موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع

 

 

 

إجماعات فقهاء الإمامية

 

 

 

المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع

 

 

السيد الخوئي. مصباح الأصول

المبحث الثالث: في حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد

-  مصباح الأصول - تقرير بحث السيد الخوئي لمحمد سرور البهسودي ج 2   ص 13:([1])

        وكان الأنسب تأخير هذا البحث عن بحث حجية خبر الواحد، لترتبه على القول بحجية الخبر، إذ لو قلنا بعدم حجية الخبر لا تصل النوبة إلى البحث عن حجية الإجماع المنقول. نعم بعد ثبوت حجية الخبر يقع الكلام في شمول أدلتها للإجماع المنقول وعدمه، إلا أنا تعرضنا له هنا تبعا للأصحاب والأمر فيه سهل.

        ولا يخفى ان الاخبار عن الموضوعات الخارجية إذا كان في مقام الترافع فلا إشكال في اعتبار التعدد والعدالة في حجيته، وأما في غير مورد الترافع فيعتبر فيه العدالة، وكذلك التعدد على المشهور، وهو أي الاخبار عن الموضوعات خارج عن محل كلامنا فعلا، فان الكلام في حجية الاخبار المتعلقة بالأحكام الشرعية من حيث شمول دليل حجيتها للإجماع المنقول بخبر الواحد وعدمه.

        وأحسن ما قيل في المقام ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس سره وحاصل ما أفاده -بزيادة منا- ان الاخبار عن الشيء (تارة) يكون إخبارا عن حس ومشاهدة ولا إشكال في حجية هذا القسم من الاخبار ببناء العقلاء فان احتمال تعمد [الصفحة 135] المخبر بالكذب مدفوع بعدالته أو وثاقته، واحتمال غفلته مدفوع بأصالة عدم الغفلة التي استقر عليها بناء العقلاء، و(أخرى) يكون اخبارا عن أمر محسوس مع احتمال ان يكون اخباره مستندا إلى الحدس لا إلى الحس، كما إذا اخبر عن المطر مثلا، مع احتمال انه لم يره، بل اخبر به استنادا إلى المقدمات المستلزمة للمطر بحسب حدسه، كالرعد والبرق مثلا. وهذا القسم أيضا ملحق بالقسم الأول، إذ مع كون المخبر به من الأمور المحسوسة لعين فظاهر الحال يدل على كون الاخبار إخبارا عن الحس، فيكون حجة ما ذكر في القسم الأول.

        و(ثالثة)- يكون اخبارا عن حدس قريب من الحس، بحيث لا يكون له مقدمات بعيدة، كالاخبار بأن حاصل ضرب عشرة في خمسة يصير خمسين مثلا وهذا القسم من الاخبار أيضا ملحق بالقسم الأول في الحجية لان احتمال الخطأ في هذه الأمور القريبة من الحس بعيد جدا، ومدفوع بالأصل العقلائي واحتمال تعمد الكذب مدفوع بالعدالة أو الوثاقة، كما تقدم في القسم الأول.

        و(رابعة)- يكون إخبارا عن حدس مع كون حدسه ناشئا من سبب كانت الملازمة بينه وبين المخبر به تامة عند المنقول إليه أيضا، بحيث لو فرض اطلاعه على ذلك السبب لقطع بالمخبر به، وهذا القسم من الاخبار أيضا حجة، فانه إخبار عن الأمر الحسي، وهو السبب، والمفروض ثبوت الملازمة بينه وبين المخبر به في نظر المنقول إليه أيضا.

        و(خامسة)- يكون إخبارا عن حدس مع كون حدسه ناشئا من سبب كانت الملازمة بينه وبين المخبر به غير تامة عند المنقول إليه. وهذا القسم من الاخبار لم يدل دليل على حجيته، فان احتمال تعمد الكذب، وان كان مدفوعا بالعدالة أو الوثاقة، إلا ان احتمال بالخطأ في الحدس مما لا دافع له، إذ لم يثبت بناء من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ في الأمور الحدسية.

        والإجماع المنقول من القسم الخامس، لان الناقل للإجماع لا يخبر برأي المعصوم عليه السلام عن [الصفحة 136] الحس، أو ما يكون قريبا منه، ولا عن حدس ناش عن سبب كان ملازما لقول المعصوم عليه السلام عندنا، فان الإجماع المدعى في كلام الشيخ الطوسي قدس سره مبني على كشف رأى المعصوم عليه السلام من اتفاق علماء عصر واحد بقاعدة اللطف وهي غير تامة عندنا على ما ستعرفه قريبا ان شاء الله تعالى، وأوهن منه الإجماع المدعى في كلام السيد المرتضى، فانه كثيرا ما ينقل الإجماع على حكم يراه مورد قاعدة اجمع عليها، أو مورد أصل كذلك مع انه ليس من موارد تلك القاعدة أو الأصل حقيقة، كدعواه الإجماع على جواز الوضوء بالمائع المضاف استنادا إلى ان أصالة البراءة مما اتفق عليه العلماء، مع انه لا قائل به فيما نعلم من فقهاء الامامية، وليس الشك في جواز الوضوء بالمائع المضاف من موارد أصالة البراءة. وكذا الحال في الإجماع المدعى في كلمات جماعة من المتأخرين المبنى على الحدس برأي المعصوم من اتفاق جماعة من الفقهاء، إذ لا ملازمة بين هذا الاتفاق ورأي المعصوم بوجه.

        نعم لو علم استناد ناقل الإجماع إلى الحس، كما إذا كان معاصرا للإمام عليه السلام، وسمع منه الحكم، فنقله بلفظ الإجماع، فلا مجال للتوقف في الأخذ به وكان مشمولا لأدلة حجية الخبر بلا إشكال، إلا ان الصغرى لهذه الكبرى غير متحققة، بل نقطع بعدمها، فانا نقطع بأن الإجماعات المنقولة في كلمات الأصحاب غير مستندة إلى الحس، ونرى ان ناقلي الإجماع ممن لم يدرك زمان الحضور. وأما زمان الغيبة فادعاء الرؤية فيه غير مسموع مع أنهم أيضا لم يدعوها ثم إن بعض الأعاظم التزم بحجية الإجماع المنقول في كلمات القدماء، بدعوى انه يحتمل ان يكون مستندهم هو السماع من المعصوم عليه السلام ولو بالواسطة، لقرب عصرهم بزمان الحضور، فضموا إلى قول المعصوم أقول العلماء، ونقلوه بلفظ الإجماع، فيكون نقل الإجماع من المتقدمين من القسم [الصفحة 137] الثاني من الاخبار، وهو ما كان الاخبار عن أمر حسي، مع احتمال ان يكون الاخبار به مستندا إلى الحدس، وان يكون مستندا إلى الحس، وقد تقدم ان هذا القسم من الاخبار حجة بسيرة العقلاء، باعتبار ان ظاهر الاخبار عن أمر حسي يدل عن كونه مستندا إلى الحس، فيكون حجة.

