موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع

 

 

 

إجماعات فقهاء الإمامية

 

 

المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع

 

 

 

محمد حسين الإصفهاني. الفصول الغروية

القول في الإجماع/ مقدّمة

-  الفصول الغروية - محمد حسين الإصفهاني ص242:([1])

        الإجماع في اللغة يأتي لمعنيين العزم ومنه لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل وبه فسّر قوله تعالى {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ}، والاتفاق ومنه قولك أجمع القوم على كذا إذا اتفقوا وأما في الاصطلاح فقد نقل من معناه الأخير إلى اتفاق مخصوص واختلفوا في تعريفه، فعرّفه مخالفونا بحدود، فعن النظام أنه قول قامت حجته ورام بذلك الجمع بين إنكار كونه حجة وبين تحريم مخالفته، وهذا منقوض بقول غير هذه الأمة عن حجة، وبقولهم في غير المسائل الشرعية نفسها أو فيها عن تقليد لقيام حجة التقليد أو لقيام حجته عند مجتهده وبقول آحاد الفقهاء عن حجة وبقول النبي صلى الله عليه وآله إن جعلنا المعجزة القائمة على صدق قوله حجة أو قام على قوله حجة فإن شيئا من ذلك لا يسمّى إجماعا، وعرفه الغزالي بأنه اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله على أمر من الأمور الدينية واحترز بإضافة الأمة إليه صلى الله عليه وآله عن اتفاق سائر الأمم، وبقوله على أمر من الأمور الدينية عن اتفاقهم على ما عداها من الأمور اللغوية والعادية ونحوها، فإن ذلك لا يسمّى إجماعا، ويرد عليه أن الظاهر من أمته صلى الله عليه وآله كل من تابعه لأنها في معنى الجمع المضاف فيتناول العوام أيضا، وليس قولهم معتبر في الإجماع عند محققيهم إلا أن ينزل الحد على القول الأخير، بل يتناول من لم يوجد بعد من الأمة واعتبار موافقتهم يؤدي إلى امتناع تحققه، اللهمّ إلا في العصر المتأخر أو حيث يقطع بموافقتهم أيضا بناء على حمل الموافقة على ما يتناول مثل هذه الموافقة الشأنية أيضا وحصوله في غير الضروريات بعيد بل يتناول من تديّن بشرعه صلى الله عليه وآله من الجنّ أيضا، واعتبار قولهم في الإجماع يوجب عدم إمكان الاطلاع عليه عادة، ويمكن التفصّي عن هذا بأن الظاهر من الأمة من تابعه من الإنس خاصّة كما هو الظاهر من الرواية التي تمسكوا بها على حجية الإجماع هذا وأيضا ينتقض طرده باتفاقهم على فعل عبادة من حيث كونه اتفاقا على فعلها لأنها أيضا أمر من الأمور الدينية ولا يسمى إجماعا وإن كان اتفاقهم على كونها عبادة إجماعا.

        ويمكن دفع الأول بحمل الأمة على علمائها مجازا بالنقل أو بالحذف، وفيه تعسّف. والثاني بتخصيصهم بالموجودين في عصر واحد وقد ارتكبوا الوجهين في لفظ الرواية فيكون التعريف ناظرا إليه. والثالث بأنّ قيد الحيثيّة معتبرة في الأمة أو في القيد الأخير، والمراد اتفاقهم من حيث كونهم أمة أو على أمر دينيّ من حيث كونه أمرا دينيّا، ولا يخفى أنّ التعويل في الحد على مثل هذا الإشعار ليس على ما ينبغي.

        وعرّفه الفخر الرازي بأنه اتفاق أهل الحلّ والعقد من أمة محمّد صلى الله عليه وآله على أمر من الأمور، والمراد بأهل الحلّ والعقد على ما نبّه عليه غير واحد منهم المجتهدون واحترز به عن اتفاق العوام، فإنه لا يعتبر في الإجماع لا منفردا ولا منضما، وقوله على أمر من الأمور قيد توضيحي لأن الاتفاق لا يعقل إلا عليه وكان الغرض منه التنبيه على أنه لا يختص بأمر معين، ويرد عليه مضافا إلى ما مرّ في الإشكال الثاني على الغزالي أن أمرا من الأمور يعمّ الشرعيات وغيرها بل يتناول غير الأحكام أيضا كالأكل والشرب، ولا يسمّى اتفاقهم عليه إجماعا، ويمكن دفعه باعتبار قيد الحيثيّة في القيد الأول فيكون المراد اتفاق أهل الحلّ والعقد من حيث كونهم أهل الحلّ والعقد، ولا ريب في أن اتفاقهم على غير الأحكام الشرعيّة ليس بهذا الاعتبار.

        وعرّفه الحاجبي بأنه اجتماع المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر، ونبّه بقوله في عصر على أن اجتماع السّلف والخلف غير معتبر في كون الاتفاق إجماعا، والكلام في سائر القيود واضح مما مرّ، ويشكل عليه بأنّ المفهوم من الأمر في الحد ليس إلا معنى الشأن دون ما يقابل النهي لوضوح عدم استقامة العكس على تقديره فيرد على طرده ما مر في الإشكال المتأخر، ويمكن التفصّي عنه بما مر لكنه قد التزم بدخول اتفاقهم على أمر دنيوي في الإجماع، واعترض على الغزالي في أخذه قيد الدين، ويردّ بأن الأمر الدنيوي إن تعلق به عمل أو اعتقاد فهو ديني وإلاّ فلا يتصوّر حجيّة فيه.

وأمّا أصحابنا رحمهم الله فقد أوردوا له أيضا حدودا فعرفه العلامة بما ذكره الفخر الرازي وقد سبق، ويشكل مضافا إلى ما مرّ بأنهم عرفوا أهل الحل والعقد بالمجتهدين، فلا تناول المعصوم على مذهب الإمامية مع أن حجيته عنده من جهة دخوله فيهم، اللهمّ إلا أن يريد به مطلق أحكام الشرع ولم أجد من يفسره بهذا المعنى، لكنه أوفق بمعناه الأصلي وأيضا يصدق الحد المذكور على الاتفاق الذي يعرف فيه قول المعصوم بشخصه مع أنه لا يسمّى عندنا إجماعا، وأيضا إن أراد بأهل الحلّ والعقد الجميع كما هو الظاهر لم ينعكس لخروج ما لو اتفق ما دون الجمع وعلم بدخول المعصوم فيهم فإن ذلك عندنا إجماع على ما صرّح هو به وغيره، وإن أراد ما يتناول البعض لم يطرد لصدقه على اتفاق كل بعض وإن لم يعلم بدخول المعصوم فيهم بل وإن علم بخروجه منهم.

        وعرفه بعضهم بأنه اجتماع رؤساء الدين من هذه الأمة في عصر على أمر، وهذا الحد هو حدّ الحاجبي، وإنما تصرف فيه بتبديل المجتهدين برؤساء الدين ليتناول المعصوم لاعتبار دخوله فيهم عنده وعدم صدق عنوان المجتهد عليه، ويرد عليه ما أوردناه على الحاجبي مضافا إلى الإشكالين الأخيرين اللذين أوردناهما على حدّ العلامة.

        وعرّفه في المعالم بأنه اتفاق من يعتبر قوله من الأمة في الفتاوى الشرعية على أمر من الأمور الدينية والوجه في قيوده ظاهر ممّا مرّ، ويشكل عليه بأن المراد بالموصولة إما الجنس أو العموم فإن كان الأول فهو مع كونه مجازا أو خروجا عن الظاهر من غير قرينة يوجب نقض طرد الحد باتفاق كل جماعة وإن لم يعلم دخول المعصوم فيهم أو علم بعدم دخوله فيهم وأيضا [الصفحة 243] ينتقض باتفاق المعصومين فإنه لا يعدّ عندنا إجماعا وإلاّ لكانت جميع الأحكام الشرعيّة عندنا إجماعيّة ولو بحسب الواقع، فإن قلت المراد باتفاقهم في الفتوى أن يكون كل واحد منهم مفتيا والفتوى كالاجتهاد لا يصدق عرفا في حق المعصوم، قلت هذا ممنوع  لو سلّم فالمراد بها هنا المعنى الأعم لئلا يفسد الحد، إذ الغرض دخول الإمام عنده في المتفقين، وإن كان الثاني فهو مع عدم انعكاسه على مذهبه غير مطرد لصدقه على ما لو علم بدخول المعصوم فيهم بعينه، ولم يكن لقولهم مدخل في الكشف عن قوله ،فإن ذلك لا يسمّى إجماعا عندنا كما سيأتي.

        فالصواب أن يعرّف الإجماع على قول من يعتبر دخول المعصوم في المتفقين على وجه لا يعرف نسبه بأنه اتفاق جماعة يعتبر قولهم في الفتاوى الشرعيّة على حكم ديني بحيث يقطع بدخول المعصوم فيهم لا على التعيين ولو في الجملة، أو اتفاقا جماعة على حكم ديني يقطع بأن المعصوم أحدهم لا على التعيين مطلقا.

        فخرج اتفاق المعصومين صلوات الله عليهم لأن المعصوم يعرف فيهم بعينه مع أن الظاهر من اعتبار دخول المعصوم في المتفقين أن يكون فيهم غير معصوم، والمراد بقولنا في الجملة عدم التعيين بين البعض ومطلقا عدم التعيين بين الكلّ، والكلام في سائر القيود ظاهر مما مرّ والنسبة بين الحدّين عموم من وجه، لأن الأول يتناول اتفاق جماعة يقطع بأن بعضهم على التعيين غير المعصوم ولا يتناول ما إذا قطع بدخول المعصوم في جماعة لا يعتبر قول من عداه في الفتاوى كالعوام، والثاني على العكس، والذي يساعد عليه مصطلحهم على ما يظهر من تضاعيف كلماتهم هو الأول، والذي يقتضيه في الحجية هو الثاني.

        فإن قلت لعلّ الوجه أن الواقع منه ليس إلا هذه الصورة وهي ما إذا كان المتفقون ممن يعتبر قولهم في الفتاوى وإن ضم من علم أنه ليس بمعصوم استطرادا، قلت الاختصاص في الوقوع لا يوجب التخصيص في الماهيّة، مع أن الظاهر عدم وقوع تلك الصورة أيضا كما سنشير إليه، والاستطراد لا يصلح للتعليل لأن الكلام فيما هو حجة حقيقة هذا والذي يساعد عليه النظر الصحيح أنّ مورد الإجماع لا يختص بالصّورة المذكورة بل له صور أخرى أيضا كما سيأتي، أظهرها أن يتفق جماعة مطلقا أو من أهل الفتوى على قول دينيّ بحيث يكشف عن موافقة قول المعصوم لهم ولو بمعونة ضميمة خارجيّة، والوجه في الترديد ما عرفت والطريقة التي تفرد بها الشيخ في الإجماع جارية على هذه الصورة ومن اعتبر في الإجماع دخول المعصوم في المتفقين، فله أن يعرف هذه الصورة بأنها اتفاق جماعة يقطع بدخول المعصوم فيهم بعينه قطعا مستندا إلى اتفاق من عداه، ويردّد بينها وبين ما مرّ والفرق بين هاتين الصورتين اعتباري، والمراد بالقول في هذه الحدود الرأي والمذهب سواء دل عليه بقول أو فعل أو غيرهما.

        فقد تلخص مما حققنا أن الإجماع عبارة عن اتفاق جماعة على حكم ديني يقطع بأن المعصوم أحدهم لا بعينه أو يقطع به فيهم بعينه ويكون القطع بقوله مستندا إلى اتفاق الآخرين، ولك أن تجعل الإجماع في الصورة الثانية عبارة عن الاتفاق الكاشف دون المجموع المركب من الكاشف والمستكشف عنه، ولو عرف الإجماع بأنه الاتفاق الكاشف عن قول المعصوم على حكم ديني كان أخصر وأجمع.

فصل اختلف القائلون بحجيّة الإجماع في مدركها

        فلأصحابنا رضوان اللّه عليهم طرق ثلاثة؛ الأول: ما ذكره العلامة وجماعة وهو أن الأمة إذا قالت بقول فقد قال المعصوم به أيضا لأنه من الأمة بل سيّدها ورئيسها والخطأ مأمون عليه، وهذا التعليل ناظر إلى تفسير الإجماع باتفاق جميع علماء هذه الأمة فمرادهم باتفاق الأمة هنا اتفاق علمائها بقرينة الحد، وكان السّر في تخصيص الإجماع وطريقه باتفاق الكل مع عدم اختصاصها عندهم به كما نبّهنا عليه هو أنهم تكلموا أولا على الإجماع بالمعنى المتداول عند العامة ثم نبّهوا على الصورة التي ليس فيها اتفاق الكل جريا على طريقة الخاصّة.

        هذا واعترض على الطريق المذكور بأنه إن علم بوجود قول المعصوم بين الأقوال فالحجة هو قوله ولا مدخل لانضمام قول الآخرين إليه فيلغوا اعتباره وإن لم يعلم بطل دعوى موافقته لهم.

        وأجيب بوجهين الأول ما حكاه بعضهم عن المرتضى رضي الله عنه بأنّا لسنا بادئين بالحكم بحجية الإجماع حتى يرد كونه لغوا وإنما بدأ بذلك المخالفون وعرضوه علينا فلم نجد بدا من موافقتهم عليه لعدم تحقق الإجماع الذي هو حجة عندهم في كل عصر إلا بدخول الإمام عليه السلام في المجمعين سواء اعتبر إجماع الأمة أو المؤمنين أو العلماء فوافقناهم في أصل الحكم لكونه حقا في نفسه وإن خالفناهم في علّته ودليله.

        هذه عبارته المنقولة عنه ولا يخفى أن مرجع كلامه إلى إنكار كون الإجماع حجة مستقلّة ودليلا برأسه يعتد به كما هو المعروف بين أصحابنا حيث إنهم جعلوه أحد الأدلّة الأربعة وذكروه في مقابلة العقل والكتاب والسنّة وأطالوا البحث عنه، فإن ما هذا شأنه لا يكون البدأة بحجيته لغوا كما ذكره الثاني ما وجدته في كلام بعض المعاصرين من الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي، وحاصله: أن الإشكال المذكور إنما يراد إذا كان المقصود العلم بأقوال الأمة أو بقول الإمام عليه السلام فيهم على التفصيل والتعيين وليس كذلك، بل المقصود العلم بقول الإمام في ضمن العلم بقول الأمة إجمالا فإنا إذا علمنا علما إجماليا بأن جميع الأمة متفقة على حكم نحكم بأن ذلك حجة لأن الإمام من جملتهم، فالعلم بقول الإمام هنا كالعلم بالمطلوب في كبرى الشكل الأول فإن العلم بجسميّة الإنسان في قولنا كل حيوان جسم إجمالي لا تفصيلي فلا يتوقف عليه التصديق بقولنا كل حيوان جسم، وبه يندفع ما أورده بعض أهل التصوّف على أهل النظر من أن الشكل الأوّل دوريّ وبقية الإشكال راجعة إليه فيبطل النظر والاستدلال، ثم قال وهذا هو السر في اعتبارهم وجود شخص مجهول النسب في المجمعين ليجامع العلم الإجمالي، ولو بدلوا ذلك بعدم العلم بأجمعهم تفصيلا لكان أولى، ولعلهم يريدون به ذلك.

        أقول يمكن تقرير الاعتراض في المقام بوجهين:

        الأوّل: أن الاتفاق ليس دليلا على الحكم وإنما الدليل عليه قول المعصوم المعلوم في ضمن الاتفاق فلا وجه لعدّه دليلا.

        الثاني: أن قول جميع الأمة ليس دليلا على قول المعصوم لأن العلم بقول الجميع يتوقف على العلم بأقوال الآحاد التي من جملتها قول المعصوم فيتوقف على العلم بقوله أيضا، فلو توقف العلم [الصفحة 244] على العلم بقول الجميع كان دورا ولا خفاء في أن الاعتراض المذكور إنما يناسب الوجه الأول، وما أجاب به الفاضل المذكور لو تم فإنما ينهض بدفع الوجه الثاني كما يشهد به جعله من باب كبرى الشكل الأول دون الوجه الأول، إذ لا مدخل لاعتبار الإجمال في دفعه إذ للمعترض أن يقول ليس العلم الإجمالي بقول جميع الأمة هو الحجة لأن حجيته باعتبار المعلوم فهو في الحقيقة علم إجمالي بالحجّة، وبما ليس حجة وذلك لا يقتضي أن يكون ما ليس بحجة حجة بل الحجة هو قول المعصوم المعلوم في ضمن العلم الإجمالي بقول الكل وما عداه ليس بحجة، فلا يكون الإجماع حجة لأن المركب من الداخل والخارج خارج، ومع ذلك فقضية كلامه أن الإجماع المعتبر من الأدلة على البيان المذكور هو العلم باتفاق الكل إجمالا وهو غير مستقيم طردا وعكسا، إذ قد يعلم قول الجميع على التفصيل ويكون مع ذلك إجماعا وحجة كما في صورة كشف قول المجمعين عن قول المعصوم، فيصح ضم الكاشف إلى المستكشف عنه ووصف المجموع بالحجية وقد يعلم قول الكل إجمالا ولا يكون حجة كما إذا استند الإجمال إلى التفصيل في غير صورة كشف قول المعصوم عن قوله للزوم الدور حينئذ أو استند إلى أمر واحد، فلا بد هناك من تفصيل وتوضيح المقام وتنقيح المرام أن العلم بالاتفاق ليس من العلوم الأوّلية التي يكفي في حصولها مجرد تصورها بل لا بد له من منشإ يستند إليه. وما يصلح أن يكون سببا لحصوله أمور؛ الأول: استقصاء أقوال جميع الأمة على التفصيل بحيث يعلم إطباقهم على الحكم، وهذا مع تعذره أو تعسره وندرة وقوعه على تقدير إمكانه يتصور على صور منها: أن يعرف الإمام فيهم بشخصه ووصفه وقوله وحينئذ فالحجة في قوله ولا مدخل لانضمام قول الآخرين إليه أصلا كما ذكره المعترض سواء عرف الباقون بأشخاصهم وأقوالهم وأوصافهم وهو كونهم من أهل الفتوى أو لا، وقد نبه على هذا صاحب المعالم حيث قال وفائدة الإجماع تعدم عندنا إذا علم الإمام بعينه انتهى.

        والتحقيق أنه لا يسمى إجماعا عندنا، لأن الإجماع عند الفريقين معدود من أدلة الأحكام وليس في مثل هذا الاتفاق على طريقتنا دلالة على الحكم أصلا، وإطلاق صاحب المعالم عليه الإجماع في العبارة المنقولة عنه إن كان باعتبار معناه اللغوي أو المصطلح عليه عند العامة فلا كلام، وإلاّ ورد عليه ما ذكرناه وقد نبهنا على ذلك في الحد فتدبّر.

        ومنها أن يعلم قول الإمام فيهم بعينه من دون نظر إلى الأقوال الأخر [أقوال الآخرين] سواء اتحدت لفظا أو اختلفت، لكن مع عدم العلم بشخص الإمام أو بوصفه وهذا إنما يتصور إذا علم المتتبع أن الذي أفتاه في وقت معين أو مكان معيّن هو الإمام، لكن جهل شخصه بين الأشخاص أو عرف الأشخاص لكن جهل الموصوف منهم بالإمامة أو عرف صوت المعصوم أو خطه بمعجزة أو بإخبار صادق ولم يعلم بشخصه أو وصفه، والكلام هنا كالكلام في الصورة السابقة إذ حيث يعلم قول الإمام بعينه فالحجة فيه ولا مدخل لانضمام قول الآخرين إليه ومن هنا يتبين [تبين] أنه لو قال صاحب المعالم فيما مرّ إذا علم قول الإمام بعينه بدل قوله إذا علم الإمام بعينه كان أشمل وأولى، ومنها أن يعلم الإمام بشخصه ووصفه مع عدم العلم بشخص قوله كما إذا كانت هناك أقوال مختلفة اللفظ متحدة المفاد بحيث يعلم أن أحدها قوله فيمكن القول حينئذ بتحقق الإجماع، وفائدته من حيث توقف العلم بقول الإمام ورأيه على العلم بأقوال الجميع وتوافق آرائهم، وعلى هذا يتجه مؤاخذة على عبارة صاحب المعالم حيث أطلق فيها القول بانتفاء فائدة الإجماع مع العلم بشخصه ولم يقيده بصورة العلم بشخص قوله أيضا.

        ويمكن دفعه بأن معرفة رأي الإمام حينئذ لا يتوقف على معرفة آراء الآخرين بل على معرفة نفس الأقوال وتوافقها في المعنى إذ عدم تعيين قوله من بين أقوال لها قائل كعدم تعيينه بين أقوال لا قائل لها، فكما أن ثبوت الحكم في الثاني مستند إلى العلم بصدور أحد تلك الأقوال منه لا إلى موافقة غيره له فكذلك في الأول، فإن قلت يمكن الفرق بأنه يمكن التوصّل إلى قوله في الأول بكل من الطريقين بخلاف الثاني والتعيين تحكم، فلا يبعد أن يعد إجماعا إن اعتبر التوصل من حيث الاتفاق، قلت معرفة آراء كل واحد من المجمعين في الفرض المذكور يتوقف على العلم بصدور أحد تلك الألفاظ عنه وحيث إن الفرض علمه بدخوله عليه السلام فيهم فلا بد أن يحصل له العلم بقول الإمام قبل اعتبار الاتفاق فلا يكون الاتفاق دليلا عليه.

