موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع

 

 

 

إجماعات فقهاء الإمامية

 

 

المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع

 

 

 

الشيخ الطوسي. عدة الأصول

الباب التاسع الكلام في الإجماع

فصل 1: في ذكر اختلاف الناس في الإجماع هل هو دليل أم لا؟

-  عدة الأصول (ط.ج) - الشيخ الطوسي ج 2   ص 601: ([1])

        (ذهب المتكلمون باجمعهم، والفقهاء بأسرهم على اختلاف مذاهبهم) إلى ان الإجماع حجة. وحكى عن النظام، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر انهم قالوا: [الصفحة 602]  الإجماع ليس بحجة.

        واختلف من قال حجة: فمنهم من قال: انه حجة من جهة العقل وهم الشذاذ. وذهب الجمهور الاعظم والسواد الاكثر إلى ان طريق كونه حجة السمع دون العقل ثم، اختلفوا: فذهب داود، وكثير من اصحاب الظاهر إلى ان إجماع الصحابة هو الحجة دون غيرهم من اهل الاعصار. وذهب مالك ومن تابعه إلى ان الإجماع المراعى هو إجماع اهل المدينة دون غيرهم، غير انه حجة في كل عصر. وذهب الباقون إلى ان الإجماع حجة في كل عصر، ولا يختص ذلك بعصر الصحابة ولا بإجماع اهل المدينة.

        والذي نذهب إليه: ان الامة لا يجوز أن تجتمع على خطاء، وان ما يجمع عليه لا يكون الا حجة، لان عندنا انه لا يخلو عصر من الاعصار من امام معصوم حافظ للشرع، يكون قوله حجة يجب الرجوع إليه، كما يجب الرجوع إلى قول الرسول عليه السلام، وقد دللنا على ذلك في كتابنا (تلخيص الشافي) واستوفينا كلما يسأل عن ذلك من الاسئلة، وإذا ثبت ذلك، فمتى اجمعت الامة على قول فلابد من كونها حجة لدخول الامام المعصوم في جملتها.

        ومتى قيل: جوزوا أن يكون الامام منفردا عن إجماعهم، [الصفحة 603] قلنا: متى فرضنا انفراد الامام عن الإجماع فان ذلك لا يكون إجماعا، بل لو انفرد واحد من العلماء عند من خالفنا من الإجماع اخل ذلك بإجماعهم.

        فان قيل: إذا كان المراعى في باب الحجة قول الامام المعصوم فلا فائدة معلومة وهى انه قد لا يتعين لنا قول الامام في كثير من الاوقات فيحتاج حينئذ إلى اعتبار الإجماع ليعلم بإجماعهم ان قول المعصوم عليه السلام داخل فيهم، ولو تعين لنا قول المعصوم الذي هو الحجة لقطعنا على ان قوله هو الحجة، ولم نعتبر سواه على حال من الاحوال.

        ومتى فرضنا ان الزمان يخلو من معصوم حافظ للشرع لم يكن الإجماع حجة على وجه من الوجوه.

        والذي يدل على ذلك: انه لا دليل على كونهم حجة لا من جهة العقل ولا من جهة الشرع، وإذا لم يكن دليل وجب القطع على نفى كونه حجة، لفقد ما يدل عليه.

        ونحن نتبع ما يعتمده الخصوم في هذا الباب من جهة العقل والشرع معا، ونبين انه لا دلالة في شيء من ذلك اعتمد من قال انهم حجة من جهة العقل، على انهم مع كثرتهم وانتشارهم في البلاد واختلاف آرائهم وبعد همهم لا يجوز أن يجمعوا على خطاء ولو جاز ذلك لجاز أن يتفقوا على اكل طعام واحد، ولبس لباس واحد، وفعل واحد، ويأتي الشعراء الكثيرون بقصيدة واحدة في معنى واحد وغرض واحد، وكل ذلك يعلم بطلانه ضرورة، وفي صحة ذلك دليل على انهم لا يجمعون على خطاء.

        وهذا ليس بشيء، لان جميع ما ذكروه لا يشبه مسألة الإجماع لان جميعه تابع للدعاوى والآراء واختلاف الهمم، والعادة مانعة من اتفاقهم في الدعاوى والآراء [الصفحة 604] في الأمثلة التي ذكروها، وليس مسألة الإجماع من هذا الباب، لانه يجوز أن تدخل عليهم الشبهة فيعتقدوا فيما ليس بدليل انه دليل فيجمعوا عليه، وقد دخلت الشبهة في مثل امتنا -واكثر منهم- فيما يتعلق بباب الديانات، الا ترى ان اليهود والنصارى ومن خالف الاسلام قد اتفقوا على ابطال الاسلام، وتكذيب نبينا عليه السلام وهم اكثر من المسلمين اضعافا مضاعفة، وليس إجماعهم على ذلك دليلا على بطلان الاسلام، لانهم انما اجمعوا لدخول الشبهة عليهم، وانهم لم يمعنوا النظر في الطرق الموجبة للقول بصحة الاسلام.

        قيل فكذلك القول في إجماع الامة، على ان ذلك إذا دل الدليل على كونه حجة وثبت ذلك، فأما قبل ثبوته فنحن في سبر ذلك، فالمنع منه غير صحيح.

        فان قالوا: لو جاز عليهم الخطا فيما يجمعون عليه، لجاز على المتواترين الخطاء فيما يخبرون به، لان الامة باجمعها اكثر من قوم متواترين ينقطع بنقلهم الحجة، ولو جاز ذلك على المتواترين ادى ذلك إلى الا نثق بشيء من الاخبار، ولا نعلم شيئا نقلوه، وذلك يؤدى إلى ما يعلم ضرورة خلافه.

قيل التواتر لم يكن حجة من حيث انه لا يجوز فيهم الخطاء، وانما كان حجة لانهم نقلوا نقلا يوجب العلم الضروري عند من قال بذلك، أو علما لا يتخالج فيه الشكوك عند من قال بالاكتساب، فالحجة في نقلهم بحصول العلم بما نقلوه لا بمجرد النقل، وكان يجوز أن لا ينقلوا ما نقلوه اما خطاء أو عمدا، فيخرج خبرهم من أن يكون موجبا للعلم، فيلحق حينئذ بباب الإجماع الذي نحن في اعتبار كونه حجة أم لا، وهذا بين لا اشكال فيه، ولم يعتمد هذه الطريقة الا شذاذ من القائلين بالإجماع، والمحصلون منهم عولوا على ادلة السمع في هذا الباب [الصفحة 605] ونحن نذكر ما اعتمدوه ونتكلم عليه ان شاء الله تعالى احد ما اعتمدوا عليه: قوله تعالى {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}.

        قالوا: فتوعد الله تعالى على اتباع غير سبيل المؤمنين، كما توعد على مشاققة الرسول صلى الله عليه وآله، فلولا انهم حجة يجب اتباعهم فيما اجمعوا عليه والا لم يجز ذلك. والكلام على هذه الاية من وجوه:

        أولها: ان في اصحابنا من ذهب إلى ان الالف واللام لا يقتضيان الاستغراق والشمول، بل هما مشتركان لهما ولغيرهما، فإذا كان كذلك كانت الاية كالمجملة تحتاج إلى بيان، ويحتمل أن يكون اريد بها جميع المؤمنين، ويحتمل أن يكون اراد بعضهم، ولا يمكن حملها على الجميع لفقد دلالة الخصوص لان القائل ان يقول: احملها على الاقل لفقد الدليل على ان المراد بها الكل، وإذا جاز ان يكون المراد بها بعضهم فليسوا بان يحمل على بعض المؤمنين باولى منا إذا حملناها على الائمة من آل محمد^ ويسقط بذلك غرضهم، ونحن نكون احق من حيث قام الدليل على عصمتهم وطهارتهم، وامنا وقوع الخطأ من جهتم.

        وثانيها: ان لفظة (سبيل) ايضا محتملة، بل هي تقتضي الوحدة ولا يجب حملها على كل سبيل، فكيف يمكن الاستدلال بها على ان كل سبيل المؤمنين صواب فيجب اتباعه؟

        وليس لهم ان يقولوا: إذا فقدنا دليل الاختصاص حملناها على العموم. لان القائل أن يقول: إذا فقدنا دلالة العموم حملناها على الخصوص، كما قلناه [الصفحة 606] في الوجه الاول.

وثالثها: انه تعالى توعد على اتباع غير سبيلهم، وليس في ذلك دلالة على وجوب اتباع سبيلهم، فيجب أن يكون اتباع سبيلهم موقوفا على الدلالة.

        وليس لهم أن يقولوا: ان الوعيد لما علقه تعالى باتباع غير سبيلهم حل محل ان يعلقه بالعدول على سبيل المؤمنين وترك اتباعهم، في انه لا يقتضى لا محالة ان اتباع سبيل المؤمنين صواب، وان الوعيد واجب لتركه ومفارقته.

        وذلك ان هذا دعوى محضة، لانه لا يمتنع أن يكون اتباع غير سبيلهم محرما، واتباع سبيلهم مباحا أو محرما.

        أيضا: يبين ذلك انه لو صرح بما تأولناه حتى يقول: اتباع غير سبيل المؤمنين محظور عليكم، واتباع سبيلهم يجوز أن يكون قبيحا وغير قبيح فاعملوا فيه بحسب الدلالة، أو يقول: اتباع سبيلهم مباح لكم، لساغ هذا الكلام ولم يتناقض، وإذا كان سايئغا بطل قول من قال: ان النهى عن اتباع غير سبيلهم موجب لاتباع سبيلهم، وانه يجرى مجرى التحريم، لمفارقة سبيلهم والعدول عنها.

        وليس لهم ان يقولوا: ان من لم يتبع غير سبيل المؤمنين فلابد من أن يكون متبعا لسبيلهم، فمن هاهنا حكمنا بان النهي عن احد الامرين ايجاب للاخر، وذلك ان بين الامرين واسطة، وقد يجوز أن يخرج المكلف من اتباع غير سبيلهم واتباع سبيلهم معا بأن لا يكون متبعا سبيل احد.

        وليس لهم أن يقولوا: ان (غير) هاهنا بمعنى الا، فكأنه قال تعالى: (لا يتبع الا سبيل المؤمنين). لأن احدنا لو قال لغيره: من (أكل غير طعامي فله العقوبة)، فالمتعارف من ذلك [الصفحة 607] ان أكل طعامه مخالف لذلك، وان العقوبة انما تتعلق بخروجه عن أن يكون اكلا لطعامه لان (غير) هاهنا ليس بواجب أن يكون بمعنى (الا) الموضوعة للاستثناء، بل جائز أن يكون بمعنى خلاف، فكأنه قال: (لا يتبع خلاف سبيل المؤمنين وما هو غير سبيلهم) ولم يرد لا يتبع الا سبيلهم.

        وقول القائل: (من اكل غير طعامي عاقبته) لا يفهم من ظاهر لفظه ومجرده ايجاب اكل طعامه، بل المفهوم حظر اكل كلما هو غير لطعامه، وحال طعامه في الحظر والاباحة موقوفة على الدليل.

