موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية

 

إجماعات فقهاء الإمامية

 

الكتاب في سبعة مجلدات يتناول إجماعات فقهاء االشيعة الإمامية على المسائل الفقهية من القرن الرابع حتى القرن الثامن الهجري

الكتاب من أعمال مركز دراسات وبحوث موقع عقائد الشيعة الإمامية ومن تأليف السيد أحمد الموسوي الروضاتي وساعد في التأليف توفيق حسين فتح الله

 

المقدمة الثانية

قراءة في إجماعات فقهاء الإمامية المتقدمين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا كانت حجية الإجماع عند الإمامية (الاثنا عشرية) من حجية سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وأئمة أهل البيت عليهم السلام، وبأنه طريق كاشف عما صدر عنهم عليهم السلام.

وإذا كان فقهاء الإمامية المتقدمين، هم حلقة الوصل بين من تأخر عنهم ومن تقدم عليهم من الأصحاب والفقهاء بكل ما حملوه معهم من تراث أهل البيت عليهم السلام، وكانوا هم الأكثر قربا والأشد إحاطة بأقوال وآراء ومنهج المعصومين عليهم السلام، وأنهم قد توفر لهم من أسباب المعرفة ما لم يتوفر لأحد ممن سبقهم([1])؛ فكيف تعاملوا مع ما ورثوا من علوم أهل البيت عليهم السلام، وما هي الآلية التي اتبعوها في تحصيل قول المعصوم عليه السلام؟.

موقف الفقهاء المتقدمين من الأخبار والمحدثين

الجدير بالذكر أن فقهاء الإمامية المتقدمين ممن صنفوا في الفقه والأصول كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي قدس سرهم، لم يكونوا على وفاق مع الكثير من المحدثين وفقهاء الأخبار، وكانوا يتعاملون معهم ومع أغلب رواياتهم وفتاواهم بمزيد من التدبر والاحتياط، ووضعوا أغلب تلك الروايات في خانة أخبار الآحاد، وأسقطوا حجيتها بأنها مما لا توجب علما ولا عملا، وعدوا أصحابها إلا ما ندر خارج فقهاء الطائفة الذين يعتد بأقوالهم، ولأسباب كشفوا عن بعضها.

قال الشريف المرتضى قدس سره: "فإن معظم الفقه وجمهوره بل جميعه لا يخلو مستنده ممن يذهب مذهب الواقفة، إما أن يكون أصلا في الخبر أو فرعا، راويا عن غيره ومرويا عنه، وإلى غلاة، وخطابية، ومخمسة، وأصحاب حلول، كفلان وفلان ومن لا يحصى أيضا كثرة، وإلى قمي مشبه مجبر، وأن القميين كلهم من غير استثناء لأحد منهم إلا أبا جعفر بن بابويه& بالأمس كانوا مشبهة مجبرة، وكتبهم وتصانيفهم تشهد بذلك وتنطق به"([2]).

وقال أيضا: "فالعلماء الذين عليهم المعول ويدرون ما يأتون وما يذرون لا يجوزون أن يحتجوا بخبر واحد لا يوجب علما، ولا يقدر أحد أن يحكي عنهم في كتابه ولا غيره خلاف ما ذكرناه. فأما أصحاب الحديث فإنهم رووا ما سمعوا وحدثوا به ونقلوا عن أسلافهم، وليس عليهم أن يكون حجة ودليلا في الأحكام الشرعية، أو لا يكون كذلك"([3]).