        وبالجملة احتمال كون الاخبار مستندا إلى الحس كاف في الحجية ببناء العقلاء، هذا ملخص كلامه بتوضيح منا. وفيه:

        (أولا)- ان هذا الاحتمال -أي استناد القدماء في نقل الإجماع إلى الحس- احتمال موهوم جدا، بحيث يكاد يلحق بالتخيل فلا مجال للاعتناء به -وما ذكرناه- من ان احتمال كون الاخبار مستندا إلى الحس كاف في حجية إنما هو فيما إذا كان الاحتمال عقلائيا، لا الاحتمال البعيد غاية البعد الملحق بأمر خيالي. وما يظهر به بعد هذا الاحتمال وكونه موهوما أمران:

        (احدهما)- تتبع إجماعات القدماء كالشيخ الطوسي قدس سره والسيد المرتضى قدس سره، إذ قد عرفت استناد الأول في دعوى الإجماع إلى قاعدة اللطف لا إلى الحس من المعصوم عليه السلام ولو بالواسطة، واستناد الثاني إلى أصل أو قاعدة كان تطبيقهما بنظره، فلو لم ندع القطع بعدم استنادهما إلى الحس من المعصوم عليه السلام ولو بالواسطة، لا اقل من عدم الاعتناء باحتمال الاستناد إلى الحس.

        (ثانيهما)- انه لو كان الأمر كذلك كان المتعين هو النقل عن المعصوم عليه السلام، كبقية الروايات، لا نقل الإجماع، فان نقل الإجماع -باعتبار كونه كاشفا عن قول المعصوم عليه السلام مع كون نفس قول المعصوم محسوسا له ولو بالواسطة- يكون شبيها بالآكل من القفاء.

        و(ثانيا)- انه على تقدير تسليم ذلك وان إجماع القدماء مستند إلى الحس بالواسطة فيكون الإجماع المنقول منهم بمنزلة رواية مرسلة ولا يصح [الصفحة 138] الاعتماد عليه، لعدم المعرفة بالواسطة بينهم وبين المعصوم عليه السلام، وعدم ثبوت وثاقتها.

        فتحصل مما ذكرناه في المقام انه لا ملازمة بين حجية خبر الواحد وحجية الإجماع المنقول بوجه.

        بقي الكلام في مدرك حجية الإجماع المحصل الذي هو أحد الأدلة الأربعة فقد يقال: إن مدرك حجية الإجماع والملازمة العقلية بين الإجماع وقول المعصوم عليه السلام، وتقريبها بوجهين:

        (الوجه الأول)- ما استند إليه الشيخ الطوسي قدس سره من قاعدة اللطف، وهي انه يجب على المولى سبحانه وتعالى اللطف بعباده، بإرشادهم إلى ما يقربهم إليه تعالى من مناهج السعادة والصلاح. وتحذيرهم عما يبعدهم عنه تعالى من مساقط الهلكة والفساد. وهذا هو الوجه في إرسال الرسل وانزال الكتب ونصب الإمام عليه السلام وهذه القاعدة تقتضي -عند اتفاق الأمة على خلاف الواقع في حكم من الاحكام- أن يلقي الإمام المنصوب من قبل الله تعالى الخلاف بينهم، فمن عدم الخلاف يستكشف موافقتهم لرأي الإمام عليه السلام وفيه:

        (أولا)- عدم تمامية القاعدة في نفسها، إذا لا يجب اللطف عليه تعالى بحيث يكون تركه قبيحا يستحيل صدوره منه سبحانه، بل كل ما يصدر منه تعالى مجرد فضل ورحمة على عباده.

        و(ثانيا)- ان قاعدة اللطف على تقدير تسليمها لا تقتضي إلا تبليغ الاحكام على النحو المتعارف، وقد بلغها وبينها الأئمة عليهم السلام للرواة المعاصرين لهم، فلو لم تصل إلى الطبقة اللاحقة لمانع من قبل المكلفين أنفسهم ليس على الإمام عليه السلام إيصالها إليهم بطريق غير عادي إذ قاعدة اللطف لا تقتضي ذلك، وإلا كان قول فقيه واحد كاشفا عن قول المعصوم عليه السلام، إذا فرض انحصار العالم به في زمان. وهذا واضح الفساد.

        و(ثالثا)- انه إن كان المراد إلقاء الخلاف وبيان الواقع من الإمام عليه السلام مع [الصفحة 139] إظهار انه الإمام، بان يعرفهم بإمامته، فهو مقطوع العدم وإن كان المراد هو إلقاء الخلاف مع إخفاء كونه إماما فلا فائدة فيه، إذ لا يترتب الأثر المطلوب من اللطف، وهو الإرشاد على خلاف شخص مجهول كما هو ظاهر.

        (الوجه الثاني)- ان اتفاق جميع الفقهاء يستلزم القطع بقول الإمام عليه السلام عادة، إذ من قول فقيه واحد يحصل الظن ولو بأدنى مراتبه بالواقع، ومن فتوى الفقيه الثاني يتقوى ذلك الظن ويتأكد، ومن فتوى الفقيه الثالث يحصل الاطمئنان، ويضعف احتمال مخالفة الواقع. وهكذا إلى ان يحصل القطع بالواقع كما هو الحال في الخبر المتواتر، فانه يحصل الظن باخبار شخص واحد، ويتقوى ذلك الظن باخبار شخص ثان وثالث، وهكذا إلى ان يحصل القطع بالخبر به.

