عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني

 

 - 18 -

قذائف موبقة في صحائف ابن آكلة الأكباد

 

هاهنا في أي كفة تجد معاوية وأعماله الشاذة عن الاسلام ؟ فهل تراه أثقل ميزانه بالصالحات ؟ أو أنه خففها بكل موبقة مهلكة ؟ وأنه كان يطففها ويخفف المكيال كيفما وزن وكال، وليت ابن هند أدلى بما عنده من الشبه في هذه القضية - قتاله عليا عليه السلام - لنمعن النظر فيها إمعان استشفاف لما ورائها لكنه فات المخذول أن يدلي بشئ من ذلك

/ صفحة 290 /

لا تعارضه البرهنة، ولا يفنده المنطق غير أمرين أراد بهما تلويثا لساحة قدس الإمام وإن كان هو كشف عن عورته ساعد عرف الناس كذبه في الأمرين جميعا.

 الأول: نسبة الالحاد إليه سلام الله عليه وإنه لا يصلي، هذا وقد وضح الاسلام بسيفه، وقامت الصلاة بأيده، يموه بذلك على الرعرعة الدهماء من الشاميين.

 قال الجاحظ: إن معاوية كان يقول في آخر خطبته: أللهم إن أبا تراب ألحد في دينك، وصد عن سبيلك، فالعنه لعنا وبيلا، وعذبه عذابا أليما.

 وكتب بذلك إلى الآفاق فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز (1).

وأخرج ابن مزاحم أن يوم صفين برز شاب من عسكر معاوية يقول:

أنا ابن أرباب الملوك غسان * والـــــدائن اليوم بدين عثمان

أنبأنـــــا أقـــــوامنا بمــا كان * إن عـــــليا قتـــــل ابــن عفان

ثم شد فلا ينثني يضرب بسيفه، ثم جعل يلعن عليا ويشتمه ويسهب في ذمه، فقال له هاشم المرقال: إن هذا الكلام بعده الخصام، وإن هذا القتال بعده الحساب، فاتق الله فإنك راجع إلى ربك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به، قال: فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي، وإنكم لا تصلون، وأقاتلكم أن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله.

 فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان ؟ إنما قتله أصحاب محمد وقراء الناس، حين أحدث أحداثا وخالف حكم الكتاب، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين، وأولى بالنظر في أمور المسلمين. وما أظن أن أمر هذه الأمة ولا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قط. قال الفتى: أجل أجل، والله لا أكذب فإن الكذب يضر ولا ينفع، ويشين ولا يزين. فقال له هاشم: إن هذا الأمر لا علم لك به، فخله وأهل العلم به. قال: أظنك والله قد نصحتني.

 وقال له هاشم: وأما قولك: إن صاحبنا لا يصلي فهو أول من صلى مع رسول الله، وأفقهه في دين الله، وأولاه برسول الله، وأما من ترى معه فكلهم قارئ الكتاب، لا ينامون الليل تهجدا، فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون.

 قال الفتى: يا عبد الله إني لأظنك امرءا صالحا، وأظنني مخطئا آثما، أخبرني هل تجد لي من توبة ؟ قال: نعم، تب إلى الله يتب عليك، فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع ما أسلفنا في الجزء الثاني ص 102 ط 2.

 

/ صفحة 291 /

ويحب التوابين ويحب المتطهرين. قال: فذهب الفتى بين الناس راجعا. فقال له رجل من أهل الشام: خدعك العراقي. قال: لا، ولكن نصحني العراقي (1).

كان المخذول يشوه سمعة الإمام الطيبة بتلكم القذائف الشائنة طيلة حياته، ولما استشهد سلام الله عليه لم يرفع اليد عن غيه وبغيه، فجاء يري الأمة الغوغاء أن ما كان من عدائه المحتدم للإمام عليه السلام إنما كان عن أساس ديني لله فيه، فكتب إلى عماله: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم، وقتلة خليفتكم، إن الله بلطفه وحسن صنعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله، فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جائنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إلي حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم، وحسن عدتكم، فقد أصبتم بحمد الله الثأر، وبلغتم الأمل، و أهلك الله أهل البغي والعدوان (2) ولما دخل ابن عباس على معاوية بعد مقتل أمير المؤمنين عليه السلام قال: الحمد لله الذي أمات عليا (3).

