ويعترف للحسن بأنه « سيد المسلمين (4) ». وهل سيد المسلمين الا امامهم ؟.
 2 ـ انه كان ـ على كثرة الوسائل الطيعة لامره ـ شديد التوجس من نتائج حربه مع الحسن، ولم يكن كتوماً ( كما يدّعي لنفسه ) يوم قال في وصف خصومه العراقيين: « فواللّه ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين الا لبس على عقلي (5) »، ويوم قال فيهم « ما لهم غضبهم اللّه بشر، ما قلوبهم الا كقلب رجل واحد (6) »، فكان يرى في الجنوح الى الصلح، مفراً من منازلة هؤلاء ومواجهة عيونهم تحت المغافر !!.
 3 ـ انه كان يهاب موقع الحسن ابن رسول اللّه (ص) في الناس، ومقامه الروحيّ الفريد في العقيدة الاسلامية، فيتقي حربه بالصلح.
 وكان يرى من الجائز، أن يقيض اللّه لمعسكر الشام من يتطوع لتنبيه الناس فيه الى حقيقة أمر الحسن وفظاعة موقفهم منه، الامر الذي من شأنه ان لا يتأخر بمسلمة الجيش في جبهة معاوية عن الانتقاض عليه والنكول عنه، وبالجيش كله عن الانهيار اخيراً.
 


1 و 2 ـ ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 5 وص 13 وص 73 ).
3 ـ وتجد الشواهد الكثيرة على ذلك فيما أورده اليعقوبي في تاريخه ( ج 2 ص 201 وص 202 )، وفيما استعرضه ابن كثير في البداية والنهاية ( ج 8 ص 40 )، وفيما رواه في البحار ( ج 10 ص 98 ).
4 ـ الامامة والسياسة ( ص 159 ـ 160 ).
5 ـ المسعودي هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 67 ) وغيره.
6 ـ الطبري ( ج 6 ص 3 ).


 وكان معاوية لا يزال يتذكر في زحفه على الحسن، حديث النعمان بن جبلة التنوخيّ معه في « صفين » ـ وهو اذ ذاك أحد رؤساء جنوده المحاربين ـ، وقد صارحه بما لم يصارحه بمثله شاميّ آخر، وسخر منه بما لم يسخر بمثله رعية من سلطان. وما يؤمن معاوية أن يشعر الناس تجاهه ـ اليوم ـ شعور ذلك التنوخي المغلوب على أمره ـ يومئذ.
 وكان مما قاله هذا التنوخي لمعاوية في صفين: « واللّه لقد نصحتك على نفسي، وآثرت ملكك على ديني، وتركت لهواك الرشد وأنا أعرفه، وحدت عن الحق وأنا ابصره، وما وافّقت لرشد وأنا أقاتل عن ملك ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم وأول مؤمن به ومهاجرٍ معه، ولو اعطيناه ما اعطيناك، لكان أرأف بالرعية وأجزل في العطية، ولكن قد بذلنا لك الامر، ولابد من اتمامه كان غياً أو رشداً، وحاشا أن يكون رشداً. وسنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها، اذا حرمنا أثمار الجنة وأنهارها !.. (1) ».
 وكان من سياسة معاوية، حبس أهل الشام عن التعرف على أحد من كبراء المسلمين ـ خارج الشام ـ لئلا يكون لهم من ذلك منفذ الى انكاره أو الانقسام عليه. ولذلك فلا نعرف كيف تسنى لهذا الشامي معرفة ابن عم رسول اللّه (ص) ومعرفة سبقه الى الايمان ورأفته بالناس وكرمه في العطاء وأولوّيته بالامر.
 وحرى معاوية على تجهيل أهل الشام بأعلام الاسلام الى آخر عهده، وكانت سياسته هذه، هي أداته في التجمعات التي ساقها لحروب صفين اولاً، ولحرب الحسن بن علي في مسكن أخيراً.
 وتجد ظاهرة هذه السياسة ـ بما فيها من اعلان عن ضعف


1 ـ المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 5 ص 216 ).


 وتجد ظاهرة هذه السياسة ـ بما فيها من اعلان عن ضعف صاحبها ـ فيما قاله معاوية ذات يوم لعمرو بن العاص وفد تحدّى الحسن بن علي ( عليهما السلام )، فردّ عليه الحسن بحدّياه البليغة التي لم يسلم منها المحرّض عليها ـ ايضاً ـ، فقال معاوية لعمرو: « واللّه ما أردت الا هتكي، ما كان أهل الشام يرون أنَّ أحداً مثلي حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا (1) ».
 4 ـ وكان من الرشاقة السياسية التي لا يخطئها معاوية في سبيل طموحه الاناني الا نادراً، أن يدعو الى « الصلح » فيلح عليه ويشهد على دعوته هذه أكبر عدد ممكن من الناس في القطرين ـ الشام والعراق ـ وفي سائر الآفاق التي يصلها صوته من بلاد الاسلام. ثم هو لا يقصد من وراء هذه الدعوة ـ على ظاهرتها ـ الا التمهيد لغده القريب الذي ستنكشف عنه نتائج الحرب بينه وبين الحسن. وكان أحد الوجهين


1 ـ المحاسن والمساوئ للبيهقي ( ج 1 ص 64 ).
وفي القصص التاريخي نوادر كثيرة عن جهل أهل الشام بأعلام الاسلام فمن ذلك أن أحدهم سأل رجلاً من زعمائهم وذوي الرأي والعقل فيهم: « من أبو تراب الذي يلعنه الامام ـ يعني معاوية! ـ على المنبر ؟ » قال: « أراه لصاً من لصوص الفتن !!! ». وسأل شامي صديقاً له وقد سمعه يصلي على محمد (ص): « ما تقول في محمد هذا، أربنا هو ؟ ».
ولما فتح عبد اللّه بن علي الشام سنة 132 هجري وجه الى أبي العباس السفاح أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرئاسة، فحلفوا لابي العباس أنهم ما علموا لرسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية، حتى وليتم الخلافة..!! « يراجع عنه مروج الذهب على هامش الجزء السادس من الكامل لابن الاثير ( ص 107 و108 و109 ).
أقول: وهذا يدل على أن عامة الملوك الامويين نهجوا على سياسة معاوية في تجهيل الناس بعظمائهم ولا سيما بأهل البيت عليهم السلام ومنع نفوذ أسمائهم الى الشام. ويدل ـ ايضاً ـ على مبلغ عناية أولئك الشاميين باسلاميتهم. والمظنون أن الشام ـ على العهد الاموي ـ كانت لا تزال تزخر بأكثرية غير مسلمة من بقايا أهلها الاصليين ـ الروم والآراميين. ولا نعهد غير قضية الفتح عملاً جدياً آخر كان من شأنه أن يغير القديم عن قدمه، ولا نعهد تصريحاً تاريخياً ينقض علينا هذا الظن.

 

الفهرس