عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة العسكري

 

 

 

 

العقائد الإسلامية في القرآن الكريم

 

-1-

ميثاق الإله الرب مع بني آدم

 

 

الست بربكم وحركة الدماغ

اخذ اللّه سبحانه الميثاق من ذرية بني آدم كما اخبر عن ذلك وقال في سورة الاعراف:
(واذا اخـذ ربـك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على انفسهم الست بربكم ؟ قالوا بلى, شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين او تقولوا انما اشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم افتهلكنا بما فعل المبطلون) (الايتان 172 ـ 173).
نحتاج في تفسير هاتين الايتين الى المقدمة الاتية:
عندما ينفصل الطفل عن بطن امه وينقطع منه الحبل الذي كان متصلا بسرته لنقل الغذاء من جسم امه الـيـه, تدفعه غريزة الجوع الى التحرك لطلب الغذاء, فيتشنج جسمه كما يظهر ذلك على سحنات وجـهـه, فـيـبـكي ويصرخ ولا يهدا حتى يلتقم الثدي ويدر اللبن في فمه ويجري منه الى معدته, وتـسـتـمـر هـذه الـغريزة في دفع الانسان للتحرك والعمل الدائب في طلب الطعام, طوال حياته ويـشـارك الـحـيوان الانسان في هذه الغريزة والتي نسميها بحركة المعدة في طلب الطعام, وهي الغريزة الاولى التي تدفع الانسان الى التحرك والعمل في الحياة, وبعد ذلك بسنوات تتدرج الغريزة الـثانية بالنمو فيه وذلك بعد ما ينمو الطفل ويصبح صبيا وتتدرج خلاياه الدماغية في التحرك لطلب طـعـام الـمعرفة, عندئذ يلفت نظره وجود كل موجود وحدوث كل حادث يراه ويوجه السؤال الى والديه عن سبب وجود الحادث فاذا راى الشمس ـ مثلا ـ تغرب في الافق يسال ابويه ويقول:
اين تذهب الشمس في الليل ؟.
واذا راى عينا نابعة في اسفل الجبل يجري منها الماء, يسالهما:
من اين ياتي هذا الماء؟.
واذا راى الغيوم تسير في السماء يسالهما:
اين تذهب هذه الغيوم ؟.
وهـكـذا يـطرد انتباهه للموجودات وحركاتها وايراده السؤال عن اسبابها من والديه او اي انسان آخـر اكـبر سنا منه يصحبه, وهذه هي الغريزة الثانية التي تدفع الانسان الى التحرك لاشباع نهم هـذه الـغـريـزة, وهذه الغريزة في حقيقتها هي حركة العقل البشري في سبيل كسب المعرفة عن طـريق البحث لمعرفة اسباب الحوادث, ويطرد عمل هذه الغريزة طوال عمر الانسان في البحث عـن سـبـب وجـود كل موجود, وسبب حركة كل موجود وسبب سكونه وهذا هو السبيل الوحيد لـكـسـب المعرفة الانسانية واكتساب جميع العلوم البشرية وينتهي بحث الانسان عن سبب وجود الـمـوجـود الـى مـعـرفة موجد الموجودات اي وجود الاله الخالق, وفي بحثه عن سبب حركة الـمـوجـودات وسكونها الى معرفة موجد النظام لحياة كل موجود, مثل سير القمر حول الارض, والارض حول الشمس, او حركة الذرة في داخلها وحركة الكريات البيض والحمر في الدم, والى مالا يعد ويحصى من انظمة الحركة والسكون للموجودات, يهتدي الانسان في هذا النوع من البحث الى ان للموجودات في عالمنا الارضي والسماوي وما بينهما ربا نظم حياة كل فرد من الموجودات, وهذا معنى قوله تعالى في سورة الاعراف: (واذ اخذ ربك) الاية.
تفسير الاية

(واذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم), اي عندما اخذ اللّه من كل فرد من بني آدم ذريته ونـسـلت الذرية من ظهر ابيه (اشهدهم على انفسهم), استشهد كل فرد منهم على نفسه وساله بما وهبه من فطرة البحث عن اسباب وجود كل موجود واسباب حركة كل موجود وما ادركه بعقله ان لـكل مخلوق خالقا ولكل منظم منظما, وهي الغريزة الفطرية التي بها يمتاز الانسان عن كل ما عداه مـن مـخـلوق, وبها يستنتج ويتعلم مالا يتعلمه غيره من الخلق كما ياتي بيانه في تفسير (وعلم آدم الاسماء كلها) ان شا اللّه تعالى.