        ومنها أن يعلم بدخول الإمام في المتفقين مع جهل شخصه وشخص قوله المعلوم دخوله في الأقوال من جهة العلم بدخوله فيهم سواء اتحدت الأقوال لفظا أو اختلفت لكن مع توافقها في المفاد، وهذا يتصور إذا جهله المتتبع لعدم سبق تعيين أو لطريان مانع هناك كالظلمة أو مع جهل وصف الإمامة في كل واحد مع العلم بثبوتها في أحدهم كما لو اتفق بعد وفاة الإمام السابق وقبل تعيين الحجة بعده عند المتتبّع، وبالجملة موضع الفرض ما إذا علم اتفاق الكل على حكم بلفظ واحد أو بألفاظ مختلفة وعلم بأن الإمام أحدهم من غير تعيين له ولا لقوله كما مرّ ، فالحق أن الاتفاق هنا إجماع لأنه كاشف عن قول المعصوم وموصل إليه بدليل أنه لو انتفي العلم بقول غيره لانتفي العلم بقوله، فيكون حجة إذ لا نعني بالحجة إلا ما هو الكاشف عن الحكم والمثبت له سواء كان كاشفا عنه بالذات أو بالواسطة، فكما أن قول المعصوم حجة لأنه كاشف عن مراده ومراده حجة لأنه كاشف عن قول النبي صلى الله عليه وآله وهو كاشف عن قوله تعالى فكذلك ما كشف عن لفظه الكاشف عن مراده، بل إذا صح تسمية الخبر الواحد حجة نظرا إلى أنه كاشف عن قول المعصوم كشفا ظنيّا فتسمية الاتفاق الكاشف عن قوله كشفا قطعيّا أولى، ولا يتوجه على هذه الصورة شي‏ء من الإشكالين.

        أمّا الأول فلأن اعتبار قول غير الإمام حينئذ لا يكون لغوا كيف وهو الطريق الموصل إلى قوله ومّا وصفه بالحجية فلما عرفت من أن العبرة في صدق عنوان الحجة والدليل على شي‏ء بكونه كاشفا عن الحكم ولو بالواسطة، وقد بينا أن الاتفاق المذكور كاشف عن الحكم بواسطة كشفه عن قول الإمام.

        وأمّا الثاني فلأن العلم [الصفحة 245] بقول الجميع وإن توقف على العلم بقول الإمام لأنه أحد آحاد المجمعين لكنه لا يتوقف على العلم بقوله من حيث كونه إماما بل يتوقف على العلم بقوله من حيث كونه أحد المجمعين والمقصود بتحصيل العلم بقوله من حيث كونه إماما لأنه الناهض حجة على الحكم فلا دور.

        الثاني أن يتظافر نقل إطباق الكل واتفاقهم إلى أن يبلغ حد التواتر أو يخبر به عدد دون التواتر وينضم إليه القرائن المفيدة وحيث يحصل العلم باتفاق الكلّ بأحد الطريقين كان إجماعا وحجة لكشفه عن قول المعصوم، ولا يتوجه عليه شي‏ء من الإشكالين.

        أمّا الأول لكشف الاتفاق المذكور عن الحكم ولو بواسطة كشفه عن قول المعصوم ولهذا لو كان المخبر هو قول البعض لم يستلزم الكشف فصح إطلاق الحجة والدليل عليه ولم يلزم عليه لغو، وأمّا الثاني فلأن العلم بالجميع في هذه الصورة غير مسبوق بالعلم بالآحاد حتى يتوجه إليه إشكال الدور لظهور عدم استناده إليه بل كلاهما مستندان إلى الخبر المتواتر أو المحفوف بقرائن الصدق، إلا أن العلم بالثاني تفصيلا مستند إليه بواسطة العلم بالأول، وكذا الكلام فيما لو حصل العلم بقول البعض بطريق التتبع وبقول الآخرين بطريق النقل. الثالث أن يعلم قول من عدا المعصوم أو جماعة منهم بأحد الطريقين السابقين ونعلم قوله وحده أو مع قول الباقين بالعلم بقولهم، ولا فرق حينئذ بين أن يعرف الإمام بشخصه ووصفه أو لا.

        أمّا القسم الأول فلا إشكال في كون الاتفاق فيه إجماعا وحجة مطلقا لأن قول من عدا المعصوم حينئذ كاشف عن قوله مطلقا وقوله كاشف عن الحكم فقول الكل حجة على الحكم وكاشف عنه فهو على حد الصورة السابقة التي حكمنا بالكشف فيها وإن كان فرق ما بينهما من أن أقوال الجميع هناك كاشف عن قول المعصوم وهنا قول من عداه كاشف عن قوله.

        وأمّا القسم الثاني فلا إشكال فيه في حجية القول الكاشف عن قول المعصوم كما لا إشكال في حجية المجموع منهما كما عرفت لكنه خارج عن محل الفرض، لأن الكلام في الإجماع بمعنى اتفاق الكل وهو هنا مشتمل على ما ليس بحجة وهو القول المستكشف عنه كاشفا عنه مما عدا قول المعصوم فإنه مما لا مدخل له في الكشف عن الحكم فلا يصح وصفه بالحجية كما عرفت.

        نعم لو كان القول المستكشف عنه كاشفا عن قول المعصوم صح إطلاق الحجة عليه وعلى المجموع كما لو كشف قول المتأخرين عن قول المتقدمين وكشف قول المتقدمين عن قول المعصوم.

        الرابع أن يوجد على الحكم حجة واضحة من آية محكمة أو سنة متواترة أو سيرة قطعية بحيث يكشف عن إطباق الكل على مقتضاها كشفا قطعيّا فيقطع بقول المعصوم أيضا، والتحقيق أنّ هذا الاتفاق مع خلوّ العلم به عن الفائدة لسبق الدليل القطعي عليه مما لا ينبغي أن يسمّى إجماعا إذ لا مدخل له في الكشف، وربما أمكن أن يفصّل حينئذ بين الاتفاق الذي لو قطع النظر عن كشف الدليل المذكور عن قول المعصوم لكشف عنه الاتفاق وبين غيره فيسمّى الأول إجماعا نظرا إلى كونه دليلا على الحكم بمعنى كونه مما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب دون الثاني.

ومما قررنا يتضح أن اعتبارهم في الإجماع وجود رجل مجهول النسب في المجمعين مما لا حاجة إليه فإنه إنما يتم مع العلم بنسب الكل أيضا وكذا لا حاجة إلى ما أول الفاضل المذكور كلامهم به من عدم العلم بأجمعهم تفصيلا فإنه يمكن مع العلم به [بهم] تفصيلا أيضا.

        واعلم أنهم إنما اعتبروا دخول مجهول النسب في الإجماع ليجامع العلم الإجمالي بدخول المعصوم في المجمعين ولا خفاء في أنه مع اتحاد شخصه يرتفع الجهالة ويوجب العلم بأنه هو المعصوم فيلزم أن ينتفي فائدة الإجماع على ما اعترف به صاحب المعالم وغيره بل يلزم على ما قررنا انتفاء ماهية الإجماع ولو اعتبر تعددهم فمع خلوّ أكثر كلماتهم عنه يوجب أن تكون الحجة في اتفاقهم فيلغى اعتبار اتفاق الباقين ولا قائل به.

        ثم لا يذهب عليك أن أكثر الصّور المذكورة مما يبعد وقوعه في زمن ظهور الأئمة عليهم السلام ويتعذر في زمن الغيبة فتعميم الإجماع الذي هو أصل من الأصول الشرعية إليها عري من الثمرة والبحث عنها عديم الجدوى والفائدة.

        الثانية ما ذكره الشيخ وجماعة وهو أن الأمة إذا اتفقت على حكم ولم يكن في الكتاب والسنّة المقطوع بها ما يدل على خلافه تعين أن يكون حقا وإلا لوجب على الإمام أن يظهر ويظهر خلافه ولو بإعلام بعض ثقاته حتى يؤدي الحق إلى الأمة ولا بد أن تكون معه معجزة يدل على صدقه ليمكن التعويل على دعوته والذي يدل على ذلك أمور منها: أن التكليف بما يقتضيه الواقع لطف والإخلال باللطف قبيح وهو موقوف في محل الفرض على البيان بالوجه المذكور فيجب، ومنها أنّ اتفاق الأمة على الباطل قبيح والإمام متمكن من ردعهم إلى الحق كلا أو بعضا بإظهار المعجزة وإقامته البينة فيجب عليه الظهور وردعهم ولو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها أن الحكمة الداعية إلى تشريع الأحكام الباعثة على بعث الأنبياء ونصب الأوصياء داعية إلى تشريع الحكم الخاص أيضا فيجب تبليغه كما يجب تبليغها لينحسم عذر الخلق على الحق في أمر التكاليف ولا يكون للناس على اللّه حجة فيها، ومنها أن الغرض الداعي إلى نصب الإمام إنما هو تبليغ الأحكام فإذا قدر عدم إمكان التبليغ في حقه أو عدم مساعدة الحكمة عليه لم يكن فائدة في نصبه ووجوده فيبطل ما اتفقت الإماميّة عليه ونطقت به الأخبار من عدم خلو عصر عن الحجة، ومنها ما ورد في جملة من الأخبار من أن الزمان لا يخلو عن حجة كي إن زاد المؤمنون شيئا ردهم وإن نقصوا أتمّ لهم ولولا ذلك لاختلط على الناس أمورهم وعن النبي صلى الله عليه وآله “إن لكل بدعة من بعدي يكاد بها الإيمان وليا من أهل بيتي موكلا يذب عنه ويبيّن الحق ويردّ كيد الكائدين” وعنهم عليهم السلام “إن لنا في كل خلف عدولا ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين” وعن أمير المؤمنين عليه السلام “اللهمّ لا بدّ من أرضك من حجة لك على خلقك يهديهم إلى دينك ويعلّمهم علمك لئلا يبطل حجتك ولا يضلّ تبع أوليائك بعد إذ هديتهم به إمّا ظاهر ليس بالمطاع أو مكتم مترقب إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم فإن علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة فهم بها عاملون” وقد جاء في عدة أخبار في تفسير قوله {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أنّ المنذر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وفي كل زمان إمام ما يهديهم إلى ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وآله.

        وهذه الطريقة ضعيفة والوجوه المذكورة مدفوعة أمّا أوّلا: فبالنقض بالمسائل التي وقع الخلاف فيها بين [الصفحة 246] أصحابنا الذين بذلوا مجهودهم في تحصيل الأحكام وبالغوا في تهذيب مداركها وتنقيح مسالكها مع خلوص قصدهم في الإفتاء عن الأغراض النفسانية والدواعي الشهوانية فإن الخلاف المشتمل على طرفي النقيض ممتنع أن يكون حقا عند غير أهل التصويب، فقضيّة ما قّر من الوجوه وجوب ظهور الإمام على من أخطأ في النظر ولو سرّا لإرشاده إلى الحق إمّا بحجة بيّنة أو بإقامة معجزة ولو وقع مثل ذلك لشاع وذاع ولأدى إلى انحسام مادة النزاع وانقطاع الاختلاف بين أولى الدراية والإنصاف وكل ذلك معلوم الخلاف.

        وأمّا ثانيا فبالحلّ وهو أن الذي يساعد عليه العقل ويعاضده الواقع إنما هو وجوب تبليغ الأحكام في الجملة لا مطلقا فإنّا نرى بالعيان أنّ كثيرا من الكفار النائين عن بلاد الإسلام ولاسيّما المخدّرات منهم في الحجال ما بلغت إليهم دعوة النبي صلى الله عليه وآله ولا سمعوا بمعجزاته ولا خطرت بأوهامهم وجوب الفحص والتتبع لتحصيل الحقّ فلو كان الواجب عليه تعالى هو التبليغ العام وإتمام الحجة على جميع الأنام لكان في عدم تبليغ أولئك المذكورين وعدم إتمام الحجة عليهم تاركا للواجب ومرتكبا للقبيح تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وكذا الكلام بالنسبة إلى الذين ماتوا في الفترة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله أو قبل وصول الخبر إليهم أو قبل ثبوت الحق لديهم.

        وبالجملة لو وجب التبليغ العام على الإطلاق لحصل التبليغ بالنسبة إلى كل من بلغ عاقلا من غير أن يتأخر التبليغ في حقه من أول زمن بلوغه وعقله مع أن انتفاءه معلوم بالوجدان والمشاهدة والعيان بل نقول لا يجب عليه تشريع الأحكام على الإطلاق فضلا عن وجوب تبليغها على الإطلاق فإن الصبيّ المراهق الذي لم يبلغ حد البلوغ قد يكون أذكى وأعقل من كثير من البالغين ومع ذلك لم يشرع في حقه الأحكام الإيجابيّة والتحريميّة فاتضح أن الواجب عليه تعالى إنما هو تشريع الأحكام في الجملة ولو بالنسبة إلى الذين بلغوا حدّ البلوغ وكذلك الواجب عليه تعالى إنما هو التبليغ في الجملة ولو بالطريق المعتاد بين العباد فيكفي إرسال الرّسل ونصب الحجج مع تبليغ البعض سواء تمكنوا من التبليغ إلى الكل وبلغوا أو حصل هناك موانع منعهم عن التبليغ إلى البعض فلم يبلغوا إليهم فإنه لا يجب [عليه تعالى إبقاء المكلفين إلى أن يحصل التبليغ في حقهم ولا تمكين المبلغين من التبليغ إلى الباقين] عليه تمكينهم من التبليغ إليهم بدفع مكائد الطواغيت ودفع شرورهم عنهم.

        وبهذا البيان يندفع الوجوه الثلاثة، الأول: فإن قلت فما الفائدة في إرسال الرسل ونصب الحجج إذا لم يتمكنوا [إذا منعوا] من التبليغ العام بالنسبة إلى الذين لم يتمكنوا من تبليغهم، وأيضا أيّ فرق بين منعهم وبين منعه تعالى إياهم عن التبليغ قهرا مع أن ذلك على إطلاقه متضح الفساد، قلت الفائدة تحمل الطواغيت لأوزار من حالوا بينهم وبين وصول التبليغ إليهم حيث ظلموهم بما حجبوهم فيحصل الغرض الداعي إلى التكليف في حق المانع والممنوع كما يحصل على تقدير الوصول، وبهذا يظهر الفرق بين الصورتين وبه يندفع الوجه الرابع، ولعل هذا هو الذي أشار إليه المحقق الطوسي في تجريده من أن وجوده يعني الإمام لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا وقريب منه ما ذكره السيّد المرتضى رضي الله عنه حيث قال ولا يجب عليه الظهور إذا كنّا نحن السبب في استتاره فكل ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرفه وبما معه من الأحكام يكون قد آتينا من قبل نفوسنا ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدى إلينا الحق الذي عنده انتهى.

        وممّا مر يظهر الجواب عن الأخبار أيضا فإنّ فيها قيدا قد طوى ذكره تعويلا على الوضوح والظهور والمراد ردّهم وأتم لهم إن تمكّن منه تمكّنا عاديا فإن العبرة في التمكن هنا التمكن العادي كما يدل عليه ملاحظة سيرتهم ومجرى طريقتهم وعلى قياسه الكلام في بقيّة الأخبار ويمكن تنزيلها على أنه عليه السلام يساعدهم عند وجود الموانع من ظهوره بالإفاضات المعنوية والفتوحات [والفيوضات] السرية على الوصول إلى المهمات الشرعيّة التي يفضي إنكارها إلى الخروج من الإيمان أو نقصان درجة صاحبه فيه كما يرشد إليه قوله عليه السلام فإن آدابه في قلوب المؤمنين مثبتة وفي غير واحد من الأخبار أنهم ينتفعون بالحجة القائم في غيبته كما ينتفع بالشمس إذا سرّها السحاب، ثم اعلم أن الشيخ قد صرّح في العدّة بما حاصله أنا لو وجدنا بين الطائفة قولا ولم نقف له على مخالف ولا على ما يقتضي صحته أو فساده وجب القطع بصحة ذلك القول وأنه موافق لقول المعصوم صلوات الله عليهم إذ لو خالفه لوجب عليه أن يظهر خلافه وعلله ببعض الوجوه المذكورة فعلى هذا يكفي في الحجية قول الواحد أيضا لكن ينبغي أن لا يسمّى إجماعا لاتفاقهم على أخذ الاتفاق في تعريفه وإن اختلفوا في سائر قيوده إلا أن يأخذ القول الكاشف مع المستكشف عنه ويسمى المجموع إجماعا.

        ويشكل بأن مجرد عدم وجدان وجود المخالف لا يقتضي عدم وجوده وطريقته على تقدير صحتها إنما تساعد على عدم وجوب الظهور عند عدم وجود المخالف لا عند عدم وجدانه.

        وقد يعترض على الشيخ بأنه يكفي في إلقاء الخلاف بينهم أن يظهر ولو على وجه لا يعرف كونه إماما ويظهر القول بالخلاف بل يكفي قول الفقيه المعلوم النسب به بل يكفي وجود رواية دالة عليه، وهذا الاعتراض غير متّجه إذ الوجه الأول لا يوافق غرض الشيخ من ردع الأمة وردّهم إلى الحق والثاني خارج عن محلّ الفرض إذ الكلام حيث لا يوجد مخالف، والوجه الثالث راجع إلى أحد الوجهين السابقين لأن الرواية الموجودة إن كانت بحيث تنهض حجة في الظاهر عند الكل أو عند العاثر بها فهي سنّة قطعيّة على الخلاف، وقد اعتبر الشيخ عدمها فإنه أراد بها ما تكون قطعيّة ولو في الظاهر كما يساعد عليه طريقته فيخرج عن محلّ الفرض وإن لم ينهض حجة في الظاهر لم يجد وجودها في دفع ما جعله الشيخ سببا لوجوب الظهور.

        نعم كان على الشيخ أن يشترط في قطعيّة الإجماع بعد اشتراطه عدم وجود دليل قطعي على الخلاف أمورا منها أن يكون ذلك الدليل القطعي قد بلغ إلى المتفقين كلا أو بعضا فلو قدر وجود دليل قطعي وخفي على المتفقين لم يكن مغنيا عن ظهور الإمام على ما يقتضيه طريقته، ومنها مضيّ زمان يمكن ظهور المعصوم فيه بعد انعقاد الإجماع إذ لا حجية في الإجماع [للإجماع] قبله لعدم العلم حينئذ بموافقة المعصوم، ومنها أن يعلم بقاء المتفقين على آرائهم في تلك المدة فلو احتمل رجوعهم أو رجوع بعضهم لم يحصل القطع بموافقة المعصوم لهم وإن قطع بعدم ظهوره على أحدهم، ومنها أن يعلم بعدم حدوث قول بالخلاف في تلك المدة إذ مع تجويزه ذلك لا يقطع بقول المعصوم لجواز أن لا [الصفحة 247] في القول ولا يظهر لتحقق الخلاف قبل تمكنه من الظهور أو حاله، وربما أمكن التمسك في نفي الاحتمالين الأخيرين بالأصل لكن يكون الإجماع معه ظنيا لا قطعيّا.

        ويلزم على طريقة الشيخ أمور منها: أنه إذا قال بعض الأصحاب واحدا كان أو أكثر بقول لمستند اجتهادي وتحققت هناك الشرائط المعتبرة ثم انكشف له فساد المستند المذكور لزمه وجوب البناء على الحكم السابق والقطع به بحسب الواقع وإن لم يكن مفاد الدليل السابق إلا الظن به أو مجرد ثبوته في الظاهر إذ فساد الدليل لا يوجب فساد الدعوى والأمر الأخير لازم على تقدير عدم انكشاف فساد الدليل أيضا، ومنها وجوب حفظ أقوال علماء العصر وحصرها وضبطها كحفظ الأخبار صونا للدليل القطعي عن الاضمحلال والانعدام، ومنها عدم جواز الحكم والفتوى عند إمكان البحث والاطلاع على آراء علماء العصر إلاّ بعد البحث والاطلاع لئلا يخالف الدليل القطعي أو يعدل مع التمكن منه إلى الظني ولأن ذلك من جملة الأدلة فلا بد من الفحص عنه كما يجب عن غيره.

ولا خفاء في أن الالتزام بهذه اللوازم لا يخلو من بعد تسليم أصل الطريق الثالث وهو الطريق المعزّى إلى معظم المحققين أن يستكشف عن قول المعصوم باتفاق علمائنا الأعلام الذين ديدنهم الانقطاع إلى الأئمة في الأحكام وطريقتهم التحرز عن القول بالرأي ومستحسنات الأوهام فإن اتفاقهم على قول تسالمهم عليه مع ما يرى من اختلاف أنظارهم وتباين أفكارهم مما قد يؤدي بمقتضى العقل والعادة عند أولي الحدس الصائب والنظر الثاقب إلى العلم بأن ذلك قول أئمتهم ومذهب رؤسائهم وأنهم إنما أخذوه منه واستفادوه من لدنهم إمّا بتنصيص أو بتقرير.