وعن الشيخ المفيد قدس سره: "وأقول: إنه لا يجب العلم ولا العمل بشيء من أخبار الآحاد، ولا يجوز لأحد أن يقطع بخبر الواحد في الدين إلا أن يقترن به ما يدل على صدق راويه على البيان. وهذا مذهب جمهور الشيعة وكثير من المعتزلة والمحكمة وطائفة من المرجئة وهو خلاف لما عليه متفقهة العامة وأصحاب الرأي".([4])

وكلامه قدس سره في سياق رده على القائلين بسهو النبي صلى الله عليه وآله ونومه عن صلاة الصبح؛ هو أكبر شاهد على نظرة الشك التي كان ينظر بها فقهاء الطائفة المتقدمون إلى مدونات الأخبار عامة وإلى الأخبار الآحاد بشكل خاص، وعلى أن نظرتهم لطبقة فقهاء الأخبار كانت لا ترقى إلى درجة الاحتجاج بأقوالهم وإن كان بوزن وعدالة رجل كالشيخ الصدوق أو الشيخ الكليني قدس سرهما.([5])

ولم يتعد شيخ الطائفة الطوسي قدس سره حدود هذه النظرية وهذا المنهج. ننقل هنا جانبا من كلامه قدس سره يكشف عن عدم اعتماده في الفتوى على تلك الأخبار حيثما كان مستنده إجماع الطائفة.

فقال قدس سره في كتابه عدة الأصول: "إن خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله أو عن واحد من الأئمة عليهم السلام وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لانه ان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجبا للعلم".([6])

وذكر قدس سره القرائن فقال: "القرائن التي تدل على صحة متضمن الأخبار التي لا توجب العلم أربع أشياء -إلى أن قال-  ومنها: أن يكون موافقا لما أجمعت الفرقة المحقة عليه، فانه متى كان كذلك دل أيضا على صحة متضمنه. ولا يمكننا أيضا أن نجعل إجماعهم دليلا على صحة نفس الخبر، لأنهم يجوز أن يكونوا أجمعوا على ذلك عن دليل غير هذا الخبر، أو خبر غير هذا الخبر ولم ينقلوه استغناء بإجماعهم على العمل به، ولا يدل ذلك على صحة نفس هذا الخبر"([7])

وقال أيضا: "ونحن لم نعتمد على مجرد نقلهم، بل اعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم، وارتفاع النزاع بينهم، فأما مجرد الرواية فلا حجة فيه على حال"([8]).

وفي تفسيره التبيان قال قدس سره: "وأما طريقة الآحاد من الروايات الشاردة، والألفاظ النادرة فانه لا يقطع بذلك، ولا يجعل شاهدا على كتاب الله وينبغي أن يتوقف فيه ويذكر ما يحتمله، ولا يقطع على المراد منه بعينه، فانه متى قطع بالمراد كان مخطئا، وان أصاب الحق، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله لانه قال تخمينا وحدسا ولم يصدر ذلك عن حجة قاطعة وذلك باطل بالاتفاق"([9]).

ومما قال أيضا: "والجواب: إن هذه الأخبار كلها أخبار آحاد، ونحن لا نعمل به"([10]). وأيضا: "فأما أخبار الآحاد والقياس فلا يجوز أن يعمل عليهما عندن"([11]).

مما تقدم وغيره يتضح أن فقهاء الطائفة المتقدمين كانوا يرجعون فيما يفتون عن أهل البيت عليهم السلام إلى معارف هي أعلى رتبة وأشد قوة من الأخبار؛ فنعتوا تلك الأخبار بالآحاد ونزعوا عنها وعن المفتين بها الحجية ما لم يشفع لمضمونها دليل قطعي كالإجماع.

بين مضمون الأخبار والإجماع

بقي أن نؤكد على مسألة في غاية الأهمية قد ورد طرف منها فيما تقدم، وهي أن فقهاء الإمامية المتقدمين ينبهون من مغبة وقوع البعض في خطأ أن الإجماع الفلاني مستنده الخبر الكذائي من دون أن يشير المجمعون أنهم قد استندوا في إجماعهم على ذلك الخبر([12]).

فعن الشيخ الطوسي قدس سره: "فان أجمعوا على أنهم قالوا ما قالوه لأجل ذلك الخبر قطعنا بذلك على ان الخبر صحيح صدق وان لم يظهر لنا من أين قالوه ولا ينص على ذلك فانا نعلم بإجماعهم ان ما تضمنه الخبر صحيح ولا يعلم بذلك صحة الخبر لانه لا يمتنع أن يكونوا قالوا بما وافق مخبر المخبر بدليل آخر أو خبر آخر أقوى منه في باب العلم أو سمعوه من الإمام المعصوم فاجمعوا عليه ولم ينقلوا ما لأجله اجمعوا اتكالا على الإجماع"([13]).