واقل احوال هذا اللفظ عند من ذهب إلى ان لفظة (غير) مشتركة بين الاستثناء وغيره، وان ظاهرها لا يفيد احد الامرين، أن يكون محتملا لما ذكرناه من حظر أكل غير طعامه، ومحتملا لايجاب أكل طعامه، ووضع لفظة (غير) مكان لفظة (إلا) وانما يكون في بعض المواضع يفهم عن مستعمل هذه اللفظة ايجاب اكل طعامه لا بمجرد اللفظ، بل بان يعرف قصده إلى الايجاب أو بغير ذلك من دلائل الحال، ولولا ذلك لما حسن أن يقول: القائل: (من اكل غير طعامي عاقبته، ومن اكل طعامي أيضا عاقبته)، وكان يجب أن يكون نقضا، أو جاريا مجرى قوله: (من اكل الا طعامي عاقبته، ومن اكل طعامي عاقبته)، فلما حسن ذلك مع استعمال لفظة (غير) ولم يحسن مع استعمال لفظة (إلا) دل على صحة ما قلناه.

        فان قيل: لو لم يكن اتباع سبيل المؤمنين حجة وصوابا لكان حاله في انه قد يكون صوابا أو خطاء، بحسب قيام الدلالة على ذلك حال اتباع غير سبيلهم في انه قد يكون صوابا أو خطأ، ولو كان كذلك لم يصح ان يعلق الوعيد باتباع غير سبيلهم دون اتباع سبيلهم، فكان يبطل معنى الكلام.

        قيل له: غير منكر ان يعلق الوعيد باتباع غير سبيلهم، من حيث علم ان ذلك لا يكون الا خطأ، ويكون اتباع سبيلهم مما يجوز أن يكون خطأ وصوابا، ولو لم يكن كذلك وكان الامران متساويين لجاز أن يعلق الوعيد باحدهما دون الاخر، ويكون الصلاح للمكلفين ان يعلموا خطر اتباع غير سبيلهم بهذا اللفظ، ويعلموا مساواة اتباع [الصفحة 608] سبيلهم له في الحظر بدليل اخر، كما يقوله اكثر خصومنا: ان قوله عليه السلام “في سائمة الغنم الزكاة” لا يجب أن يفهم منه دفع الزكوة عما ليس بسائم، ومفارقة حاله لحال السائمة، بل يجوز أن يكون الحكم واحدا، ويعلم بالسائمة بهذا القول، وفي غيرها بدليل اخر.

        فان قيل: ان ذلك يجرى مجرى قول احدنا لغيره: (لا تتبع غير سبيل الصالحين) في انه بعث على اتباع سبيل الصالحين، والا يخرج عن ذلك. قيل: القول في هذا المثال كالقول فيما تقدم، وظاهر اللفظ واطلاقه لا يدل على وجوب اتباع طريقة الصالحين و يحث عليها، وما يعلم لا من حيث ظاهر اللفظ خارج عما نحن فيه.

        ولو ان احدنا قال بدلا من ذكر الصالحين: (لا يتبع غير طريقة زيد) لم يجب أن يفهم من اطلاقه ايجاب اتباع طريقته.

        ولولا ان الامر فيما تقدم على ما قلناه دون ما ادعاه السائل، لوجب فيما قال لغيره: (لا تضرب غير زيد) ثم قال: (ولا زيدا) أن يكون مناقضا في كلامه، من حيث كان قوله: (لا تضرب غير زيد) ايجابا لضربه وقوله: (ولا زيدا) حظر لذلك.

        وفي العلم بصحة هذا القول من مستعمله، وانه غير جار مجرى قوله: (اضرب زيدا ولا تضربه) دلالة على استقامة تأويلنا للاية.

        ورابعها: انه تعالى حذر من مخالفة سبيل المؤمنين وعلق الكلام بصفة من كان مؤمنا، فمن أين لخصومنا انهم لا يخرجون عن كونهم مؤمنين إذا خرجوا عن الايمان خرجوا عن الصفة التي تعلق الوعيد بخلاف من كان عليها؟

        وليس له أن يقول: لا يصح أن يتوعد الله تعالى وعيدا مطلقا على العدول [الصفحة 609] عن اتباع سبيل المؤمنين، الا وذلك ممكن في كل حال ولا يصح دخوله في أن يكون ممكنا الا بأن يثبت في كل عصر جماعة من المؤمنين.

        يبين ذلك: انه كما توعد على العدول عن اتباع سبيلهم، فكذلك توعد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله، فإذا وجب في كل حال صحة المشاقة ليصح الوعيد المذكور، فكذلك يجب أن يصح في كل حال اتباع سبيلهم والعدول عنها، لانه ليس يجب من حيث توعد تعالى توعدا مطلقا على العدول عن اتباع غير سبيل المؤمنين، ثبوت مؤمنين في كل عصر، انما تقتضي الاية التحذير من العدول عن اتباعهم إذا وجدوا وتمكن من اتباعهم وتركه.

        ولسنا نعلم من أي وجه ظن ان التوعد على الفعل يقتضى امكانه في كل حال.

        وليس هذا مما يدخل فيه عندنا شبهة على متكلم، ونحن نعلم ان البشارة بنبينا عليه السلام قد تقدم على لسان من سلفت نبوته كموسى عليه السلام وعيسى وغيرهما من الانبياء^، وقد امر الله تعالى اممهم باتباعه وتصديقه واشار لهم إلى صفاته وعلاماته، وتوعدهم على مخالفته وتكذيبه، ولم يكن ما توعد عليه من مخالفته واوجبه من تصديقه واتباعه ممكنا في كل وقت، ولا مانعا من اطلاق الوعيد.

وقد قال شيخهم أبو هاشم، وتبعه على هذه المقالة جميع اصحابه: ان قوله تعالى: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ}، [الصفحة 610] ولا يقتضي ثبوت من يستحق القطع على سبيل النكال، ولو لم يقع التمكن ابدا، والوقوف على من هذه حاله لما اخل بفائدة الاية، وعول في قطع من يقطع من السراق المشهود عليهم أو المقرين على الإجماع.

        وإذا صح هذا، فكيف يجب من حيث اطلق الوعيد على العدول عن اتباع سبيل المؤمنين، وجود مؤمنين في كل عصر؟ وما المانع من أن يكون الوعيد يتعلق بحال مقدرة كانه تعالى قال: (ولا تتبعوا غير سبيل المؤمنين) إذا حصلوا ووجدوا؟ فعلم بذلك بطلان ما تعلق به السائل.

        وخامسها: انه تعالى توعد على اتباع غير سبيلهم على تسليم عموم المؤمنين والسبيل، فان الاية لا تدل على وجوب اتباعهم في عصر، بل هو كالمجمل المفتقر إلى بيان، فلا يصح التعلق بظاهره.

وليس لاحد أن يقول: انى أحمله على كل عصر من حيث لم يكن اللفظ مختصا بعصر دون عصر. لان هذه الدعوى نظيره الدعوى المتقدمة التى بينا فسادها.

        وليس لاحد أن يقول: انى اعلم وجوب اتباعهم في الاعصار كلها بما علمت به وجوب اتباع النبي عليه السلام في كل عصر، فما قدح في عموم احد الامرين قدح في عموم الاخر، لانا لا نعلم عموم وجوب اتباع الرسول عليه السلام في كل عصر بظاهر الخطاب: بل بدلالة لا يمكن دفعها، فمن ادعى في عموم وجوب اتباع المؤمنين دلالة فليحضرها!.

        وليس له أن يقول: إذا لم يكن فيها تخصيص وقت وجب حملها على جميع الأعصار.

[الصفحة 611]

        لأن المخالفة أن يقول: وإذا لم يكن فيها دليل على عموم الاعصار، وجب حملها على أهل عصر واحد، وهو حال زمن الصحابة به على ما ذهب إليه داود، والا فما الفصل؟.

        وسادسها: ان قوله تعالى (المؤمنين) لا يخلو ان يريد به المصدقين بالرسول صلى الله عليه وآله أو المستحقين للثواب على الله تعالى، فان كان الاول بطل، لان الاية تقتضي التعظيم والمدح لمن تعلقت به من حيث اوجب اتباعه، ولا يجوز أن يتوجه إلى من لا يستحق التعظيم والمدح، وفي الامة من يقطع على كفره وانه لا يستحق شيء منها، ولانه كان يجب لو كان المراد (بالمؤمنين) المصدقين دون المستحقين للثواب أن يعتبر في الإجماع دخول كل مصدق في شرق وغرب، فهذا يعلم تعذره، وعموم القول يقتضيه، وليس يذهب اكثر المخالفين إليه.

        وان اراد (بالمؤمنين) مستحقي الثواب والمدح والتعظيم، فمن أين ثبوت مؤمنين بهذه الصفة في كل عصر يجب اتباعهم؟ ويجب ايضا: الا يثبت الإجماع الا بعد القطع على ان كل مستحق للثواب في بر وبحر وسهل وجبل قد دخل فيه، لان عموم القول يقتضيه، وهذا يؤدي إلى أن لا [الصفحة 612] يثبت الإجماع ابدا.

        وان حمل على بعض المؤمنين، وعلى من عرفناه دون من لم نعرفه، جاز حمله على طائفته من المؤمنين وهم ائمتنا^.

        وسابعها: انا لو تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه، لم يكن في الاية دلالة تتناول الخلاف في الحقيقة، لانه جاز ان يكون تعالى انما امر باتباع المؤمنين من حيث ثبت بالعقول ان في جملة المؤمنين في كل عصر اماما معصوما لا يجوز عليه الخطاء، وإذا جاز ما ذكرناه سقط غرضهم في الاستدلال على صحة الإجماع، لانهم انما اجروا بذلك إلى أن يصح الإجماع، وتنحفظ، الشريعة به ويستغنى به عن الامام، وإذا كان ما استدلوا به على صحة الإجماع يحتمل ما ذكرناه، بطل التعلق به.

        وثامنها: ان الله تعالى توعد على [الصفحة 613] مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله واتباع غير سبيل المؤمنين على وجه الجمع بينهما، فمن اين انه لو انفرد اتباع غير سبيلهم عن المشاقة استحق به الوعيد.

        وليس لهم ان يقولوا: ان مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله مما كان بانفرادها يستحق بها الوعيد، فكذلك اتباع غير سبيل المؤمنين، ولو جاز أن لا يستحق عليه العقاب ويذكر مع مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وتعلق الوعيد به، لجاز أن يضاف إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله شيء من المباحات مثل الاكل والشرب وغير ذلك، وتعلق الوعيد به، فلما لم يجز ذلك علم أن اتباع غير سبيلهم يجب أن يستحق الوعيد به على الانفراد، وذلك انا لا نعلم بظاهر الاية ان مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله يستحق بها الوعيد إذا انفردت عن اتباع غير سبيل المؤمنين.

        ولو خلينا وظاهر الاية لما علقنا الوعيد الا على من جمع بينها، لكن علمنا بالدليل ان مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله، بها على الانفراد الوعيد، فلاجل ذلك قلنا به.