ما أغلف قلب هذا الرجل الذي يحسب أن عبد الرحمن بن الملجم من عباد الله وقد قيضه المولى سبحانه للنيل من إمام الهدى، ويعد ذلك من لطفه وحسن صنعه، وابن ملجم هو ذلك الشقي المهتوك الخارجي الجاني على الأمة جمعاء بقتل سيدها نفس - الرسول صلى الله عليه وآله، وآتيها بخسارة الأبد، وهو أشقى الآخرين في لسان النبي الكريم، أو أشقى الأمة في حديثه الآخر، وأشد الناس عذابا يوم القيامة، وعاد قوله صلى الله عليه وآله فيه " أشقى " كلقب يعرف به أشقى مراد حيث أنه اطرد ذكره به في موارد كثيرة من الحديث والتاريخ (4).

 وليت شعري أي إله يحمده معاوية في موت علي أمير المؤمنين ؟ الإله جعل مودة على أجر الرسالة في محكم الذكر الحكيم ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) كتاب صفين لابن مزاحم ص 402، تاريخ الطبري 6: 24، كامل ابن الأثير 3: 135، شرح ابن أبي الحديد 2: 278.

 (2) مقاتل الطالبيين ص 24، شرح ابن أبي الحديد 4: 13، جمهرة رسائل العرب 2: 13.

 (3) تاريخ البداية والنهاية لابن كثير 8.

 (4) راجع الجزء الأول من كتابنا ص 324، 325 ط 2.

 

/ صفحة 292 /

الإله اتخذ عليا نفسا لنبيه في قصة المباهلة ؟ الإله أمر رسوله صلى الله عليه وآله بتبليغ ولاية علي عليه السلام وإنه إن لم يفعل فما بلغ رسالته ؟ الإله يرى بولاية علي عليه السلام إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضاه سبحانه ؟ الإله أوحى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في علي ثلاث: إنه سيد المسلمين، وإمام المتقين، و قائد الغر المحجلين ؟ الإله عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في علي إنه راية الهدى، ومنار الإيمان، وإمام أوليائي، ونور من أطاعني ؟ الإله كان علي أحب خلقه إليه بعد نبيه كما جاء في حديث الطير ؟ الإله كان يحب عليا وعلي يحبه في حديث خيبر ؟ الإله اختار عليا وصيا لنبيه بعد ما اختاره نبيا فهو أحد الخيرتين من البشر كما جاء في النص النبوي ؟ الإله دعاه صاحب الرسالة الخاتمة حينما قال في مائة ألف أو يزيدون: من كنت مولاه فعلي مولاه، أللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله ؟.

 أيسوغ مثل هذا الحمد والثناء لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وصدق نبي الاسلام وما جاء به ؟ أم هل يتصور توجيهه إلى رب محمد وعلي ؟ وقد تمت بهما كلمة الله صدقا وعدلا، وقامت بهما دعائم الدين الحنيف، وبسعيهما أدركت الأمة المرحومة سعادة الأبد.

 نعم: له مسرح إن وجه إلى " هبل " إله آباء معاوية وإلهه إلى أخريات أيام النبوة إن لم نقل إلى آخر نفس لفظه معاوية، وقد كان مرتكزا في أعماق قلبه، ومزيج نفسه طيلة ما لهج بأمثال هذه الأقاويل المخزية.

 ثم أي مسلم يبلغ أمله عند قتل إمام الحق، ووئد خطة الهدى ؟ إلا من ارتطم في الضلالة، وسبح في الالحاد سبحا طويلا.

 وأما قوله: وأهلك الله أهل البغي والعدوان.

 فانظر واقرأ قول العزيز الحكيم: كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

 يلهج بهذه الكلمة كأنه بمجلب عن البغي والعدوان - وهو

/ صفحة 293 /

ولفيفه هم الفئة الباغية بنص النبي الأعظم - وهو يندد بمن يحسب أنه تردى بهما. نعم: حن قدح ليس منها.