وعن المرتضى قدس سره: "فأما مطابقة فائدة الخبر بعمل المعصوم، فلا شبهة في أنها لا تدل على صدق الراوي فيما رواه، ومن هذا الذي جعل فيما رواه المطابقة دليلا على صدق الراوي. والذي يجب تحصيله في هذا أن الفرقة المحقة إذا علمت بحكم من الأحكام أو ذهبت إلى مذهب من المذاهب، ووجدنا روايته مطابقة لهذا العمل لا نحكم بصحتها ونقطع على صدق رواتها، لكنا نقطع على وجوب العمل بذلك الحكم المطابق للرواية، لا لأجل الرواية، لكن بعمل المعصوم الذي قطعنا على دخوله في جملة عمل القائلين بذلك الحكم"([14]). "وليس رجوعنا إلى عمل الطائفة وإجماعها في ترجيح أحد الخبرين الراويين على صاحبه أمرا يختص هذا الموضع، حتى يظن ظان أن الرجوع إلى إجماع الطائفة إنما هو في هذا الضرب من الترجيح. بل نرجع إلى إجماعهم في كل حكم لم نستفده بظاهر الكتاب، ولا بالنقل المتواتر الموجب للعلم عن الرسول صلى الله عليه وآله أو الإمام عليه السلام، سواء ورد بذلك خبر معين أو لم يرد، وسواء تقابلت فيه الروايات أو لم تتقابل، لأن العمل بخبر الواحد المجرد ليس بحجة عندهم على وجه من الوجوه، انفرد من معارض أو قابله غيره على سبيل التعارض"([15]).

دور الفقهاء المتقدمين في ترشيد وتوظيف الأخبار

ولكن الحق يقال أن تعاطي الخاصة من فقهاء الطائفة المتقدمين مع مدونات الحديث لم يكن سلبيا كما قد يتصور البعض، لكنهم تميزوا عن غيرهم بمنهجهم النقدي ودورهم الإشرافي على تلك الموسوعات الخبرية، فقاموا بنظمها وتوظيفها في صالح تلك الأحكام القطعية والكاشفة عن رأي المعصوم عليه السلام. ولا أدل على ذلك من استشهادهم بتلك الأخبار بل وتصدي شيخ الطائفة الطوسي قدس سره بنفسه لتدوين أهم كتابين في الحديث، وهما تهذيب الأحكام والاستبصار.

وبعد مراجعة وقراءة متأنية في مقدمة كتابي الشيخ الطوسي قدس سره تهذيب الأحكام والاستبصار، ودراسة الأسباب الخارجية لتأليف هذين الكتابين، يظهر ذلك البعد الوظيفي في استخدام الحديث ومدونات الأخبار وتطويعها للأحكام القطعية. فقد عمد الشيخ إلى تصنيف موسوعة روائية يستغنى بها الناس عن الكثير من الروايات التي توهم بوجود فساد أو وقوع تناقض في مذهب أهل البيت عليهم السلام، والعمل على تلافي خطر ما أحدثته تلك المدونات والمفتين بها من زعزعة عقائد المؤمنين، وجمع ما اتفق من الأحاديث مع الأحكام التي تعتقد تلك الطائفة من الفقهاء أنها كاشفة عن مذهب أهل البيت عليهم السلام بطريق قطعي كالإجماع، وتطويع ما خالفها من الأخبار بطريق التأويل أو الجمع، وأخيرا -وكما قال- لإرضاء النفوس التي تأنس بالأحاديث عادة.