        فاما ضم المباحات إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله، فانما لم يجز لانا قد علمنا ان حكم المباحات عند الانضمام حكمها عند الانفراد في أنه لا يستحق بها الوعيد، وقد كان يجوز أن يستحق بها الوعيد إذا انضم إلى المشاقة، ولم يكن ذلك بابعد من شيئين مباحين على الانفراد، فإذا جمع بينها صار محظورين، الا ترى انه يجوز للحر المسلم العقد على ثلاث من النسوة على الانفراد، وعلى امرائتين ايضا على الانفراد، ولا يجوز له بجمع في عقد واحد ثلاثا وثنتين لان ذلك محظور ولذلك نظائر كثيرة في الشرع، لكن هذا وان كان جائزا علمنا انه لم يثبت، لانا علمنا ان فعل شيء من المباحات من الاكل والشرب وان انضم إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله فانه لا يستحق به الوعيد، فلاجل ذلك لم يجز ضم ذلك إلى المشاقة.

        وتعلقوا ايضا بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}. قالوا: و (الوسط) العدل، ولا يكون هذه حالهم الا وهم خيار، لان الوسط من كل شيء هو المعتدل منه، وقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ}  المراد به خيرهم، وعلى هذا الوجه يقال: انه عليه السلام من اوسط العرب، يعنى بذلك من خيرهم.

        وايضا: فانه جعلهم كذلك ليكونوا: {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} كما انه عليه السلام [الصفحة 614] شهيد عليهم، فكما انه لا يكون شهيدا الا وقوله حق [وحجة] فكذلك القول فيهم.

        وهذه الاية لا تدل ايضا على ما يدعونه، لا يصح ان يكون المراد بها جميع الامة المصدقة بالرسول صلى الله عليه وآله أو بعضها، وقد علمنا انه لا يجوز أن يريد به جميعها، لان كثيرا منها ليس بخيار، [ولا عدل] ، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يصف جماعة بانهم خيار عدول وفيهم من ليس بعدل، ولا خير، وهذا مما يوافقنا عليه اكثر من خالفنا.

        وان كان اراد بعضها، لم يخل ذلك البعض أن يكون جميع المؤمنين المستحقين للثواب، ويكون بعضا منهم غير معين:

        فان كان الاول: فلا دلالة توجب عمومها في الكل دون حملها على بعض غير معين، لانه لا لفظ هاهنا من الالفاظ التي تدعى للعموم كما هو في الاية المتقدمة.

        وان كان المراد بعضا معينا، خرجت الاية من أن تكون فيها دلالة لخصومنا على الخلاف بيننا وبينهم.

        ولم يكن بعض المؤمنين بأن يقتضى تناولها [له] اولى من بعض، فساغ لنا ان نقصرها على الائمة من ال محمد^، ويكون قولنا اثبت في الاية من كل قول لقيام الدلالة على عصمة من عدلنا بها إليه وطهارته، وتمييزه من كل الأمة.

[الصفحة 615]

        فان قيل: اطلاق القول يقتضى دخول كل الامة فيه، لولا الدلالة التي دلت من حيث الوصف المخصوص على تخصيص من يستحق المدح منهم والثواب، فإذا خرج من لا يستحقها بدليل وجب عمومها في كل المستحقين للثواب والمدح، لانه ليس هي بأن تتناول بعضها اولى من بعض.

        قيل له: ان اطلاق القول لا يقتضى كل الامة على اصلنا حتى يلزم إذا اخرجنا من لا يستحق الثواب منه أن لا يخرج غيره، ولو اقتضى ذلك ووجب تعليق الاية بكل من عدا الخارجين من استحقاق الثواب، لوجب القضاء بعمومها في جميع من كان بهذا الصفة في سائر الاعصار، لان ظاهر العموم يقتضيه على مذهب من قال به، فكان لا يسوغ حمل القول على إجماع كل عصر وهذا يبطل الغرض في الاحتجاج بالاية.

        وليس لاحد أن يقول: كيف يكون اجتماع جميع اهل الاعصار على الشهادة حجة، ولا يكون إجماع اهل كل عصر حجة وصوابا؟ فإنه يقال: لهم: كما تقولون: إن إجماع اهل كل عصر حجة، وليس إجماع كل فرقة من فرقها حجة.

        فان قيل: بأي شيء يشهد جميعهم، وهم لا يصح ان يشاهدوا كلهم شيئا واحدا فيشهدوا به؟ [الصفحة 616] قيل لهم: قد تصح الشهادة بما لا يشاهد من المعلومات، كشهادتنا بتوحيد الله تعالى، وعدله ونبوة انبيائه، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده.

        ولو قيل ايضا: فعلى من تكون الشهادة إذا كان جميع اهل الاعصار هم الشهداء؟ قلنا: تكون شهادتهم على من لا يستحق ثوابا، ولا يدخل تحت القول من الامة؟، ويصح ايضا أن يشهدوا على باقى الامم الخارجين عن الملة، وكل هذا غير مستبعد.

        ويمكن ايضا ان يقال في اصل تأويل الاية: ان قوله تعالى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} إذا سلم ان المراد به جعلناكم عدولا خيارا، لا يدل ايضا على ما يريد الخصم، لانه لم يبين هل جعلهم عدولا في كل اقوالهم وافعالهم، أو في بعضها؟ فالقول محتمل وممكن أن يكون تعالى اراد انهم عدول فيما يشهدون به في الاخرة، أو في بعض الاحوال.

        فان رجع راجع إلى أن يقول: اطلاق القول يقتضى العموم وليس هو بأن يحمل على بعض الاحوال أو الامور أولى من بعض، فقد مضى الكلام على ما يشبه هذا مستقصى.

        فاما حملهم (الأمة) على النبي صلى الله عليه وآله في باب الشهادة وكونه حجة من فيها، فلم يكن قول النبي صلى الله عليه وآله حجة من حيث كان شهيدا، بل من حيث كان نبيا ومعصوما، فتشبيه احد الامرين بالاخر من البعيد.

        ومما يسقط التعلق بالاية ايضا: ان قوله تعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، يقتضى حصول واحد منهم بهذه الصفة، لان ما جرى هذا المجرى من [الصفحة 617] الأوصاف لابد أن يكون حال الواحد فيه كحال الجماعة، الا ترى انه لا يسوغ ان يقال في جماعة انهم مؤمنون الا وكل واحد منهم مؤمن، وكذلك لا يسوغ أن يقال في جماعة انهم شهداء الا وكل واحد منهم شهيد، لان (شهداء) جمع شهيد، كما ان (مؤمنين) جمع مؤمن، وهذا يوجب أن يكون كل واحد من الامة حجة مقطوعا على صواب فعله وقوله.

        وإذا لم يكون هذا مذهبا لاحد وكان استدلال الخصم بالاية يوجبة، فسد قولهم ووجب صرف الاية إلى جماعة يكون كل واحد منهم شهيدا وحجة، وهم الائمة^ الذين قد ثبت عصمتهم وطهارتهم.

        على ان الآية لو تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه فيها، لا يقتضى كون جميع اقوال الامة وافعالها حجة، لانها غير مانعة من وقوع الصغائر التي لا تسقط العدالة منهم، فان امكن تمييز الصغائر من غيرها كانوا حجة فيما قطع عليه، وان لم يكن وعلم في الجملة أن الخطاء الذي يكون كبيرا ويؤثر في العدالة مأمون منهم وغير واقع من جهتهم، وان ما عداه مجوز عليهم، فسقط بما ذكرناه تعلق المخالف بالاية في نصرة الإجماع.

        وليس لاحد أن يقول: ان كونهم عدولا كالعلة والسبب في كونهم شهداء، وانه قد صح في العقل انه لا يجوز أن ينصب للشهادة الا من يعلم عدالته، أو تعرف الامارات التي تقتضي غالب الظن، وصح أن من ينصبه الغالب الظن إذا تولى الله تعالى نصبه يجب أن يعلم من حاله ما يظنه.

[الصفحة 618]

        وإذا ثبت ذلك، لم يخل من أن يكونوا حجة فيما يشهدون أولا يكونوا، فان لم يكونوا حجة بطلت شهادتهم لان من حق الشاهد إذا اخبر عما يشهد به أن يكون خبره حقا، وان لم يجرى مجرى الشهادة، فلابد من أن يكون قولهم صحيحا، ولا يكون كذلك الا وهم حجة، وليس بعض اقوالهم وافعالهم بذلك اولى من بعض، وذلك انه لو سلم لهم جميع ما ذكروه ولم يلزم أن يكونوا حجة في جميع اقوالهم وافعالهم، لان اكثر ما تدل عليه الاية فيهم أن يكونوا عدولا رشحوا للشهادة، فالواجب أن ينفى عنهم ما جرح شهادتهم واثر في عدالتهم دون ما لم يكن بهذه المنزلة.

        وإذا كانت الصغائر على مذهبهم غير مخرجة عن العدالة، لم يجب بمقتضى الاية نفيها عنهم، وبطل قوله: (انه ليس بعض اقوالهم وافعالهم بذلك اولى من بعض) لانا قد بينا فرق ما بين الافعال المسقطة للعدالة والافعال التي لا تسقطها.

        ثم يقال لهم: اليس لرسول صلى الله عليه وآله السلام مع كونه شهيدا لا يمنع من وقوع الصغائر منه، فهلا جاز ذلك في الامة؟

[الصفحة 619]

        وليس لهم أن يقولوا: ان حالهم مخالفة لحال الرسول، لانه ما نجوزه عليه من الصغائر لا يخرج ما يؤديه عن الله تعالى مما هو الحجة فيه من أن يكون متميزا، فيصح كونه حجة وليس كذلك لو جوزنا على الامة الخطاء في بعض ما تقوله وتفعله لان ذلك يوجب خروج كل ما يجمع عليه من أن يكون حجة، لان الطريقة في الجمع واحدة، فيسقط بما ذكرناه، لانه إذا كان تجويز الصغائر على الرسول لا يخرجه فيما يؤديه من ان يكون حجة ويتميز ذلك للمكلف، فكذلك إذا كانت الاية مما تقتضي كون الامة عدولا فيجب نفى ما اثر في عدالتهم، والقطع على انتفاء الكبير من المعاصي عنهم، وتجويز ما عدا هذا عليهم، ولا يخرج هذا التجويز من أن يكونوا حجة، فيما لو كان خطاء لكان كبيرا.

        وقد يصح تمييز ذلك على وجه فان في المعاصي ما يقطع على كونها كبائر ولو لم يكن إلى تمييزه سبيل لصح الكلام ايضا من حيث كان الواجب علينا اعتقاد نفي الكبائر عنهم وتجويز الصغائر، وان شهادتهم بما لو لم يكن حقا لكانت الشهادة به كبيرة لا تقع منهم، وان جاز وقوع ما لم يبلغ هذه المنزلة، ويكون هذا الاعتقاد مما يجب علينا على سبيل الجملة، وان تعذر علينا تفصيل افعالهم التي يكونون فيها [الصفحة 620] حجة من خالفها لاسيما وشهادتهم ليست عندنا، فيجب علينا تمييز خطأهم من صوابهم، وانما هي عند الله تعالى، وإذا كانت عنده جاز أن يكون الواجب علينا هذا الاعتقاد الذي ذكرناه.