 هل الباغي هو من خرج على إمام زمانه يناضله وينازله ؟ أو إن إمام الوقت - المعصوم بنص الكتاب - هو الباغي ؟ " والعياذ بالله " وإن كان القوم أعداؤه وهو عدو لهم فهم أعداء الله وأعداء رسوله بغير واحد من النصوص النبوية، وقد شملتهم دعوة صاحب الرسالة المتواترة " وعاد من عاداه، واخذل من خذله ".

 

نظرة فيما تشبث به معاوية في قتال علي عليه السلام

الثاني من الأمرين اللذين تشبث بهما ابن آكلة الأكباد في تثبيط الملأ عن نصرة الإمام عليه السلام وتأليبهم إلى قتاله: إن عنده ثار عثمان وعليه ترته، وللحاكم في هذه القضية أن ينظر أولا إلى أن معاوية نفسه لم يشهد وقعة عثمان حتى يبصر المباشر لقتله، وإنما تثبط عن نصرته بل كان يحبذ قتله طمعا في أن ينال الملك (1) بعده بحججه التافهة.

 وثانيا إلى أن أمير المؤمنين سلام الله عليه كان غائبا عن المدينة المنورة عند وقوع الواقعة (2) فكيف تصح مباشرته لقتل أو قتال ؟ ! أو كان ساكنا في عقر داره بالمدينة لا له ولا عليه.

 وثالثا إلى شهادات الزور المتولدة من دسائس ابن حرب ترمي أبرأ الناس من ذلك الدم المراق، بإيعاز من ابن النابغة ذلك العامل الوحيد في قتل عثمان، وقد سمعت عقيرته أذن الدنيا: أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع (3).

 قال الجرجاني: لما بات عمرو عند معاوية وأصبح أعطاه مصر طعمة له، وكتب له بها كتابا وقال: ما ترى ؟ قال: امض الرأي الأول.

 فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه.

 ثم قال: ما ترى في علي ؟ قال: أرى فيه خيرا، أتاك في هذه البيعة خير أهل العراق، ومن عند خير الناس في أنفس الناس، ودعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد، ورأس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع ما أسلفناه في الجزء التاسع ص 150 - 153 ط 1.

 (2) مر حديثه في الجزء التاسع ص 243.

 (3) انظر ما فصلناه في الجزء التاسع ص 136 - 138 ط 2.

 

/ صفحة 294 /

أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي، وهو عدو لجرير المرسل إليك، فأرسل إليه ووطن له ثقاتك فليفشوا في الناس: إن عليا قتل عثمان، وليكونوا أهل الرضا عند شرحبيل، فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب، وإن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشئ أبدا.

 فكتب إلى شرحبيل: إن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب بأمر فظيع، فأقدم.

 ودعا معاوية يزيد بن أسد، وبسر بن أرطاة، وعمرو بن سفيان، و مخارق بن الحارث، وحمزة بن مالك، وحابس بن سعد الطائي، وهؤلاء رؤوس قحطان واليمن، وكانوا ثقات معاوية وخاصته، وبني عم شرحبيل بن السمط، فأمرهم أن يلقوه ويخبروه: إن عليا قتل عثمان، فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه فقال إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي وهو صاحب معاذ بن جبل و ختنه، وكان أفقه أهل الشام فقال: يا شرحبيل ! إن الله لم يزل يزيدك خيرا مذ هاجرت إلى اليوم وإنه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس، ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، إنه قد القي إلينا قتل عثمان، وإن عليا قتل عثمان (1) فإن يك قتله فقد بايعه المهاجرون والأنصار، وهم الحكام على الناس، وإن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه ؟ لا تهتك نفسك وقومك، فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى علي فبايعه على شامك وقومك، فأبي شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية، فبعث إليه عياض الثمالي وكان ناسكا.