المحيط والوالدان لا يجبران الانسان على أمر بـالغريزة التي جبلهم اللّه عليها (اشهدهم على انفسهم) وقال لهم: (الست بربكم)؟ واجابوا بلسان الفطرة ايضا: (بلى شهدنا), وهذا هو معنى الحديث المروي عن رسول اللّه (ص): (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون ابواه يهودانه وينصرانه). وفي رواية آخرى بعدها: (ويمجسانه).
اي ان كـل انـسـان يولد على فطرة معرفة الربوبية كما ياتي شرحها ان شاء اللّه تعالى, وان والديه يـحرفانه عن فطرته السليمة, ويدخلانه في دين اليهود او النصارى او المجوس المنحرفين عن دين الفطرة والمحرفين لدين اللّه جل اسمه, كما سياتي بيانه ان شاء اللّه تعالى.
وانما اشهدهم على الايمان بالرب دون الاشهاد على الايمان بالاله لان الايمان بالرب المشرع لنظام الـحـيـاة لـلخلق يستلزم الايمان بوجود الاله الخالق لهم دون العكس, كما ياتي بيانه ضمن تفسير: (الذي خلق فسوى) ان شاء اللّه تعالى.
اشـهـدهـم اللّه تعالى بذلك على انفسهم لئلا يقولوا يوم القيامة: (انا كنا عن هذا غافلين) ولم نتنبه لربوبيتك, ولم تقم لنا حجة عليها, ولم تكمل عقولنا لندرك بها الربوبية.
او يقول قائل منهم: (انما اشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم).
اي: انـمـا نـشا آباؤنا قبلنا على الشرك بالالوهية والكفر بالربوبية, وكنا ذرية جئنا الى الدنيا من بـعدهم لا نعرف شيئا من الحياة, وهم الذين وجهونا الى الكفر بالالوهية والشرك بالربوبية, فنشانا على ما ربونا ووجهونا, فالذنب ذنبهم وتقع التبعة عليهم: (افتهلكنا بما فعل المبطلون), افتعذبنا بما ربانا عليه الاباء والامهات, وذلك ما يعبر عنه في عرفنا اليوم باثر المحيط على الطفل خاصة وعلى الانسان بـصـورة عـامة, وقال اللّه سبحانه: ليس لكم ان تقولوا ذلك لاننا فطرناكم على غريزة البحث عن الاسباب.
وبذلك اكتشف الخلف بعد السلف ما لم يعرفه الاسلاف, وكانوا ينكرون بعضها ويكفرون ببعض مثل, قـوة الـبـخار, وطاقة الكهرباء, وسير النور, ودوران الكواكب بعضها حول بعض والى ما يتعسر احصاؤها من امثالها مما تمكن الخلف من اثبات بطلان اقوال السلف وعقائدهم حولها.
وهـكـذا قال اللّه تعالى لنا: بما فطرناكم عليه من غريزة البحث عن الاسباب ومنحناكم العقل الذي تميزون به الصحيح من الخطا والحق من الباطل, اتممنا الحجة عليكم, وليس لكم ان تقولوا: انا كنا عـن هذا غافلين, او تقولوا انما اشرك آباؤنا واتبعناهم واثر فينا محيطنا وقد ضرب اللّه مثلا في القرآن الكريم على تمكن الانسان من مخالفة المحيط الذي نشا فيه كما جاء في سورة التحريم:
(ضـرب اللّه مـثـلا لـلـذيـن كـفروا امراة نوح وامراة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من اللّه شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب اللّه مثلا للذين آمنوا امـرات فـرعون اذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الـظـالـمـين ومريم ابنت عمران التي احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) (الايات 10 ـ 12).
كـانـت آسـية في اسرة كافرة ومحيط كافر وزوجة لمن يدعي الالوهية والربوبية اذا فان آسية كـانـت ربة وآلهة على حد زعم قومها, ومع ذلك فانها خالفت قومها واسرتها وزوجها وآمنت برب العالمين, وتبرات من فرعون وعمله وقالت: (نجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين) اي قومها, وقاومتهم حتى استشهدت في سبيل الايمان برب العالمين.
وكـذلـك كـانت كل من امراة نوح وامراة لوط في بيت نبي يدعو الخلق الى رب العالمين, فكفرتا برب الـعالمين وبزوجيهما وكان اكثر خلافا منهن للمحيط ابن نوح الذي اخبر اللّه تعالى عنه في سورة هود (ع) انه عصى اباه نوحا (ع) لما ركب السفينة فقال:
(وهـي تـجـري بـهـم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابني اركب معنا ولاتكن مع الـكـافـريـن قال سوي الى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من امر اللّه الا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) (الايتان 42 ـ 43).
ان كـلا من زوجة نوح ولوط خالفت زوجها, وان ابن نوح (ع) خالف اباه وامتنع من ركوب السفينة وهو يرى آثار عذاب اللّه: (الامواج التي ظهرت كانها الجبال) متابعة منهما ومنه لهوى النفس.
وان امـراة فـرعون خالفت قومها واسرتها وزوجها مخالفة منها لهوى النفس واتباعا لامر ربها, وان مـريـم (ع) ابنة عمران صدقت بكلمات ربها وكتبه وهي في اسرة مؤمنة اذا ان الاسرة والمحيط لايـقـسران الانسان على الكفر او الايمان, وانما توجد في الانسان الرغبة في متابعة المحيط كما اخـبـر اللّه فـي سـبـعة مواضع من كتابه الكريم, ان الامم قالت لانبيائها انها تتبع آباءها في عبادة الاصنام والملائكة, مثل ما جاء في خبر ابراهيم (ع) مع قومه:

ا ـ في سورة الانبياء:
(ولـقد آتينا ابراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين اذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) (الايات 51 ـ 53).
ب ـ في سورة الشعراء:
(واتـل عـلـيهم نبا ابراهيم اذ قال لابيه وقومه ماتعبدون قالوا نعبد اصناما فنظل لها عاكفين قال هل يـسـمعونكم اذ تدعون او ينفعونكم او يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) (الايات 69 ـ 74).
وجاء في خبر موسى (ع) مع قومه في سورة يونس:
(قـال موسى اتقولون للحق لما جاءكم اسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا اجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الارض وما نحن لكما بمؤمنين) (الايتان 77 ـ 78).
ومثل ما جاء في خبر خاتم الانبياء مع قومه في:
ا ـ سورة المائدة:
(واذا قـيـل لـهـم تـعالوا الى ما انزل اللّه والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا اولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) (الاية 104).
ب ـ سورة لقمان:
(ومـن الناس من يجادل في اللّه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير واذا قيل لهم اتبعوا ما انزل اللّه قـالـوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا او لو كان الشيطان يدعوهم الى عذاب السعير) (الايات 20 ـ 21).
ج ـ سورة الزخرف:
(وجـعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن اناثا اشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسالون وقالوا لو شـاء الـرحـمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ان هم الا يخرصون ام آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون) (الايات 19 ـ 22).
د ـ وجاء في خبر الامم السابقة في قوله تعالى في السورة نفسها:
(وكـذلـك مـا ارسلنا من قبلك في قرية من نذير الا قال مترفوها انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثـارهـم مـقتدون قال اولو جئتكم باهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا انا بما ارسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) (الايات 23 ـ 25).
شرح الكلمات
1 ـ التمثال: ما صنع من فلز او نحت من حجر او خشب يحاكى به ما خلق اللّه, او يرمز به الى شي ء من ذلك.
2 ـ عاكفون: ملازمون للمعبد ومقيمون فيه لعبادة الاصنام.
3 ـ تلفتنا: تصرفنا.
4 ـ سعير: السعير: لهيب النار او النار الملتهبة, والمراد منه في الاية: نار جهنم.
5 ـ يخرصون: يكذبون.
6 ـ امة: الامة: كل جماعة يجمعهم امر ما, دينا واحدا كان او زمانا واحدا او مكانا واحدا.
7 ـ المترف: المتنعم, المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها والذي ابطرته النعمة فبغى.