قال قدس سره في مقدمة كتابه تهذيب الأحكام: "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي الحمد ومستحقه وصلواته على خيرته من خلقه محمد وآله وسلم تسليما. ذاكرني بعض الأصدقاء أيده الله ممن أوجب حقه علينا بأحاديث أصحابنا أيدهم الله ورحم السلف منهم، وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد، حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه -إلى أن قال- حتى دخل على جماعة ممن ليس لهم قوة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك، وعجز عن حل الشبهة فيه". وقال في مكان آخر من المقدمة: "ومهما تمكنت من تأويل بعض الأحاديث من غير أن أطعن في إسنادها فاني لا أتعداه وأجتهد أن أروي في معنى ما أتأول الحديث عليه حديثا آخر يتضمن ذلك المعنى إما من صريحه أو فحواه حتى أكون عاملا على الفتيا والتأويل بالأثر، وإن كان هذا مما لا يجب علينا لكنه مما يؤنس بالتمسك بالأحاديث"([16]).

منهج الإمامية (الاثنا عشرية) في تحصيل الأحكام

بعد معرفة موقف فقهاء الإمامية المتقدمين من ذلك الكم الكبير والمضطرب من الأحاديث، ومدونات الأخبار؛ وطبقة الرواة، والمحدثين، نحاول هنا أن نصور منهج وطريقة الأصحاب والفقهاء المتقدمين في تحصيل الأحكام فنقول:

منذ اللحظة الأولى التي انطلق فيها رسول الله صلى الله عليه وآله بتبليغ رسالة السماء أصبح اهتمام من آمن بالرسول ورسالته السمحاء تحصيل الآيات وتفسيرها وبضمنها العقائد والأحكام من فم رسول الله صلى الله عليه وآله المبارك مباشرة، هذا الاتصال أصبح أمرا طبيعيا لدى الجميع وخصوصا المقربين؛ من القراء وكتاب الوحي وسائر الصحابة. فإذا نسب أحد هؤلاء حكما أو خبرا إلى النبي صلى الله عليه وآله، فإن تأييد عدد من العدول ممن يمكن فيهم الاستماع المباشر دون واسطة لهذا الحكم أو الخبر يترتب عليه الوثوق بصحة صدور ذلك عنه صلى الله عليه وآله، والعكس بالعكس.

وبتعبير آخر فأن حركة من ذكرنا كانت تدور حول كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وإن نشر تلك الكلمات للطبقات الأكثر بعدا كان يتم عن طريق تلك الجماعة المقربة والمتخصصة التي حول الرسول صلى الله عليه وآله، وكلما كان نوع الناقلين مميزا والعدد أكبر كانت درجة القبول عند الطبقة الأبعد أقوى وأشد. ووفق مذهب الإمامية فإن المرجع الأول للمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله هم أهل بيته عليهم السلام ومن يعمل في دائرتهم من خلاصة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله.

ومن المعروف عند الشيعة فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يترك هذه الأمة لما بعد حياته دون مرجع ومتصدي لأمر الحكم والشريعة، بل ومهد لذلك حتى في حياته صلى الله عليه وآله فأوصى صلى الله عليه وآله وفي عدة مواطن ومناسبات بالتمسك بعترته عليهم السلام؛ فكان مما قال صلى الله عليه وآله مذكرا بمقام أهل البيت عليهم السلام وأنهم بقية الله في أرضه وأن وجودهم متصل إلى قيام الساعة: "يا أيها الناس قد خلفت فيكم كتاب الله وعترتي، الا إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، الا وإنكم لن تضلوا ما استمسكتم بهم"([17]).

ولكن للأسف لم يعقل المسلمون وصية رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يعملوا بها ولجؤوا بدلا من ذلك إلى نظرية اخترعوها ولأغراض تتعلق بالحكم والسياسة وهي نظرية الصحابة التي تلتقي مع الفكر القبلي والتي كانت تخفي ورائها فكرة دفع أهل بيت النبي عليهم السلام عن مقام الإمامة، ومن ثم انتقلت تلك الفكرة المبتكرة تدريجا من الوضع السياسي الأول ليشمل جميع الأقوال والأحكام الشرعية الصادرة عنهم عليهم السلام. وقد شاركت الرواية والرواة ومن بعدهم مدونوا الأخبار وكتب الصحاح في تبرير وتأطير هذه الفكرة([18]).