        وهذا إنما يكشف أولا عن قول المعصوم الذي إليه مرجع فتاويهم وأقوالهم واحدا كان أو أكثر ويكشف عن قول الباقين وعن قول الرّسول صلى الله عليه وآله وعن قول اللّه بواسطة القواعد العقلية والنقلية القاضية بأن علومهم مستفادة من علم النبيّ صلى الله عليه وآله وعلمه صلى الله عليه وآله مستفاد منه تعالى ثم قد يستقل هذه الطريقة بالاستكشاف وذلك إنما يكون غالبا حيث يكون الحكم على خلاف الأصول الظاهرية المسلّمة عريا عن الشواهد الاعتبارية وقد يحتاج إلى انضمام شواهد خارجيّة ومؤيّدات تقريبيّة من الآثار والأخبار ولا اختصاص لهذه الطريقة بالاستكشاف وذلك إنما يكون غالبا حيث يكون الحكم على خلاف الأصول الظاهرية عن قول المعصوم بل قد يستكشف بها عن قول بقية الرؤساء المتبوعين فإنه قد يعرف مذاهبهم وآرائهم من اتفاق أتباعهم الذين طريقتهم عدم التخطي عن جادتهم وترك الانحراف عن طريقتهم بل لا حاجة في الاستكشاف بهذه الطريقة إلى العلم باتفاق الكل بل قد يستكشف باتفاق جماعة من الخواص الموصوفين بالأوصاف المقرّرة لاسيّما إذا كانوا من أصحابهم كزرارة وأبي بصير ومحمد بن مسلم وأضرابهم ثم الاستكشاف بهذه الطريقة يقع على وجوه الأول أن يستكشف بها عن قوله الواقعي وذلك حيث ينتفي في قوله دواعي التقية والاتقاء ويسلم عن شبه الخفاء والتأويل ومنه اتفاقهم على عدم انفعال الكر بالملاقاة وانتفاء العول في الميراث وأمثال ذلك، ولا يقدح الاعتضاد ببعض الشواهد الخارجية من الأخبار والآثار إذ المراد بكون الاتفاق كاشفا أن يكون له مدخل في الكشف كما مر نظيره في مسألة التواتر.

        واعترض على هذا الوجه بوجوه منها أن هذه الطريقة لا تجري إلا في القطعيات من غير طريق الإجماع ولا حاجة فيها إلى التمسك به، وهذا ضعيف لأن الوجدان في الفقيه لا يساعد عليه، نعم هذه الطريقة قليلة الوقوع لكن ذلك لا يوجب إهمالها بل لا بد من تعميم العنوان بحيث تندرج فيه، ومنها أنّ هذه الطريقة لا تبتني على القاعدة الكلامية المختصة بالإماميّة التي عليها مبنى حجيّة الإجماع عندهم بل على مقتضى العقل والعادة المشتركين إن تمّا بين الفريقين وضعفه ظاهر لأن العقل والعادة المشتركين إنما يؤثران في كشف الطريقة المذكورة لا في إثبات حجيتها بل حجيتها إنما هي باعتبار حجية القول المستكشف عنه المبنية على القاعدة الكلاميّة المختصة بالإماميّة لما نبّهنا عليه من أن الكاشف عن الحجة حجة في الاصطلاح حقيقة كنفس الحجة المستكشف عنها مع أن كشفها عن رأي المعصوم أيضا قد تبتني على القاعدة الكلاميّة حيث يتوقف على إثبات العصمة من السهو والخطاء وعدم القول بخلاف معتقده حيث لا داعي، ومنها أن الإجماع أصل من الأصول المبتنية التّي عليها مبنى أكثر الأحكام الشرعية والطريقة المذكورة غير منضبطة المبنى فلا وجه لأخذها مناطا في حجيته، وضعفه أيضا ظاهر لانضباط الطريقة المذكورة بالإحالة إلى الوجدان في حصول الاستكشاف بها وإن اختلف حصوله باختلاف المحصّلين في قوة الحدس وكثرة التتبّع والممارسة وهذا الاختلاف غير قادح بعد وضوح المبنى والمناط وإن أراد بعدم انضباط المبنى أن ليس هناك عدد معين يمكن الاستكشاف به على الإطلاق غير فهذا صائر كما في التواتر.

        الثاني أن يستكشف بها عن قوله الظاهري وذلك حيث يكون احتمال التقيّة أو كون الدلالة غير جليّة، ومنه قول المعظم بطهارة المخالفين عدا ما استثني فإن هذا الحكم وإن قطع بصدوره عنهم عليهم السلام قولا وتقريرا نظرا إلى مصير المعظم إليه مع اعتضاده بمساعدة السيرة المستمرة لكن لا قطع بأن ذلك قولهم الواقعي ومذهبهم الذي بنوا عليه في نفس الأمر لاحتمال أن يكون الداعي إليه التقية وحفظ الشيعة عن فتن العامة، ويرد على هذا الوجه أيضا الشكوك المتقدمة على الوجه الوجه الأول ولا اختصاص لها به كما زعم وتندفع بما مر.

        الثالث أن يستكشف بها عن وجود دليل قطعي واقعي عقلي أو نقلي متواتر أو آحاد محفوف بقرائن الصدق والصحة فيستكشف به عن قول المعصوم الواقعي بواسطة استكشافه عن الدليل المذكور وربما يكون هناك دليل ظني فيستكشف بهذه الطريقة عن كونه قطعيّا إما بتعدد الأسناد أو بانضمام قرائن قطعية المفاد، وأورد على هذه الطريقة بأمور، منها أنها غير منضبطة المبنى وقد نبّهنا على ما فيه سابقا، ومنها أنها لا تبتني على القاعدة الكلامية التي انفرد بها الإمامية لأن مرجعها إلى قضاء العادة، وفيه نظر لأنه إن أراد عدم ابتناء كشف هذه الطريقة على القاعدة المذكورة فيه كما عرفت وإن أراد عدم ابتناء حجيتها عليها فهو إنما يتجه إذا كان المستكشف عنه دليلا عقليّا أو نقليّا كتابيّا أو نبويّا أو كان مرددا بينهما وإذا كان المستكشف عنه حديثا إماميّا أو محتملا له كما هو الغالب على تقدير الوقوع توقف حجية الطريقة المذكورة على القاعدة الكلامية قطعا ووجهه واضح فلا يتم إيراده على [الصفحة 248] الإطلاق مع أن لنا أن نمنع توقف حجية الإجماع بجميع أقسامه على المسألة الكلاميّة وإنما المسلم توقفها عليها في الجملة، ومنها أن المتفقين إن كان تعويلهم على دليل ظني فكيف يكشف لنا ذلك عن دليل قطعي للزوم زيادة الفرع على الأصل وإن كان على قطي فإثباته لا يخلو عن صعوبة لأن طريقتهم المعروفة جواز التعويل على الدليل الظني ولو من حيث الدلالة، ويمكن دفعه بأنه قد تبين بشواهد يظفر عليها المتتبع الممارس أن الكل لم يعولوا على دليل واحد بل لهم على ذلك دلائل تفرد كل ببعضها فيستكشف باتفاقهم عن دلائل ظنية فيصح أن يستفاد منها العلم أو يستكشف به عن دليل ظني ويقوم عند شواهد وأمارات أخر يفيد بمعونتها العلم أو يستكشف بالتتبع والفحص عن تعويلهم على دليل قطعيّ ويقطع أيضا بكونه دليلا قطعيا لحكم العادة بامتناع تواطئهم على الخطاء، فإن قيل الدليل القطعيّ أمر غير حسيّ فكشف الاتفاق عنه يقدح فيما ذكروه في التواتر من اشتراط أن يكون المخبر به أمرا حسيّا قلنا إنما قصدوا بذلك أن التواتر في غير الحسيّات لا يستلزم إفادة العلم كما نبّهنا عليه في محلّه لا أنه يستلزم عدم إفادة العلم فلا ينافي ما ذكرناه مع أن لنا أن نمنع عدم كون الدليل مفيدا للعلم حسيّا إذا كان المستكشف عنه دليلا سمعيّا ولا يقدح كون الدلالة أمرا عقليّا لاستنادها إلى الحسّ كما في تواتر التواتر وكذا لا ينافي ذلك ما سنذكره في دفع بعض حجج العامة من جواز أن يجتمع الكل على الخطاء فإن ذلك سلب للإيجاب الكلي فلا ينافي الإيجاب الجزئي، واعلم أنه قد يستكشف بالاتفاق عن وجود دليل ظاهريّ معول عليه عند الكل أو عندنا بل قد يستكشف به عن كون الدليل نصا بالخصوص وذلك كما اتفق على الحكم جماعة وقد عرف من طريقتهم الجمود على متون الأخبار كالصّدوقين ومن يحذو حذوهما فيستكشف به تارة عن كون الدليل نصّا معتبر الأسناد متضح المفاد وذلك حيث يعرف من طريقة المتفقين الطعن في الأخبار بمجرد ضعف الأسناد أو التردد في الحكم أو الميل إليه بمجرد خفاء الدلالة وعدم وضوح المراد مع الوثوق التام بأفهامهم وأنظارهم لضبطهم وعلو مقامهم في علوم العربيّة وعلم الدراية، بل قد يستكشف به عن كون النص الموجود صحيحا أو حسنا حيث يعرف منهم الجمود على العمل بهما ويستكشف به أخرى عن كونه نصّا في الجملة فيعوّل عليه بانضمام الاتفاق الكاشف عنه إذا بلغ حد الشهرة وصلح لجبره إذ لا فرق بين العلم الإجمالي بالدليل أو العلم التفصيلي به في وجوب الأخذ به والركون إليه، لكن شي‏ء من ذلك لا يسمّى إجماعا إذ المعتبر في الإجماع الاتفاق الكاشف عن رأي المعصوم كشفا قطعيا لا الكاشف عن مطلق الدليل.

        وأمّا مخالفونا فقد استدلوا على حجيّة الإجماع بوجوه عقلية ونقليّة من الكتاب والسنّة فمنها قوله تعالى {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية وجه الدلالة أنّ سبيل المؤمنين أقوالهم وفتاويهم وقد جمع في الوعيد بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، ولا ريب في حرمة الأوّل على الاستقلال فيكون الثاني أيضا محرّما مستقلا وإلا لما حسن الجمع بينهما في الوعيد لقبح قولنا من سرق وشرب الماء وجب قطع يده وإذا حرم اتباع غير سبيل المؤمنين وجب اتباعهم إذ لا مخرج عنها.

        والاعتراض عليه من وجوه، منها أنه قد اعتبر في المشاقة كونها بعد تبين الهدى فيعتبر ذلك في الاتباع المعطوف عليها أيضا لأن العطف يقتضي التشريك فيلزم أن يكون القيد المعتبر في المعطوف عليه معتبرا في المعطوف أيضا لأنهما كالجملة الواحدة وحرمة مخالفة الاتفاق مع تبين كونه هدى لا يقتضي حرمته مخالفته مع عدمه كما هو المقصود إذ الكلام في حرمة مخالفة الاتفاق المجرد عن الحجة لا المقرون بها، وأمّا ما ذكره بعضهم في توجيه الاعتراض بأن اللام في الهدى للعموم فيتوقف ترتب الوعيد على اتباع غير سبيل المؤمنين على تبين كل ما هو هدى، ومن جملته الدليل الدال على حكم الإجماع ففساده غير خفي لأنه يؤدي إلى عدم ترتب الوعيد المذكور على أحد من المنافقين والمتبعين لغير سبيل المؤمنين لعدم ظفرهم بكل ما هو هدى بل بالبعض فالوجه ما ذكرنا، وفيه بحث لمنع قضاء العطف بالمشاركة مطلقا، وتحقيق القول فيه أن العطف إمّا أن يكون بين الجمل التامة أو بين غيرها، وعلى الثاني إمّا أن يكون القيد من لواحق المعطوف عليه أو من لواحق ما قبله ففيما عدا الصورة الأخيرة لا يلحق القيد للمتأخر إلا أن ينهض هناك قرينة ولو حالية على اعتباره لأصالة عدمه مع قصور العطف عن إفادته، فإن قلت يمكن استفادته من ظاهر العطف من حيث إن مبناه على المناسبة وهي أقوى مع المشاركة في القيد قلت إنما يصح التعويل على مثل هذه النكتة حيث يساعد عليها العرف والاستعمال وعدمه معلوم للمتتبع، وأمّا في الصورة الأخيرة فالظاهر لحوق القيد بالنسبة إلى المعطوف مع إمكانه، أمّا على القول بأن العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه فواضح لأن تعلقه بأحدهما مقيدا يوجب تعلقه بالآخر أيضا مقيدا لاتحاده، وأما على القول بأن العامل في المعطوف مقدر بقرينة المذكور فالظاهر أن يكون المقدر على حدّ المذكور فيكون أيضا مقيّدا مثله، وظاهر أن الآية من الصورة السابقة فيحتاج إثبات القيد في المعطوف إلى دليل، والقول بأن المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الجملة الواحدة على إطلاقه بحيث يتناول المقام ممنوع ولو سلم فالهدى المعتبر تبيّنه في ترتب الوعيد على المشاقة وهو كون الرسول حقا وحرمة مشاقته فقضيّته مشاركة المعطوف للمعطوف عليه في القيد اعتبار تبين ذلك في ترتبه على اتباع غير سبيل المؤمنين أيضا وهذا لا يقتضي العلم بمستند الاتفاق.

        ومنها أن غير وسبيل إن كانا أو كان أحدهما للعموم دلت الآية على ترتب الوعيد على من اتبع كل سبيل مغاير لكل سبيل من سبيل المؤمنين أو اتبع كل مغاير لبعض أو بعض مغاير لكل وهذا كله خارج من محل النزاع وإن لم يكونا للعموم بل كانا للبعض لم يثبت به المقصود إذ لا ريب في حرمته مخالفة ما أجمع عليه المؤمنون في الجملة ولو بالنسبة إلى المسائل المعلومة من الدين نظرا أو ضرورة، وفيه أيضا بحث لمنع الحصر والتحقيق أنهما للجنس ووقوعهما في سياق الموصول يقتضي عمومهما لجميع الأفراد عموما أفراديا بدليا لا شموليا ولا مجموعيا فيندفع الإشكال، ومنها أن السبيل حقيقة في الطريق المسلوك وهو غير [الصفحة 249] مراد هنا قطعا وإطلاقه على ما وقع عليه الاتفاق غير مستقيم لانتفاء العلاقة المصحّحة للتجوز فتعين أن يراد به الدليل لأنه سبيل معنوي في الوصول به إلى المقصود فتدل الآية على حرمة مخالفة دليل المؤمنين لا اتفاقهم، ولو سلم صحة إطلاقه على المعنى الأول فلا أقل من تساوي الاحتمالين إن لم يكن الثاني أظهر فيلزم الإجمال المقتضي لسقوط الاستدلال، ولا يخفى أن حمل سبيل على الدليل غير ملائم لسياق الآية ثم صحة إطلاقه على المعنى الأول لا يوجب الإجمال بل قضيّة التعميم كما مر شموله لكل منهما.

        ومنها أن المراد بسبيل المؤمنين السبيل الذي صاروا به مؤمنين أو سبيلهم في متابعته صلى الله عليه وآله والاقتداء به أو نصرته بدليل اقترانه بمشاقة الرسول والجمع بينهما في الإيعاد، ويمكن دفعه بمنع صلوح ذلك قرينة على التخصيص على تقدير التعميم.

        ومنها أن المستفاد من الآية على تقدير تسليم التعميم نقيض المقصود إذ كان سبيل المؤمنين عدم اتباع غير الدليل فالقول بوجوب اتباعهم من غير دليل اتباع لغير سبيلهم، والتحقيق أن مقتضى هذا الاعتراض لزوم التنافي في ظاهر مدلول الآية من حيث اتفاقهم قبل نزولها على عدم جواز الأخذ بالاتفاق المجرد عن الدليل ومقتضى الآية على ما بني عليه الاستدلال وجوب الأخذ بكل اتفاق، ومن جملتها الاتفاق المذكور فوجوب الأخذ بالاتفاق المذكور يوجب عدم جواز الأخذ بالاتفاق المجرد عن الدليل، ووجوب الأخذ به يوجب عدم جواز الأخذ بالاتفاق المذكور وهو تناقض فلا بد في دفعه من تخصيصها إما بما عدا ذلك الاتفاق أو بما عدا الاتفاق المجرّد عن الدليل وهي إنما تنهض حجة إذا حملت على المعنى الأول لكنه معارض باحتمال الثاني ولا سبيل إلى ترجيح الأول بقلة التخصيص لتغاير الموردين فإن الاتفاق الأول اتّفاق عن دليل هو أصل العدم بخلاف الثاني والترجيح بقلة التخصيص إنما يتم إذا اندرج الأقل في الأكثر.

        ومنها أن حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين لا يوجب وجوب متابعة سبيلهم لإمكان الواسطة بترك الاتباع مطلقا ويشكل بأنه إن أريد إثبات الواسطة من حيث إن الاتباع معتبر في مفهومه موافقة الغير ويجوز أن لا يكون مخالف الإجماع متبعا لأحد ففيه أنّ المراد بالاتباع مجرد الأخذ بدليل تعديته إلى غير سبيل المؤمنين لا إلى سبيل غير المؤمنين ولو سلم فاتباع غير سبيلهم اتباع لغيرهم ولو للهوى والشيطان فلا يتحقق الواسطة، وإن أريد بالواسطة عدم الحكم والتوقف ففيه أن حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين بحسب الواقع يوجب حصر الجواز في اتباعهم فإن أريد بالوقف مجرد السّكوت وعدم الحكم فليس مذهبا ولا يخل بالمقصود إذ الكلام في عدم جواز مخالفة الإجماع لا في جواز السّكوت في محل الإجماع مع أنّه لا يتم حيث يتعين فيه الحكم والفتوى بل غير متصوّر في حق من وقف على الإجماع وأذعن بدلالة الآية وإن أريد به الحكم بالوقف والتزام أحكامه كما هو المقصود به حيث يعد المتوقف من أهل المذاهب فالآية تدفعه حيث تدل على بطلان قول المخالف للإجماع فيلزم صحة قول المجمعين إذ لا مخرج عنهما بحسب الواقع ومنها أن المؤمنين إذا اتفقوا على فعل مباح فإن وجب اتباعهم لزم اتباع غير سبيلهم في الحكم وإن لم يجب فقد جاز ترك متابعة سبيلهم وفيه أن المراد وجوب اتباعهم في الحكم والفتوى ونحوهما دون الأفعال المباحة ونحوها.

        ومنها أن المؤمنين هم الذين علم منهم الإيمان بأن علم أن باطنهم وفق لظاهرهم وهذا مما لا يقطع به في غير المعصوم لاحتمال المخالفة في حقه وهذا الاعتراض قد أورده المرتضى واختاره جماعة ممن تأخر عنه كالعلامة وغيره، وضعفه ظاهر لأن منع العلم بإيمان غير المعصوم مكابرة واضحة مع أنا لا نسلم انحصار الطريق إلى معرفة المؤمن في العلم بإيمانه بل يكفي إظهاره للإيمان كما يعرف من معاملة الشارع [الشرع] معه معاملة المؤمن في سائر الأحكام، ودعوى أن هذا الطريق يعتبر بالنسبة إلى بعض أحكام المؤمنين دون بعض مجازفة بيّنة.

        ومنها أن المفهوم من السّبيل الواقعي والقطع به يتوقف على القطع بانتفاء الدواعي المقتضية لإيراد خلاف المعتقد كالتقيّة وشبهها ولا سبيل إليه غالبا فلا يثبت بالآية حجيّة الإجماع مطلقا وجواز التعويل في ذلك على ظاهر قولهم غير واضح لأنه إنما يفيد الظن بمعتقدهم ولا دليل على جواز التعويل عليه في المقام فإن قيل فيلزم إلغاء الآية لانقطاع السّبيل حينئذ إلى تحصيل سبيل المؤمنين، قلنا لا نسلم ذلك لإمكان الاطلاع عليه في بعض الموارد بل وقوعه في الأحكام الضرورية وما قام عليها حجة قطعيّة جليّة ليس بموضع إنكار وفيه تعسّف.

        ومنها ما ذكره الحاجبي ووافقه العضدي في ظاهر كلامه وهو أن دلالة الآية على حجية الإجماع بعد التسليم ظنيّة لأن مرجعها إلى ظاهر اللفظ وحجيتها إنما تثبت بالإجماع فلو ثبت حجية الإجماع بها كان دورا، وفيه نظر إذ لا نسلم أن حجية الظواهر لا يثبت إلا بالإجماع لإمكان إثباتها بالسيرة القاطعة المستمرة بين المسلمين الكاشفة عن الدليل القاطع أو بطريق العقل نظرا إلى بقاء التكليف وانسداد طريق القطع إليه ولا ريب في وجوب التعويل معه على الظن أو نقول إجماعهم على حجية ظواهر الألفاظ إجماع على القطع بها وقد اعترف بأنهم متى أجمعوا على القطع فالعادة تقتضي أن لا يكون قطعهم إلا عن دليل قاطع فلا يتوقف إثبات حجية هذا الإجماع على إثبات حجية مطلق الإجماع.

        ومنها قوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ووجه الدلالة أنه تعالى وصفهم بكونهم خير أمة وذلك يقتضي أن لا يجتمعوا على باطل وإلاّ لانتفى منهم وصف الخيريّة ووصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واللام فيهما للاستغراق لأنه المناسب لمقام المدح إذ لا فضل في الأمر بمعروف واحد والنهي عن منكر واحد فيدل على أنهم آمرون بكل معروف والناهون عن كل منكر وذلك ينافي اجتماعهم على الخطاء وإلاّ لكانوا آمرين بالمنكر وناهين عن المعروف وهو خلاف ما وصفهم اللّه تعالى به، وفيه نظر لأن الآية إن حملت على ظاهرها دلت على عصمة جميع الأمة وهو مخالف للواقع بالضرورة فلا بدّ من تأويلها بتنزيلها على بيان أنه تعالى أكرمهم بهذه الأهلية من بين الأنام أو أن الخطاب مخصوص ببعض هذه الأمة وهم عليهم السلام.