 يا شــــرح يا ابن السمط إنك بالغ * بــــــود علي ما تـــــريد من الأمر

ويا شــرح إن الشام شأمك ما بها * سواك فــدع قول المضلل من فهر

فإن ابـــــن حرب ناصب لك خدعة * تكون علينا مثل راغية البكر (2)

فـــــإن نال ما يـرجو بنا كان ملكنا * هنيـئا له، والحرب قاصمة الظهر

فلا تبغـــــين حــــرب العراق فإنها * تحـــــرم أطـهار النساء من الذعر

وإن عــــليا خير من وطئ الحصى * مـــــن الهـاشميين المداريك للوتر

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) في شرح ابن أبي الحديد: إنه قد ألقي إلى معاوية أن عليا قتل عثمان، ولهذا يريدك.

 (2) الراغية: الرغاء، البكر: ولد الناقة. مثل يضرب في التشاؤم. انظر ثمار القلوب 282.

 

/ صفحة 295 /

لـــــه فــي رقاب الناس عهد وذمة * كعـــــهد أبي حفص وعهد أبي بكر

فبــايع ولا ترجع على العقب كافرا * أعـــــيذك بالله العـــــزيز من الكفر

ولا تسمعـــــن قــــول الطغام فإنما * يـــــريدوك أن يلقوك في لجة البحر

ومـــــاذا عــليهم أن تطاعن دونهم * عـــــليا بأطـراف المثقفة السمر ؟

فـــــإن غـــــلبوا كــانوا علينا أئمة * وكــنا بحمد الله من ولد الظهر(1)

وإن غـلبوا لم يصل بالحرب غيرنا * وكـــــان عـــــلي حربنا آخر الدهر

يهـــــون على عـليا لوي بن غالب * دماء بني قحطان في ملكهم تجري

فـــــدع عنك عــثمان بن عفان إننا * لك الخير، لا ندري وإنك لا تدري

على أي حال كـــــان مصرع جـنبه * فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو

قال: لما قدم شرحبيل على معاوية تلقاه الناس فأعظموه، ودخل على معاوية فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا شرحبيل ! إن جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة علي، وعلي خير الناس (2) لولا أنه قتل عثمان بن عفان، وقد حبست نفسي عليك، وإنما أنا رجل من أهل الشام، أرضى ما رضوا، وأكره ما كرهوا.

 فقال شرحبيل: أخرج فانظر.

 فخرج فلقيه هؤلاء النفر الموطؤون له، فكلهم يخبره بأن عليا قتل عثمان بن عفان.

 فخرج مغضبا إلى معاوية فقال: يا معاوية أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان، ووالله لئن بايعت له لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك.

 قال معاوية: ما كنت لأخالف عليكم وما أنا إلا رجل من أهل الشام.

 قال: فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذا.

 قال: فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق، وأن الشام كله مع شرحبيل ! فخرج شرحبيل فأتى حصين بن نمير فقال: ابعث إلى جرير فليأتنا فبعث إليه حصين: أن زرنا، فإن عندنا شرحبيل بن السمط، فاجتمعا عنده، فتكلم شرحبيل فقال: يا جرير ! أتيتنا بأمر ملفف (3) لتلقينا في لهوات الأسد، وأردت أن تخلط الشام بالعراق، وأطرأت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يقال: فلان من ولد الظهر، بالفتح. أي ليس منا. وقيل معناه: إنه لا يلتفت إليه.

 (2) هل تجتمع كلمة الرجل هذه مع سبابه المقذع عليا وقوارصه التي أوعزنا إليها ؟ هذا هو النفاق وهكذا يكون المنافق ذا لسانين ووجهين.

 (3) في شرح ابن أبي الحديد: ملفق.

 

/ صفحة 296 /

عليا وهو قاتل عثمان، والله سائلك عما قلت يوم القيامة.

 فأقبل عليه جرير فقال: يا شرحبيل أما قولك: إني جئت بأمر ملفف.

 فكيف يكون أمرا ملففا وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار، وقوتل على رده طلحة والزبير ؟ ! وأما قولك: إني ألقيتك في لهوات الأسد. ففي لهواتها ألقيت نفسك، وأما خلط العراق بالشام فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل. وأما قولك: إن عليا قتل عثمان.

 فوالله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد، ولكنك ملت إلى الدنيا، وشئ كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص.