        وفيه ان ذلك مسلم في الاخبار عن الحس كما في الخبر المتواتر، لان احتمال مخالفة الواقع في الخبر الحسي إنما ينشأ من احتمال الخطأ في الحس أو احتمال تعمد الكذب، وكلا الاحتمالين يضعف بكثرة المخبرين إلى ان يحصل القطع بالمخبر به وينعدم الاحتمالان. وهذا بخلاف الاخبار الحدسي المبني على البرهان، كما في المقام، فان نسبة الخطأ إلى الجميع كنسبته إلى الواحد، إذ احتمال كون البرهان غير مطابق للواقع لا يفرق فيه بين ان يكون الاستناد إليه من شخص واحد أو أكثر، الا ترى ان اتفاق الفلاسفة على أمر برهاني كامتناع إعادة المعدوم مثلا لا يوجب القطع به؟ نعم لو تم ما نسب إلى النبي صل الله عليه وآله من قوله: “لا تجتمع أمتي على الخطأ” وقلنا بأن المراد من الأمة هو خصوص الامامية، ثبتت الملازمة بين إجماع علماء الامامية وقول المعصوم عليه السلام، ولكنه غير تام سندا ودلالة.

        أما من حيث السند فلكونه من المراسيل الضعاف، وأما من حيث الدلالة فلعدم اختصاص الأمة بالإمامية كما هو ظاهر في نفسه، ويظهر من قوله صلى الله عليه وآله: “ستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة”.

[الصفحة 140]

        وقد يقال بالملازمة العادية بين الإجماع وقول المعصوم عليه السلام، بدعوى ان العادة تحكم بأن اتفاق المرؤوسين على أمر لا ينفك عن رأي الرئيس، فان اتفاق جميع الوزراء وجميع أركان الحكومة على أمر لا ينفك عن موافقة رأي السلطان بحكم العادة.

        وفيه ان ذلك إنما يتم فيما إذا كان المرؤوسون ملازمين لحضور رئيسهم كما في المثال، وأنى ذلك في زمان الغيبة. نعم الملازمة الاتفاقية -بمعنى كون الاتفاق كاشفا عن قول الإمام عليه السلام أحيانا من باب الاتفاق- مما لا سبيل إلى إنكارها إلا انه لا يثبت بها حجية الإجماع بنحو الإطلاق، فان استكشاف قول الإمام عليه السلام من الاتفاق يختلف باختلاف الأشخاص والأنظار، فرب فقيه لا يرى الملازمة أصلا، وفقيه آخر لا يرى استكشاف رأي المعصوم إلا من اتفاق علماء جميع الأعصار، وفقيه ثالث يحصل له اليقين من اتفاق الفقهاء في عصر واحد، أو من اتفاق جملة منهم. وقد شاهدنا بعض الأعاظم انه كان يدعي القطع بالحكم من اتفاق ثلاثة نفر من العلماء، وهم الشيخ الأنصاري والسيد الشيرازي الكبير والمرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي قدس الله أسرارهم، لاعتقاده بشدة ورعهم ودقة نظرهم.

        وقد يقال في وجه حجية الإجماع انه كاشف عن وجود دليل معتبر، بحيث لو وصل إلينا لكان معتبرا عندنا أيضا. وفيه ان الإجماع وان كان كاشفا عن وجود أصل الدليل كشفا قطعيا، إذ الإفتاء بغير الدليل غير محتمل في حقهم فانه من الإفتاء بغير العلم المحرم، وعدالتهم مانعة عنه، إلا انه لا يستكشف منه اعتبار الدليل عندنا، إذ من المحتمل ان يكون اعتمادهم على قاعدة أو أصل لا نرى تمامية القاعدة المذكورة أو الأصل المذكور، أو عدم انطباقهما على الحكم المجمع عليه، كما تقدم في الإجماع المدعى في كلام السيد المرتضى قدس سره.

[الصفحة 141]

        فتحصل مما ذكرناه في المقام انه لا مستند لحجية الإجماع أصلا، وان الإجماع لا يكون حجة، إلا ان مخالفة الإجماع المحقق من أكابر الأصحاب وأعاظم الفقهاء مما لا نجترئ عليه فلا مناص في موارد تحقق الإجماع من الالتزام بالاحتياط اللازم، كما التزمنا به في بحث الفقه.

 

 

السيد الخوئي. الهداية في الأصول

فصل: في حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد

- الهداية في الأصول - تقرير بحث السيد الخوئي للشيخ حسن الصافي الإصفهاني ج 3 ص 151:([2])

        فنقول: قد وقع البحث في أنّه هل الملازمة ثابتة بين حجّيّة الخبر الواحد وحجّيّة الإجماع المنقول به حتى يكون الالتزام بحجّيّة الخبر التزاما بالقول بحجّيّة الإجماع المنقول أيضا، أو أنّها غير ثابتة ويمكن الالتزام بعدم حجّيّة الإجماع ولو مع القول بحجّيّة الخبر الواحد؟ فالبحث عن حجّيّة الإجماع من فروع البحث عن حجّيّة الخبر، فينبغي تقديم البحث عنها على البحث عن الإجماع.

        ثمّ إنّ الشيخ قدّس سرّه قبل الشروع في المقصود مهّد مقدّمة نفيسة لا بدّ من ذكرها، وهي: أنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد -التي عمدتها بناء العقلاء والسيرة القطعيّة- تختصّ بما إذا كان المخبر به من الأمور الحسّيّة التي يعرفها كلّ أحد إذا راجع إليها ولو احتمالا بأن احتمل إحساس المخبر للمخبر به ولم يكن عالما ببناء العقلاء على قبول هذا الخبر والعمل به حتى مع الاحتمال، فلا يحتاج إلى القطع بإحساسه، أو الأمور الحدسيّة التي تكون قريبة من الحسّ، كمسائل الحساب، أو من الأمور الحدسيّة التي أحرز السامع أنّ إخبار المخبر بها مستند إلى إحساسه لمقدّمات وأسباب لو اطّلع عليها بنفسه لقطع بالملازمة بينها وبين المخبر به، وتكون الملازمة عنده تامّة، كما لو أخبر أحد بموت زيد لكن إخباره بذلك لم يكن مستندا إلى رؤيته بل إلى مقدّمات قطعيّة، كصياح ونواح في داره واجتماع الناس على بابها للتشييع وغير ذلك، فإنّ المستمع يحرز أنّه لو رأى بنفسه تلك الأسباب، لقطع بالملازمة بينها وبين الموت، ففي هذه الموارد [الصفحة 152] الثلاثة دلّت الأدلّة على حجّيّة خبر الواحد، ولا يعبأ باحتمال مخالفة قوله للواقع، لأنّ منشأ الاحتمال أمران: أحدهما: احتمال كذبه، وهو ملغى لأجل اعتبار العدالة فيه.