[الصفحة 250]

        ويؤيده ما ورد في بعض أخبارنا من أنه في مصحف أهل البيت عليهم السلام كنتم خير أمة وأمّا حملها على أنّ ما يجتمع الأمة على الأمر به فهو معروف وما تجتمع على النهي فهو منكر فأبعد من الوجهين المذكورين.

        سلّمنا لكن وقوع الخطاء بعد الاجتهاد وبذل الوسع لا ينافي الخيريّة ولا عموم المعرفين لأنّ ما أدى اجتهادهم إلى كونه معروفا فهو معروف وإن كان منكرا في الواقع وما أدّى أجهادهم إلى كونه منكرا فهو منكر وإن كان معروفا في الواقع مع أن الخيريّة لا يستلزم عصمتهم بل يكفي كونهم أقل خطأ.

        سلّمنا لكن يكفي في صدق الآية أمرهم بكل معروف واقعيّ ولو إجمالا ونهيهم عن كل منكر واقعي ولو إجمالا فلا يدل على عدم خطئهم في التفصيل مع أنّ الآية أخصّ من المقصود من حيث إنّ الآية لا تدل على خطئهم فيما عدا الوجوب والتحريم من حكم الوضع والإباحة والمندوب والمكروه، أما الأولان فواضح وأمّا الأخيران فلعدم صدق الأمر والنهي في حقهما مع أن المنكر لا يعم المكروه ولو سلّم أن المراد بها معانيها الأعم ولو مجازا كطلب الفعل أو الترك ومطلق المرجوح لكان مفادها أيضا أخصّ من المطلوب من حيث عدم دلالتها على عدم وقوع الخطاء منهم في الواجب بالحكم بندبيته أو في المندوب بالحكم بوجوبه أو في المحرم بالحكم بكراهته أو في المكروه بحرمته.

        ومنها قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وجه الدلالة أنه تعالى وصفهم بكونهم وسطا وهو يقتضي عدم انحرافهم عن جادة الشريعة فيمتنع اتفاقهم على الخطأ لأن ذلك يوجب خروجهم عنها وأيضا التعليل بأن يكونوا شهداء على النّاس يقتضي اتصافهم بالعدالة الواقعية المانعة من اجتماعهم على الباطل وضعفه ظاهر مما مرّ لأن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي عصمة جميع الأمة فلا بدّ من تنزيلها على مجرد الأهلية أو تخصيصها بالبعض كالأئمة، ومنه يظهر فساد الاستناد إلى التعليل مع أن المعتبر في قبول الشهادة حصول العدالة حال الأداء دون التحمل فيجوز أن يكونوا عدولا في الآخرة وإن لم يكونوا عدولا في الدنيا بحصول ملكتها فيهم قبل الموت أو بعده مع جوازه أن تقبل شهادة المؤمن الفاسق في القيمة ودعوى عدم جوازه كما في الدنيا قياس مع الفارق.

        ومنها قوله تعالى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فإنّه يدل بمفهومه على أن الردّ إليه تعالى وإلى رسوله غير واجب على تقدير عدم التنازع وهو صورة الاتفاق وليس ذلك إلا لكون الاتفاق حجة مغنية عن تحصيل حجة غيرها، وهذا الاحتجاج مدفوع أمّا أولا فالنقض بقول الجماعة فأدونها إذا تجرد عن الدليل بمجرّد خلوّه عن المنازع مع أنّ المستدل لا يقول به ويمكن دفعه بالتزام التخصيص، وأمّا ثانيا فبأنّ الظاهر من المنازعة التخاصم في الحقوق والأمور المالية دون الأحكام الشرعية كما يدل عليه قوله تعالى في الآية الأخرى {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} فيستقيم المفهوم إذ المحاكمة فرع المنازعة ولأن المتنازعين في الأحكام إن كان نزاعهم عن دليل لم يجب عليهم الردّ وإلا لكان نزاعهم محرّما لما فيه من الحكم من غير دليل، وتخصيص الآية بهذا الفرض المحرّم تعسّف بين وحملها على صورة تعارض الأخبار أو الأدلة مع بعده يوجب عدم مساعدتها على المقام كما لا يخفى.

        سلمنا لكن مقتضى المفهوم على ما ذكروه عدم وجوب الردّ على غير المتنازعين وهو إما أن يخص بغير المتفقين أو يعم المتفقين والمترددين فإن كان الأول خص الحكم بالمتفقين ودار مدار صدق الوصف الدائر مدار وجود الدليل لأن المراد الاتفاق بالرأي لا بالقول فلا يتناول غير المتفقين ولا المتفقين حال عدم الاتفاق فلا يدل على حجية الإجماع بوجه، وإن كان الثاني فهم إما مترددون في الحكم فهؤلاء وظيفتهم الرد اتفاقا فيجب تقييد إطلاق المفهوم بغير هذه الصورة وإما أن يكون بعضهم متفقين وبعضهم مترددين فإن اتحد العصر وجب الرد على المترددين وهو أيضا موضع وفاق فيجب تقييد الإطلاق بغير هذه الصورة أيضا وإن كان المترددون في عصر متأخر دل مفهوم الآية على عدم وجوب الرد عليهم وهو مستلزم لحجية الإجماع في حقهم لكنه معارض بدلالة منطوق الآية على وجوب الرد عليهم على تقدير نزاعهم فإنه يقتضي عدم حجية الإجماع في حقهم وهو يستلزم عدم حجيته في صورة ترددهم أيضا بالإجماع المركب، ولا سبيل إلى التمسك به على الوجه الأول لتوقفه على ثبوت حجية الإجماع فيدور بخلاف الوجه الثاني فإن التمسك بالإجماع المركب فيه مبني على تقدير حجيته لا على ثبوته مضافا على اعتضاده بقول العدم وبقوة دلالة المنطوق بالنسبة إلى المفهوم مع أن عدم وجوب الرد لا يستلزم وجوب الموافقة وإنما يستلزم جوازها والمقصود إثبات الوجوب إلا أن يتمسّك بعدم القول بالفصل.

        واعلم أن قوله تعالى {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أوضح دلالة على عدم اجتماع الأمة على الباطل من الآيات التي تمسّكوا بها لكنه ظاهر في وجود معصوم بين الأمة وكثير منهم لا يقول به ولعلّهم تركوا الاستدلال به لذلك.

        وأمّا السّنة فقوله صلى الله عليه وآله “لا يجتمع أمتي على الخطأ” وقوله صلى الله عليه وآله “لم يكن ليجتمع أمتي على الخطأ” وقوله صلى الله عليه وآله “يد اللّه على الجماعة”.

        والجواب، أما أولا فبالطّعن بالسّند ودعوى الغزالي أنّها متواترة معنى وإن كانت من حيث اللفظ آحادا مباهتة وعناد لأن من شرائط التّواتر بلوغ المخبرين عداد يمتنع في العادة لكثرتهم اجتماعهم على الكذب وانتفاؤه في المقام أوضح شي‏ء حتى أعرف به جماعة من أهل الخلاف كالحاجبي والعضدي ورد فيه على الغزالي ولأنّ من شرائطه توافقها في المعنى المدعى تواترها فيه وانتفاؤه في المقام أيضا جليّ.

        وأمّا ثانيا فبمنع دلالتها على المقصود، أمّا الرواية الأولى فلأن لفظ الخطأ فيها ظاهر في الجنس وقد حققناه في بحث المفرد المعرّف فيكون مفادها عدم اجتماع الأمة على جنس الخطأ وقضية ذلك ما يقوله الإمامية من عدم خلوّ الأمة عن المعصوم وإنما يتم ما زعموه إذا كان المراد بالخطأ فردا منه وهو خلاف الظاهر من الفرد المعرف قطعا، والعجب أنه قد اعترض بما ذكرناه بعض أهل الخلاف وغفل عمّا يلزمه من فساد مذهبه وبطلان طريقته.

        سلمنا لكن مفاد الرّواية أن جميع الأمة أو جميع علمائها من المعروفين والمستودعين لا يجتمعون على الخطأ، وهذا مسلّم عندنا حيث نقول بعدم خلو عصر من الأعصار من معصوم حافظ الشريعة ولا دلالة لها على حجية إجماع علماء العامة ولا العلماء الظاهرين من الأمة ولا على الإجماع من حيث كونه إجماعا كما زعموا وبهذا يظهر الجواب عن الرّواية الثانية.

        وأمّا الرواية الثالثة فإن حملت على إطلاقها لزم منه وجوب موافقة كلّ جماعة وإن كانوا بعضا من أهل الحل والعقد وهم لا يقولون به ومع العدول عنه فليس هناك معنى ظاهر يترجح الحمل عليه فحملها على صورة اتفاق الكل من العامة ليس بأولى من حملها على إرادة جماعة مخصوصين وهم كبار الصحابة الذين عرفت لهم المزية على غيرهم علما وعملا كعلي عليه السلام وسلمان وأبي ذر ومقداد وعمار وأضرابهم ممّن اعترف بفضلهم العامة والخاصّة، وهؤلاء الذين هم أنكروا بيعة الأول بعد ما عرضت عليهم حتى ألزموهم بها بالتخويف والتهديد فالتجئوا إليها تقية منهم ولا ريب أنه يسوغ عند الخوف ما هو أعظم من ذلك قال الله تعالى {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} وقال {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} وكان فيها تعريض بمتابعتهم في ذلك وتنزيلها على هذا المعنى ليس بأبعد من تنزيلها على ما ذكروه من حجية اتفاق السفلة الذين عقدوا بيعة الثلاثة.

        وأما الرواية الأخيرة [الصفحة 251] فقصور دلالتها على ما ذكروه أوضح وحملها على المعنى المتقدم ممكن.

        وأمّا العقل فتقرر بوجهين الأوّل أن العادة مخيل اجتماع الكل على الحكم الشرعيّ من غير دليل قاطع لما ترى من اختلاف أنظارهم وأفكارهم فإن الدليل الظني مما لا يتفق التوافق عليه عادة وفساده واضح لجواز توافقهم عن دليل ظني أجمعوا على حجيّته كخبر الواحد أو عن أدلة ظنيّة عوّل كل فرقة منهم على بعضها ولا يستفاد القطع من مجموعها وبالجملة لا نسلّم قضاء العادة في جميع الموارد بعدم الاتفاق عن دليل ظني.

        نعم قد يكشف الإجماع عن كون المستند قطعيّا لكنه لا يثبت المقصود وهو كون الاجتماع حجة على الإطلاق الثاني أن الجميع قد أطبقوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع والعادة تخيل اجتماعهم على القطع بحكم شرعي من غير دليل قاطع.

        وأورد عليه أمران:

        الأول: أن الشيعة وغيرهم كبعض الخوارج والنظام قد منعوا من حجيته فكيف يدعى إطباق الجميع، وأجاب عنه بعض من أخذته الحميّة لدين آبائه وغشي بصيرته التحفظ لطريقة كبرائه بأن هؤلاء لشرذمة قليلون من أهل البدع والأهواء قد نشئوا بعد اتفاق الآراء فلا يعتد بهم ولا بخلافهم وأنت خبير بأن ما نسبوه إلينا من إنكار حجية الإجماع افتراء منهم علينا كسائر مفترياتهم في ترويج طريقتهم الكاسدة وتصحيح مبتدعاتهم الفاسدة، فإنا لا ننكر حجيّة الإجماع مطلقا وإنما ننكر حجيّته من حيث كونه إجماعا وننكر انعقاده في زمن الغيبة بمجرد اتفاق العلماء المشاهدين مع أن منّا من يعتد به في الحجية كما عرفت.

        والثاني أنه إثبات حجية الإجماع بالإجماع وأنه دور وجوابه واضح لأن حجية هذا الإجماع على ما عرفت من الدليل ليس لحجية مطلق الإجماع بل لكشفه عن الدليل القاطع فلا يلزم الدور.

        أقول ويرد عليه المنع من قطع الكل بحجية الإجماع فإن فساد هذه الدعوى مما لا يكاد يشتبه على الجهّال فضلا عن غيرهم بل قد قيل إن أول من ألقى هذه الشبهة بين الناس واستخف قومه بها هو الثاني حيث رام ردع الخلق عن أهل الحق فلم يجد سبيلا إليه سواها فروى لهم أنه سمع من الرّسول صلى الله عليه وآله أنه قال لا تجتمع أمتي على الخطأ فأشار لهم إلى الاجتماع على أمير والبيعة معه وأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا على الحق بذلك وعجل بذلك مخافة أن يفرغ صلوات اللّه عليه ومن كان معه من خواص الأمة من تغسيل الرسول وتجهيزه صلى الله عليه وآله ودفنه والصّلاة عليه ويخلّوا بمرامه فتركوا تشييع جنازة نبيّهم والصّلاة عليه وتفرّقوا من حوله وسارعوا إلى عقد البيعة ونصب الأمير.

        ثم قد وقع التّشاجر بينهم هناك مما لا يخفى على من وقف على كتب الفريقين واطلع على الأحوال التي جرت في البين، فإن زعموا أن الذين اجتمعوا على بيعة الأول كانوا قاطعين بحجيّة الإجماع ولو لتلك الرواية لقطعهم بصحة صدورها وبمراده منها فمجازفة واضحة إذ بعد تسليم وثاقة المجمعين وورعهم والتزامهم بعدم التخطّي عن منهج الشريعة وخلوصهم من الدواعي النفسانية من حبّ الرئاسة والطمع في منصب الإمارة أو بعض أهل الحق المنبعث من شقوتهم الذاتية وخبث فطرتهم الأصلية مع أن الكل ممنوع والآثار المنقولة سند واضح عليه فلم لا يجوز أن يكونوا قد عولوا على تلك الرواية من حيث كونها خبر آحاد وأنه حجة كما في سائر المسائل الشرعية وأن ظاهر اللفظ يقتضي ذلك فلا يعدل عنه من غير قرينة، كيف لا وقد كان أكثرهم عواما همجا رعاعا وقد أنكر عليهم ذلك أولو الدراية والبصيرة التامة كعلي عليه السلام وسلمان وأبي ذر ومقداد فلم ينفع فيهم الإنكار وأصرّوا على المعاندة والاستكبار حتى أنهم ألزموهم بها بالتحذير والتخويف، ولو كان غرضهم عدم التخطّي عن جادة الشريعة لما سلكوا هذه الطريقة الشنيعة مضافا إلى منكرات أخر صدرت منهم كغصب فدك ورد شهادة أهل العصمة وضرب عمار ونفي أبي ذر وطبخ المصاحف إلى غير ذلك مما يشهد به الرجوع إلى الكتب المعروفة والأسفار المشهورة.

        وأمّا من تأخر عنهم فإن صح قطعهم بحجية الإجماع فإنما هو قطع عمّا غايته إثبات الظن في حق من قبلهم مع قلة الواسطة وقرب العهد.

        وبالجملة فليس لهم في تأصيل مذهبهم مستند إلاّ الإجماع ولا لهم دليل على حجية الإجماع يصلح للذكر إلاّ هذه الروايات المقدوحة سندا ودلالة لأن كتبهم وطواميرهم مشحونة بذلك ولو كان لهم دليل أقوى ومستند أجلى لذكروه وانتصروا به إذ طال ما تشاجروا في تصحيح مذهبهم الفاسد وترويج طريقهم الكاسد فلم يزيدوا على ذلك شيئا يكون أقوى دلالة وأوضح إفادة.

        ولقد أفرط بعض سفهاء هؤلاء القوم وسفلتهم فادعى الضرورة على حجيّة الإجماع والظاهر أنه لما ضاق عليه المجال وانقطع به طريق الاستدلال استراح بجعل الدعوى ضرورية خوفا من شناعة الإلزام ومحافظة على أساس دين آبائه وكبرائه من الانهدام، وإلاّ ففساد هذه الدعوى في المقام مما لا يكاد يشتبه على أحد من الأنام.

        واحتج منكروا الإجماع بوجوه سخيفة غير صالحة لأن تذكر فالصفح عنها أولى وأجدر، بقي في المقام مباحث مهمّة لا بد من التنبيه عليها، الأول: ذهب بعض العامّة إلى امتناع الاطلاع على الإجماع في غير زمن الصحابة نظرا إلى انتشار العلماء في أقطار الأرض وعدم إمكان الإحاطة بهم والوقوف على آرائهم، وأمّا في زمن الصحابة فقد كان الاطلاع عليه ممكنا لقلّة المسلمين واجتماعهم فكان الإحاطة بهم وبآرائهم متيسّرة، ورام باستثناء الصورة المذكورة تصحيح مذهبهم حيث إن مبناه على الإجماع، واعترض عليه العلامة بأنا نجزم بالمسائل المجمع عليها جزما قطعيا ونعلم اتفاق الأمة عليها علما وجدانيا حصل بالتسامع وتظافر الأخبار عليه.

        وأورد عليه في المعالم بأن مقصود ذلك القائل عدم إمكان الاطلاع على الإجماع ابتداء من غير جهة النقل وما ذكر إنما يدل على حصول العلم به من طريق النقل كما يدل عليه كلامه أخيرا فلا ورود له عليه.

        ورده بعض المعاصرين بأن مراد العلامة تظافر الأخبار على نقل كل فتوى من فتاوى العلماء لا على نقل الإجماع ومنشأ الغفلة إفراد الضمير المجرور في عليه.

        أقول وفي كل من الرد والإيراد والاعتراض مع أصل الدعوى نظر أما في الرد فلأنه مع كونه تعسّفا في كلام العلامة من حيث تذكر الضمير مع تأنيث المرجع الذي ذكره مضافا إلى عدم سبق ذكره ضعيف لأن العلم بالإجماع على تقديره أيضا يكون بالنقل غايته أن يكون النقل تفصيليا وإطلاق كلام المورد يتناول النقل التفصيلي والإجمالي، وأما في الإيراد فلأن مقصود القائل منع إمكان [الصفحة 252] الاطلاع على الإجماع المنعقد بعد زمن الصحابة مطلقا، وغرض المعترض إمكان الاطلاع عليه بطريق النقل، فالتدافع واضح.

        نعم لو أراد المعترض بيان إمكان الاطلاع على الإجماع المنعقد في زمن الصحابة بطريق النقل لم يكن لاعتراضه مساس بكلام القائل لكنه غير صالح لهذا التنزيل، وأما في الاعتراض فلأن قضيّة ما ذكره القائل من كثرة العلماء وانتشارهم في أقطار الأرض إن تم وصلح دليلا على منع إمكان الاطلاع على أقوال العلماء بغير طريق النقل كما هو ظاهر الاعتراض لصلح دليلا على منع إمكان الاطلاع عليها بطريق نقل الآحاد أيضا فضلا عن النقل المتضافر، إذ ليس الإحاطة بنقل الوسائط في العقل والعادة أولى من إحاطتنا بالأقوال فالمنع من إمكان الثاني في مرتبة المنع من إمكان الأول.

وأمّا في أصل الدعوى فبأن الاطلاع على الإجماع في غير زمن الصحابة بالوقوف على أقوال المعروفين ولو بطريق النقل وعلى أقوال الباقين ولو بطريق الحدس من حيث وضوح المدرك وظهور المسألة مما لا يكاد تناله يد التشكيك فمنعه شبهة في مقابلة الضرورة فلا يلتفت إليها.

        ثم إن صاحب المعالم قد اقتفي أثر هذا القول فقال الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول الإجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام كيف وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ليدخل في جملتهم ويكون قوله مستورا بين أقوالهم وهذا مما يقطع بانتفائه، فكل إجماع يدعى في كلام الأصحاب مما يقرب من عصر الشيخ إلى زماننا هذا وليس مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد حيث يعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم فلا بد من أن يراد به ما ذكر الشهيد رحمه الله من الشهرة، وأمّا الزمان السابق على ما ذكرناه المقارب لعصر ظهور الأئمة عليهم السلام وإمكان العلم بأقوالهم فيمكن فيه حصول الإجماع والعلم به بطريق التتبع، وإلى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف وساق القول المذكور مع ما اعترضه العلامة وأجاب بما حكيناه عنه.

        أقول الظاهر أن من اعتبر في الإجماع دخول المعصوم في المجمعين على وجه لا يعرف نسبه إنما يقول به بالنسبة إلى زمن الغيبة مطلقا نظرا إلى أن الإمام عليه السلام لا يتمكن فيه من الظهور بطريق يعرف نسبه فيظهر بسيرة عالم من علماء الشيعة مع إخفاء نسبه لإلقاء الحق بينهم وربما أمكن هذه الدعوى بالنسبة إلى بعض أزمنة الظهور أيضا كالزمن الذي يشتد فيه أمر التقيّة أو يكون الإمام فيه محبوسا، وأمّا بالنسبة إلى الزمن الذي كان الإمام فيه ظاهرا متمكنا من نشر الأحكام فبشاعة هذه الدعوى غير خفيّة على أحد، ومما يدل على ما ذكرناه أن دعوى الإجماع إنما توجد في كلمات أصحابنا الذين نشئوا بعد الغيبة ودعوى أنهم عثروا في ذلك على اتفاق العلماء في زمن ظهور الأئمة أو ما يقرب منه على وجه قطعوا بدخول المعصوم فيهم على وجه لا يعرف نسبه مجازفة بيّنة مع أن الاطلاع عليه لا يكون إلا بطريق النقل وطريقهم لا ينحصر فيه، بل الغرض في ظاهر كلام صاحب المعالم في غير صورة النقل مطلقا وإن أمكن تنزيله على النقل الإجمالي، والتحقيق فساد هذه الدعوى في زمن الغيبة أيضا لأن مبناها إمّا على ما ذكره الشيخ من الوجوه المتقدّمة فقد عرفت فسادها وأنها لا توجب القطع بل ولا الظن بذلك أو على أن الإمام موجود بين العلماء الظاهرين من الشيعة لكن على وجه لا يعرف أنه إمام وهذا إن لم يقطع بخلافه فلا أقل من الظن القوي بعدمه فكيف يمكن دعوى القطع به.