 فبلغ معاوية قول الرجلين، فبعث إلى جرير فزجره ولم يدر ما أجابه أهل الشام وكتب جرير إلى شرحبيل:

شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى * فمـــــالك في الدنيا من الدين من بدل

وقــــل لابن حرب: مالك اليوم حرمة * تــــــروم بها ما رمت فاقطع له الأمل

شــــــرحبيل إن الحــــــق قــد جد جده * وإنك مــــــأمون الأديــــــم من النغل

فــــــأرود ولا تفــــــرط بشيئ نخـــافه * عليــــك ولا تعجل فلا خير في العجل

ولا تــــــك كالمجــــري إلى شر غاية * فقد خــرق السربال واستنوق الجمل

وقــــــال ابــــن هند في علي عضيهة * ولله فـــــي صــدر ابن أبي طالب أجل

ومــــــا لعـــــلي في ابن عفان سقطة * بأمر ولا جــــــلب عــليه ولا قتل (1)

ومــــــا كــــــان إلا لازمـــــا قعر بيته * إلى أن أتـــــى عثمان في بيته الأجل

فمــــــن قـــــال قولا غير هذا فحسبه * من الزور والبهتان قول الذي احتمل

وصــــــي رســـول الله من دون أهله * وفارسه الأولى به يضرب المثل (2)

فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر وفكر، وقال: هذه نصيحة لي في ديني ودنياي. ولا والله لا اعجل في هذا الأمر بشئ وفي نفسي منه حاجة، فاستتر له القوم ولفف له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون، ويعظمون عنده عثمان ويرمون به عليا، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلقة، حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه، وبلغ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) في شرح ابن أبي الحديد: بقول ولا ما لا عليه ولا قتل. الممالاة: المساعدة.

 (2) في شرح ابن أبي الحديد: ومن باسمه في فضله يضرب المثل.

 

/ صفحة 297 /

ذلك قومه فبعث ابن أخت له من بارق - وكان يرى رأي علي بن أبي طالب فبايعه بعد، وكان ممن لحق من أهل الشام وكان ناسكا - فقال:

لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى * شــــــرحبيل بالسهم الذي هو قاتله

ولفــــــف قــــــوما يسحبون ذيولهم * جـميعا وأولى الناس بالذنب فاعله

فألــــــفى يمــــــانيا ضعـــيفا نخاعه * إلى كـــل ما يهوون تحدى رواحله

فــــــطأطأ لهــــــا لمـــا رموه بثقلها * ولا يــــرزق التقوى من الله خاذله

ليــــــأكل دنــــــيا لابــــــن هند بدينه * ألا وابــــــن هنــــــد قبـل ذلك آكله

وقـــــالوا علي في ابن عفان خدعة * ودبت إليــــــه بالشـــــنان غوائله

ولا والــــــذي أرســـــى ثبيرا مكانه * لــــــقد كــــــف عنه كفه ووسائله

ومــــــا كــــان إلا من صحاب محمد * وكــــــلهم تغــــــلي عـليه مراجله

فلما بلغ شرحبيل هذا القول قال: هذا بعيث الشيطان، الآن امتحن الله قلبي، والله لأسيرن صاحب هذا الشعر أو ليفوتنني. فهرب الفتى إلى الكوفة. وكاد أهل الشام أن يرتابوا.

 وبعث معاوية إلى شرحبيل بن السمط فقال: إنه كان من إجابتك الحق، وما وقع فيه أجرك على الله، وقبله عنك صلحاء الناس ما علمت، وإن هذا الأمر الذي قد عرفته لا يتم إلا برضا العامة، فسر في مدائن الشام، وناد فيهم: بأن عليا قتل عثمان، وأنه يجب المسلمين أن يطلبوا بدمه، فسار فبدأ بأهل حمص فقام خطيبا، فقال: يا أيها الناس ! إن عليا قتل عثمان بن عفان، وقد غضب له قوم فقتلهم، وهزم الجميع وغلب على الأرض، فلم يبق إلا الشام، وهو واضع سيفه على عاتقه، ثم خائض به غمار الموت حتى يأتيكم أو يحدث الله أمرا، ولا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية، فجدوا وانهضوا، فأجابه الناس إلا نساك أهل حمص، فإنهم قاموا إليه فقالوا: بيوتنا قبورنا ومساجدنا، وأنت أعلم بما ترى، وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها، لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به، فبعث إليه النجاشي بن الحارث وكان صديقا له:

شرحبيل ما للدين فارقــــت أمرنا * ولكــــــن لبغـــــض المالكي جرير

وشحـــناء دبت بــــين سعد وبينه * فأصبحـــــت كالحادي بغير بعــــير

/ صفحة 298 /

ومــــــا أنت إذ كـانت بجيلة عاتبت * قــــــريشا فيــــــا لله بعــــد نصير

أتفــــــصل أمــرا غبت عنه بشبهة * وقــــــد حار فيــها عقل كل بصير

بقــــــول رجــــــال لم يـكونوا أئمة * ولا للتــــــي لقــــــوكها بحـضور

ومــــــا قول قـــوم غائبين تقاذفوا * من الغــــــيب مـــــا دلاهم بغرور

وتترك إن الناس أعطوا عهودهم * عــــــليا عـــــلى أنس به وسرور

إذا قيـــــل: هاتوا واحدا يقتدى به * نظــــــيرا له لم يفـــــصحوا بنظير

لعــــلك أن تشقى الغـــــداة بحربه * شرحبــيل ما ما جئته بصغير(1)

راجع كتاب صفين لنصر بن مزاحم 49 - 57، الاستيعاب ترجمة شرحبيل 1: 589 أسد الغابة 2: 392، الكامل لابن الأثير 3: 119، شرح ابن أبي الحديد 1: 139، 249، 250.

 فبهذه الصورة البشيعة من الشهادات المزورة والكتب المختلقة تمت بيعة معاوية لقتال علي أمير المؤمنين.

 ورابعا: إلى أن عثمان قتله رجال مجتهدون من المهاجرين والأنصار، ووجوه أصحاب محمد صلى الله عليه وآله العدول، بعد إقامة الحجة عليه، وإثبات شذوذه عن الكتاب والسنة وإهدار دمه بحكم الكتاب (2) فليس على القوم قود ولا قصاص، ولم يك مولانا أمير المؤمنين إلا رجلا من المهاجرين أورد كما أوردوا، وأصدر كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال، ولا ليضربهم بالعمى.

 وقد كتب بهذا أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية (3) وجاء الحجاج به في كلمات غير واحد من الصحابة مثل قول الصحابي العظيم هاشم المر قال المذكور ج 9: 123 و في هذا الجزء ص 290، وقول عمار بن ياسر الممدوح بالكتاب والسنة الذي أسلفناه في ج 9: 112، وقول أبي الطفيل الشيخ الصحابي الكبير الآنف في ج 9: 140: وقول عبد الرحمن بن عثمان السابق في ج 9: 159، فما ذنب علي عليه السلام إن آواهم ونصرهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) في شرح ابن أبي الحديد: فليس الذي قد جئته بصغير.

 (2) راجع ما مر في الجزء التاسع 169 - 209.

 (3) راجع ما أسلفناه في ج 9 ص 158 - 164.

 

/ صفحة 299 /

وأيدهم ودفع عنهم عادية الباغين.

 وخامسا: إلى أن الذين كانوا في جيش أمير المؤمنين عليه السلام أو الذين تحكمت بينه وبينهم آصرة المودة لم يكونوا كلهم قتلة عثمان، ولا باشروا شيئا من أمره، و لم يكن لأكثرهم في الأمر ورد ولا صدر، وإنما كان فيهم من أولئك الصحابة العدول أناس معلومون آووا إلى إمام الحق، فبأي حجة شرعية كان ابن صخر يستبيح قتل الجميع واستقرأهم في البلاد بعد مقتل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وقبله، فقتلهم تقتيلا ؟ !.

 وسادسا: إلى أن معاوية لم يكن ولي دم عثمان وإنما أولياؤه ولده، وإن كان لهم حق القصاص فعجزوا عن طلبه فعليهم رفع الأمر إلى خليفة الوقت وهو مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لينظر في أمرهم، ويحكم بحكم الله البات وهو أقضى الأمة بنص الرسول الأمين.