        والثاني: احتمال الغفلة والنسيان والخطأ والسهو، وهذا الاحتمال ممّا لا يعتني به العقلاء في الأخبار الحسّيّة ونحوها، ويكون مدفوعا ببناء العقلاء.

        وأمّا إذا لم يكن الإخبار كذلك بأن يكون [المخبر به] من الأمور الحدسيّة البعيدة عن الإحساس، التي لم تحرز تماميّة الملازمة بين الأسباب التي أخبر المخبر لأجلها وبين تلك الأمور عند نفسه، فلا تدلّ تلك الأدلّة على حجّيّة ذلك الإخبار، ولا بناء من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال خطئه ومخالفة قوله للواقع في هذا الفرض، أي الخبر الّذي بهذا النحو، فعلى هذا لو علمنا أو احتملنا أنّ مدّعي الإجماع يكون إخباره عن قول المعصوم في ضمن دعواه الإجماع عن حسّ بأن رأى المعصوم عليه السلام يقول ذلك ثم ضمّ إلى قوله عليه السلام قول العلماء فأخبر بالإجماع، تكون دعواه الإجماع حجّة بلا إشكال، لأنّه إخبار عن أمر حسّي لو حصل عندنا أيضا لحصل لنا القطع بقوله عليه السلام، وأمّا إذا لم نحتمل ذلك، علمنا أنّ إخباره عنه مستند إلى حدسه، فإن أحرزت تماميّة الملازمة بين المقدّمات التي لأجلها نقل الإجماع وبين المخبر به وهو قول الإمام عليه السلام، فالأمر كما ذكر في حجّيّة نقله بلا إشكال، وإلاّ لو لم يحرز ذلك فلا حجّيّة في نقله الإجماع، حيث إنّ السبيل إلى دعوى الإجماع على النحو الأوّل منتف في أمثال زماننا ولم يدّعه أحد، وعلى تقديره لا بدّ من تكذيبه عملا، كما تدلّ عليه جملة من الأخبار، ولا تفيد دعواه على النحو الثاني، لأنّها مبنيّة على تماميّة الملازمة المدّعاة من العقليّة أو العاديّة وغيرهما، وهي ممنوعة، والشكّ في تماميّة الملازمة كاف في عدم حجّيّة نقله، لما ذكرنا من أنّ الأدلّة الدالّة على [الصفحة 153] حجّيّة الخبر لا تدلّ إلاّ على حجّيّة الخبر الحسّي أو الحدسي القريب منه أو الحدسي الّذي أحرزت فيه تماميّة الملازمة بين المقدّمات وبين ما أخبر به عند السامع، فمع عدم الإحراز والشكّ في تماميّة الملازمة ليس قول المخبر حجّة للسامع، فعلى هذا ليس نقل الإجماع حجّة([3]).

        ثمّ إنّه ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أنّ نقل الإجماع وإن لم يكن حجّة في أمثال زماننا، لما مرّ إلاّ أنّ نقله من مثل الطوسي قدّس سرّه ومن هو في عهده وسابقه ممّن يكون قريب العهد إلى زمان المعصوم عليه السلام، كالسيّد المرتضى وابن زهرة وأمثالهما قدّس سرّه يكون حجّة، لأنّهم وإن لم يروا المعصوم عليه السلام بشخصهم ولم يدّعوا ذلك إلاّ أنّه يحتمل -لقرب عهدهم إلى زمانه- أنّهم نقلوا الحكم ممّن سمعه من الإمام، فيكون إخبارهم عن حسّ، ثمّ ضمّوا إلى ذلك قول الغير، فادّعوا الإجماع، فيكون نقلهم الإجماع حجّة، لما ذكرنا من أنّ مجرّد احتمال ذلك يكفي في حجّيّة الخبر ببناء العقلاء.

        لكن لا يخفى ما فيه، لأنّا نعلم أنّ دعواهم الإجماع ليس مستندها الحسّ ولو بذلك النحو بل بالنسبة إلى الشيخ قدّس سرّه مستندة إلى قاعدة اللطف وبالنسبة إلى السيد وابن زهرة قدّس سرّهما  مستندة إلى أصل أو قاعدة تكون حجّيّتها على نحو الكبرى الكلّيّة مسلّمة عند الكلّ ولكن يكون تطبيقها على مواردها بنظرهم، فيدّعون الإجماع في مورد طبّقوا تلك القواعد أو الأصل عليه، لكون أصل القاعدة أو الأصل إجماعيّا عندهم، ولذلك نرى أنّ السيد قدّس سرّه أفتى بجواز الوضوء بالماء المضاف مستندا إلى الإجماع([4])، لتخيّله جريان البراءة في أمثال المقام، ولو سلّم فمجرّد الاحتمال وأنّ استنادهم في مورد إلى الحسّ -ولو [الصفحة 154] بذلك النحو ما لم يكن احتمالا عاديّا- غير مفيد، لأنّ ما ذكرنا سابقا من كفاية احتمال كون المخبر به عن الحسّ إنّما هو فيما إذا كان الاحتمال عاديّا لا موهوما مع أنّه يمكن أن يستكشف من نفس دعواهم الإجماع أنّ مستندها ليس ذلك، إذ لو كان لمستند هو السماع ممّن سمع الحكم من المعصوم عليه السلام ثم ضمّ قول الغير إليه، فأيّ داع إلى نقل الإجماع؟ بل ينقل الحكم عن المعصوم عليه السلام بواسطة ذلك البعض بعنوان الخبر، وهل يكون نقله الإجماع حينئذ إلاّ أكلا من القفا؟