تفسير الايات
فـي هذه الايات اخبر اللّه سبحانه ان خليله ابراهيم (ع) سال قومه قائلا لهم: ما هذه التماثيل التي انـتـم عـاكفون على عبادتها؟ هل يسمعونكم حين تدعونهم ؟ او ينفعونكم او يضرونكم ؟ قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون واخـبـر عـن مـوسى انه قال لقوم فرعون: اتقولون للايات التي هي حق انها سحر؟ فقالوا: اجئتنا لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا واخبر عما جرى لخاتم الانبياء مع مشركي قريش فقال تعالى:
(واذا قيل لهم تعالوا الى ما انزل اللّه قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا).
وقال: (ومن الناس من يجادل في اللّه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) (الحج 8).
وانـ كـفار قريش كانوا يعبدون الملائكة ويزعمون انها اناث ـ بنات اللّه, فيسال سبحانه وتعالى على سبيل الاستفهام الاستنكاري ويقول: اشهدوا خلق الملائكة وراوا انهم خلقوا اناثا؟ ام انزل اللّه عليهم كتابا مثل التوراة والانجيل ذكر فيه ذلك, فهم به مستمسكون؟ لا لم يقولوا ذلك بل, قالوا: انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون.
واخبر اللّه سبحانه رسوله (ص) مسليا له, وقال تعالى: وكذلك ما ارسلنا قبلك في مدينة ممن بعثوا لانـذار الناس الا وقد قال المترفون في المدينة انا وجدنا آباءنا على دين واننا نقتدي بهم, فقال لهم الـذي بـعـثـه اللّه لـينذرهم: اولو جئتكم باهدى مما وجدتم عليه آباءكم, قالوا: انا بما ارسلتم به كافرون.
اذا فـان الـعـصـبية القومية الجاهلية هي التي توجد هوى في نفس الانسان, وتجعلها تخالف فطرته السليمة التي تهديه الى معرفة الاله الخالق والرب المربي للخلق خلاصة البحث.
اذا كانت نفس الانسان طلعة (4) تبحث عن المعرفة طوال حياته, كما تطلب معدته الشرهة الطعام طوال حياته, فانه عندما يبحث عن سبب حركة كل متحرك ووجود كل موجود, يحكم عقله بان لكل حـركـة سببا محركا, ولكل مخلوق منظم وجوده, ومتزن بموازين محكمة الصنع, خالقا, والخالق اسمه الاله اذا ليس لاحد من الناس ان يقول يوم القيامة:
(انا كنا عن هذا غافلين).
او يقول:
(انـما اشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم افتهلكنا بما فعل المبطلون) لان مثلهم في ذلك مثل الـنـاس فـي الـحـياة الدنيا, فان الناس كانوا يعيشون قبل كشف الطاقة الكهربائية في ظلام دامس, وبـسـبـب مـا اوتوه من غريزة البحث توصل الابناء الى كشف الطاقة الكهربائية, وكذلك الشان في كشف كل جيل من المكتشفات العلمية مالم يبلغها اسلافه, ولهذا السبب ليس لاحد ان يقول: كان آبائي فـي ظلام الشرك او الالحاد ـ انكار الخالق ـ واتبعتهم اضطرارا, اضف الى ذلك ان اللّه اتم الحجة عـلى الناس بارسال الرسل لتذكير الغافلين, كما قال سبحانه لخاتم انبيائه (ص) في سورة الغاشية: (فذكر انما انت مذكر لست عليهم بمصيطر) (الايات 21 ـ 22).
وسـمـى القرآن بالذكر, وقال تعالى في سورة النحل: ( وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس مانزل اليهم ولعلهم يتفكرون) (الاية 44).
وفي البحث القادم ندرس ما اجملنا ذكره هنا بالتفصيل بحوله تعالى.