ولم يكن أهل البيت عليهم السلام ليسكتوا عن هذا الأمر الذي يضع الموانع بين الأمة وبين الإسلام كشريعة، وهم المؤتمنون على تبليغه؛ فأقدمو عليهم السلام على تنظيم شؤون الأمة من حدود الطائفة الخاصة والمقربة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن بعدهم التابعين وصفوة المؤمنين، لتكون لاحقا الحلقة التي تربط الشيعة بالإمام المعصوم.

هذا التوجه من أهل البيت عليهم السلام والذي يستند إلى الدور الذي أوكله سبحانه وتعالى إليهم كان يزيده قوة وزخما حرارة الصفوة من الأصحاب والمؤمنين في طاعة واتّباع أهل البيت عليهم السلام. فكان من خصائص هذا العمل الحصري والمنظم: أنه وسيلة ضبط أفراد الطائفة عن التشتت وتطبيعها بشخصية يميزها عن غيرها، وأنه طريق ضامن يحفظ داخل أفرادها ما يودعه أهل البيت عليهم السلام من الأسرار والتي قد تتمثل بكلام أو مخطوط أو أي شيء آخر مما يراه المعصوم ضروريا للحفاظ على قوة وتماسك المذهب. والأهم؛ أنه وسيلة لعمل تنظيمي حصري يسهل عملية تحصيل الأحكام والأقوال الصادرة عن المعصوم بأقرب الطرق وأكثرها حيوية وواقعية.

يقول السيد عبد الأعلى السبزواري قدس سره: "الخامس: لأجل كشفه عن دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا، لأن بناء الأئمة عليهم السلام كان على إيداع جملة من الأحكام الواقعية عند خواص الأصحاب، وهم أودعوها عند الطبقة اللاحقة لهم فوصلت إلى طبقة الغيبة الكبرى فصارت مجمعا عليها من دون ذكر نفس المدرك بالخصوص، وهذا وجه حسن متين يصلح أن يكون مدركا لاعتبار الشهرة أيض"([19]).

هذا النظام والمنهج المبني على أساس حضور العترة عليهم السلام، استمر لما بعد الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام لمدة قد تكون طويلة عندنا ولكنها قصيرة بالنسبة لفقهائنا الواقفين على تراث وشخصية ومنهج الأئمة المعصومين عليهم السلام بكل أبعادها وتفاصيلها، وبنفس الطريقة من التواصل مع المعصوم مع ملاحظة غيابه عليه السلام ولو على النحو الظاهر. وقد زاد هذا الأمر هؤلاء الفقهاء حرصا على توثيق ما وصل إليهم من تراث أهل البيت عليهم السلام ممن سبقهم من الأصحاب والفقهاء ممن حافظ على خط ومنهج الإمامية يدا بيد، دون تقليد منهج المخالفين في الإفتاء الذي يقوم أساسا على تغييب المعصوم والاعتماد على ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من  الأخبار.

يقول المحقق النراقي: "الثالث: إجماع العلماء كلا أو بعضا بحيث ينكشف لادعائهم دخول المعصوم فيهم وكونه من جملتهم، سواء كان ذلك اتفاق جميع العلماء أو جميع علماء الرعية أو بعضهم، وسواء كانوا جميعا معروفي النسب أو لا. وهذا المعنى هو الذي ذكره أكثر المتأخرين من أصحابنا واختاره المحققون من مشايخنا ونسبه بعض مشايخنا المحققين إلى معظم المحققين. بل يظهر من بعضهم ان هذه الطريقة هي الطريقة المتداولة بين القدماء وإن لم يصرحوا بها ولأجلها طرحوا أخبارا كثيرة صحيحة مخالفة لما وصل إليهم يدا بيد من فتاوى الأصحاب"([20]).