        بقي في المقام أمر، وهو: أنّه هل الملازمة ثابتة بين فتاوى العلماء وقول المعصوم عليه السلام مطلقا، أم ليست بثابتة مطلقا، أم لا بدّ من التفصيل؟ فنقول: الملازمة المدّعاة إمّا أن تكون عقليّة، بمعنى استحالة انفكاك تلك الفتاوى عن قول المعصوم عليه السلام عقلا، كاستحالة انفكاك المعلول عن علّته، أو أنّها ليست عقليّة بل تكون عاديّة، بمعنى استحالة انفكاكهما عادة لا عقلا، بمعنى أنّ الشخص العادي الّذي لا يكون وسواسيّا ولا مبتلى بما يوجب خروجه عن الطرق المتعارفة يحصل له القطع من تلك الفتاوي برأي المعصوم عليه السلام، للملازمة العاديّة الثابتة بينهما، أو أنّها اتّفاقيّة بمعنى أنّها ليست عقليّة حتى يستحيل الانفكاك عقلا، ولا عاديّة حتى يستحيل الانفكاك عادة، بل اتّفاقيّة قد يتّفق لشخص حصول القطع من تلك الفتاوى برأي المعصوم عليه السلام.

        ولا يخفى أنّ الملازمة العقليّة ممنوعة، وذلك لأنّه ليس مبناها إلاّ أحد أمرين:

        إمّا قاعدة اللطف، فادّعوا وجوب اللطف عليه تعالى، بمعنى أنّه يجب عليه تعالى إيصال العباد إلى مراتبهم الكمالية، ولذا قالوا بوجوب بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام حتى تكمل النفوس البشرية، فيجب عليه تعالى [الصفحة 155] تبليغ أحكامه إلى العباد، لتكمل نفوسهم، فمتى اجتمعوا على الخطأ يجب عليه تعالى أن يبلغ حكمه إليهم ويلقي الخلاف بينهم بنحو من الأنحاء بوسيلة الخلفاء أو الأوصياء وغيرهم حتى لا يقعوا في مخالفة الواقع، فوجب انحطاطهم عن رتبتهم وعدم وصوهم إلى تلك المرتبة، وعلى هذا فمتى اجتمعوا على أمر ولم يكن خلاف بينهم يستكشف من ذلك أنّ الحكم عند المعصوم عليه السلام على طبق ما اجتمعوا عليه، إذ لو كان على خلافه، يجب عليه تعالى إعلامه وتبليغه، وحيث لم يوصل يحكم بأنّ التكليف على طبق ما اجتمعوا عليه. ولا يخفى ما فيه:

        أمّا أوّلا: فلأنّ قاعدة اللطف -على تقدير تسليمها- لا تقتضي إلاّ تبليغ الأحكام على النحو المتعارف لا على خلافه، والمفروض أنّه تعالى قد بلّغ أحكامه إلى عباده بالطريق المتعارف، فأوحى إلى نبيّه صلى الله عليه وآله ثم أمره بتبليغها إلى العباد وإلى أوصيائه حتى يبلّغوها إليهم، فما هو وظيفته تعالى قد أدّاه، وإنّما عرض الاختفاء لبعض الأمور الخارجية التي لا ربط لها به تعالى، كإخفاء الظالمين، وحينئذ لا دليل على وجوب تبليغه ثانيا بطريق آخر غير متعارف وإلقائه الخلاف بينهم مع أنّه لو وجب ذلك لا يفرّق بين جميع العلماء وعلماء بلد واحد، فيجب إلقاء الخلاف بينهم إذا اجتمعوا على خلاف الواقع، بل يجب ذلك فيما إذا انحصر في عصر عالم واحد وكان اجتهاده على خلاف الواقع، وهذا ممّا لم يتوهّمه أحد.

        وأمّا ثانيا: فلأنّه إن كان المراد أنّه يجب على الإمام عليه السلام تبليغ الأحكام وإلقاء الخلاف مع إظهار إمامته وبعنوان كونه إماما، فليس كذلك قطعا.

        وإن كان المراد أنّه يجب عليه ذلك حتى مع إخفاء الإمامة، فهذا [الصفحة 156] لا فائدة فيه، ولا تترتّب عليه ثمرة، إذ لا يسمع أحد من الشخص المجهول الحال حكما أبدا، فقاعدة اللطف - على تقدير تسليمها - ممّا لا يفيد لإثبات الملازمة العقلية. نعم، إن صحّ ما أسنده العامّة إلى النبي صلى الله عليه وآله من أنّه “لا تجتمع أمّتي على خطأ”([5]) لكان اتّفاق الأمّة موجبا لحصول القطع بالحكم الواقعي، إذ لو كان الاجتماع على خلاف الواقع، لوجب إلقاء الخلاف فيهم حتى لا يجتمعوا على الخطأ، ولكن صحّة ذلك ممنوعة.

        وإمّا أنّ مبنى دعوى الملازمة العقليّة من جهة أنّ تراكم الظنون الحاصلة من تلك الفتاوى يوجب وصولها إلى حدّ يوجب القطع بالحكم حيث إنّ كلّ فتوى يوجب حصول مقدار من الظنّ، فإذا انضمّ بعضها إلى بعض، يوجب تقوية الظنّ وضعف احتمال الخلاف، وهكذا إلى مرتبة لا يبقى معها احتمال الخلاف أصلا، كما هو الحال في خبر الواحد والمتواتر، إذ من اجتماع تلك الأخبار يحصل اليقين بالمخبر به إذا وصلت إلى حدّ التواتر.

        ولكن لا يخفى أنّ تراكم الظنون إنّما يوجب حصول القطع في مثل التواتر الّذي يكون المخبر به فيه أمرا حسّيّا، ومتى ما تراكمت الظنون في الأمر الحسّيّ يوجب شدّتها إلى أن تصل إلى حدّ القطع، وذلك لأنّ احتمال مخالفة خبرهم للواقع مع أنّ المخبر به أمر حسّيّ غير معقول عادة، لأنّ منشأ هذا الاحتمال إمّا الخطأ أو احتمال التعمّد في الكذب ونحوهما، وكلّها مستحيل عادة، ولذلك ترى حصول القطع من الإخبار بالهلال فيما إذا كثرت الأخبار عن الرؤية بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأمّا في مثل الفتاوى المبنيّة على [الصفحة 157] الحدس والاجتهاد والنّظر فلا يكون اجتماعها وتراكمها موجبا لحصول القطع بالواقع، إذ كما يحتمل الخطأ في حقّ واحد منهم لأجل الاشتباه في مقدّمات اجتهاده كذلك يحتمل في حقّ الجميع، فلا توجب كثرة ذلك حصول القطع بالحكم الواقعي، ولذلك ترى عدم حصول القطع، من إخبار جميع الحكماء باستحالة إعادة المعدوم، لأنّه مبنيّ على اجتهادهم، ويمكن عادة خطؤ جميعهم. هذا كلّه في الملازمة العقليّة.