        فان قيل: ليس المراد بالاية الشهادة في الاخرة، وانما هو القول بالحق والاخبار بالصدق كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ}([2]) وكل من قال حقا وهو شاذ به، وليس هذا من باب الشهادة التي تؤدى أو تتحمل بسبيل، وان كانوا مع شهادتهم بالحق يشهدون في الاخرة باعمال العباد، فيجب في كل ما اجمعوا عليه قولا أن يكون حقا، وفعلهم يقوم مقام قولهم، فيجب أن يكون هذا حاله، لانهم إذا جمعوا على الشيء واظهروه اظهار ما يعتقد انه حق حل محل الخبر، وهذا يوجب انه لا فرق بين الصغير والكبير في هذا الباب.

        قيل له: هذا غير مؤثر فيما قدحنا به في الاستدلال بالاية، لان التعلق في([3]) الاية انما هو بكونهم عدولا لا بلفظ الشهادة، لان التعليق لو كان بالشهادة لم يكن في الكلام شبهة من حيث كانت الشهادة لا تدل بنفسها على كونها حجة كما تدل العدالة.

        ولو تعلق متعلق بكونهم شهودا ويذكر شهادتهم، لم نجد بدا من اعتبار العدالة والرجوع إليها، وإذا كانت الصغائر لا تؤثر في العدالة ولا يمتنع وقوعها على مذهب المعتزلة([4]) من العدل المقبول الشهادة، فما الموجب من الاية نفيها عن الامة؟، ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكونوا شهداء في الدنيا والاخرة معا، وبين أن يكونوا شهداء [الصفحة 621] في الآخرة دون الدنيا([5]). واستدلوا ايضا: بقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}([6]).

        قالوا: وصف الله تعالى (بانها) خير الامة ، وانها (تأمر بالمعروف) (وتنهى عن المنكر)، فلا يجوز أن يقع منها خطأ، لان ذلك يخرجها من كونها خيارا، ويخرجهما ايضا من كونها امرة بالمعروف وناهية عن المنكر، الا أن تكون آمرة بالمنكر وناهية عن المعروف، ولا ملجاء من ذلك الا بالامتناع من وقوع شيء من القبائح من جهتهم.

        والكلام على هذا الدليل مثل الكلام على الاية التي ذكرناها قبل هذه الاية على حد واحد من المنازعة في أن تكون لفظة (الامة) تستحق الجمع والشمول.

        ومع التسليم انها تشتمل جميع اهل الاعصار دون اهل كل عصر، وفي انها لا يجوز ان يوصفوا بانهم خيارالا وكل واحد منهم بهذه الصفة، وفي ان اكثر ما تقتضيه الاية ان لا يقع منهم ما يخرجهم من كونهم خيارا من الكبائر، ولا يجب من ذلك الا يقع منهم الصغير الذي يتحبط([7]) عقابه، ولا يخرجهم من كونهم بهذه الصفة فالكلام في الايتين على حد واحد.

        ويمكن أن يقال في هذه الاية وفي التي تقدمت: ان المراد بها قوم معينون لما يتضمنان من حرف الاشارة في المخاطبين، وليس فيهما ما يقتضى لفظ العموم، لان الفاظ العموم معلومة، وليس فيهما شيء منها.

        فان رجعوا إلى ان يقولوا: لو كان المراد به ما دون الاستغراق لبين قيل لهم: ولو كان المراد بها الاستغراق لبين، وإذا تقابل القولان سقط [الصفحة 622] الاحتجاج بالآية.

        وكل ما يسأل على هذه الطعون فقد مضى الجواب عنه في الاية المتقدمة فلا وجه لتكراره.

        واستدلوا ايضا بقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}([8]). قالوا: فاوجب الله تعالى اتباع سبيل من اناب إليه وهم المؤمنون، لأنهم المختصون بهذه الطريقة.

        والكلام في هذه الاية كالكلام في الآية([9]) المتقدمة، واكثر ما اعترضنا به عليها فهو اعتراض على هذه الآية أيضا([10]).

        ومما يختص بهذه الاية ان (الإنابة) حقيقتها في اللغة هي الرجوع([11]) وانما يستعمل في التائب من حيث رجع عن المعصية إلى الطاعة، وليس يصح اجزاؤها على المتمسك بطريقة واحدة لم يرجع إليها من غيرها على سبيل الحقيقة، ولو استعمل فيمن ذكرناه لكان مستعملها متجوزا عند جميع اهل اللغة.

        وإذا كانت حقيقة (الانابة) في اللغة هي الرجوع لم يصح اجراء قوله تعالى: {اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ}([12]) على جميع المؤمنين حتى يعم بها من كان متمسكا بالايمان وغير خارج عن غيره إليه، ومن رجع الى اعتقاده واناب إليه بعد ان كان على غيره، لانا لو فعلنا ذلك لكنا عادلين باللفظة عن حقيقتها من غير ضروره، فالواجب أن يكون ظاهرها متناولا للتائبين من المؤمنين الذين انابوا إلى الايمان وفارقوا غيره، وإذا [الصفحة 623] تناولت هذا([13]) لم تكن دلالة على مكان الخلاف بيننا وبين خصومنا في الإجماع([14]).

        واستدلوا ايضا بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}([15]). قالوا: فاوجب علينا الرد إلى الكتاب والسنة عند التنازع، فيجب إذا ارتفع التنازع الا يجب الرد، ولا يسقط وجوب الرد اليهما الا لكونه حجة. والكلام على هذه الاية من وجوه:

        أحدها: ان هذا خطاب لجماعة مواجهين بالخطاب، وليس فيها لفظ يقتضى الاستغراق لجميع الامة، وإذا لم يكن فيها ذلك لم يكن لاحد أن يحملها على الاستغراق. وليس لهم ان يقولوا: نحملها على الجمع لفقد الدلالة على ان المراد به الاستغراق.

        وثانيها: ان اكثر ما في الاية ان تفيد ان عند وجود التنازع يجب الرد إلى الكتاب والسنة، وليس فيها ذكر ما يرتفع التنازع فيه الا من حيث دليل الخطاب الذي اكثر من خالفنا يبطلة، وفرق من فرق بين تعليق الحكم بالصفة وبينه إذا علق بشرط فاسد لما بيناه فيما تقدم من هذا الكتاب.

        وثالثها: ان ما يرتفع التنازع فيه لابد من أن يكون مردود إلى الكتاب والسنة، لانهم لا يجمعون الا عن دليل، ولا يخلو ذلك الدليل من الكتاب والسنة، فكأنهم في حال وجود التنازع يجب عليهم الرد وعند ارتفاعه يكون قد ردوا، فلا فرق بين وجود التنازع وبين ارتفاعه.

[الصفحة 624]

        ورابعها: ان المراد بالآية انه يجب الرد إلى الكتاب والسنة فيما طريقه العلم، لانه لو كان فيما طريقة العمل وكان المنازعون مجتهدين فيما تنازعوا فيه لم يجب عليهم الرد، وانما يجب عليهم الرد على كل حال إذا كان ما اختلفوا فيه لا يسوغ الخلاف فيه. وهذه جملة كافية في ابطال التعلق بهذه الاية. واستدل بعضهم على صحة الإجماع بقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}([16]).

        قالوا: فاخبر الله تعالى ان فيمن خلق امة تهدى بالحق، وهذا يؤمننا من اجتماعهم على ضلال وكفر. والكلام على هذه الاية أيضا من وجوه:

        أحدها: انه اخبر عمن خلق فيما مضى لان قوله: (خلقنا) يفيد المضي في الازمان، فمن اين لهم ان ذلك حكمهم في المستقبل من الزمان؟ وليس لهم ان يقولوا: ان قوله: {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} يفيد الاستقبال. ذلك ان هذه اللفظة تصلح للحال والاستقبال، وإذا صلحت لذلك فلا يمتنع أن يكون اريد بها الحال، فكأنه قال: (ممن خلقنا امة هادية بالحق عادلة به).

        وثانيها: ان قوله: (أمة) يقع على الواحد وعلى جماعة، ويقع على جميع الامة على وجه الاستغراق، الا ترى ان الله تعالى وصف ابرهيم عليه السلام بانه كان امة وهو واحد، وقال: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ}([17]) اريد به جماعة، وإذا كان الامر على ذلك فمن اين للخصم ان المراد به جميع الامة؟.

        وثالثها: انه لا يمتنع أن يكون اراد تعالى بقوله امة النبي صلى الله عليه وآله، أو من يجرى قوله مجرى قول النبي صلى الله عليه وآله في كونه حجة [الصفحة 625] وموجبا للعلم، وإذا احتمل ذلك لم يكن للخصم الاحتجاج بالاية.

        واستدلوا ايضا على صحة الإجماع: بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: “لا تجتمع امتى على خطاء”، وبلفظ آخر “لم يكن الله ليجمع امتى على خطاء” وبقوله: “كونوا مع الجماعة”، و “يد الله على الجماعة” وما اشبه ذلك من الالفاظ.([18])

        وهذه الاخبار لا يصح التعلق بها، لانها كلها اخبار احاد لا توجب علما، وهذه مسألة طريقها العلم.

        وليس لهم أن يقولوا: ان الامة قد تلقتها بالقبول وعلمت بها الانا اولا نسلم ان الامة كلها تلقتها بالقبول.

        ولو سلمنا ذلك لم يكن ايضا فيها حجة، لان كلامنا في صحة الإجماع الذي لا يثبت الا بعد ثبوت الخبر، والخبر لا يصح حتى يثبت انهم لا يجمعون على خطاء.

[الصفحة 626]

        وليس لهم أن يقولوا: انه قد عملوا بهذه الاخبار وعولوا في صحة الإجماع عليها في كل زمان. فقد جرت عادتهم ألا يقبلوا ما جرى هذا المجرى ولا يعملوا به الا إذا كان قاطعا لعذرهم لانا اولا:

لا نسلم انهم استدلوا على صحة الإجماع بهذه الاخبار، ولا يمتنع ان يكون اعتمدوا في صحة الإجماع على الايات التي ذكرناها وان كانوا مخطئين في صحة الاستدلال بها، فمن اين انهم استدلوا بها على صحة الإجماع؟

        ولو سلم انهم استدلوا، جاز أن يكونوا مخطئين في الاستدلال بها، ويكونوا اعتقدوا انها قاطعة للعذر، وان لم يكن كذلك لضرب من الشبهة دخلت عليهم.

        وقولهم: انه ما جرت عادتهم فيما يجرى هذا المجرى ان يقبلو الا الصحيح.

        فلو سلمنا غاية ما يقترحونه لم يكن فيه اكثر من ان لا يستدلوا الا بما يعتقدون صحته وانه طريقه العلم، فمن اين ان ما اعتقدوه صحيح؟ وذلك لا يثبت الا بعد صحة الخبر أو غيره من الادلة.

        ولو سلم من جميع ذلك، لجاز أن يحمل الخبر على طائفة من الامة وهم الائمة من آل محمد^ لان لفظة (الأمة) لا يفيد الاستغراق على ما مضى القول فيه، وذلك اولى من حيث دلت الدلالة على عصمتهم من القبايح.

        وان قالوا: يجب حمله على جميع الامة لفقد الدلالة على ان المراد بعض الامة.