        والتحقيق أن الإجماع الذي يمكن الاطلاع عليه هو الاتفاق الكاشف عن موافقة المعصوم ورأيه كما مرّ وهذا مما لا يختلف الحال فيه بالنسبة إلى زمن ظهور الإمام وخفائه ثم تعليله لامتناع الاطلاع على الإجماع في زمن الغيبة بانتفاء وجود المجتهدين المجهولين عليل، إذ لا بعد في وجودهم عقلا وعادة، ودعوى القطع بانتفائهم في زمن الغيبة حتى بالنسبة إلى زمن المدعين للإجماع ووجودهم في زمن الظهور مجازفة واضحة، وأما تنزيل الإجماع في كلامهم على معنى الشهرة فلا يخلو من بعد لعدم مساعدة الاصطلاح المعروف عليه وانتفاء القرينة الصارفة ظاهر في كلامهم، وأما ما ذكره بعض العامة فليس له كثير تعلق بمقالته لأن مبنى المنع فيه على انتشار العلماء بعد عصر الصحابة ومبنى المنع فيها على عدم وجود المجتهدين المجهولين وكان غرضه مجرد المماثلة في المنع لا في التعليل.

        الثاني إذا أفتى جماعة وسكت الباقون أو لم يعلم مخالفتهم ولم يحصل الاستكشاف عن قول المعصوم فلا ريب في عدم كونه إجماعا، وتسمية النوع الأول بالإجماع السكوتي إمّا مجاز والوصف قرينة عليه أو حقيقة باعتبار التركيب أو التقييد، واختلفوا في حجيته فعن الشهيد في الذكرى اختيار حجيته لكن المصرّح به في كلامه هو النوع الثاني، ويستفاد منه حجية النوع الأول بالفحوى، وفصل الفاضل المعاصر فاختار حجيّة الثاني دون الأول محتجا على المقامين بأدلّة الطرفين وهو بمكان من الغرابة، وذهب آخرون إلى المنع مطلقا.

        هذا والتحقيق أنه إن كان بحيث يستكشف به عن وجود دليل معتبر عندنا كرواية ولو ضعيفة إن صلح قولهم لجبرها كان حجة وإلاّ فلا.

        أما حجيته في الصورة الأولى فظاهرة وقد سبق التنبيه عليه وأما عدم حجيته في الثانية فللأصل وضعف مستند القول بحجيته كما سيأتي.

        نعم من سلك في حجية الإجماع مسلك الشيخ يلزمه القول بالحجيّة في المقام خصوصا بالنسبة إلى القسم الأول وقد عرفت ضعفه مما سبق، احتج الشهيد في الذكرى بأن عدالتهم تمنع من الاقتحام على الإفتاء بغير علم وأنه لا يلزم من عدم الظفر بالدليل عدم الدليل.

        والجواب أن عدالتهم إنما تمنع عن الإفتاء من غير دليل معتبر عندهم ولا يلزم من كون دليل معتبرا عندهم أن يكون معتبرا عندنا لوقوع الاختلاف في الأدلة كوقوعه في الأحكام، وقد يستدل للشهيد بأن قولهم يفيد الظن وإن قلّوا لخلوه عن المعارض وأنه حجة عند انسداد باب العلم وبأن الأصحاب كانوا يأخذون بما يجدونه في شرائع الصدوق عند إعواز النصوص لحسن ظنهم به، وعد فتواه كروايته.

        والجواب أن انسداد باب العلم إنما يوجب حجية الظن في الأدلة لا في الأحكام كما سيأتي تحقيقه في محل وإن عمل الأصحاب بما كانوا يجدونه في الشرائع غير ثابت على وجه يصح الاستناد إليه مع أن تعويلهم عليه لم يكن من جهة كونه قولا لم يعثروا لمخالفه وإلا لما اقتصروا على الشرائع ولما تعدوا إلى المواضع التي عبروا فيها بالمخالف بل من حيث وثوقهم بأن فتاويه متون الأخبار المعول عليها وقد عرفوا ذلك منه بالتتبع [الصفحة 253] كلماته أو بتصريحه بذلك فلا تعلق له بالمقام.

        واحتج بعض العامة على حجية الإجماع السكوتي بأن السّكوت دليل الرضا والقبول فعلى هذا يرجع الإجماع السكوتي إلى الإجماع المطلق.

        والجواب المنع بل السّكوت أعمّ من الرّضا لاحتماله التوقف أو التمهل للنظر أو لتجديده في حق غير المعصوم أو التقيّة لخوف الفتنة بالإنكار أو لأنه لا يلزم المجتهد الإنكار على مثله عند مخالفته لأن وظيفة كلّ الرجوع إلى مؤدى نظره.

        الثالث نقل الشهيد في الذكرى أن بعض الأصحاب ألحق المشهور بالمجمع عليه واستقر به إن أراد الإلحاق في الحجية دون التسمية وعلله بأمرين الأول أنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام على الفتوى بغير علم وليس في عدم وجداننا للدليل دلالة على وجوده في الواقع وضعفه، ظاهر لأنّ عدالتهم إنما تمنع من الإفتاء من غير ما ثبت حجيته عندهم ولا يلزم من ثبوت حجية شي‏ء عندهم ثبوت حجيته عندنا بعد ما ظهر من وقوع الخلاف في الأدلة، وقد مرّ التنبيه على ذلك، الثاني قوة الظن في جانب الشهرة.

        أقول هذا التعليل إن لم يجعله مبنيا على قاعدة انسداد باب العلم وبقاء التكليف كما هو الظاهر من بيانه فلا خفاء في سقوطه إذ الأصل عدم جواز العمل بالظنّ وإن كان قويا ما لم يبلغ درجة العلم، وفرضه في المقام يوجب كون الشهرة إجماعا وهو ليس محل البحث وجواز التعويل على خبر الواحد وظاهر الكتاب ليس من جهة كونه مفيدا للظن المطلق أو الظن القوي حتى تيسر الحكم منه إلى الشهرة بل من حيث التعبّد أو من حيث كونه مفيدا للظنّ الخاص فلا يتعدى إلى سائر موارد الظن العارية عن الدليل، وإن جعله مبنيا على تلك القاعدة فهو وإن كان مستقيما على طريقة بعض متأخري المتأخرين إلا أنه غير مرضي عندنا لما سنحققه من أن انسداد باب العلم ثابت في الأحكام والأدلة وبقاء التكليف بهما معلوم وقضية ذلك وجوب التعويل في الأحكام على الأدلة الظنية لا على مطلق الظن في الأحكام، وكون الشهرة من جملة تلك الأدلة ممنوع، كيف والمشهور بينهم حجيتها.

وأجاب عن الدليل الثاني في المعالم بأن الشهرة التي يحصل معها قوة الظن هي الحاصلة قبل ومن الشيخ رحمه الله لا الواقعة بعده كما هو الغالب وذلك لأن أكثر الذين نشئوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليدا له لحسن ظنهم به ثم نقل هذه الحكاية عن جماعة وربما أوهم كلامه هذا التزامه بحجيّة الشهرة التي كانت قبل زمن الشيخ نظرا إلى إفادتها للظن وهو الذي يناسب احتجاجه على حجية خبر الواحد بانسداد باب العلم إلى الأحكام ووجوب التعويل معه على الظن فيها، فيشكل عليه بأن الشهرة بعد الشيخ قد يكون من غير أتباعه فكيف أطلق المنع من حجيتها وقد عرفت مما قررنا ضعف الطريق المذكور من تأمل في عبارة المعالم في المقام وفي المبحث المتقدم عليه وقف على ضعف الوهم المذكور، ثم لا يخفى أن ما نسبه إلى العلماء الذين كانوا بعد الشيخ من تقليدهم إياه يشبه أن يكون وهما من حيث إنهم لما وافقوه في المسلك والطريقة غالبا أفضى ذلك إلى موافقتهم له في الأحكام أيضا غالبا فأشبه ذلك في بادي النظر أنهم إنما عولوا فيها على تقليده مع أن فتاوى الشيخ مختلفة ولو كان تعويلهم على تقليده لوجب عليهم الرجوع إلى رأيه المتأخر مع وضوح خلافه، بل قد خالفوا الشيخ في بعض المواضع كما نبه عليه بعضهم ثم هذا لا يجامع ما اشتهر بينهم من عدم جواز تقليد الأموات إلا أن يكون مع إعواز المجتهد الحي في زمانهم وهو بعيد.

        وقد يستدل على حجية الشهرة بعموم قوله “خذ بما اشتهر بين أصحابك” وقوله عليه السلام “واترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه” فإنّ ما من أداة العموم فيتناول الشهرة في الفتوى أيضا وأيضا يتناوله عموم المجمع عليه، فإنّ المراد به المشهور أو ما أجمع عليه الأكثر لا ما اتفق عليه الكل كما هو الظاهر لمنافرته لتعليل الأخذ بالمشهور به وأيضا تعليق الحكم بعدم الريب على الوصف أعني المجمع عليه بالمعنى الذي سبق يدل على أنه كذلك من حيث قيام المبدأ به فيدل على ثبوت الحكم للمقام، أيضا لاشتراك العلة ثم المفهوم من التعليل المذكور أن حجية الشهرة ليست من حيث نفسها بل من حيث كونها مفيدة للظن لأنه المراد بنفي الريب عنه فيوافق ما مرّ في الدليل الثاني.

        وجوابه أنّ المراد بالموصولة في المقامين الرواية دون الفتوى بقرينة أن السؤال عن تعارض الرّوايتين وما يقال من أن العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص المورد إنما يتم مع وجود ما يقتضيه في اللفظ وهو منتف في المقام لسبق الرواية بالذكر بحيث يصلح للعهد إليها وقد اعترفوا في محله أن الموصولات إنما تفيد العموم حيث لا عهد وإشعار الدليل ضعيف، سلمنا لكن سند الرواية قاصرة عن التعويل عليها والعمل بها إنما يوجب الانجبار في محله ولا سبيل إلى التعدي عنه ولو سلم فمخالفتها للمشهور بالنسبة إلى المقام يوجب طرحها فيه كما سنشير إليه وقد يورد على القائلين بحجية الشهرة بأنها لو كانت حجة لزم من حجيتها عدم حجيتها لأن المشهور عدم حجيتها وما يلزم من وجوده عدمه فهو ممتنع.

        وأجيب بوجوه: الأول ما ذكره بعض المعاصرين من أن الشهرة التي نقول بحجيتها هي الشهرة في الفروع والشهرة التي انعقدت على عدم حجيّة الشهرة إنما هي الشهرة في الأصول ولا نقول بحجيتها حتى يلزم منه عدم حجيتها في الفروع، وفيه نظر لأن الحجتين اللتين تمسكوا بهما على حجيّة الشهرة إن تمتا لدلتا على حجيتها في الأصول أيضا فإن عدالتهم كما تمنع من الاقتحام على الفتوى من غير دليل في الفروع كذلك تمنع منه في الأصول أيضا ودليل انسداد باب العلم مشترك بين مباحث الأصول والفروع كما سيأتي تحقيقه في محله، والظن بالشهرة حاصل في المقامين.

        الثاني أنّ الحجة إنما تنهض بحجية كل شهرة تفيد الظن بموردها والشهرة التي انعقدت على عدم حجية الشهرة مما لا تفيد الظن به فلا يصح التعويل عليها في منع حجية الشهرة، وفيه أيضا نظر لأن الشهرة في نفسها تفيد الظن ما لم يقدح فيها قادح وليس في مقابلة هذه الشهرة ما يصلح للقدح فيها سوى الأصل أعني أصالة عدم قيام دليل على عدم حجيتها بعد انسداد طريق العلم بناء على حجية كل ظن لا دليل على عدم حجيته حينئذ كما هو قضية ما قرروه في الطريق العقلي أو عموم الرواية على تقدير تسليم شمولها للمقام وشي‏ء منهما لا يصلح للقدح، أما الأول فلأن مرجعه إلى عدمه العلم وهو لا يصلح لمعارضة أمارته وإلا لانتفى فائدة القول بحجية الشهرة، وأما الثاني فلأنه مجرد عموم ولا ريب في رجحان الدليل الخاص [الصفحة 254] عليه مع أن من يقول بحجية الشهرة يستعملها في مقابلة العمومات والمطلقات بل وسائر الظواهر فلا يتم القدح به أيضا.

        الثالث: أن الدليل الدال على حجية الشهرة وهو القاعدة المذكورة قطعيّ الدلالة فلا يعارضه الشهرة القائمة على عدم حجيتها لأنها ظنية الدلالة، وفيه أيضا نظر لأن الدليل الدال على حجية مطلق الشهرة إن أفاد حجيتها بحسب الواقع امتنع ورود التخصيص وإن أفاد حجيتها بحسب الظاهر ما لم يقم دليل على خلافها فاستلزام حجيتها لعدم حجيتها دليل يصلح للدلالة على حجيتها فوجب الأخذ به.

        هذا ويمكن أن يجاب أيضا بأن الدليل الدال على حجية الشهرة لا يدل على حجية الشهرة على عدم حجية الشهرة لأنها غير صالحة للحجية لما يلزم من وجودها عدمها فيرجع مفاد الدليل إلى حجية شهرة لا يمتنع حجيتها، وهي ما عدا الشهرة على عدم حجية الشهرة.

        ويشكل بأن مفاد الدليل المذكور حجية مطلق الشهرة فتقييده بغير ما انعقد على عدم حجيته الشهرة ليس بأولى من تقييده بما انعقد على غيرها فيتكافأ الوجهان، وفيه ما فيه، بل التحقيق أن الشهرة القائمة على عدم حجية الشهرة نافعة لنفسها خاصة لأن ما قضية ثبوته عدم نفسه وعدم غيره لا يثبت حتى يمنع من ثبوت غيره فيبقى بقية الشهرات سالمة عما يدل على عدم حجيتها، وإذا ثبت بقاعدة انسداد باب العلم إلى أدلة الأحكام حجية كل ظن لا دليل على عدم حجيته اندرجت الظنون الناشئة من تلك الشهرات في العموم لا محالة فتدبر.

        ثم من فضلائنا المعاصرين من فصل في الشهرة العارية عن الدليل بين الشهرة المعتضدة برواية ضعيفة وبين الشهرة المجردة فمنع من حجية الثانية وإن حصل الظن منها لما مر من قيام الشهرة على عدم حجيتها وبنى على حجيّة الأولى لما مر في الدليل الثاني مع عدم ثبوت الشهرة على عدم حجيتها، وهو ضعيف لأنّ الشهرة منعقدة على الظاهر على عدم حجية الشهرة مطلقا، نعم يصلح عند كثير منهم الشهرة لمعاضدة الرواية الضعيفة وجبرها وذلك لا يقتضي القول بحجيتها وإلا لكان حجيتها مع صحة الرواية أولى، ومن هنا ربما ينشأ الوهم حيث يتوهم أن تعويلهم في ذلك على الشهرة المعتضدة بالرواية لا على الرواية المعتضدة بالشهرة، والذي ظهر لنا هو الثاني، ثم التحقيق عندي أن الشهرة إن كشف عن وجود حجة معتبرة عندنا ولو بمساعدة الشهرة كرواية ولو ضعيفة سندا ودلالة بحيث تصلح الشهرة لجبرها كانت حجة وجاز التعويل عليها، والكلام في حجيتها كالكلام الذي سبق في حجية الإجماع وإلا فهي حجة في أدلة الأحكام دون نفس الأحكام، قلنا في المقام دعويان لنا على أولهما ما نحققه في مبحث الأخبار من أنا كما نعلم بالضرورة من الدين بأنا مكلفون في زماننا بالأحكام المقررة في الشريعة كذلك نعلم بأنا مكلفون بتحصيلها واستفادتها من طرق مخصوصة قد اعتبرها الشارع طريقا إليها.

        وبعبارة أخرى نعلم بأنا مكلفون بالفعل بالعمل بمقتضى [بمؤدى] أدلة مخصوصة وقد قررنا هناك أن تلك الأدّلة وإن أمكن تحصيل العلم أو ما يثبت قيامه مقامه ببعضها إجمالا لكن العمل بها يبتني على معرفة تفاصيلها ولا طريق إلى تحصيلها بالعلم ولا بطريق علمي فتعين التعويل فيها على الظنون التي لا دليل على عدم حجيتها فيها، ولو بعد انسداد الطريقين أو الطرق الظنية التي هي كذلك، ولا خفاء في أنّ الشهرة عند خلوها عن المعارض من الأمارات المفيدة للظن بما انعقدت عليه ولا دليل على عدم حجيتها في الأدلة بعد انسداد طريق العلم إليها فيتعين القول بحجيتها، ولا يقدح في ذلك انعقادها على عدم حجية نفسها لأن قضيّة هذه الشهرة الظن بعدم حجية نفسها كما أن قضيتها الظن بعدم حجية غيرها فلا يحصل ظن بعدم حجيّة غيرها سالم عن المعارض إذ مفادها ظن مظنون بها عدم حجيته فيسقط عن درجة الاعتبار كالدليلين المتعارضين إذا تكافئا فيبقى الظن الحاصل من الشهرة المنعقدة على حجية طريق أو على عدم حجية طريق غير الشهرة سالما عن المعارض السّالم، ويحتمل القول بالأخذ بأقوى الشهرتين لكونه أقوى الظنين وليس بمعتمد، والتحقيق هو الأول ولا فرق بين أن يكون الدليل المثبت حجيته بالشهرة نوعا كليّا كالخبر الموثوق والإجماع المنقول أو شخصا جزئيا كما لو انعقدت على حجية رواية ضعيفة ولو عاميّة أو أصل مثبت أو سيرة ظنية أو تقديم ظاهر في مقابل أصل أو غير ذلك، فإن التحقيق عندنا عدم حجية أكثر أنواع هذه الطريق لكن إذا قامت شهرة على حجية فرد منها في خصوص مقام كان حجة ولا يتعدى إلى غير مورد الشهرة حتى إنها لو انعقدت على العمل برواية ضعيفة عاميّة في بعض مواردها فقط اقتصر على العمل في مورد العمل ولا يتعدى إلى بقية مواردها وكذا لو انعقدت على العمل ببعض الرواية دون بعض فإنه لا يتعدى إلى غير محلّ العمل.

        ولا يتوهم أنه يلزم من هذا البيان حجية كل شهرة إذ لا بد للقائلين من مستند معتبر عندهم فإن عدالتهم يمنع من الإفتاء بدونه ويثبت اعتباره عندنا على تقدير عدمه بقيام الشهرة عليه وذلك لأنه لا يلزم من توافقهم على الحكم توافقهم على المستند لجواز أن يستند بعضهم إلى غير ما يستند إليه البعض الآخر بحيث لا يتحقق شهرة على مستند.

        نعم لو عرفت منهم الاشتراك في المستند بالتصريح أو بالفحوى صحّ التعويل عليه كما بيّناه ولا يذهب عليك أن قولنا بحجيّة الشهرة في أمر إنما هو بالنظر إلى نفسها كما هو الشأن في البحث عن كل دليل صحيح وإلا فقد نأخذ بخلاف المشهور عند قيام أمارة أقوى منها أو اتضاح فساد مأخذها.

ولنا على عدم حجيتها في نفس الأحكام أن الطريق إليها منحصر في الطرق المعلومة والمظنونة وعدم كونها من الطرق العامية واضح وكذلك عدم كونها من الطرق الظنية بعد ما عرفت من أن المعروف بين أصحابنا عدم حجيتها بنفسها.

        نعم تصلح الشهرة على الحكم لجبر الرواية الضعيفة الدالة عليه إذا كانت مروية من طرقنا حيث لا نعلم باستناد الشهرة إلى غيرها لو علمنا به لكن لم يكن ذلك للإعراض عنها بل لعدم العثور عليها نظرا إلى حصول الوثوق حينئذ بصحة صدورها لا سيّما إذا تمسّك بها جماعة وخصوصا إذا كانت قوية باعتبار السند وقد حققنا آنفا وفي مبحث الأخبار [السنة] حجية الأخبار الموثوق بصحتها وإن كان لأمارة خارجة، وأما إذا كانت الرواية عاميّة مروية من طرق مخالفينا فالظاهر عدم انجبارها بالشهرة على الحكم لأن القول بحجيتها يؤدي إلى القول بوجوب المراجعة إلى كتب أخبار المخالفين في مثل ذلك كوجوبها إلى كتب أصحابنا لوجوب بذل المجتهد وسعه في الأدلة وفساده ظاهر من الطريقة المعروفة بين أصحابنا ولو اعتضد في بعض الرواية بالشهرة اقتصر على موضع الانجبار لأنه صدق الراوي في بعض ما يرويه لا يوجبه في غيره وكذا لو اعتضد بعض المدلول فيقتصر على موضع الانجبار لجواز أن يكون النقل بالمعنى.

        واعلم أن الشهرة الغير الكاشفة قد تنعقد على الحكم ودليله وقد تنعقد على الحكم دون دليله وقد تنعقد على الدليل دون الحكم وقد عرفت مما حققنا أن النوع الأول حجة وأن الثاني ليس بحجة لكنه صالح لجبر الأخبار الضعيفة المروية من طرقنا، وأمّا النوع الثالث فإما أن ينعقد فيه الشهرة على خلاف حكم الدليل أو لا، أمّا الثاني فلا إشكال في بقاء الدليل فيه على حجيته ما لم يعارضه معارض، وأمّا الأول فالحق أنه لا يسقط الدليل المخالف للمشهور فيه عن الحجيّة ما لم يستكشف [الصفحة 255] بالشهرة عن وجود خلل خفي فيه أو تنعقد على معارض معيّن وكونه أقوى.