        وأمّا دعوى الملازمة العاديّة بين الفتاوى ورأي المعصوم عليه السلام بأن تكون تلك الفتاوى الكثيرة من العلماء الحاكين عن قول رئيسهم -وهو الإمام عليه السلام- ملازمة عادة للقطع بفتوى الرئيس بحيث يستحيل انفكاكها عادة عنه، لأنّ إخبار جماعة كثيرة عن قول رئيسهم أو شيخهم أو ملكهم مع كونهم مرءوسين له أو أصحابه أو أهل مملكته ملازم للقطع بقول ذلك الرئيس أو الشيخ أو الملك لمن يكون متعارفا ولا يكون وسواسيّا، فالملازمة وإن لم تكن عقليّة لكنّها عاديّة.

        ولا يخفى أنّ هذا أيضا غير صحيح، لأنّ تلك الكبرى -وهي حصول القطع بقول الرئيس عادة من حكاية المرءوسين- وإن كانت مسلّمة إلاّ أنّها فيما إذا كان المرءوسون ممّن أدركوا خدمة الرئيس وأخذوا الكلام عنه أو احتملنا ذلك، لما ذكرنا من كفاية الاحتمال في هذا المقام، وأمّا في مثل المقام ممّا لم يدركوا ولا نحتمل ذلك في حقّهم، فلا يكون إخبارهم عن قوله حجّة، لأنّه يرجع إلى الإخبار عن أمر حدسيّ وقد ذكرنا أنّه لا يكون حجّة ولا يكون إخبارهم عن ذلك ملازما للقطع بقول رئيسهم.

        وأمّا الملازمة الاتّفاقيّة: فهي ممّا لا يقبل الإنكار إلاّ أنّها ممّا لا ينضبط، إذ قد يحصل القطع لأحد من فتوى عشرة من العلماء ولا يحصل ذلك للآخر من مثلها بل من فتوى عشرين، فحصول القطع بقول المعصوم عليه السلام من فتوى [الصفحة 158] العلماء اتّفاقا ممّا لا يكون تحت قاعدة، فنقل الإجماع ممّن قطع بقول المعصوم عليه السلام من فتوى جماعة لا يكون حجّة لغيره إلاّ إذا أحرز الغير أنّ ما قطع بسببه برأي المعصوم عليه السلام يكون موجبا لقطعه أيضا وتكون الملازمة بينه وبين لقطع ثابتة عنده، وحيث إنّ إحراز ذلك من المدّعين للإجماع ممّا لا يمكن فلا يكون نقلهم الإجماع حجّة.

        ثمّ إنّه بعد ما لم يمكن استكشاف رأي المعصوم عليه السلام من اتّفاق العلماء وإجماعهم فهل يمكن استكشاف حجّة معتبرة من ذلك حتى يكون الإجماع حجّة من هذه الجهة أم لا؟ فنقول: تارة يكون في المقام أصل أو قاعدة أو عموم أو إطلاق يمكن اعتماد المجمعين على ذلك في الحكم لكونه مسلّما عندهم، فلا يكون الاتّفاق حينئذ كاشفا عن وجود حجّة معتبرة غيرها في البين، إذ لعلّهم اعتمدوا في ذلك الحكم على ذلك الأصل أو القاعدة أو العموم، فإذا فرضنا عدم حجّيّة ذلك الأصل أو القاعدة أو العموم عندنا، لا يكون الإجماع كاشفا عن دليل معتبر غيرها.

        وأخرى لا يكون في المقام دليل يحتمل اعتمادهم عليه، وحينئذ إن أحرزنا أنّ اتّفاق المجمعين ليس لأجل تبعيّة اللاحقين منهم لإجماع السابقين بل لأجل أنّ الجميع من السابقين واللاحقين قد استندوا في الفتوى على مدرك معتبر عندهم، لأنّ عدالتهم مانعة عن الفتوى بغير علم وإن لم نعلم ذلك المستند بعينه وإنّما نعلمه إجمالا، فيكون إجماعهم كاشفا قطعا بحسب العادة عن اعتبار ذلك المستند عندنا أيضا لو اطّلعنا عليه، فيكون حجّة، لاستحالة أن يكون فهم الجميع على خلاف فهمنا في الدلالة على الحكم ليكشف كشفا قطعيّا عن اعتبار ذلك المستند وتماميّة دلالته إجمالا. ولكن إحراز ذلك في [الصفحة 159] نهاية البعد، وليست الإجماعات من هذا القبيل. وأمّا إذا لم يحرز ذلك، بل يحتمل أنّ فتوى المتقدّمين لأجل أصل أو قاعدة والمتأخّرين قد اعتمدوا في فتواهم على إجماعهم على حسب مبانيهم من قاعدة اللطف وغيرها، فلا يكون الإجماع كاشفا عن دليل معتبر عندنا، إذ لعلّ ما استند إليه المتقدّمون لم يكن حجّة، والمفروض أنّ المتأخّرين لم يعتمدوا في فتواهم إلاّ على إجماع السابقين، فلا يكون إجماع الجميع كاشفا عن وجود الحجّة المعتبرة.