        كان لغيرهم أن يقول: انا احمل الخبر على جميع الامة من لدن النبي إلى أن تقوم الساعة من حيث ان لفظ (الأمة) يشملهم ويتناولهم، فمن اين ان إجماع كل عصر حجة؟

        على انه قد قيل ان الخبر الاول لا يمتنع أن يكون رواية سمع من النبي صلى الله عليه وآله مجزوما، ويكون المراد النهى لهم عن أن يجمعوا على خطاء، وليس من عادة اصحاب الحديث ضبط الاعراب فيما يجرى هذا المجرى، وإذا كان [الصفحة 627] ذلك محتملا سقط الاحتجاج به.

        واما الخبر الثاني: من قوله: “لم يكن الله ليجمع امتى على خطاء”([19]) فصحيح ولا يجئي من ذلك انه لا يجمعون على خطاء.

        وليس لهم أن يقولوا: ان هذا لااختصاص فيه لامتنا بذلك دون سائر الامم، لان الله تعالى لا يجمع سائر الامم على خطاء. وذلك انه وان كان الامر على ما قالوه، فلا يمتنع أن يخص هؤلاء بالذكر، ومن عداهم يعلم ان حالهم كحالهم بدليل آخر، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن والاخبار.

        على ان هذا هو القول بدليل الخطاب الذي لا يعتمده اكثر من خالفنا([20]).  فهذه جملة كافية في الكلام على الايات والاخبار التي اعتمدوها في نصرة الإجماع على ما يذهبون إليه.

فصل 2: في كيفية العلم بالإجماع ومن يعتبر قوله فيه

-  عدة الأصول (ط.ج) - الشيخ الطوسي ج 2   ص 628:

        إذا كان المعتبر في باب كونهم حجة، قول الامام المعصوم عليه السلام، فالطريق إلى معرفة قوله شيئان: أحدهما: السماع منه، والمشاهدة لقوله. والثاني: النقل عنه بما يوجب العلم، فيعلم بذلك ايضا قوله.

        هذا إذا تعين لنا قول الامام عليه السلام، فإذا لم يتعين لنا قول الامام ولا ينقل عنه نقلا يوجب العلم، ويكون قوله في جملة اقوال الامة متميز منها، فانه يحتاج أن ينظر في احوال المختلفين:

        فكل من خالف ممن يعرف نسبه، ويعلم منشأه، وعرف انه ليس بالامام الذي دل الدليل على عصمته وكونه حجة، وجب إطراح قوله والا يعتد به. وتعتبر اقوال الذي لا يعرف نسبهم، لجواز أن يكون كل واحد منهم الامام الذي هو الحجة، وتعتبر اقوالهم في باب كونهم حجة.

        فان قيل: فعلى هذا التقدير هل تراعون قول من خالفكم في الاصول، ام تراعون قول من وافقكم فيها؟ قلنا: لا نراعى قول من خالفنا في شيء من الاصول من التوحيد، والعدل، [الصفحة 629] والإمامة، والإرجاع([21]) وغير ذلك لان جميع ذلك معلوم بالادلة الصحيحة التي لا يجوز خلافها، ولابد أن يكون الامام قائلا بها، وإذا كان لابد أن يكون قائلا بها فمن خالف الامامية في شيء من هذه الاصول فينبغي أن يكون قوله مطروحا، ويكون ذلك ابلغ من إطراح قول من علمنا نسبه، لان التعيين بخلاف الحق مثل التعيين بالنسب، بل ذلك آكد لانه معلوم من طريق لا يحتمل خلافه.

        فان قيل: ولم لا يجوز أن يكون الامام المعصوم عليه السلام مظهرا لبعض هذه المذاهب المخالفة لمذاهب الامامية لضرب من التقية على ما تجوزون عليه؟ وان كان قوله حقا فيما يرجع إلى الفروع، فلا يجب أن يقطعوا على ان المعتبر قول الامامية.

        قيل: انما يجب إطراح قول من خالف في الاصول إذا علم أنه قائل به تدينا ومعتقدا، فاما إذا جوزنا انه قائل به لضرب من التقية فيجب أن لا يطرح قوله، ويعتبر قوله وقول من جوزنا ذلك فيه مع اقوال المظهرين للحق ليصح لنا العلم بدخول قول الامام عليه السلام في جملة اقوالهم.

        فان قيل: فما قولكم إذا اختلفت الامامية في مسألة، كيف يعلمون ان قول الامام عليه السلام داخل في جملة اقوال بعضها دون بعض؟

        قلنا: إذا اختلفت الامامية في مسألة نظرنا في تلك المسألة؛ فان كان عليها دلالة توجب العلم من كتاب أو سنة مقطوع بها تدل على صحة بعض اقوال المختلفين، قطعنا على ان قول المعصوم موافق لذلك القول ومطابق له.

        وان لم يكن على احد الاقوال دليل يوجب العلم نظرنا في احوال المختلفين؛ فأن كان ممن عرفناه بعينه ونسبه قائلا بقول والباقون قائلون بالقول الاخر، لم [الصفحة 630] نعتبر قول من عرفناه، لانا نعلم انه ليس فيهم الامام المعصوم الذي قوله حجة.

        فان كان في الفريقين اقوام لا نعرف اعيانهم، ولا انسابهم وهم مع ذلك مختلفون، كانت المسألة من باب ما نكون فيها مخيرين بأي القولين شئنا اخذنا، ويجرى ذلك مجرى الخبرين المتعارضين الذي لا ترجيح لاحدهما على الاخر على ما مضى القول فيما تقدم.

        وانما قلنا ذلك، لانه لو كان الحق في احدهما لوجب أن يكون مما يمكن الوصول إليه، فلما لم يكن دل على انه من باب التخيير.

        ومتى فرضنا أن يكون الحق في واحد من الاقوال، ولم يكن هناك ما يميز ذلك القول من غيره، فلا يجوز للامام المعصوم الاستتار ووجب عليه ان يظهر ويبين الحق في تلك المسألة، أو يعلم بعض ثقاته الذين يسكن إليهم الحق من تلك الاقوال حتى يؤدى ذلك إلى الامة، ويقترن بقوله علم معجز يدل على صدقه، لانه متى لم يكن كذلك لم يحسن التكليف.

        وفي علمنا ببقاء التكليف وعدم ظهوره، أو ظهور من يجرى مجراه دليل على ان ذلك لم يتفق.

        فان قيل: بجواز ان يختلف الامامية على قولين يكون احد القولين قول الامام والباقون قولهم على خلافه، ومتى اجزتم ذلك كان في ذلك تعيين الامام وتمييزه وذلك لا تقولونه! وان امتنعتم من ذلك قيل لكم: وما المانع من ذلك؟.

        قيل: الذي نقول في ذلك انه لا يمتنع ما فرض في السؤال على وجه، ويمتنع على وجه، فالجائز من ذلك هو أن يجمع كل من عدا الامام على قول إذا لم نعرفهم كلهم باسمائهم، ونجوز أن يكون الامام فيهم ومن جملتهم، ونجوز ايضا مع ذلك أن يكون المنفرد الذي قال بالقول الاخير -وهذا لا يؤدى إلى العلم- بعين الامام وتمييزه.

        والذي لا يجوز، أن تكون الجماعة الذين خالفوا الواحد معروفين باسمائهم وانسابهم، لانه متى كان كذلك علم به ان الامام هو الاخر، وذلك ينافى غيبته عليه السلام.

[الصفحة 631]

        فان قيل: فإذا اتفق ما اجزتموه من القسمين كيف يكون قولكم فيه؟. قيل: متى اتفق ذلك وكان على القول الذي انفرد به الامام عليه السلام دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها لم يجب عليه الظهور ولا الدلالة على ذلك، لان ما هو موجود من دليل الكتاب والسنة كاف في باب ازاحة التكليف، ومتى لم يكن على القول على الذي انفرد به دليل على ما قلناه وجب عليه الظهور أو اظهار من يبين الحق في تلك المسألة على ما قد مضى القول فيه، والا لم يحسن التكليف.

        ولا ينقض هذا ما قدمناه من اختلاف الطائفة على قولين، ولا يكون لاحد القولين ترجيح على الاخر، ولا دليل على ان المعصوم مع احدهما، بان قلنا نكون مخيرين في العمل بأي القولين شئنا، لان هذه المسألة مفروضة إذا كان الحق فيما عند الامام دون غيره من الاقوال، ويكون من الامور المضيقة، وانما يجوز ما قدمناه اولا إذا كان من باب ما يجوز التخيير فيه، ولا تنافى بين المسألتين.

وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي قدس الله روحه اخيرا: “انه يجوز أن يكون الحق فيما عند الامام، والاقوال الاخر يكون كلها باطلة، ولا يجب عليه الظهور، لانه إذا كنا نحن السبب في استتاره، فكلما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرفه وبما معه من الاحكام نكون قد اتينا من قبل نفوسنا فيه، ولو ازلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به، وادى الينا الحق الذي عنده”([22]).

        وهذا عندي غير صحيح، لانه يؤدي إلى الا يصح الاحتجاج بإجماع الطائفة اصلا، لانا لا نعلم دخول الامام فيها الا بالاعتبار الذي بيناه، فمتى جوزنا انفراده عليه السلام بالقول ولا يجب ظهوره، منع ذلك من الاحتجاج بالإجماع.

[الصفحة 632]

        فان قيل: كيف تعلمون إجماع الامامية على مسألة وهم منتشرون في اطراف الارض، وفي البلاد التي يكاد ينقطع خبر اهلها عن البلاد الاخر، وهل هذا الا متعذر مستحيل؟.

        قيل له: السائل عن هذا السؤال لا يخلو من أن يريد به الطعن في الإجماع على كل حال، فان ذلك مما لا يصح العلم به على حال أو يريد اختصاص الامامية بهذا السؤال دون غيرهم:

        فان اراد الاول: فقوله يسقط، لان من هو في اطراف الارض وفي البلاد البعيدة، اخبارهم متصلة وخاصة العلماء منهم، لان الدين تراعى اقوالهم هم العلماء دون العامة الذين لا يعتبرون في هذا الباب، ولهذا لا يشك([23]) احد من العلماء في الارض من يعتقد الفرض في غسل اعضاء الطهارة مرتين مرتين([24])، بل نعلم([25]) إجماع العلماء في جميع المواضع على ان الفرض واحد من الغسلات، وكذلك نعلم انه ليس في الامة من يورث المال إذا اجتمع جد واخ للاخ دون الجد، لان المتقرر بين العلماء والذين اجمعوا عليه القول بان المال اما للجد كله أو بينهما، ولا يقول احد ان المال للاخ دون الجد، ونظاير ذلك كثيرة جدا من المسائل التي يعلم إجماع العلماء عليها، فمن اراد بهذا السؤال احالة ذلك فقد ابطل.

        وان اراد اختصاص الامامية بالسؤال: فذلك لا يخصهم لان على كل من اعتبر الإجماع مثل هذا السؤال، بل ان كان ذلك محالا في الامامية لانتشارهم في البلدان، كان ذلك في المسلمين كلهم اشد استحالة، لانهم اكثر واشد انتشارا، فعلم بذلك ان السؤال ساقط على الوجهين معا.

        فان قيل: من الذي يجب أن يعتبر قوله إذا لم يتميز قول الامام المعصوم، ام أقول [الصفحة 633] جميع الامامية، ام قول العلماء منهم؟.