        وقد يوجد في كلام بعض المعاصرين من أنّ الشهرة يتقوّى بكثرة الأخبار التي تخالفها وأنه كلما كانت الأخبار التي تخالفها أكثر وأشهر كانت الشهرة أقوى لا سيّما إذا كانت الأخبار صحيحة صريحة وخصوصا إذا لم يكن على المشهور دليل ظاهر أو كان عليه دليل ضعيف وهذا على إطلاقه غير جيّد لأن مجرّد وجود المعارض عندهم أو كونه أقوى لا يوجب كونه كذلك عندنا.

        واعلم أن الشهرة تنقسم إلى محصّلة ومنقولة فالمحصّلة هي الشهرة التي علم بها بالتتبّع في كتب الأصحاب أو بنقل من يحصل القطع بنقلهم إمّا لكثرتهم أو لمساعدة أمارات خارجة، والمنقولة هي التي تصدى لنقلها من لا يحصل القطع بنقله وثبوتها بالطريق الأول ليس موضع خفاء، وأمّا بالطريق الثاني فموضع كلام والتحقيق أنه إن أمكن الاطلاع عليها بالطريق الأول لم يجز التعويل على الثاني للأصل ولعدم حصول الاستفراغ التام المعتبر في الاجتهاد حينئذ وإلا جاز مع حصول الوثوق بنقله تعويلا على الظاهر من نقل الثقة.

        فإن قلت لا تصنيف لكثير من أصحابنا وكثير من أصحاب التصنيف قد اضمحلت مصنفاتهم واندرست كتبهم فليس من يطلع على قوله من الأصحاب إلا البعض فكيف يمكن الوقوف على الشهرة والعلم بها مع الجهل بقول الآخرين وأيضا تدوين الفتاوى لم تكن متداولة بين قدماء أصحابنا وإنما كان طريقتهم الجمود على تدوين الأخبار غالبا كما نبّه عليه بعضهم فكيف يمكن الاطلاع على مذاهبهم وآرائهم.

        قلت أساطير الأصحاب ورؤساؤهم المعروفون أولو مصنفات معروفة وكتب مشهورة وقد تقاربت أزمانهم وأعصارهم والغالب وقوفهم على مذهب معاصريهم ومن قرب إلى عصرهم وتصديقهم لنقل أقوالهم ولو بطريق الإجمال وعدم تعيين القائل فمع عدم نقل الخلاف إلا عن قليل مما يستكشف به غالبا من عدم مخالف يعتد به سواهم، وأما قدماء أصحابنا فيعرف مذاهبهم غالبا بكتب الأخبار التي دونها للعمل أو بالنقل أو بمساعدة أمارات خارجية يقف عليها المتتبع على أنه لا يبعد أن يقال إن الشهرة المفيدة للظن وهي التي يناط بها الأحكام السابقة هي الشهرة بين من وقف على قوله من أصحابنا الذين تداولت كتبهم ونقلت آراؤهم دون غيرهم ممّن يتعذر الوصول إلى معرفة قوله غالبا.

        واعلم أيضا أنه قد تتعارض الشهرة بين المتقدمين والشهرة بين المتأخرين فيمكن ترجيح شهرة المتقدمين لكونهم أقرب إلى زمن المعصوم وأطلع على الأخبار والآثار وترجيح شهرة المتأخرين لكونهم أدق نظرا وأعرف بوجوه الاستنباط وقد قيل ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ويحتمل عدم الاعتداد بخصوصيّة إحداهما والرجوع إلى ما هو المشهور بين الكل على تقدير تحققه ولو قيل بالرجوع إلى ما يكون والظن معه أقوى وإن ذلك يختلف باختلاف الموارد كان قويا.

        هذا كله في الشهرة في الفتوى وأمّا الشهرة في الرواية فالحق أنها تنهض بجبر الرواية الضعيفة وإن لم يساعدها الشهرة في الفتوى ويتحقق بتكرر موضع الضّعف من السند بحيث يحصل معه الاعتماد بصدق الخبر ويختلف ذلك باختلاف مراتب الضعف ولو تحقق الضعف في جميع رجال السّند اعتبر التكرر في الجميع وأمّا اشتهار نقل الرواية في كتب المحدّثين فلا يخلو من نوع تأييد لكن لا يبلغ بمجرده درجة الحجية.

فصل ينقسم الإجماع إلى بسيط ومركب

        فالإجماع البسيط هو الإجماع المنعقد على حكم واحد ولو تعددت الأحكام وانعقد الإجماع على كل واحد منها فإجماعات بسيطة ويقابله المركب وهو الإجماع المنعقد على حكمين أو أحكام مع عدم انعقاده على كل واحد سواء كان في موضوع واحد كاستحباب الجهر في ظهر الجمعة وحرمته حيث افترق الأصحاب فيه فرقتين فالقول بوجوبه مثلا خرق للإجماع المركب أو في موضوعين فما زاد كتبديل الركعتين من جلوس بركعة من قيام في الشك بين الثنتين والثلاث وبين الثلاث والأربع فإن من قال بجواز تبديلهما بها قال به في المقامين ومن منع منه في المقامين فالقول بجوازه في أحدهما دون الآخر خرق للإجماع المركب، ويسمّى هذا النوع بعدم القول بالفصل أيضا وهو أعمّ من الإجماع المركب من وجه لجواز الاتفاق على عدم الفرق بين حكم موضوعين فصاعدا مثلا من غير أن يستقر الآراء على التعيين مطلقا على مذهب العامة أو في الظاهر مع القطع بدخول المعصوم عليه السلام مع احتمال وجود مانع في حقه كالتقيّة بناء على مذهبنا أو لعدم علمنا ممّا استقرّت عليه الآراء عند الفريقين، والأظهر أن يخصّ الإجماع المركب بما يتحد فيه مورد الأقوال ويجعل لما يتعدّد فيه المورد عنوان عدم القول بالفصل لئلا يلزم التكرار في بيان أقوال المسألتين وذكر أحكامهما.

        إذا تحقق عندك هذا فلا بد لنا هنا من تحقيق مقامات، الأول: لا يجوز عندنا مخالفة الإجماع البسيط على طريقتنا حيث يكون كاشفا عن قول المعصوم الواقعي مطلقا ووجهه واضح وأما ما كشف عن قوله الظاهري فيجوز مخالفته مع قيام دليل على خلافه كما لو استكشف بالاتفاق عن حكم الإمام بطهارة المخالفين في الجملة فإنه يجوز مخالفته عند قيام دليل كاشف عن كونه حكما ظاهريا منوطا بالتقية وكذا لو استكشف بالإجماع عن تأصيله لأصل عام على وجه يقبل [يفيد] التخصيص عند قيام دليل عليه، ولو علم إجمالا بورود الحكم منه مورد التقية ولم يظفر بدليل يدل على تعيين المخالف ففي جواز الأخذ به وعدمه وجهان أظهرهما الأخير.

        نعم لو علم أنّ المنظور فيه مراعاة مصلحة في المكلفين وعلم ببقائها في حقنا وجب الأخذ به وفي صورة الظن بهما أو بأحدهما مع العلم بالآخر وجهان، وقريب منها صورة الشك ولا يذهب عليك أنّ هذا التفصيل لا ينافي ما قررناه سابقا من حجية الإجماع مطلقا لأن الملحوظ هناك إنما هو الإجماع من حيث نفسه كقولنا بحجية قول المعصوم فإنّ الملحوظ فيه نفس القول ولو فسّرنا القول بالرأي الواقعي أو ما لم ينكشف مخالفته للواقع دون ما أبداه في الظاهر مطلقا كما هو الظاهر زال الإشكال بالنّسبة إلى بعض الموارد المتقدمة.

        الثاني إذا [الصفحة 256] الإجماع على قولين أو أقوال في موضوع لا يجوز إحداث قول آخر فيه بلا خلاف يعرف فيه بين أصحابنا وعليه أكثر مخالفينا وخالف فيه [في ذلك] بعضهم فذهب إلى جوازه، لنا أنه إذا علم بدخول قول المعصوم بين القولين أو الأقوال أو بموافقته لأحدهما كان القول الآخر مخالفا لقوله قطعا فيكون معلوم البطلان فلا يجوز المصير إليه.

        ولا يذهب عليك أن هذا إنما يتم إذا كان الإجماع كاشفا عن الحكم الواقعي وإلا اتجه فيه التفصيل المتقدم وينبغي أن يستثنى من ذلك ما إذا أدّى دليل الاحتياط إلى إحداث قول ثالث فإنه يجوز إحداثه وإن كان الإجماع المنعقد في ذلك المقام كاشفا عن الحكم الواقعي كما لو انعقد الإجماع المركب على إباحة شي‏ء أو حرمته أو إباحته ووجوبه فإنه يجوز الحكم في الأول بالكراهة ظاهرا وفي الثاني بالاستصحاب للاحتياط مع القطع بمخالفته للحكم الواقعي، واحتج موافقونا من خالفينا بعموم أدلة الإجماع وهو على عمومه ممنوع إذ من أدلتهم الإجماع على القطع بتخطئة المخالف وهو في المقام غير واضح لتحقق الخلاف فيه بينهم وعدم وضوح قطع الموافق، ومنها الأخبار وهي مختلفة المفاد فمنها ما يساعد على التعميم وهي رواية “لا تجتمع أمتي على الخطأ” بناء على حمل اللام على الجنس كما هو الظاهر ومنها ما لا دلالة عليه وهي رواية “لا تجتمع أمتي على خطأ” فإنّ النكرة ظاهرة في الفرد الواحد.

        وأمّا الآيات فهي صالحة للتعميم كما لا يخفى، احتجّ المجوّزون بأن اختلافهم يقتضي أن يكون المسألة اجتهادية وأنه يسوغ العمل فيها بمؤدى الاجتهاد فلا يدل على المنع فيه، والجواب أمّا أولا: فبالنقض بالمسائل التي انعقد الإجماع فيها بعد الخلاف مع جريان ما ذكر فيه، وأمّا ثانيا: فبالحل وهو أنّ اختلافهم إنما يدل على جواز العمل بمؤدى الاجتهاد هنا في موضع الخلاف أعني في تعيين أحد القولين أو الأقوال لا في غيره إذ لا خلاف لهم فيه كما أنّ الاختلاف في النقض المذكور إنما يدل على جواز الأخذ بمؤدى الاجتهاد ما دام الخلاف باقيا لا مطلقا كما سيأتي التنبيه عليه.

وبالجملة فمفاد الاختلاف في المقامين جواز الأخذ بمؤدى اجتهاد خاصّ فيقتصر فيه على مورده لا مطلق الاجتهاد كما هو مبنى الاحتجاج.

        الثالث: إذا لم يفصل الأمة بين الحكمين أو أحكام في موضوع واحد أو أكثر ولم تفصل بين موضوع أو موضوعات في حكم واحد فهل يجوز لنا التفصيل في ذلك أقوال، مثال ذلك أن كل من قال بنجاسة خرء الطائر الغير المأكول قال بوجوب التجنب عنه في الصّلاة وكل من قال بطهارته قال بعدم وجوب التجنب عنه فيها، فالقول بطهارته ووجوب التجنّب عنه في الصلاة قول بالفصل أو كل من قال بانفعال القليل قال بحرمة الغناء وكل من قال بعدمه قال بعدمها فالقول بانفعاله وعدم تحريمها أو بالعكس قول بالفصل وقد مرّ التمثيل بكيفية الاحتياط في الشك، فذهب بعض أصحابنا إلى المنع مطلقا ولعله المعروف بينهم، وذهب بعض الجمهور إلى الجواز مطلقا، وفصّل العلامة في النهاية على ما حكي عنه فمنع من إحداث القول الثالث في المسألة مع نصّهم على عدم الفصل وإلا جاز ويظهر من تهذيبه تفصيل آخر وهو الفرق بين ما إذا نصّوا على عدم الفصل أو اتحد الطريق وبين غيره فمنع في الأول وذهب إلى الجواز في الثّاني.

        والتحقيق أنه إن قام دليل من إجماع أو غيره على المنع من التفصيل مطلقا ولو بحسب الظاهر أو قام على أحد القولين أو الأقوال ما يكون حجيته باعتبار إفادة الواقع لم يجز التفصيل وإلا جاز لنا على المنع في الصّورة الأولى، أمّا في القسم الأول منها فلأنه إذا قام دليل معتبر على المنع من التفصيل ولو عند عدم قيام دليل على أحد القولين أو الأقوال أو الجميع كان التفصيل معلوم البطلان ظاهرا أو واقعا فلا سبيل إلى المصير إليه وهذا واضح، وأمّا في القسم الثاني فلأنه إذا كان الدليل موافقا للواقع ومعتبرا من حيث إفادته إيّاه كخبر الواحد عند عدم المعارض المكافئ كانت دلالته على أحدهما مستلزمة لدلالته على الآخر ولو بمعونة العلم بدخول المعصوم عليه السلام في المجمعين فيكون إثبات الحكم الآخر به من قبيل إثبات اللوازم العقلية لمدلول الخبر أو لوازمه الشرعية أو العرفية به إذ لا فرق بين أن يكون اللزوم مستندا إلى نفس المدلول أو إليه بضميمة مقدمة خارجية كما في تنقيح المناط المتفرع على دليل ظنيّ.

        ويمكن المناقشة في المقامين حيث يثبت الملازمة بواسطة مقدمة عقلية بالمنع ويستند فيه بمسألة القبلة والوقت فإنا قد نعول على الظنّ في معرفة القبلة ولا نعول على القبلة المظنونة في معرفة الوقت مع جريان الملازمة المذكورة فيه، وجوابه أن مسامحة الشارع في معرفة بعض الشرائط لا توجب مسامحته في معرفة غيره لجواز مزيد اعتناء به بخلاف المقام فإن الدليل المثبت لأحد شطري الإجماع صالح لإثبات شطره الآخر، ومثله الكلام في تنقيح المناط إلاّ أنه قد لا يصلح كما لو عارضه ما هو أقوى منه، ولنا على الجواز في الصّورة الثانية عدم قيام دليل صالح للمنع فيجب اتباع ما يقتضيه الأدلة التي مفادها الظّاهر وإن أدى إلى القول بالتفصيل وخرق الإجماع، ولا يقدح العلم الإجمالي ببطلان أحد القولين بحسب الواقع لأن ذلك لا ينافي صحتهما بحسب الظاهر كما يكشف عنه ثبوت نظائره في الفقه في موارد كثيرة كقولنا بصحّة الوضوء بالماء القليل الذي لاقى أحد الثوبين المشتبه طاهرهما بالمتنجس وبطلان الصّلاة فيه مع أنّ هذا التفصيل باطل بحسب الواقع قطعا لأنّ الثوب الملاقى إن كان نجسا بطل الوضوء والصّلاة معا وإن كان طاهرا صحّا معا وكقولنا فيما لو ادّعى الزوجية أحد الزوجين وأنكر الآخر بأنه يلزم المدعي بما عليه من الحقوق والأحكام دون ما له فيلزم فيما إذا كان زوجا بالمهر ويمنع من نكاح أختها وأمّها وبنت أخيها وأختها بدون رضاها والخامسة وفيما إذا كانت زوجة تمنع عن التزويج بغيره ما لم يحصل ما يوجب البينونة على تقدير الزوجية فتمنع حينئذ عن التزويج بابن المنكر وأبيه إلى غير ذلك من الأحكام.

        وبالجملة يعامل المقر منهما على مقتضى أصل الإقرار ويعامل المنكر منهما على مقتضى أصل العدم مع [الصفحة 257] وضوح التدافع بين الأصلين بالنسبة إلى الواقع إلى غير ذلك ممّا لا حصر له، وهذا عند التحقيق من قبيل مسألة واجدي المني في الثوب المشترك حيث يحكم عليهما بالطهارة لا من قبيل مسألة الإناءين المشتبه طاهرهما بالنجس حيث يحكم فيهما بوجوب التجنّب لليقين الإجمالي وسيتضح وجهه مما تحققه في ذيل مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

        احتج المجوّزون أولا بما تقدم في المقام السّابق من أنّ قضية اختلافهم في المسألة جواز العمل فيها بمؤدى الاجتهاد مطلقا وقد عرفت الجواب عنه، وثانيا بأنّ الصّحابة قالوا للأم ثلث الباقي فيما إذا مات الزوج وخلف معها أبا وزوجة أو ماتت الزوجة وخلفت معها أبا وزوجا وقال ابن عبّاس لها ثلث الأصل في المقامين ثم أحدث ابن سيرين قولا ثالثا فقال لها ثلث الأصل في مسألة الزوج وثلث الباقي في مسألة الزوجة وأحدث تابعيّ قولا رابعا فعكس الحكم ولو لم يجز ذلك لم يقع ولأنكروا عليهم.

        والجواب إنّ المسألة المبحوث عنها لما كانت خلافية لم يكن في مخالفتهم وعدم إنكار غيرهم عليهم دليل على صحّة مقالتهم كما في سائر المسائل الخلافية وثالثا بأنّ التفصيل لا يشتمل على مخالفة إجماع فإنّ قولنا بجواز الفسخ ببعض العيوب الخمسة دون بعض بعد الاتفاق على أنه يفسخ بكل واحد منها أو لا يفسخ بشي‏ء منها موافقة لكل في شي‏ء، وقضية الأصل جواز ذلك.

        واعترض عليه بأنّ من قال بالإيجاب الكلي قال ببطلان السّلب الجزئي ومن قال بالسّلب الكلي قال ببطلان الإيجاب الجزئي فالفريقان متفقان على بطلان المركب منهما، ورد:

        أوّلا بأنه لا صراحة في القول بالإيجاب أو السّلب الكليّين على بطلان ما يقابله من الجزئيين وإنما دلالته عليه بالالتزام، وضعفه ظاهر إذ لا يعتبر في حجية الإجماع كونه مصرّحا به بدلالة المطابقة بل يكفي مجرد ثبوته فإنّ انعقاده على القولين مثلا يقتضي أن يكون أحدهما حقا وذلك يستلزم بطلان المركب لا محالة.

        وثانيا: بأنه لا تركيب هنا حقيقة فإن كلا من الجزئين مسألة برأسها اتفق للمفصّل القول بهما من غير أن يعتبرهما بشرط التركيب، وضعفه أيضا ظاهر لأنّ ما ذكره المانع من التفصيل لا يبتني على تقدير أن يكون بينهما تركيب حقيقي بل يكفي التركيب الاعتباري فلا ينافي أن يكون كل منهما مسألة برأسها.

        وثالثا: بأنّ بطلان أحد الجزئين إنما يستلزم بطلان المركب من حيث كونه مركبا ولا يقتضي بطلان جميع أجزائه، وضعفه أيضا ظاهر لأنه إذا بطل أحد الجزئين فقد بطل القول بالتفصيل وهل هذا إلا ما عناه المانع، بل التحقيق في الجواب يعرف مما أوردناه في تحقيق المذهب المختار ولعلّ مستند العلامة على تفصيله في النهاية هو أنهم إذا لم ينصّوا على بطلان القول الثالث لم ينعقد إجماع على بطلانه بخلاف ما إذا نصّوا عليه، وضعفه ظاهر مما مرّ وحجته على ما فصّله في تهذيبه أما على المنع فيما لو نصّوا على عدم الفرق فبما مرّ وفيما لو اتحد طريق المسألتين اتحاد الطريق المقتضي لثبوت الحكم في المقامين، ويشكل هذا على ظاهره بأن طريق المسألتين إذا كان عاما قابلا للتخصيص أو مطلقا قابلا للتقييد أو نحو ذلك فلا يلزم من الالتزام به في إحدى المسألتين أن يلتزم به في الأخرى لجواز أن يعارضه فيها ما يوجب سقوطه عن درجة الاعتبار، اللهمّ إلاّ أن يجعل ذلك قادحا في اتحاد الدليل وأمّا على الجواز فيما عدا ذلك فانتفاء الإجماع ولزوم أن لا يجوز لمن قلد مجتهدا في أحد الحكمين أن يقلد آخر في الآخر وأنه باطل بالاتفاق، ويمكن أن يقرّر هذا ببيان آخر وهو أنّه لو لم يجز ذلك لوجب على من وافق مجتهدا في حكم تفرد به أن يوافقه في جميع الأحكام والتالي باطل لما مرّ بيان الملازمة أنّ الأحكام الأخر إن وافقه الآخرون فيها فقد وافق الأول وإلا وجب عليه الرجوع إلى الأوّل لئلا يلزم خرق الإجماع المركب.

        ويمكن الجواب عن هذا بأن المقلد ليس في وسعه الوقوف على موارد الإجماع غالبا وإلزامه بالتقليد في ذلك يؤدي إلى الحرج والضيق المنفيين عن الشريعة السمحة لكثرة المسائل المحتاج إليها وتعيين تقليد مجتهد واحد عليه إلا فيما علم عدم خرق الإجماع بتقليد غيره فيه باطل بالاتفاق كما مر وحينئذ فعدم الاعتداد به في حق المقلد لا يوجب الاعتداد به في حق المجتهد، ويمكن أن يقال الأحكام الثابتة بالتقليد أحكام ظاهرية فلا حرج في الجمع بين جملة يقطع بمخالفة بعضها للواقع كما عرفت نظيره في الأخذ بمقتضى الأصول المتنافية.