الإجماع عند الإمامية منهج عملي

وعلى ضوء ما تقدم من أن الحكم الشرعي بعد كتاب الله تعالى ورسوله منحصر في شخص أهل البيت عليهم السلام، وما ترتب على ذلك من النظام الحصري بين الخواص من الأصحاب وبين الأئمة المعصومين عليهم السلام بالوقوف على رأي المعصوم من خلال تتبع الأقوال في دائرة الطائفة الخاصة التي تعبدت ونشأت على الارتباط بالمعصوم؛ جعل من توخي القطع في تحصيل الأحكام -وهو ما أطلق عليه لاحقا بالإجماع-  أمرا ضروريا ومن طبيعية النظام الداخلي في مدرسة أهل البيت. هذا النظام وما كان يترتب عليه من نتائج صار وبمرور الزمان منهجا عمليا للطبقات التالية من الأصحاب ومن تبعهم من العلماء بعد عصر الغيبة وإلى فترة ليست بالقصيرة.

ويتحصل من ذلك كله أن إطلاق فقهاء الإمامية المتقدمين للفظ الإجماع على هذا النوع من الفتاوى والأحكام ما هو إلا حكاية عن ذلك المنهج الحصري ووصف لتلك المعارف العالية السند عند الصفوة من الأصحاب والفقهاء؛ المعارف السابقة على الإفتاء، وذلك لأن كل فقيه من فقهاء الإمامية ممن التزم بمنهج الارتباط بالمعصوم حاضرا وغائبا لا يصدر الفتوى إلا بعد تحصيل قول المعصوم إما بالاتصال المباشر وهو ظاهر بيـّن في عصر الحضور أو بالنقل الخاص الذي يبلغ عنده حقيقة الاتصال المباشر دون الاعتماد على الأخبار الآحاد كما هو شأن فقهاء العامة ومن تبعهم من فقهاء الأخبار عند الشيعة.

يقول الشيخ الطوسي قدس سره في كتابه عدة الأصول في فصل كيفية العلم بالإجماع ومن يعتبر قوله فيه: "إذا كان المعتبر في باب كونه حجة قول الإمام المعصوم فالطريق إلى معرفة قوله شيئان احدهما السماع منه والمشاهدة لقوله، والثاني النقل عنه بما يوجب العلم؛ فيعلم بذلك ايضا قوله عليه السلام".([21])

وقد علق السيد البروجردي قدس سره على عبارة الشيخ هذه فقال: "وهذا تصريح منه بأنه يمكن أن ينقل الإجماع ويكون المستند في نقل الإجماع إحراز دخول قوله عليه السلام فيه بالنقل، ولا تنحصر طريقة العلم بقوله عليه السلام من قاعدة اللطف كما أدعاه الشيخ الأنصاري قدس سره فتأمل".([22])

وبهذا فإن دليل الإجماع عند الفقهاء المتقدمين لم يكن من النوع الاستدلالي ولا من النوع الخلافي كما يظن البعض، بل هو من النوع التفسيري الوصفي لحالة واقعة أصلا في الفقه الإمامي.

كلمة أخيرة

لعلنا نكون قد وفقنا في هذه القراءة المختصرة أن نرسم صورة لمدرسة أهل البيت عليهم السلام التي تجسدت في صفوة الأصحاب ومن تبعهم من العلماء والفقهاء من مرحلة النشأة والتأسيس إلى عصر التدقيق والتأليف، ودراسة منهج فقهي أصيل ظهر في عصر الغيبة حمل وصف ثم اسم الإجماع؛ وبالتالي التأسيس للحديث عن أهمية الإجماعات المنقولة وخاصة إجماعات فقهاء الإمامية المتقدمين القريبين من عصر الغيبة.

يقول الميرزا القمي قدس سره: "وليت شعري من ينكر حجية الإجماع أو إمكان وقوعه أو العلم به بأي شيء يعتمد في هذه المسائل، فإن كان يقول أفهم كذا من اللفظ فمع أنه مكابرة واقتراح وخروج عن اللغة والعرف، فلم لا يفهم فيما لو أمر الشارع بالجهر في الصلاة للرجل وجوبه على المرأة، ويفهم من قوله اغسل ثوبك دون قوله اغسلي وجوبه عليها. وبالجملة لو أردنا شرح هذه المقامات وإيراد ما ليس فيها مناص عن الاحتجاج بالإجماع بسيطا أو مركبا لكنا ارتكبنا بيان المعسور أو المحال وفيما ذكرنا كفاية لمن كان له دراية ومن لا دراية له لا يفيده ألف حكاية"([23]).