        قيل: إذا لم يتميز قول المعصوم يجب ان يراعى قول العلماء الذين يعرفون الاصول والفروع دون العامة والمقلدين، وانما قلنا ذلك لان الذي قوله حجة إذا كان هو الامام المعصوم، وكان هو عالما بجميع احكام الشريعة، ولابد أن يكون عالما بالاصول، ويجب أن يكون المراعى من يشتبه حاله بحاله عليه السلام، ومن لا يعرف الاصول ولا الفروع يعلم منه انه ليس بامام، وإذا علم انه ليس بامام معصوم وجب اطراح قوله ولا يلتفت إليه.

        وليس لاحد أن يقول: ان هذا يؤدى إلى ان اصحاب الحديث والفقهاء الذين لا يعرفون الاصول أن لا يعتد باقوالهم، وفي ذلك اسقاط قول اكثرهم.

        قلنا: لا يلزم ذلك، لان الفقهاء واصحاب الحديث على ضربين: ضرب منهم: يعلم انه لا يعرف الاصول، ولا كثيرا من الفروع([26]) فان ذلك لا محالة يجب إطراح قوله، لانه قد علم انه ليس بامام.

والضرب الاخر منهم: لا يعلم ذلك من حالهم، بل يجوز أن يكونوا مع كونهم متظاهرين بالحديث والفقه قيمين بالاصول وعارفين بها، فإذا شككنا في حالهم وجب اعتبار اقوالهم لجواز أن يكون الامام في جملتهم.

        والذي يجب أن يراعى اقوالهم فيه هو: كل شيء لا يصح أن يعلم الا من جهة السمع، لان ما لا يعلم وجود قبل حصول العلم به لا يصح أن يعلم بقول الامة التي قول المعصوم داخل فيها وذلك مثل التوحيد، والعدل، وجميع صفات القديم، لان العلم بان هاهنا معصوما يفتقر إلى تقدم هذه العلوم، ومتى لا يقدم لا يمكننا ان نعلم ان هاهنا معصوما، لان ذلك فرع على حكمة الله تعالى وعدله، وانه لابد ان يزيح علة المكلفين بنصب رئيس لهم معصوم، وذلك لا يمكن أن يعلم بالإجماع على حال.

[الصفحة 634]

        وأما([27]) النبوة فقد كان يصح أن يعلم بإجماع الامة الذين قول المعصوم داخل في جملتها، لان ذلك [لا] يفتقر([28]) إلى العلم بالنبوة، لانا إذا علمنا ان الله تعالى حكيم وعدل لابد أن نعلم انه يزيح علة المكلفين في التكليف بنصب رئيس معصوم لهم ليكونوا متمكنين مزاحي العلة فيما كلفوه، فإذا علمنا ذلك، واجمعوا على نبوة شخص، يعلم بإجماعهم نبوته.

        فان قيل: كيف يصح هذا القول والامام عينه الا بنص الرسول صلى الله عليه وآله، لان الله تعالى يعلمه ذلك بالوحي والامام لا يوحى إليه، فيعلم انه امام، فكيف يدعى انه امام، وكيف يعلم صحة دعواه؟.

قيل له: اما العلم بكونه اماما، فقد يحصل لنا العلم المعجز الذي يظهره الله تعالى على يده، يتضمن تصديقه فيما يدعيه ويدعى هو انه الامام المعصوم الذي لا يخلو الزمان منه، واظهار المعجزات يجوز عندنا على الائمة والصالحين ايضا، وقد دللنا على ذلك في كتاب (تلخيص الشافعي).([29])

        فأما الامام نفسه فانما يعلم كونه اماما -إذا كان ممن لا يوحى إليه على ما([30]) في السؤال- بقول نبى يتقدمه، ثم ينص هو على من بعده، وكذلك في مستقبل الاوقات، فإذا اجمعوا على قول كان معصوم العصر فيه على نبوة نبى آخر علم صحة نبوته، ولا يحتاج إلى علم معجز، بل كان ذلك كافيا في العلم بصدقة.

        وقد يجوز أن يكون الامام الاول نبيا، لانه لا تنافى بين المنزلتين، بل يصح اجتماعهما، وإذا جاز ذلك فإذا فرضنا ان اول الائمة نبى جاز أن يعلم امامة من بعده، وكذلك نبوة من يأتي في المستقبل بنص عليه أو باعتبار الإجماع الذي يدخل فيهم.

        فان قيل: هذا القول يؤدى إلى ان العقل لا ينفك من السمع، لانه إذا كان لابد [الصفحة 635] للمكلفين من امام معصوم في كل حال وفي اول حال التكليف، ولابد لهم من امام ولا يعلم كونه اماما الا بنبوته أو بنبوة من تقدمه فينص عليه، فقد صار التكليف لا ينفك من السمع، وذلك يأباه كثير منكم!.

        قيل: من اصحابنا من قال بذلك، فعلى مذهبه سقط السؤال: ومن قال: انه لم يجوز أن يخلو العقل من السمع([31])، فانما يريد بذلك السمع الشرع الذي يتضمن العبادات والاحكام، فاما سمعا يتضمن الدلالة على عين الامام المعصوم فانه لا يجيز احد من الطائفة خلو التكليف منه، وعلى هذا المذهب ايضا قد سقط السؤال. فاما كيفية إجماعهم فيكون على ضروب:

        منها: ان يجمعوا على مسألة قولا، فيعلم بذلك صحة المسألة. ومنها: أن يجمعوا عليها فعلا، فيعلم بذلك ايضا صحتها. ومنها: ان يجمعوا عليها قولا وفعلا، بأن يقول بعضهم ويفعل بعضهم، فيعلم بذلك ايضا صحتها.

        ولابد في([32]) هذه الوجوه كلها أن يعلم انهم لم يجمعوا على ذلك بضروب من التقية، لان ما يوجب التقية يحمل على اظهار القول بغير الحق، وكذلك يحمل على كل فعل وان كان الحق في خلافه، فلذلك شرطنا فيه ارتفاع التقية.

        ومنها: أن يعلم رضاهم بالمسألة واعتقادهم بصحتها، فان ذلك ايضا يدل على صحتها.

        وهذا الوجه لا يحتاج أن يعلم منه زوال التقية، لان الرضا من افعال القلوب، والتقية لا تحمل على ذلك، وانما تحمل على افعال الجوارح.

[الصفحة 636]

        ولا يجوز ان يجمعوا على الذهاب عما يجب ان يعلموه، لان الامام يجب عندنا ان يكون عالما بجميع ما نصب فيه وجعل حاكما فيه، فلا يجوز أن يكون امر يجب أن يعلم فلا يعلمونه كلهم، لان ذلك يؤدى إلى نقض كون الامام عالما بجميع الاحكام، ويؤدى ايضا إلى نقض كون المعصوم في جملتهم، لان المعصوم لا يجوز أن يخل بما تجب معرفته.

        فاما ما لا يجب العلم به، فلا يمتنع ان يذهب عن جميعهم، لانه ليس هاهنا وجه يوجب علمهم بذلك.

        وإذا قلنا: ان المراعى في إجماع الطائفة بإجماع العلماء بالاصول والفروع، فلا ينبغي أن يعتبر قول من ليس هو من جملة العلماء.

        فان كان هناك من لا يعلم حاله، وهل هو عالم بذلك أم لا؟ ويكون قوله مخالفا لقول الباقين، فينبغي أن يكون خلافه خلافا، لانا لانامن أن يكون ممن يعلم جميع ذلك، وإذا جوزنا أن يكون عالما بجميع ذلك، جوزنا أن يكون اماما، وإذا جوزناه اماما لم يمكن اسقاط خلافه.

        واعلم ان الطائفة إذا اختلتف على قولين، وجوزنا كون المعصوم داخلا في كل واحد من الفريقين، فان ذلك لا يكون إجماعا.

        ولاصحابنا في ذلك مذهبان: منهم من يقول: إذا تكافأ الفريقان، ولم يكن مع احدهما دليل يوجب العلم، أو يدل على ان المعصوم داخل معهم فيه، سقطا جميعا، ووجب التمسك بمقتضى العقل من حظر أو اباحة على اختلاف مذاهبهم.

        وهذا المذهب ليس بقوى عندي، لانهم إذا اختلفوا على قولين علم ان قول الامام موافق لاحدهما لا محالة، لانه لا يجوز أن يكون قوله خارجا عن القولين، لان ذلك ينقض كونهم مجمعين على قولين، وإذا علمنا دخول قول الامام في جملة القولين، كيف يجوز اطراحها والعمل بمقتضى العقل؟ ولو جاز ذلك لجاز أن يتعين ايضا قول الامام، ومع ذلك يجوز لنا تركه والعمل بما في العقل، وذلك باطل بالاتفاق.

[الصفحة 637]

        ومنهم من يقول: نحن مخيرون في الاخذ بأي القولين شئنا، ويجرى ذلك مجرى خبرين تعارضا، ولا يكون لاحدهما مزية على الاخر، فانا نكون مخيرين في العمل بهما، وهذا الذي يقوى في نفسي.

        ومتى قيل بالمذهب الاول، فمتى فرض إجماعهم بعد ذلك على احد القولين كان جائزا، ويعلم بإجماعهم صحة ذلك القول، وان الاخر لم يكن صحيحا، ووجب المصير إلى ما اجمعوا عليه.

        ومتى قلنا بالمذهب الاخير، لم يجز أن يجمعوا على احد القولين، لانهم لو اجمعوا على احدهما لدل ذلك على ان القول الاخر باطل، وقد قلنا انهم مخيرون في العمل بايهما شاءوا، وإجماعهم على احدهما ينقض ذلك.

        ولسنا ممن يقول: انهم يقولون بالقولين اجتهادا ثم يؤدى اجتهادهم إلى احد القولين فيجمعوا عليه، لان ذلك انما يصح على مذهب من يقول بالإجماع، ولم يراع قول المعصوم الذي نراعيه([33]).

فاما إذا اجمعوا على قول، فلا يجوز أن يراعى الخلاف الذي يحدث بعده، لان بالإجماع الاول علم قول المعصوم في تلك المسألة، وإذا علم علم أنه هو الحجة، فكل قول يخالفه يجب أن يحكم بفساده.

        وكذلك إذا اجمعوا على قولين، فاحداث القول الثالث والرابع ينبغي أن يكون فاسدا، لان قول المعصوم موافق للقولين، والقول الثالث والرابع بخلافه، فينبغي أن يحكم بفساده.

        ولا يجوز أن تجمع الامة على مسألتين مخطئة فيهما، لا على مذهبنا ولا على مذهب من خالفنا: فاما على مذهبنا: فلانه لابد أن يكون قول الامام مع احدهما، ولا يجوز مع ذلك أن يكو خطأ.

[الصفحة 638] وأما على مذهب مخالفينا: فلا يجوز ذلك، قالوا: لان النبي عليه السلام نفى عنهم الخطأ خطأ عاما، ولم يخص واحدا دون ما زاد عليه، فوجب نفيهما معا. ولان في ضمن ذلك الإجماع على نفيهما القول بما هو الحق.

        مثال ذلك: ان تفترق الامة فرفتين، فرقة تقول المال للاخ دون الجد، فذلك خطأ لا محالة، والاخرى تقول ان النصف للجد لا محالة على جميع الاحوال، لان في القول بهذين المذهبين خروجا عن الإجماع الذي هو ان المال اما للجد كله أو هو كواحد منهم([34])، وذلك [فاسد]([35]) بالاتفاق.