فصل إذا اتفقت الأمة على قولين

        مثلا ولم يقم هناك ما يقتضي التعيين سواء لم يكن هناك دليل أصلا أو كان ولكن لم يسلم من المعارض تخيّر المجتهد في العمل بأيّهما شاء وفاقا للشيخ وجماعة وقيل يسقطهما ويرجع إلى حكم الأصل من إباحة أو حظر على اختلاف القولين، وربما كان الأوجه على هذا القول التماس دليل يقتضي تعيين ما عداهما ويرجع [والرجوع] بعد انتفائه إلى حكم العقل وكيف كان فهو مدفوع بما ذكره الشيخ من أن ذلك يوجب طرح قول الإمام فيكون خطأ قطعا.

        نعم ينبغي تنزيله على بعض صور الإجماع كما يعرف مما مرّ وأورد عليه المحقق بأنّ التخيير أيضا خارج عما اتفقت عليه الأمة فالبناء عليه أيضا يوجب طرح قول الإمام وارتضاه في المعالم بعد ما حكاه وضعفه ظاهر لأن التخيير في الفتوى لا ينافي التعيين في الحكم المفتى به كما هو مفاد الإجماع بل هو طريق إلى تحصيله كما في التخيير في العمل بأحد الخبرين المتكافئين وقس على ذلك الحال في الإجماع المركب من مسألتين إذا قام على أحد شطري إحداهما دليل وعلى الآخر من الأخرى وتكافئا أو تجردت المسألتان عن الدليل يجوز الإجماع بعد الخلاف وقبل استقراره قولا واحدا وبعد استقراره عند أصحابنا وعليه محققوا مخالفينا، ولا فرق في ذلك بين الإجماع البسيط والمركب ووجه الجواز ظاهر وهو أن أحد المتخاصمين ربما يظفر بما يقتضي عنده فساد مقالته وصحة مقالة خصمه فيرجع إلى قوله.

        واحتج المانعون أولا بقوله تعالى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يعني الكتاب والسّنة والإجماع غيرهما.

        وجوابه أما على طريقتنا فواضح لأنّ الرد إلى الإجماع ردّ إلى [الصفحة 258] المعصوم وهو ردّ إلى اللّه ورسوله، وأمّا على طريقة مخالفينا فبأن حجية الإجماع لما ثبت بالكتاب والسنة على ما زعموه كان الرد إليه ردّا إليهما لو أنّ المراد ما دمتم متنازعين، والتحقيق أنّ المتنازعين ليس لهم التمسك بالإجماع إلا بعد الردّ ولو في أول الأمر وهو كاف في العمل بمقتضى الآية إذ الأمر لا يفيد الدوام، وأمّا من عداهم فلم يندرجوا في عنوان المتنازعين حتى يجب عليهم الردّ فيجوز لهم التمسّك بالإجماع مضافا إلى أن الظاهر من النزاع في شي‏ء هو النزاع في الدعاوي المالية وشبهها وأنّ الردّ بمنى التحاكم والترافع كما مر التنبيه عليه، وثانيا بأنّ المتنازعين عند التنازع أجمعوا على عدم تعيين أحد الأقوال فلو أجمعوا على أحدها كان ذلك منهم إجماعا على تعيين ما أجمعوا على عدم تعيينه وذلك يوجب تعارض الإجماعين وحيث إنه لا يتطرق إليه النسخ يتعيّن أن يكون أحدهما باطلا وهو خلاف المذهب.

        وجوابه أمّا أولا فبالنقض بما قبل زمن استقرار الخلاف وقبل النظر والاجتهاد مع جريان ما ذكر فيه، وأمّا ثانيا فبالحلّ وهو أنّ إجماعهم أولا على التخيير مبني على الظاهر كإجماعهم على جواز التعويل على أصل الحل والجواز حيث لا دليل فهو اتفاق على ثبوت حكم ظاهري عند عدم إمكان الوقوف على الواقع والأحكام الظاهرية يرتفع عند قيام دليل على رفعها، ولا يذهب عليك أن الوجهين المذكورين لو تما لدلا على عدم الجواز قبل استقرار الخلاف أيضا وكأنهم لم يلتزموا به محافظة على مذهبهم فإن الإجماع على خلافه الأول إنما انعقد بعد الخلاف إلا أنه في زعمهم لم يكن مستقرا ثم عدم الجواز هنا لعله بمعنى عدم الإمكان وإلا فلا معنى لتحريم القول بالحق بعد انكشافه وإلى هذا يرجع ما قيل من أنّ التخيير مشروط بعدم الاتفاق فينعدم عند عدم شرطه.

فصل لا كلام في حجية نقل الإجماع بالخبر المتواتر

        إن كان المنقول اتفاق جماعة أحدهم المعصوم أو نقل به الاتفاق الكاشف عند المخبر وإن لم يكن كاشفا عند المخبرين، وأمّا إذا كان كاشفا عندهم فقط فحجيته مبنية على حجية الإجماع المنقول بخبر الآحاد لأن التظافر في العقليات بمجرّده لا يوجب القطع ما لم ينضم إليه شواهد خارجية وفي حكم نقله بطريق التواتر نقله بطريق الآحاد مع انضمامه بقرائن العلم، وأما الإجماع المنقول بخبر الواحد المجرّد عن قرائن العلم ففي حجيته خلاف، والظاهر أنّ هذا النزاع غير متوجّه على القول بعدم حجية خبر الواحد كما في السنة كما صرّح به بعضهم، فأصحاب هذا القول لا يختلفون في عدم حجيته، وأمّا ما يقال من أن طريقة هؤلاء التمسّك بالإجماعات المنقولة في كتب من قبلهم وإن لم تكن محصّلة عندهم وإنهم كانوا يقدمونها على العمل بظاهر الكتاب فيشبه أن يكون رجما بالغيب مع وضوح ما يتطرق إليه من الريب كما لا يخفى على من وقف على حجيتهم على المنع على أن نقل قول المعصوم المستند إلى الحسّ أقرب إلى القبول من نقل قوله المستند إلى التتبع والحدس، ولذا تراهم يشترطون في التواتر استناد المخبرين إلى الحسّ نظرا إلى أن التظافر في غير الحسيّات لا يوجب القطع غالبا فمنعهم من حجية الأوّل يقتضي المنع من حجية الثاني بطريق أولى مضافا إلى أن نقل الإجماع لو كان عندهم من الأدلة لتعرضوا لذكره في الكتب الأصولية ولنبهوا عليه في كتب الفقه، وممّا ينبه على ذلك أنّ السيد بعد أن منع من حجية الخبر الواحد بين وجه الاستغناء عنه في معرفة الأحكام فذكر لها طرقا ولم يذكر من جملتها نقل الإجماع ولو كان ذلك عنده من جملة الطرق لذكره واستراح به لعظم فوائده وكثرة موارده فاتضح أنّ النزاع في المسألة مقصور على القول بحجية خبر الواحد، ثم الذي يظهر أنّ المتقدمين على المحقق لم يتعرضوا لهذه المسألة لا عموما ولا خصوصا، وأمّا المحقق فهو إن لم يتعرض لهذه المسألة أيضا بعنوان كلي لكن منع من حجية جملة من الإجماعات المحكية كالإجماع الّذي حكاه السّيد على دلالة الأمر على الفور والإجماع الذي حكاه بعض القائلين بتضييق قضاء الفريضة عليه فردّ عليهم بأن الإجماع غير ثابت وأنه حجة في حق من علمه، ومثله ما ذكره في رد قول الشيخ بجواز العمل بخبر الثقة الغير الإمامي محتجا عليه بعمل الطائفة ولم يعلم منه الاستناد إلى الإجماع المنقول في مقام فيظهر من ذلك مصيره إلى عدم الحجية مطلقا، وذهب العلامة في تهذيبه إلى حجيته واختاره في نهايته لكن تردّد فيها بعد ذلك على ما يظهر من آخر كلامه واشتهر القول بحجيّة بين من تأخر عنه إلا أنّ طريقتهم في الفقه جارية غالبا على عدم الاعتداد به وعدم ذكره في طي الأدلة وردّه بمنع ثبوته وعدم تحققه وقل ما تمسّكوا به وركنوا إليه مع ما نرى من وفور نقله وكثرة حكايته يعرف ذلك بالتتبع في كتبهم ومصنفاتهم، ومبنى ذلك إمّا على اختلاف آرائهم في حجيته بحسب موارد المنع والقبول أو على قبول حجيته باعتبار نقل الكاشف دون المنكشف فمنعهم له في موارده ناظر إلى المنع من حصول الانكشاف لهم أو أنهم إنما يقولون بحجيته حيث لا يوجد له معارض أو ما يوجب الوهن فيه فحيث منعوا قد صادفوا فيه موهنا أو معارضا وإن لم يصرّحوا به أو أنهم إنما يقولون بحجيته حيث يكون وثوق بصحة النقل بأن كون المدّعى المقام فيه الإجماع من مظانه وذلك بعد الفحص والاطلاع على اتفاق الكل أو ما يقرب إليه إذ لا يقدح ندرة المخالف لا سيّما مع عدم معروفيته بناء على اعتبار الكشف أو مع معروفيته بناء على دخول المعصوم عليه السلام، والوجهان الأولان في غاية البعد والأخيران مع تقاربهما قريبان والأول أقرب بل يتعيّن تنزيل كلامهم عليه لأن ذلك قضية إطلاقهم القول بحجيته.

        إذا عرفت هذا فالمختار عندي ما ذهب إليه القائلون بالإثبات، لنا أنّ ناقل الإجماع ناقل لقول المعصوم ولو بالالتزام فما دل على جواز التعويل على نقل الآحاد في السّنة يدل على جواز التعويل عليه في الإجماع أيضا.

        بيان ذلك أنا إن عولنا في حجية خبر الواحد في السنة على قاعدة انسداد باب العلم مع العلم ببقاء التكليف فهي على ما حققناه يقتضي جواز التعويل على الظنّ في الأدلة، ولا ريب أنّ نقل الإجماع ممّا يظنّ حجيته لمصير أكثر من أصحابنا المتعرضين له إليه ولا يقدح عدم تعرض الأوائل له لإمكان ذهولهم عنه كذهولهم عن غيره مما لم يتنبّه له إلاّ المتأخرون فإنّ العلم يتكامل بتلاحق الأفكار وتوارد الأنظار مع أنّ [الصفحة 259] الاعتداد به قليلة كما سننبّه عليه فربّما تسامحوا لذلك في التنبه عليه والإشارة إليه وكذا لا يقدح ردّ القائلين بحجيته له في أكثر الموارد لأنّ ذلك ليس لعدم حجيته عندهم في نفسه بل لعدم استجماعه لشرائط القبول كما سننبّه عليه، وممّا يؤكد الظن بحجيته أنه في معنى الرواية فيكون بحكمها في الحجية ولا يقدح كونها مستندة إلى الحدس ووقوع الخطأ والاشتباه في الحدسيات غالبا دون الحسيات لأن الكلام في النقل الذي تجرد عن أمارات الوهن ولا ريب أنّه مع هذا القيد وإن قل حصوله لا يقصر عن بعض أنواع الرواية المعتبرة بل ربما يزيد عليها وإن كانت الرواية المعتبرة أقرب إلى الاعتماد والاعتداد غالبا من نقل مطلق الإجماع، ومنشأ الوهم مقايسة أحد النوعين إلى الآخر والذهول عن حال الأصناف والأفراد، ومما يحقق ذلك عدم الفرق بين نوعي القطع في باب الشهادة فيعول على شهادة من يستند قطعه إلى الحدس كما يعوّل على شهادة من يستند قطعه إلى الحسّ، والقول باشتراط المشاهدة في الشهادة غير واضح وليس في لفظ الشهادة شهادة عليه لغلبة إطلاقها على المجرّدة منها كما في الشهادتين وغيرهما، وكذا الحال في إخبار الوكيل وإخبار ذي اليد فإنه يجوز التعويل على إخبارهم وإن علم استناد علمهم إلى الحدس وكذلك إخبار العدل عن فتوى المفتي فإنّ علمه بها كما قد يستند إلى الحسّ كذلك قد يستند إلى الحدس بملاحظة قول أتباعه أو عملهم أو لوقوفه على طريقته في الفقه أو ما أشبه ذلك، وهذا في الحقيقة في حق المقلد كنقل الإجماع في حق المجتهد مع أنّ الاستناد في الرواية كما يكون إلى الحسّ كذلك قد يكون الحدس كما في المكاتبة والوجادة فبطل دعوى اختصاصها بالنوع الأول، ومن هنا يتضح وجه حجيته بناء على انسداد باب العلم إلى تفاصيل بعض الأدلة فقط كخبر الواحد دون مجملات الأدلة فإن نقل الإجماع داخل في الخبر الذي نعلم حجيته بالأدلة المقررة في الجملة فإنّ المستفاد منها حجية نقل قول المعصوم وحكايته في الجملة ويبقى معرفة التفاصيل ولا طريق علميّا إليها فيتعيّن التعويل على الظن الذي لا يعلم عدم جواز التعويل عليه بل ولا يظنّ به أيضا، ولا ريب أنّ الشهرة لا سيّما إذا اعتضدت بالأمارات المذكورة مفيدة لذلك فيجب التعويل عليها، وإن قلنا بأنّ قضية انسداد باب العلم مع بقاء التكليف جواز التعويل على الظنّ في الأحكام كما زعمه بعضهم فلا ريب أنّ نقل الإجماع على الوجه الذي نعتبره ممّا يفيد الظنّ بالحكم فيجب التعويل عليه وإن عوّلنا على الآيات فمنها آية الإنذار والتحذير عن الكتمان ولا ريب في تناولهما للمقام فإنّ التفقه في الدين والاطلاع على الأحكام كما يكون بطريق الحسّ كذلك يكون بطريق الحدس وقضية وجوب البيان على الإطلاق وجوب القبول على الإطلاق إلا ما قام الدليل على خلافه مضافا إلى ما في ذيل الآية الأولى من الأمر بالحذر وهو في معنى الأمر بالقبول.

ومنها آية النبأ فهي وإن كانت عندنا غير مساعدة على قبول خبر العادل إلا أن جماعة ذهبوا إلى دلالتها على ذلك بالمفهوم وعلى تقديره يتناول المقام أيضا فإن ناقل الإجماع منبئ عن قول المعصوم عليه السلام فيجب قبوله، واعترض بأنّ النبأ وما يرادفه كالخبر إنما يطلق على نقل ما استند إدراكه إلى الحسّ كالسّماع والمشاهدة وبهذا فارق الفتوى فإنها عبارة عن نقل ما استند إدراكه إلى الدليل والحجة، وأمّا ما يقال من أنّ الخبر ما كان له نسبة تطابقه أو لا تطابقه أو قول يحتمل الصّدق والكذب أو نحو ذلك فمبني على اصطلاح مستحدث لأن المسائل المدونة في العلوم لا تعدّ أنباء وأخبارا، وضعفه ظاهر لأنه إن أريد أنّ النبأ لا يطلق إلا على الأشياء التي من شأنها أن تدرك بالحسّ وإن أدركها المخبر بطريق الحدس وشبهه، فهذا ممّا لا ينافي المقصود فإن المخبر عنه هنا قول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره وهو أمر من شأنه أن يدرك بالحسّ وإن كان طريق الناقل إليه الحدس وإن أريد أنه لا يطلق النبأ إلا على ما كان علم المخبر به بطريق الحسّ فواضح الفساد للقطع بأن من أخبر عن إلهام أو وحي أو مزاولة بعض العلوم كعلم النجوم يعد منبئا ومخبرا، قال اللّه تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} ولا ريب أن إخباره عليه السلام لم يكن عن حس ومثله قوله تعالى في غير موضع {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فإنّ علمه تعالى ليس عن حسّ وقوله تعالى {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فإن كونه تعالى هو الغفور الرّحيم ليس أمرا حسيّا وقوله تعالى {نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} بعد {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} فإنّ التحريم ليس أمرا حسيّا إلى غير ذلك.

        وكذا الكلام فيما دل على حجية خبر الواحد من الأخبار لما عرفت من شمول الخبر ومرادفاته لنقل الإجماع وإن كان المستند وجوب التمسّك بالعترة عليه عليهم السلام الصّادق على التمسّك بالأخبار المأثورة عنهم عند تعذّر الوصول إليهم فهذا مما يتساوى فيه الخبر المستند إلى الحسّ والمستند إلى الحدس، ودعوى صدق التمسّك على النوع الأول دون الثاني مجازفة.

        وقد يستدل على حجيته نقل الإجماع بأن الإجماع من الحجج الشرعية الثابتة في نفس الأمر والواقع كالسنة المأثورة فحيث يتعذر تحصيله بطريق العلم يتعين تحصيله بطريق الظنّ كما في السّنة لأنّ ذلك قضية انسداد باب العلم ونقل الثقة العارف يفيده فيجب التعويل عليه، وفيه نظر لأن انسداد باب العلم على ما حققنا في محلّه إنما يوجب جواز التعويل على الظن في تعيين موضوع الأدلة لا في إثبات مصاديقها ما لم يرجع إلى الظن في الموضوع والظنّ بحصول الإجماع بنقل الثقة كالظن بقول الإمام عند قول الراوي أظنه قال كذا وشبهه ممّا لا شاهد على حجيته حجة المانع أمور [وجوه].

        الأول: الأصل وقد عرفت الجواب عنه حيث بيّنا ما يوجب الخروج عنه.

        الثاني: أن التعويل على نقل الإجماع تقليد لناقله في مؤدى نظره واجتهاده فإنّ الاجتهاد قد يؤدي إلى القطع بالحكم فيصحّ أن يسنده القاطع إلى كل من يقطع بحقية علمه في ذلك من الإمام وغيره ومنه ينفتح باب الإجماع فالتعويل على نقله راجع عند التحقيق إلى التعويل على فتوى الناقل وهذا مخالف لما تقرر عندهم من عدم جواز تقليد المجتهد مع التمكن من الاجتهاد وعدم جواز تقليد الأموات مع التمكن من مراجعة الأحياء، والجواب أن التعويل [الصفحة 260] على نقل الإجماع ليس من باب التقليد للناقل كيف وهو مبني على التتبع وتحصيل الوثوق بصحة النقل والاطلاع على خلوه من المعارض وشي‏ء من ذلك لا يعتبر في التقليد بل هو من قبيل التعويل على الرواية فكما أن ذلك لا يعد تقليدا للراوي نظرا إلى إعمال الضوابط الاجتهادية فيه فكذلك التعويل على نقل الإجماع ولو سلم أن مثل ذلك يعد تقليدا فكلية الكبرى ممنوعة لثبوته في حق المجتهد في بعض المباحث كمباحث اللغة والجرح والتعديل فما المانع من ثبوته في المقام أيضا.