ويقول السيد محمد مجاهد الطباطبائي قدس سره "وبالجملة لا يقوم للفقه عمود ولا يخضر له عود إلا بهذا الأصل ومن استغنى عنه حينا فيحتاج وقتا مّا وما أنكره أحد في الأصول إلا وقد التجأ إليه في الفروع وقد وجدنا كثيرا من النّاس ينكرونه في السّعة ويقرون به عند الضيق وليس ذلك إلا من قلّة التحقق"([24]).

 


 

([1]) يقول السيد الكلانتر في مقدمة كتاب شرح اللمعة الدمشقية الصفحة 63- 64: "فقد كانت في متناول الشيخ مكتبتان كبيرتان يستعين بهما في التأليف والمطالعة والإلمام بأمهات الكتب الفقهية: إحداهما مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي جمع فيها ما تفرق من كتب فارس والهند واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم، وأهدى إليها العلماء كتبهم فكانت من أغنى مكاتب بغداد، وقد أمر بإحراقها طغرل بيك  فيما أحرق من  مؤسسات الشيعة وبيوتهم، ومدارسهم في الكرخ. ثانيتهما مكتبة أستاذه السيد المرتضى التي كانت تحتوي على ثمانين ألف كتاب، والتي لازمها ثماني وعشرين سنة".

([2]) رسائل المرتضى3: 310.

([3])رسائل المرتضى 1: 211.

([4])  أوائل المقالات: 122.

([5]) راجع كتاب عدم سهو النبي صلى الله عليه وآله للشيخ المفيد قدس سره.

([6]) عدة الأصول (ط.ج) 1: 126.

([7] ) عدة الأصول (ط.ج) 1: 144-145.

([8]) عدة الأصول (ط.ج) 1: 131.

([9])  التبيان في تفسير القرآن  1: 7.

([10])  الخلاف 4: 448.

([11])  الاقتصاد: 188.

([12] ) وهو ما أطلق عليه المتأخرون (الإجماع المدركي).

([13]) عدة الأصول(ط.ج) 2: 640.

([14]) رسائل المرتضى1: 19.

([15]) رسائل المرتضى 1: 16.

([16])  تهذيب الأحكام 1: 2-4.

([17]) مضمون الحديث متفق عليه بين الفريقين.

([18]) توسع الاهتمام لدى هذا الفريق بتصنيف الموسوعات الحديثية وذلك لتكوين غطاء شرعي يسند تلك النظرية المبتدعة، ولسد النقص الناتج عن غياب القيادة الشرعية التي تتصل بالنبي الأكرم.  أما الشيعة فلم تكن بحاجة إلى تدوين مثل هذه الكتب لارتباطهم المباشر برسول الله صلى الله عليه وآله عن طريق الأئمة المعصومين عليهم السلام. وما ظهر عند الشيعة لاحقا من الاهتمام المتزايد بتدوين الأخبار إنما ظهر مع دخول مرحلة الغيبة الكبرى للإمام المهدي المنتظر عليه السلام، ويفسر هذا الاهتمام سببان؛ الأول: أنه يتماشى مع متغيرات المرحلة باعتبار حصول نوع من التشابه الموضوعي بين الفريقين ولو في الظاهر، والثاني: كونه دخل على خط العمل الخلافي في التصدي لمدونات الأمويين المبنية أساسا على تأسيس وتأطير  نظرية الصحابة والحط من أصل ولاية أهل البيت عليهم السلام.

([19]) راجع كتابه تهذيب الأصول: 82-83 .

([20]) راجع عوائد الأيام: 237.

([21]) راجع عدة الأصول (ط.ج) 2: 628.

([22]) راجع تقريرات في أصول الفقه، تقرير بحث السيد البروجردي للشيخ علي الاشتهاردي، الصفحة 288-289.

([23]) راجع قوانين الأصول: 356-358.

([24] ) مفاتيح الأصول: 496.