        والظاهر أنّ الإجماعات المذكورة في الكتب من هذا القبيل، والشاهد على ذلك أنّ السابقين على الشيخ قدّس سرّه لم يكن الاستدلال متعارفا عندهم، وإنّما كانوا يذكرون الفتوى مجرّدة، كما في الرسائل العمليّة، ويظهر ذلك من ملاحظة كتبهم، فلعلّ مستند حكمهم ما ذكرنا، واللاحقين له لم يذكروا في مقام الاستدلال إلاّ إجماعات السابقين، فيكون اتّكالهم على إجماعهم لا على مستندهم، وإلاّ لذكروا ذلك المستند في مقام الاستدلال، وحينئذ تصير الإجماعات -كما ذكرنا- غير كاشفة عن الدليل المعتبر، فقد ظهر عدم حجّيّة نقل الإجماع، لعدم كشفه عن رأي المعصوم ولا عن وجود حجّة معتبرة، ولكن مع ذلك مخالفة الإجماع في غاية الإشكال، فلا بدّ في موارده من التأمّل والتدبّر التامّ. هذا تمام الكلام في الإجماع المنقول.

 

 

السيد الخوئي. دراسات في علم الأصول

المبحث الثالث: حجية الإجماع المنقول

- دراسات في علم الأصول - تقرير بحث السيد الخوئي للسيد علي الشاهرودي ج3 ص141:([6])

        وكان الأولى تأخيره عن بحث حجية الخبر الواحد، لترتبه عليه، إذ هو من شئونه ومتمماته، فانه بعد إثبات حجية الخبر يبحث عن اختصاصها بنقل رأي الإمام عليه السلام بعنوان الرواية، وعمومه للنقل بعنوان الإجماع، أو الاتفاق، أو نفي الخلاف. وكيف كان يقع الكلام فيها من جهات.

الجهة الأولى: في تقسيم الشيخ الأنصاري للإخبار عن الشيء إلى أقسام ثلاثة

        أفاد الشيخ رحمه الله ما حاصله([7]): أن الإخبار عن الشي‏ء تارة يكون عن حس ومشاهدة، إما جزما وإما احتمالا. وأخرى عن حدس قريب من الحس بحيث لا يكون له مقدمات بعيدة، كالإخبار بأن حاصل ضرب ثلاثة في ثلاثة تسعة، أو بغيره من نتائج الحساب والهندسة.

        وثالثة يكون عن حدس كان منشؤه تام السببية في نظر المنقول إليه، بحيث لو فرض اطلاعه على ذلك السبب لقطع بذلك الأمر الحدسي، لعلمه بالملازمة بينهما.

        ورابعة: يكون الإخبار عن حدس بعيد عن الحس من دون أن يكون سببه تاما عند المنقول إليه.

إذا وضح هذا نقول: استقرت سيرة العقلاء على العمل بالخبر مطلقا في الأمور [الصفحة 142] المحسوسة وما كان قريبا من الحس، لقلة وقوع الاشتباه فيها، وما يرجع إلى الاخبار عن الحس كما في الفرض الثالث، فان حكاية المسبب بعد فرض ثبوت الملازمة بينه وبين سببه حتى عند المحكي له حقيقة تكون اخبارا عن تحقق السبب، الّذي هو أمر حسي، فان في جميع ذلك لا منشأ لتوقفهم عن العمل بخبر العادل إلاّ احتمال تعمد كذبه، وهو منفي بالعدالة والوثوق، أو احتمال غفلته وهو منفي بأصالة عدم الغفلة.

        وأما في غير ذلك من الأمور الحدسية فيحتمل أن يكون خطاء المخبر مستندا إلى اشتباهه، فانه غير مأمون فيها، وحيث لا دافع لهذا الاحتمال، فلتوقفهم عن العمل به مجال، ولم يثبت منهم بناء على ذلك. وعلى هذا فناقل الإجماع ان كان معتمدا في نقله على مشافهة الإمام والسماع منه فهو ينقل فتوى الإمام بعنوان الإجماع، فلا يتوقف في الأخذ بقوله، غير انا نقطع بعدم تحققه، خصوصا في الإجماعات المنقولة من المتأخرين عن الغيبة الصغرى، مع انا مأمورون بتكذيب مدعى الرؤية عملا.

        وان كان الناقل معتمدا على قاعدة اللطف ونحوها فالمنقول إليه ان كان يرى الملازمة بين ذاك الاتفاق وقول المعصوم أخذ به، وإلاّ فلا يكون حجة بالقياس إليه.

        وقد ذهب بعض الأعاظم إلى حجية الإجماع المنقول من القدماء، بدعوى:

        احتمال كون مستندهم في ذلك هو السماع من المعصوم عليه السلام ولو بالواسطة، لقرب عصرهم بعصر الحضور، ثم ضموا إليه فتاوى بقية العلماء، ونقلوا الجميع بعنوان الإجماع.

        وفيه:

        أولا: ان المتتبع لإجماعات القدماء كالشيخ الطوسي والسيد المرتضى وأمثالهم يقطع بعدم استنادهم في ذلك إلى ما ذكر، فان المستند للشيخ في حجية الإجماع قاعدة اللطف، والسيد كثيرا ما ينقل الإجماع على حكم يراه موافقا للقاعدة أو الأصل، كدعواه الإجماع على جواز الوضوء بالمائع المضاف اتكالا على اتفاقهم على أصل البراءة، مع انه لا قائل به أصلا.

[الصفحة 143]

        وثانيا: لو كان الأمر على ما ذكر لكان الأولى النقل عن المعصوم بعنوان الاخبار عنه، والنقل بعنوان الإجماع يكون من قبيل الأكل من القفا.

        وثالثا: ان هذا لاحتمال موهوم ملحق بالوسواس، والّذي يكفي في حجية قول المخبر من احتمال كونه عن حس إنما هو الاحتمال العقلائي لا الموهوم.

الجهة الثانية: في مدرك حجية الإجماع الّذي هو أحد الأدلة الأربعة

         وبيان الملازمة بين الإجماع وقول المعصوم عليه السلام، أما عقلا بحيث يستحيل عدم كاشفيته عنه، واما عادة، واما اتفاقا عند الجميع أو عند بعض دون بعض.

        وتقريب الملازمة العقلية من وجهين:

        الأول: ما استند إليه الشيخ الطوسي رحمه الله من قاعدة اللطف، بمعنى انه يجب على المولى سبحانه لطفا بعباده ان لا يمنعهم عن التقرب والوصول إليه، بل عليه أن يكمل نفوسهم القابلة، ويرشدهم إلى مناهج الصلاح، ويحذرهم عن مساقط الهلكة، وهذا هو السبب في لزوم بعث الرسل وإنزال الكتب، وعليه فلو اتفقت الأمة على خلاف الواقع في حكم من الأحكام لزم على الإمام المنصوب حجة على العباد إزاحة الشبهة بإلقاء الخلاف بينهم، فمن عدم الخلاف يستكشف موافقة رأي الإمام عليه السلام دائما، ويستحيل تخلفه عنه.