فصل 3: فيما يتفرع على الإجماع من حيث كان إجماعا عند من قال بذلك

-  عدة الأصول (ط.ج) - الشيخ الطوسي ج 2   ص 639:

        فمن ذلك: انهم إذا اجمعوا على الاستدلال بدليل أو دليلين هل يجوز أن يستدل بغير ما استدلوا به ام لا.؟

        فالذي نذهب إليه: انه لا يستبعد([36]) أن يستدل بدليل آخر إذا كان مما يوجب العلم، اما من جهة عقل([37])، أو قران، أو سنة مقطوع بها، وانما قلنا ذلك لان إجماعهم على الاستدلال بدليل انما يدل على صحة ذلك الدليل وكونه موجبا للعلم، وذلك لا يمتنع من أن يكون هناك دليل اخر لم يجمعوا عليه.

        اللهم الا أن نفرض المسألة فيقال: فإذا اجمعوا على انه لا دليل سواه، هل يجوز الاستدلال بدليل آخر؟ فنقول حينئذ: ان ذلك لا يجوز، لان إجماعهم على انه لا دليل غير ما استدلوا به يوجب العلم، بان ما عدا ذلك الدليل شبهة، فلا يصح الاستدلال بها.

        فان قيل: لو كان هناك دليل اخر لما وسع المعصوم الا يبينه ويترك الاستدلال [الصفحة 640] به حتى يستدركه انسان آخر!.

        قيل له: انما يجب أن يبين المعصوم ما يقف ازاحة العلة عليه، وقد بين ما هو دليل موجب للعلم وهوما اجمعوا عليه، فاما غيره من الادلة فقد سبق بيانه من الله تعالى ومن الرسول، وجاز أن لا يجدد المعصوم بيانه، وانما يجب عليه بيان ما لا يكون هناك ما يقوم مقامه.

        فان قيل: فعلى هذا كان يجوز أن لا يبين ايضا ما قد بينه([38]) واجمعوا عليه، لان هناك ما يقوم مقامه في ازاحة العلة، وهو الذي استدل به من بعده([39]).

        قيل: كذلك نقول، ولو لم نبين اصلا شيئا إذا هناك طريق للمكلف إلى علم ما كلفه لكان ذلك جائزا سائغا، وانما يجب عليه بيان ما هو موقوف عليه، ولا يكون هناك ما يقوم مقامه.

        ومن ذلك: انهم إذا اجمعوا على العمل بخبر هل يقطع على صحة ذلك الخبر ام لا؟ وهل يعلم انهم قالوا ما قالوه لاجل الخبر ام لا؟

        فالذي نقوله في ذلك انهم إذا اجمعوا على العمل بمخبر خبر، وكان الخبر من اخبار الاحاد -لانه إذا كان من باب المتواتر فهو يوجب العلم فلا يحتاج إلى الإجماع فيكون قرينه في صحته- فانه يحتاج أن ينظر في ذلك: فان اجمعوا على انهم قالوا ما قالوه لاجل ذلك الخبر، قطعنا بذلك على ان الخبر صحيح صدق.

        وان لم يظهر لنا من اين قالوه، ولا ينصوا لنا على ذلك، فانا نعلم بإجماعهم ان ما تضمنه الخبر صحيح، ولا يعلم بذلك صحة الخبر، لانه لا يمتنع أن يكونوا قالوا بما وافق مخبر الخبر بدليل اخر، أو خبر اخر اقوى منه في باب العلم، أو سمعوه من الامام المعصوم عليه السلام فاجمعوا عليه ولم ينقلوا ما لاجله اجمعوا اتكالا على [الصفحة 641] الإجماع، وكل ذلك جائز فيجب بذلك التوقف في هذا الخبر ولا يقطع على صحته، ويجوز كونه صدقا وكذبا، وان قطعنا على ان مخبره صحيح يجب العمل به.

        ومتى فرضنا على انهم اجمعوا على انه ليس هناك ما لاجله اجمعوا على ما اجمعوا عليه غير هذا الخبر، فان هذا يوجب القطع على صحة ذلك الخبر، لان ذلك يجرى مجرى ان يقولوا اجمعنا لاجل هذا الخبر، لانه لا فرق بين ان يسندوا إجماعهم إلى الخبر بعينه فيعلم به صحته، ومن([40]) أن ينفوا إسنادهم([41]) إلى سواه فان به يعلم ايضا صحته.

        فان قيل: كيف يجوز أن يجمعوا على مخبر خبر ثم لا ينقلوه اصلا، وهو اصل لصحة إجماعهم.

        قلنا: يجوز ذلك لان إجماعهم اقوى من ذلك، لانه مقطوع به ولا يحتمل التأويل، ولو نقلوا ذلك الخبر لكان يجوز أن يصير خبرا واحدا فيخرج بذلك من باب كونه دلالة إلى أن يوجب غلبة الظن، فيعلم بذلك أن الإجماع اقوى.

        ومن ذلك([42]): القول إذا ظهر بين الطائفة ولم يعرف له مخالف، هل يدل ذلك على انه إجماع منهم على صحة أم لا؟.

         فالذي نقول: ان القول إذا ظهر بين الطائفة، ولم يعرف له مخالف، احتاج ان ينظر فيه: فان جوزنا أن يكون قول من نجوزه معصوما بخلافه، لا ينبغي أن نقطع على صحته. وان لم نجوز أن يكون قول المعصوم بخلافه، قطعنا على صحة ذلك القول.

        فان قيل: وأى طريق لنا إلى أن نعلم ان قول المعصوم يوافقه أو يخالفه؟

[الصفحة 642]

        قلنا: قد نعلم ذلك بأن يكون هناك دليل يوجب العلم يدل على صحة ذلك، فيعلم به ان القول موافق لقول المعصوم لمطابقته للدليل الموجب للعلم، وإذا كان هناك دليل يدل على خلاف ذلك القول علمنا ان المعصوم قوله يخالفه، وإذا خالفه وجب القطع على بطلان ذلك القول.

        [فان عدمنا الطريقين معا، ولم نجد ما يدل على صحة ذلك القول]([43]) ولا على فساده، وجب القطع على صحة ذلك القول، وانه موافق لقول المعصوم، لانه لو كان قول المعصوم مخالفا له، لوجب أن يظهره والا كان يقبح التكليف الذي ذلك القول لطف فيه([44])، وقد علمنا خلاف ذلك.

[الصفحة 643]

        ومن قال من اصحابنا([45]) على ما حكيناه عنهم فيما تقدم: “انه لا يجب على المعصوم اظهار ما عليه من حيث ان من سبب غيبته هو المسبب لفوت ما يتعلق بمصلحته فيكون قد اتى من قبل نفسه، كما ان ما يفوته من الانتفاع بتصرف الامام وامره ونهيه قد اتى فيه من قبل نفسه”.

        ينبغي أن يقول: يجب أن يتوقف في ذلك القول، ويجوز كونه موافقا لقول الامام ومخالفا له، ويرجع في العمل إلى ما يقتضيه العقل حتى يقوم دليل يدل على وجوب انتقاله عنه. وقد قلت: ان هذه الطريقة غير مرضية عندي، لانها تؤدى إلى أن لا يستدل بإجماع الطائفة اصلا، لجواز أن يكون قول الامام مخالفا لها، ومع ذلك لا يجب عليه اظهار ما عنده، وقد علمنا خلاف ذلك.

 

 

الشيخ الطوسي. الخلاف

إجماع الفرقة حجة

- الخلاف - الشيخ الطوسي ج 1 ص 235:

        الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، وفي أيام الطهر طهر، سواء كانت أيام العادة، أو الأيام التي يمكن أن تكون حائضا فيها...

        دليلنا: على صحة ما ذهبنا إليه: إجماع الفرقة، وقد بينا أن إجماعها حجة...

- الخلاف - الشيخ الطوسي ج 1 ص 310:

        دليلنا : على جواز نقل النية من الحاضرة إلى الفائتة إجماع الفرقة، وقد[ الصفحة 311]  بينا أن إجماعها حجة...

- الخلاف - الشيخ الطوسي ج 3 ص 159:

        دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، فانهم رووا ذلك منصوصا عن الائمة^، وإجماعهم حجة.

- الخلاف - الشيخ الطوسي ج 3 ص 538:

        دليلنا: إجماع الفرقة فانهم لا يختلفون فيه وإجماعهم حجة...

إجماع الأعصار حجة

- الخلاف - الشيخ الطوسي ج 3 ص 43:

        دليلنا: إجماع الفرقة، بل إجماع المسلمين، فإن هذا الخلاف قد انقرض، وإجماع الأعصار حجة.

إذا أجمع على قولين فلا يجوز إحداث قول ثالث

- الخلاف - الشيخ الطوسي ج 3 ص 108:

        من اشترى جارية فوطأها، ثم علم بعد الوطء أن بها عيبا، لم يكن له ردها وله الارش.

وبه قال أبو حنيفة، وسفيان الثوري، وهو المروي عن علي عليه السلام. وقال الشافعي، ومالك، وأبو ثور، وعثمان البتي: له ردها، ولا يجب عليه مهرها إن كانت ثيبا، وان كانت بكرا لم يكن له ردها.

[الصفحة 109]

        وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها مهر مثلها. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب.

دليلنا : إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد ذكرناها في الكتاب المتقدم ذكره. وأيضا فيه إجماع الصحابة، لانهم بين قائلين: قائل يقول بما قلناه.

        والثاني: يردها ويرد معها مهر نسائها. وقول الشافعي خارج عن إجماع الصحابة، وذلك لا يجوز، لانه لا يجوز إحداث قول ثالث إذا أجمعوا على قولين، كما لا يجوز إحداث قول ثان إذا أجمعوا على قول واحد.

 

 

الشيخ الطوسي. المبسوط

الإجماع من الأدلة التي يحكم بها الحاكم

-  المبسوط - الشيخ الطوسي ج 8   ص 97:

        ومتى حدثت حادثة فأراد أن يحكم فيها، فإن كان عليها دليل من نص كتاب أو سنة أو إجماع عمل عليه وكذلك عندهم إن كان عليه قياس لا يحتمل إلا معنى واحدا كالشفعة للشريك، وخيار الأمة إذا أعتقت تحت عبد، ونحو هذا، حكم به من غير مشورة، وعندنا أن جميع الحوادث هذا حكمها، فلا يخرج عنها شيء، فإن اشتبهت [الصفحة 98] كانت مبقاة على الأصل.

الإجماع حجة ولا يكون القاضي عالما حتى يكون الإجماع من جملة ما يعلم

-  المبسوط - الشيخ الطوسي ج 8   ص 99:

        القضاء لا ينعقد لأحد إلا بثلاث شرايط أن يكون من أهل العلم والعدالة والكمال وعند قوم بدل كونه عالما أن يكون من أهل الاجتهاد، ولا يكون عالما حتى يكون عارفا بالكتاب والسنة والاجماع، والاختلاف ولسان العرب، وعندهم والقياس... [الصفحة 100] ويعرف الإجماع والاختلاف لأن الاجماع حجة لئلا يقضي بخلافه...