        الثالث: إن الإجماع المحكية في كلام الأصحاب غير سالمة عن وصمة الوهن القادح في جواز التعويل عليها على تقدير حجيتها وهي أمور، منها عدم اعتداد الأكثرين به كما هو الغالب إن لم يكن مطردا في موارده فيكون على تقدير التنزل كالصحيح المهجور، والجواب أنّ الطريقة المعروفة جارية على عدم ذكر الإجماع المنقول في طي الأدلة كالإجماع المحصّل، ألا ترى أنّهم كثيرا ما يقولون الحكم كذا إجماعا لدليل كذا ولا يقولون ولدليل كذا فالاطلاع على عدم اعتداد الأكثر بالنقل مع عدم مخالفتهم له في الحكم بعيد جدّا، ومنها نقله عند وضوح الخلاف وكثرة المخالفين، والجواب أن ذلك غير مطرد في موارد نقل الإجماع ومع ذلك فقد لا يقدح حصوله في الوثوق بالنقل عند اعتضاده ببعض الشواهد والأمارات، ومنها معارضته بنقل آخر الإجماع على خلافه، والجواب أنّ ذلك مع اختصاصه ببعض الموارد لا ينافي الحجية لوجوب الرجوع معه إلى المرجحات ومع التكافؤ فالتخيير كما في تعارض الروايات، ومنها كثرة دعوى مدّعيه الإجماع في موضع الخلاف بحيث يرتفع الوثوق بدعواه، والجواب أنّ ذلك مع اختصاصه بالبعض لا يقدح في الاعتماد على نقله حيث يعتدّ بأمارات الوثوق كغير الضابط فإنه قد يعول على روايته عند اعتضادها ببعض الأمارات، ومنها مصير ناقله عند نقله أو بعده ولو في كتاب آخر إلى خلافه فيكون بمنزلة الرجوع في الرّواية والاعتراف بالخطأ في النقل على تقدير لحوقه بها، والجواب أنّ ذلك مع اختصاصه ببعض الموارد لا ينافي الحجيّة مع حصول الوثوق به بمساعدة بعض الأمارات لجواز أن يكون الرجوع لشبهة أو غفلة كما في الرواية إذا رواها الراوي وأفتى بخلافها فإن ذلك لا يوجب سقوط الرواية عن درجة الاعتبار لجواز استناد المخالفة إلى اجتهاده وهو غير معتبر في حقنا، ومنها معارضته بأدلة قوية لا يسعه مقاومتها، والجواب أنّ الكلام في حجيته في نفسه لا مع وجود معارض أقوى، ومنها وقوع الشكّ في مقصود ناقله حيث نسب إليه أنه يعبّر عن المشهور بالمجمع عليه كما حكاه الشهيد عن بعضهم أو يكتفي بمجرّد عدم وجدان المخالف كما نقله صاحب المعالم عن بعض الأصحاب، والجواب أنّ هذه الحكاية غير ثابتة والخروج عن ظاهر اللفظ بمجرّد النقل المذكور مع منافاته للضوابط غير واضح مع أن ذلك لا يعمّ الجميع، ومنها معارضته بظن آخرين أعرف منه بالفنّ وأقوى منه في النظر، والجواب أن ظن المخالفين معارض بظن الموافقين ولو فرض قوة الأول فالكلام عند سلامته عن أمارات الوهن، ومنها قرب عهد الناقل أو معاصرته بحيث يقطع أو يظنّ بعدم وقوفه على أكثر مما وقفنا عليه من الأمارات الغير الموجبة للقطع في محل النقل، والجواب أنّ الكلام في حجيته حيث يتجرد عن أمارات الوهن فعدم حجيته في مثل ذلك لا ينافي المقصود، ومنها نقله الإجماع بعبارة يقتضي اتفاق الجميع مع وقوفنا على سبق المخالف وعدم ندرته، والجواب أن الخطأ في دعوى اتفاق الجميع لا يستلزم الخطأ في حكاية قول المعصوم عليه السلام إلا أن يعلم أنّ طريقته [طريقه] ذلك فيعتريه الوهن لذلك وهو بعيد مع إمكان تنزيل كلامه على عدم الاعتداد بالمخالف بعدم العلم بمخالفته للمعصوم على أن ذلك لا يجري إلاّ في بعض الموارد، ومنها نقله الإجماع في موارد لا يكاد يمكن القطع فيها بقول المعصوم عليه السلام إمّا لعدم تعرّض السّلف له مع استبعاد وقوفه على دليل قاطع لم نقف عليه أو لعدم مساعدة المقام عليه كعدم قبول الشهادة على الرضاع إلاّ مفصّلة، والجواب أنّ ذلك لا يتجه إلا في موارد نادرة ولا يقدح فيما أوردناه من إثبات حجيته في نفسه كما مرّ، ومنها تعويل ناقله في الاستكشاف على طريق لا تعويل عليه كمصيره إلى أن العبرة في الإجماع بدخول المعصوم عليه السلام في المجمعين على وجه لا يعلم نسبه فإنّ هذا مما يقطع أو يظن عادة بعدم وقوعه أو يكتفي في الاستكشاف بمصير واحد أو جماعة إلى الحكم من غير مخالف أو من غير ظهوره فيقطع بموافقة المعصوم عليه السلام وإلاّ لظهر وأظهر الخلاف كما يراه الشيخ وجماعة وقد مرّ، والجواب أنّ العلم والظن ببطلان الطريق لا يوجب بطلان النقل، نعم يوجب الوهن فيه فإذا اعتضد بأمارات توجب الظن بصحة نقله اتجه التعويل عليه، وبالجملة فنحن ندعي أن نقل الثقة لقول الإمام عليه السلام في ضمن نقل الإجماع حجة من حيث نفسه لكنه غالبا لا ينفك عن أمارات توجب الوهن فيه من جهة الطريق وغيره ولا خفاء في أنها أمور خارجة عن أصل النقل لا تنافي حجيته في نفسه فيعتبر في جواز التعويل على نقل الإجماع انتفاء الأمارات الموهنة فيه ولو بتحقق أمارات معاضدة لصحة نقله معارضة لتلك الأمارات القادحة فيه ولهذا ترى أن كثيرا من أصحابنا يقولون بحجية الإجماع المنقول ولا يعولون عليه إلا في موارد قليلة نظرا إلى قلة ما يتحقق فيه شرائط القبول هذا وربما أمكن أن يقال قد يرتفع وعند التحقيق إنما يرتفع الوهن المذكور عن النقل إذا ظهر لنا من كلام الناقل أو بالتتبع في موارد النقل أنّ الطريق المعتبر عندنا كان حاصلا عند الناقل أيضا وإن لم ينبّه عليه أو لم ينبه له فإنّ الإجماع بالطريق الذي نعتبره مما كان حصوله ميسّرا في حق السّلف بل كان أولى لقرب عهدهم وتكثر الأمارات لديهم وإن قصر أنظارهم عن تحريره وبيانه كما قد وقع نظيره في جملة من مباحث الألفاظ وغيرها.

        وبالجملة فهم قد وصلوا إلى هذا المعنى إجمالا وإن لم يصلوا إليه تفصيلا ولا ريب في حجيته بالاعتبارين فإذا حصل لنا ظن بالنظر إلى الأمارات بتعويل الناقل على الطريق المذكور أيضا [الصفحة 261] ارتفع هذا الوهن وجاز التعويل على نقله وربما يكفي عدم الظنّ بالخلاف عن مساعدة الأمارات الخارجة على صحته فإنّ بطلان طريق خاصّ بمجرّده لا يوجب بطلان مؤداه مطلقا فتثبت في المقام فإنه من مزال الأقدام.

        وأما ما تفصّى به بعض المعاصرين عن الإشكال الأخير من أنّ طريق الشيخ لا ينحصر فيما ذكر فحيثما يدعي الإجماع فالظاهر أنّه يريد به معناه المعروف وهو الاتفاق الكاشف دون المعنى الذي اصطلح عليه وإلا لنصب عليه قرينة لئلا يلزم التدليس فبمكان من الضّعف والسقوط لأنّ معنى الإجماع لا يختلف باختلاف الطرق الموصلة إليه حتى يلزم منه تعدّد الاصطلاح فلا يريد الشيخ بالإجماع حيث يدّعيه إلا معناه المعروف أعني الاتفاق الكاشف وإن كان مستند كشفه الطريق المذكور ولو سلم أن ذلك يوجب تعدّد الاصطلاح في الإجماع فبعد ما صرّح الشيخ باصطلاحه لا سبيل إلى تنزيل كلامه على مصطلح غيره ولزوم التدليس بعد التصريح به في عدة مواضع من عدته ممنوع بل قد نقل عنه في التمهيد وموضعين من العدة دعوى انحصار الوجه في حجية الإجماع والقطع بقول الإمام في الغيبة في الوجه الذي ذكره وأبطل سائر وجوه حجيته.

        فإن قيل إذا قال الثقة هذه المسألة إجماعية وجب تنزيله على المعنى الصحيح بحسب الواقع ما لم يتبيّن لدينا خلافه ولا عبرة باحتماله وإن ساعد عليه مذهب الناقل كما ينزل قول علماء الرجال في الجرح والتعديل على ثبوت الوصف بحسب الواقع ما لم يتبيّن خلافه وإن احتمل من حيث وقوع التشاجر في تعيين معنى العدالة والفسق وفي طريق إثباتهما بل قد يعلم بأن مذهب المعدل أو الجارح مخالف ومع ذلك يأخذ بظاهر تعديله أو جرحه وينزل على المعنى الواقعي حملا لقول المسلم العدل على المعنى الصحيح بقدر الإمكان، قلنا فرق بين المقامين فإن نقل الإجماع راجع إلى حكاية الاعتقاد وتحصيل ناقله القطع بقول المعصوم عليه السلام فحمله على المعنى الصحيح إنما يقتضي الحكم بثبوت ذلك الاعتقاد فيه بحسب الواقع ولا يقتضي الحكم بثبوت متعلقه من كونه قول المعصوم عليه السلام بخلاف الجرح والتعديل فإنّ مرجعه إلى نقل تحقق وصف في الرّاوي بحسب الواقع فحمله على المعنى الصحيح إنما يقتضي الحكم بثبوته في الواقع، وهذا كما ترى بل التحقيق في الجواب أنّ التعويل على نقل الإجماع منوط بحصول الوثوق به أو بسلامته عما يوجب الوهن فيه فظاهر أنّ الأصل المذكور بمجرّده ممّا لا يوجبه وكذا الحال في جرح الراوي وتعديله كما نبّهنا عليه في محله.

واعلم أنّ القائل بحجية الإجماع المنقول من حيث كونه نقلا لقول المعصوم ربما يلزمه القول بحجية مطلق قطعيّات كل مجتهد على آخر وإن لم يعبّر عنها بالإجماع أو لم يكن طريق قطعه الاتفاق إذا حصل الوثوق بإصابته في قطعه أو تجرد عن أمارات الوهن لكن الوقوف على ذلك في كلام الأصحاب في غير ما عبر عنه بلفظ الإجماع بعيد جدّا وكان هذا هو السرّ في عدم تعرضهم له، وأمّا تصريحهم بقطعية الفتوى في بعض الموارد فالمراد به ما يقابل التردد في الاجتهاد ومرجعه إلى القطع بحسب ما يقتضيه الأدلة عنده لا القطع بقول المعصوم عليه السلام.

        لا يقال إذا كان قطعيات المجتهد حجة وإن لم يعبر عنها بالإجماع فإن خصّ ذلك بما قطع به من حيث الواقع لزم عدم حجية الإجماعات المنقولة على الأحكام الظاهريّة بل عدم حجيته ما يحتمل ذلك أيضا إلا أن يستظهر فيه منه القسم الأول وإن عمم لزم حجية كلّ فتوى من فتاوى مجتهد على آخر لقطعه بالنسبة إلى الظاهر لأنا نقول نختار القسم الأخير ونفرق بين القطع بالظّاهر الذي بينه المعصوم في خصوص الواقعة وبين غيره.

        وبعبارة أخرى نفرق بين ما إذا علم بثبوته في حق الكلّ حتى المجتهدين وبين ما إذا علم بثبوته في حقه وحق مقلديه فقط، فالمراد حجية النوع الأول دون الأخير، ثم اعلم أن نقل الإجماع ينحل إلى نقل الكاشف من الاتفاق المستكشف به عن قول المعصوم عليه السلام وإلى نقل المستكشف الذي هو قول المعصوم، فالقائل بحجيته قائل بجواز التعويل على النقلين ومن قال بعدم حجيته قال بعدم جواز التعويل على أحدهما، إذ يكفي في رفع المركب رفع أحد جزئيه، ولا ريب في عدم جواز التعويل على نقل المنكشف على هذا القول، وأما نقل الكاشف فقد ذهب بعض أصحاب هذا القول إلى جواز الاعتماد عليه وإن تجرد عن نقل المنكشف إذا كان بحيث لو صحّ وطابق الواقع لكشف لنا عن قول المعصوم أو عن وجود حجة فيلتئم قياس من صغرى نقلية ظنيّة وكبرى قطعية وجدانية فيكون النتيجة ظنية لا محالة، ولا فرق بين نقل الكاشف بطريق الإجمال كقوله أجمع علماؤنا على كذا أو عليه كافة علماؤنا أو أهل العلم أو عند الأصحاب أو أصحابنا أو نحو ذلك أو بطريق التفصيل كان يحصيهم بأسمائهم أو المركب منهما كأن يصرح باسم البعض ويذكر الباقين بعنوان مجمل.

        واعلم أيضا أنه قد يعدّ مثل قولهم عند أصحابنا أو الأصحاب أو بلا خلاف أو اتفاقا ونحو ذلك إجماعا منقولا وهو بظاهره غير مستقيم لأن مجرد الاتفاق أو عدم الخلاف لا يوجب القطع بقول المعصوم كما هو المعتبر في الإجماع، اللهمّ إلاّ أن يسمّى إجماعا باعتبار الكشف المنقول أو يعلم من طريقة الناقل اكتفاؤه في القطع والاستكشاف بذلك أو يستكشف بالتتبع في مظان كلماته أنه يريد بذلك نقل الإجماع.

تنبيهان: الأول

        قد ذكرنا أنّ نقل الإجماع يكون بطريق الآحاد ويكون بطريق التواتر، ولبعض المتأخرين على القسم الثاني إشكال وهو أنّ العبرة في الإجماع باتفاق الآراء وهو أمر غير محسوس فلا يقع التواتر فيه فإنّهم قد اشترطوا فيه أن يكون الأخبار عن حسّ وأمّا الأقوال فهي وإن كانت محسوسة إلا أنها غير كاشفة عن الآراء كشفا قطعيا لتطرق احتمال الكذب والسّهو والتقية إليها، وفيه ما لا يخفى لأنّ اشتراط الحس في التواتر ليس لاستلزام عدمه عدم حصول العلم به بل لعدم استلزامه حصوله به وسيأتي التنبيه عليه في مبحث التواتر وحينئذ فكما يمكن العلم باتفاق الكل على قول بملاحظة قيام القرائن الحالية الدالة على مطابقة أقوالهم لمعتقدهم كذلك يمكن العلم به بإخبار عدد يحصل بخبرهم العلم بصدور تلك الأقوال عنهم محفوفة بتلك القرائن وربما يكون [الصفحة 262] معلومة عندنا فيكفي لنا نقل أقوالهم، إلا أن وقوع الفرضين في الأحكام الشرعية فيما عدا الضروري منها لا يخلو من بعد هذا مع أنّ الإشكال المذكور لا ورود له على القول بأن الإجماع هو الاتفاق المشتمل على قول المعصوم عليه السلام إذ يكفي فيه نقل القول، غاية الأمر أنه إذا كان هناك احتمال التقية في حقه كان المستكشف عنه حكما ظاهريّا ولا على ما قررناه في معنى الإجماع من أنه الاتفاق الكاشف عن قول المعصوم بطريق الحدس إذ يكفي فيه اتفاق الذين عرف من طريقتهم الالتزام بالاتباع في الأقوال أو قول يكفي فيه العلم بآراء جماعة يحصل الكشف بآرائهم وإن لم يحصل العلم بآراء الكل.

        ودعوى عدم حصول العلم به أيضا في نقل وفاق الآراء بطريق التواتر والتظافر مجازفة بينة ومكابرة جلية ولو تم ذلك لانسدّ باب التواتر بالكلية لأن العلم إنما يستفاد من توافق علوم المخبرين وهي مستفادة من أقوالهم فمع تجويز الكذب أو السّهو أو التقية على الجميع يرتفع الوثوق بخبرهم إذ لا يحصل العلم بمعتقدهم فلا يحصل العلم بخبرهم، فالإشكال المذكور إنما يتم غالبا على القول بأن الإجماع اتفاق الكلّ كما هو مذهب العامة وهو كما يتجه على منقوله يتجه على محصّله أيضا، وأجاب عنهم بعض الأفاضل بأنّ الرواية التي تمسّكوا بها على حجية الإجماع من قوله صلى الله عليه وآله “لا تجتمع أمتي على الخطأ” كما يقتضي نفي اجتماعهم على الرأي الخطاء كذلك يقتضي نفي اجتماعهم على القول الخطأ فلا حاجة إلى البحث عن مطابقته لمعتقدهم وحينئذ فنقول هذا القول المتفق عليه إن ثبت بالتواتر فقطعيّ وإلا فظني لظنية طريقه لا لظنية نفسه وهو كالمتن القطعي الثابت بالسّند الظني، هذا كلامه ملخصا وهو جيد إلا أن تعميم الرواية إلى نفي الاتفاق على القول الخطأ بعيد، وأورد عليه الفاضل المعاصر بأنه لا معنى محصّل للاجتماع على القول الخطأ إذا أريد منه محض اللفظ إلا إذا أريد به اتفاقهم في كيفية قراءة اللفظ وإعرابه ثم قال ومع ذلك فأيّ فائدة له في المسائل الفقهية إلا أن يقال فائدته صيرورة المتن قطعيّا وإن كانت الدلالة ظنيّة، ولا يخفى ما فيه لظهور أن ليس مراد المجيب بالاتفاق على القول الاتفاق على مجرد ذكر اللفظ وإن علم عدم قصد المعنى لوضوح وقوع هذا الاتفاق في موارد ثبت بطلان مؤداها بالضرورة كالألفاظ الدالة على تعدد الآلهة ونفي الرّسالة والمعاد وغير ذلك مما ورد ألفاظها بطريق الحكاية في الكتاب العزيز، بل المراد الاتفاق على إيراد اللفظ في مساق بيان الحكم وإفادته وإن لم يطابق الاعتقاد واقعا وهذا المعنى ممّا لا غبار عليه في نفسه وإن كان الظاهر من إطلاق الرواية غيره كما نبّهنا عليه.

        وأمّا تنزيله على الاتفاق على قراءة اللّفظ وإعرابه فمع كونه بعيدا عن سياق كلام المجيب مما لا وجه له لأنّه إن فرض اتفاقهم على سماع قراءة المعصوم عليه السلام فهذا خبر متواتر لإجماع فإنّ الإجماع إنما يكون في الفتوى فيكون نقله نقل خبر متواتر لا نقل إجماع وإن فرض اتفاقهم على أنّ لفظ الكتاب مثلا كذا وإعرابه كذا من غير استناد إلى السّماع فهذا يجري فيه ما يجري في الإجماع على سائر الأحكام من جواز عدم مطابقة أقوالهم لآرائهم كما ذكر في أصل الإشكال فلا يجدي فيه الجواب أصلا، ومع الإغماض عن ذلك ففائدته في المسائل واضحة على تقدير تحققه إذ قد يصير معه الحكم قطعيا ظاهريّا بل واقعيا أيضا فإن اللفظ على بعض التقادير قد لا يحتمل إلا معنى واحدا ولو لقيام الإجماع على بطلان بقية محتملاته.

        قوله إن ثبت بالتواتر فقطعيّ يعني أنّ هذا القول المجمع عليه المسوق للكشف عن الحكم الشرعي إن ثبت بالتواتر فقطعي لقطعية طريقه وإلا فظنيّ لظنيّة طريقه لكونه ثابتا بإخبار من لا يحصل العلم بخبره لا لظنيّة نفسه إذ المخبر عنه اتفاق الكل على القول وقد فرض أنّ الدليل القاطع دل على عدم مخالفة مؤداه للواقع فهذا من إثبات القطعي الشأني بالظني الفعلي، ونزل الفاضل المذكور هذه العبارة تارة على أنّ المراد من نفي ظنية نفسه كونه قطعي الدلالة، وأورد عليه بأن الفرض قطع النظر عن المراد لعدم القطع به، وفيه أنّ المفروض عدم القطع بكون مفاده مطابقا لمعتقد القائلين وهو لا ينافي القطع بدلالته على الحكم المستفاد منه بعد ملاحظة دليل الإجماع وشموله، وأخرى على أن المراد أن الاتفاق على اللفظ يعني على قراءته وإعرابه كما يظهر من بيانه السّابق إن ثبت بالتواتر فقطعيّ بمعنى أنه مقطوع بموافقته للواقع، قال وحينئذ لا معنى لقوله وإلا فظني لظنية طريقه لا لظنية نفسه، وفيه أنّ هذا التنزيل إنما نفسده لكونه مما لا يساعد عليه كلام المجيب ولا يجديه كما نبّهنا عليه وإلا فهو في نفسه صحيح فإنّ الاتفاق على القراءة مثلا دليل قطعي عليها في نفسه وإنّما الظن في طريق الموصل إلى وقوعه حيث يثبت بالآحاد، ثم أورد على هذا التنزيل سؤالا حاصله أنّ المقام من قبيل نقل الآحاد كون آية من القرآن المعهود بين الناس فإنه نقل قطعي بظنيّ، وأجاب بأنه ليس من هذا القبيل بل من قبيل ما ورد في الشواذ من نقل ألفاظ زائدة على ما في النسخ المعهودة إذ ليست الإجماعيات متعيّنة في الخارج بأشخاصها حتى يفرض حصول الشك في أنّ ذلك منها أو لا بل الشك في أنها إجماعي أو لا، وأنت خبير بأن كلا من السؤال والجواب عند التأمل مما لا محصل له.

        قوله فهو كالمتن القطعي الثابت بسند ظني يعني أن القول المذكور الثابت بنقل الآحاد من قبيل نقل قول المعصوم القطعي المفاد بطريق الآحاد في كون القول في كل من المقامين دليلا قطعيّا على الحكم في نفسه وإن كان الطريق إليه نقل الآحاد وهو ظني، وأورد عليه الفاضل المذكور بأنه إن أراد بالمتن القطعي الصدور فهو لا يجامع فرض كون السند ظنيا وإن أراد القطعي من حيث الدلالة والمفروض عدمه، وفيه أن المراد كونه قطعيّ الدلالة على الحكم لقيام دليل الإجماع عليه وليس في كلام المجيب نفي كون الإجماع على القول قطعي الدلالة على ثبوت الحكم، كيف وهو في صدد إثبات كونه قطعي الدلالة عليه وإنما المفروض في كلامه عدم كونه قطعي الدلالة على ثبوته في معتقد القائلين، والفرق بينهما جلي جدّا والنظر إنما هو بحسب الاعتبار الأول فتبصّر ولا تغفل واعلم أنّ قول المجيب إن ثبت بالتواتر فقطعي وإلا فظني بظاهره [الصفحة 263] غير مستقيم لورود منع الحصر عليه وهو ظاهر.

التنبيه الثاني

        قد يقع التعارض في نقل الإجماع وقد يقع بينه وبين الرواية المعتبرة فيرجح الأقوى ومع التكافؤ فالتخيير وللترجيح وجوه عديدة تعرف مما مرّ ومما يأتي في بحث التراجيح وقد يتوهم أن الإجماع إذا عارض الرواية رجح عليها مطلقا لتعدد الوسائط في الرواية وانتفائها في نقل الإجماع وهو من جملة وجوه الترجيح، ويضعّف بأن هذا الوجه معارض في الغالب بقلة الضبط في نقل الإجماع بالنسبة إلى نقل الخبر والاعتماد على بعض وجوه الترجيح مشروط بانتفاء ما يساويه أو يزيد عليه في الجانب الآخر.


 

([1]) النسخة المعتمدة: نشر دار إحياء العلوم الإسلامية - قم- 1404.