        وفيه:

        أولا: بعد تسليم صحة القاعدة، ان اللطف انما يقتضي تبليغ الأحكام على النحو المتعارف، وقد بينها الأئمة عليهم السلام للرواة المعاصرين لهم، فإذا فرضنا ان الطبقة الثانية أو الثالثة من الرّواة اضطرها الخوف والتقية إلى ستر الأحكام، ولم تصل إلى الطبقة اللاحقة، فليس على الإمام عليه السلام إيصالها إليهم بطريق الإعجاز، والقاعدة لا تقتضي ذلك، وإلا كان قول فقيه واحد حجة إذا فرض انحصار العالم به في زمان، وذلك من الفساد بمكان.

        وثانيا: إلقاء الخلاف وبيان الواقع من الإمام عليه السلام لو كان بإظهار شخصه لهم، [الصفحة 144] وتعريفهم بإمامته فهو مقطوع العدم. وان كان مع خلفاء ذلك، فلا أثر لخلاف شخص مجهول، فتأمل.

الوجه الثاني: لإثبات الملازمة العقلية قياس الاخبار عن حدس، بالحكاية عن حس، فكما لو تواترت الاخبار الحسية يحصل القطع بمؤداها كذلك في الحكايات الحدسية، مثلا إذا اتفق فقهاء العصر على حكم فمن رأي الفقيه الأول يحصل الظن بالواقع، ومن فتوى الفقيه الثاني يحصل الاطمئنان، ويتأكد ذلك من آرائهم إلى أن يحصل القطع بالموافقة.

        وفيه: ان القياس مع الفارق، لأن منشأ احتمال الكذب في الاخبار الحسي إما الخطأ في الحس، أو تعمد الكذب، والأول بعيد للغاية، والثاني يدفعه وثاقة المخبر، واحتمال كلا الأمرين يضعف بكثرة الحكاية إلى أن يقطع بعدمها، وفي ما نحن فيه حيث كان المخبرون معتمدين على الحس فمن القريب جدا اشتباههم في الاستدلال، فان نسبة الاشتباه إلى الجميع كنسبته إلى الواحد، الا ترى ان اتفاق الفلاسفة جلهم أو كلهم على أمر برهاني لا يوجب القطع به. نعم لو تم ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله “لا تجتمع أمتي على الخطأ”[1] ثبتت الملازمة، إلاّ انه بمعزل عن الواقع.

        واما الملازمة العادية بينهما فتقريبها: ان العادة تمنع من اتفاق المرءوسين على أمر من دون متابعة رأي الرئيس فيه.

        وفيه: ان ذلك انما يكون فيما إذا ثبت حضورهم معه، وملازمتهم إياه، وأنى يثبت ذلك في عصر الغيبة.

        واما الملازمة الاتفاقية، فلا سبيل إلى إنكارها، ولكن لا يثبت بها حجية الإجماع مطلقا، فان استكشاف رأي الإمام عليه السلام منه يختلف حسب اختلاف الحاكي

[1] بحار الأنوار: 4-36. وقد ورد في كنز العمال: 1-206 “لن تجتمع أمتي على ضلالة”.

[الصفحة 145]

        والمحكي له، فرب شخص لا يرى الملازمة أصلا، وآخر لا يستكشف رأي الحجة إلاّ من اتفاق العلماء في جميع الأعصار، وثالث يحصل له اليقين من اتفاق أهل عصر واحد، أو من اتفاق جملة منهم، وقد شاهدنا بعض الأعاظم يدعى القطع بالحكم من اتفاق الشيخ الأنصاري والسيد الشيرازي والميرزا محمد تقي الشيرازي نور اللّه ضريحهم، لاعتقاده بشدة ورعهم، ودقة فكرهم.

الجهة الثالثة: في كشف الإجماع عن دليل معتبر عند المجمعين بحيث لو وصل إلينا لكان معتبرا عندنا

        وهذا أيضا من مدارك حجية الإجماع، وتحقيق ذلك: انه لو كان في البين أصل أو قاعدة أو إطلاق يحتمل اعتماد المجمعين عليه فليس له تلك الكاشفية، إذ لعل استنادهم كان إلى ذلك. وان لم يوجد ما يحتمل كونه مدركا لفتواهم، فلا محالة يكشف اتفاقهم عن وجود دليل معتبر عندهم لو وصل إلينا لاعتمدنا عليه، اما وجود أصل الدليل، فلأنّ عدالتهم قاضية بعدم إقدامهم على الفتوى من غير مستند صحيح، واما اعتباره عندنا فللاطمئنان بفهمهم وفضلهم. نعم في بعض الإجماعات المنقولة من قدماء الأصحاب نحتمل أن يكون اعتمادهم على أصل أو قاعدة، ولم يذكروها في كتبهم لأن دأبهم لم يكن على ذكر الاستدلال، وبعد ما حدث بيان الاستدلال وضبطه في الكتب في زمن الشيخ الطوسي رحمه الله أخذوا بإجماعاتهم، واتبعوهم في موارد الإجماعات، فصارت المسألة إجماعية.

فالإنصاف ان الإجماع غير معتبر، ولكن مع ذلك لا تصح مخالفته إلاّ مع الفحص التام.


 

([1]) النسخة المعتمدة:  نشر مكتبة الداوري- قم- الطبعة الخامسة 1417.

([2]) النسخة المعتمدة:  نشر مؤسسة صاحب الأمر عليه السلام- قم- 1417.

([3]) فرائد الأصول: 47.

([4]) المسائل الناصرية (ضمن الجوامع الفقهية): 215، المسألة 4.

([5]) كشف الخفاء: 2- 470- 2999، وفيه بدل "خطأ": "ضلالة".

([6]) النسخة المعتمدة: نشر دائرة معارف الفقه الإسلامي- قم- 1419.

([7]) فرائد الأصول: 1-135 (ط. جامعة المدرسيين).