 

 

الشيخ الطوسي. الاقتصاد

إجماع المتكلمين حجة

- الاقتصاد- الشيخ الطوسي  ص 32:

        وقد أجمع المتكلمون على أنه تعالى متكلم لا خلاف بينهم، وإجماعهم حجة...

الإجماع بين المسلمين ليس بحاصل في أكثر الأحكام

إذا لم يكن المعصوم في المجمعين فالإجماع ليس حجة

- الاقتصاد- الشيخ الطوسي  ص 187:

        ولا يجوز أن تكون محفوظة بالإجماع، لان الاجماع ليس بحاصل في أكثر الاحكام بل هو حاصل في مسائل قليلة والباقي كله فيه خلاف فكيف يعول عليه. على أن الاجماع ان فرضنا أنه ليس فيهم معصوم -على ما يقولونه- فليس بحجة، لان حكم اجتماعهم حكم انفرادهم، فإذا كان كل واحد منهم ليس بمعصوم فكيف يصيرون باجتماعهم معصومين، ولو جاز ذلك جاز أن يكون كل واحد منهم لا يكون مؤمنا فإذا اجتمعوا صاروا مؤمنين، أو يكون كل واحد منهم يهوديا فإذا اجتمعوا صاروا مؤمنين، أو يكون كل واحد منهم يهوديا فإذا اجتمعوا صاروا مسلمين، وذلك باطل.

إجماع الإمامية حجة لكون المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ داخلا فيهم

- الاقتصاد- الشيخ الطوسي  ص 226:

        ظاهر مذهب الامامية أن الخارج على أمير المؤمنين عليه السلام والمقاتل له كافر، بدليل إجماع الفرقة المحقة على ذلك، وإجماعهم حجة لكون المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ داخلا فيهم...

 

 

الشيخ الطوسي. الرسائل العشر

لا يجوز الإجماع على الخطأ

- الرسائل العشر- الشيخ الطوسي  ص 134:

        لأن ذلك كان يكون إجماعا على الخطأ وذلك لا يجوز عندنا ولا عند مخالفينا وان اختلفنا في علة ذلك.

إجماع الإمامية حجة لكون المعصوم فيهم

- الرسائل العشر- الشيخ الطوسي  ص 255:

        من الأدلة على تحريم هذا الشراب إجماع الامامية على ذلك وقد ثبت ان إجماعهم حجة لكون الامام المعصوم فيهم ودخول من قوله حجة في جملتهم ومن[الصفحة 256] هذه صورته لا يجوز ان يجمع على باطل...


 

([1]) النسخة المعتمدة: الطبعة الجديدة، تحقيق محمد رضا الأنصاري. هوامش هذا الكتاب نقلا عن المصدر.

([2])  آل عمران: 18.

([3])  في المصدر: من.

([4]) في المصدر: على مذهب صاحب الكتاب واهل مقالته. راجع ايضا التعليقة رقم (4) صفحة 618.

([5]) الشافي في الامامة 1: 236 للشريف المرتضى. وفيه: فما نراه في الكلام الذي عدل إليه شيئا ينتفع به.

([6] ) آل عمران: 110.

([7]) في المصدر: زيادة في (لقوله).

([8]) لقمان: 15.

([9]) الآيات.

([10]) نص منقول عن كتاب (الشافي في االامامة 1: 228) للشريف المرتضى. في جميع النسخ: (بهذه) وفي المصدر: هذه.

([11]) لسان العرب 319، المصباح المنير 2: 629 مادة (نوب).

([12]) لقمان: 15.

([13]) في المصدر: هؤلاء.

([14]) نهاية النص المنقول عن الشافي.

([15]) النساء: 59.

([16]) الأعراف: 181.

([17]) القصص: 23.

([18]) الحديث رواه الترمذي، وابن ماجة، وابو داود، واحمد ابن حنبل، والدارقطني، والحاكم النيسابوري آخرون. ولفظ الحديث عند ابي داود: (لن تجتمعوا على ضلالة)، وعند الدارقطني، والترمذي، وابن عمر والحاكم النيسابوري، وابن ماجة: (ان الله لا يجمع امتي، أو قال: امة محمد على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ الى النار). قال ابن السبكي: واما الحديث فلا شك انه اليوم غير متواتر، بل ولا يصح. وقال الغزالي في المستصفى 1: 111: تظاهرات الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الامة من الخطأ. وقال في المنخول (306 - 305): ومما تمسك به الاصوليون قوله عليه السلام: (لا تجتمع امتي على ضلالة) وروي (على خطأ) ولا طريق الى رده بكونه من اخبار الاحاد، فأن القواعد القطعية يجوز اثباتها بها وان كانت مطنونة ! ! فأن قيل: فما المختار عندكم في اثبات الاجماع ؟ قلنا: لا مطمع في مسلك عقلي إذ ليس فيه ما يدل عليه ولم يشهد له من جهة السمع خبر متواتر ولا نص كتاب، وإثبات الاجماع بالاجماع تهافت، والقياس المظنون لا مجال له في القطعيات. ورواه ابن ماجة ايضا في كتاب الفتن باب السواد الاعظم ولفظ الحديث عنده: " إن امتي لا تجتمع على ضلالة " وعلق عليه محقق الكتاب بقوله: " في الزوائد: في اسناده أبو خلف الاعمى واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف، وقد جاز الحديث بطرق في كلها نظر، قاله شيخنا العراقي في تخريج احاديث البيضاوي ".

([19]) راجع الهامش السابق.

([20]) راجع أقوالهم في فصل 11 صفحة 467 من صفحات كتاب المصنف.

([21]) الارجاع، والمقصود منه الرجعة، وهي من المصطلحات الكلامية عند الامامية، وقد فسرها الشيخ المفيد (ره) حيث قال (اوائل المقالات: 4): "واتفقت الامامية على وجوب رجعة كثير من الاموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف".

([22]) لم نعثر على هذا النص في كتب الشريف المرتضى المطبوعة " كالذريعة " و " الامالى " و " مجموعة رسائله "، ولعل المصنف سمعه منه مشافهة، وجاء في (الذريعة 2: 606 - 605) ما مضمونه يقارب هذا.

([23]) تشك في أن لا.

([24]) دفعتين.

([25]) يعلم.

([26]) في الأصل: الفروض.

([27]) فأما.

([28]) في الأصل: يفتقر، والصحيح ما أثبتناه.

([29]) تلخيص الشافعي 1: 132-136.

([30]) في الحجرية: زيادة قرر.

([31]) قال الشيخ المفيد في ( أوائل المقالات: 44 ): "اتفقت الامامية على ان العقل محتاج في علمه ونتائجه إلى السمع وانه غير منفك عن سمع ينبه العاقل على كيفية الاستدلال، وانه لابد في اول التكليف وابتدائه في العلم من رسول".

([32]) في الحجرية: زيادة حينئذ.

([33]) في الأصل: يراعيه.

([34]) أو هو لواحد منهم.

([35]) زيادة من النسخة الثانية.

([36]) لا يمتنع.

([37]) حجة عقل.

([38]) بيناه.

([39]) من بعد.

([40]) وبين.

([41]) إسناده.

([42]) أي ومما يتفرع على الاجماع من حيث كان إجماعا، وهذا هو الفرع الثاني وقد سبق للمصنف أن ذكر الفرع الاول في صفحة 639.

([43]) زيادة من النسخة الثانية.

([44]) إختلف المتكلمون في اصل اللطف، فالاشاعرة أنكروه وأثبته العدلية من الامامية والمعتزلة والزيدية، ويجب التنبيه إلى أن منشأ الخلاف بينهما يعود إلى أن اعدلية ترى أن اللطف يرتبط بأصل العدل ومبدأ خلق العباد لافعالهم، وأن اللطف واجب على الله تعالى، بينما ينكره الاشاعرة. والمقصود من اللطف عند العدلية هو الفعل الذي يقرب العبد من الطاعة ويبعده عن المعصية بحيث لم يكن له حظ في التمكين ولا يبلغ حد الالجاء. وبعبارة اخرى: اللطف هو ان يمكن الله سبحانه العبد من الطاعة وذلك بتوفير القدرة والصحة له و إزالة الموانع التي تحول بينه وبين الطاعة، وكل هذا مترتب على التكليف، لان التكليف ليس الا تعريض العبد للثواب وإبعاده عن المعاصي والعقاب. فأذا عرضه الله للثواب فإنه لابد ان يمكنه من الحصول على هذا الثواب اقتضاء لعدله ورحمة بعباده، وجميع تعريفات العدلية من الامامية والمعتزلة تدور حول هذا المعنى، وهو الفعل الذي لولاه لما كان الانسان قريبا الى الطاعة بعيدا عن المعصية. وقسم القاضي عبد الجبار اللطف إلى قسمين: فإنه قد يسمى توفيقا وذلك حينما يوافق فعل الطاعة فيكون صاحبه موفقا، وقد يسمى عصمة حينما يمنع معه وقوع فعل المعصية على وجه الحتم، وهذا النوع من اللطف خاص بالانبياء، لكن الشيخ الطوسي قسم اللطف إلى التوفيق واللطف المجرد عن أي وصف سوى انه لطف لا غيره. ويترتب على تبعية اللطف للتكليف بناء على مذهب العدلية حرية الانسان في تصرفاته واختياره بأن لا يكون ممنوعا منه ولا ملجأ ومضطر إلى فعله، إذ لو كان اللطف يلجئ الانسان ويضطره إلى فعل الطاعة فإنه لا يسمى لطفا أذ لا يستحق المكلف حينئذ الثواب بالاختيار، وأيضا لو عجز عن احضار الفعل لوجود المانع فإنه لا يستحسن عقابه. ولم يشذ عن المعتزلة في القول باللطف إلا ضرار بن عمرو، وبشر بن المعتمر، وجعفر بن حرب. أما الاشاعرة المجبرة فإنهم لا يقولون بوجوب اللطف على الله تعالى ويقولون: حتى وان علم سبحانه أن المكلف يختار الايمان عند فعل اللطف فله أن يفعله وان لا يفعله بل هو متفضل به إن شاء فعله فيكون إنعاما على العبد وإن شاء لم يفعل. وفي المقام فإن المصنف حينما يقول: " لانه لو كان قول المعصوم مخالفا..." يقصد به هذا المفهوم الذي شرحناه على مذهب اهل العدل [راجع: الشافعي في الامامة 1: 167 - 161]، فبناء على وجوب اللطف على الله تعالى، فإنه يجب بعثة الانبياء والاوصياء والائمة، ويجب على هؤلاء بيان التكاليف التي هي ألطاف للعباد ومقربهم إلى الثواب ومبعدهم عن العقاب. انظر: "المغني للقاضي عبد الجبار 1: 291 و 13: 4 و 5 و 12، أوائل المقالات: 59، الانتصار للخياط: 64، اصول الدين للجرجاني: 144 - 130، الاقتصاد: 130، الذخيرة: 186 المواقف: 328، شرح الاصول الخمسة: 64 و 519 و 780، المنقذ من التقليد 1: 297.

([45]) القائل هو الشريف المرتضى (ره) حيث نقل المصنف رأيه بقوله: "وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي قدس الله روحه أخيرا..." في صفحة 631.