 نعم: كانت لمعاوية تراة عند أمير المؤمنين عليه السلام بأخيه حنظلة بن أبي سفيان، وجده لأمه عتبة بن ربيعة، وخاله الوليد بن عتبة بن ربيعة، وأبناء عمه العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمر وبن أمية.

 لكنه لم ينبس عنهم ببنت شفة لأنها ما كانت تنطلي عند المسلمين فإنهم وثنيون مشركون حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله فذاقوا وبال أمرهم، وإنما تترس بدم عثمان بضرب من السيرة الجاهلية من صحة قيام أي فرد من أفراد العشيرة بدم أي مقتول منها وإن بعدت بينهم الرحم والقرابة، وهذه السيرة الغير المشروعة كان يرن صداها في مسامع أهل الشام البعداء عن مبادئ الدين وطقوسه، ومن ثم استهواهم معاوية، واستحوذ عليهم بذلك التدجيل، ولم تكن تلك الحرب الزبون إلا أنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية، وثب بها معاوية حين الغفلة، ليدرك ثارات بني عبد شمس، ولم تك تخفى هذه الغاية على أي أحد حتى المخدرات في الحجال (1).

 وسابعا: إلى أن أول واجب على معاوية أن يتنازل إلى ما لزمه من البيعة الحقة فيدخل في جماعة المسلمين، ولا يشق عصاهم بالتقاعس عنها، ثم يرفع الخصومة إلى صاحب البيعة، فيرى فيه رأيه كما جاء في كتاب لأمير المؤمنين إلى معاوية من قوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) انظر ما مر من كلمة أم الخير في الجزء التاسع ص 371 ط 2.

 

/ صفحة 300 /

وأما قولك: ادفع إلي قتلة عثمان.

 فما أنت وذاك ؟ وها هنا بنو عثمان وهم أولى بذلك منك (1) فإن زعمت أنك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع (2) إلى البيعة التي لزمتك [ لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر ] وحاكم القوم إلي (3).

 وفي كتاب آخر له عليه السلام كتبه إليه: وقد أكثرت في قتلة عثمان، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكمت القوم إلي حملتك وإياهم على كتاب الله، وأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن.

 ولعمري يا معاوية ! لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنني أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه، إلا أن تتجنى (4) فتجن ما بدا لك (5).

 وثامنا إلى أن طلحة والزبير قد نهضا قبل معاوية بتلك الغاية التي هو راميها، وأخرجا حبيسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خدرها، وحاربهما الإمام عليه السلام بعد ما أتم عليهما الحجة، وكتب إليهما: وقد زعمتما أن قتلت عثمان، فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة (6) ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل، وزعمتما أني آويت قتلة عثمان، فهؤلاء بنو عثمان فليدخلوا في طاعتي، ثم يخاصموا إلي قتلة أبيهم، وما أنتما وعثمان ؟ إن كان قتل ظالما أو مظلوما، وقد بايعتماني وأنتما بين خصلتين قبيحتين: نكث بيعتكما.

 وإخراجكما أمكما (7).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) في رواية المبرد: وبعد: فما أنت وعثمان ؟ إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه.

 (2) في رواية المبرد: فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلى.

 (3) الإمامة والسياسة 1: 88، الكامل للمبرد 1: 225، العقد الفريد 2: 284، 285، شرح ابن أبي الحديد 1: 252.

 (4) تجنى عليه: إدعى عليه ذنبا لم يفعله. فتجن: أي تستره وتخفيه.

 (5) الإمامة والسياسة 1: 81، العقد الفريد 2: 284، نهج البلاغة 2: 7، 124، شرح ابن أبي الحديد 1: 248، ج 3: 300.

 (6) نظراء سعد بن أبي وقاص، عبد الله بن عمر، محمد بن مسلمة.

 (7) نهج البلاغة 2: 112، الإمامة والسياسة 1: 62.

 

/ صفحة 301 /

وكتب عليه السلام إلى معاوية: إن طلحة والزبير بايعاني، ثم نقضا بيعتهما، وكان نقضهما كردتهما، فجاهدتهما بعد ما أعذرت إليهما، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون (1).

 فهلا كانت بحسب معاوية تلكم الحجج ؟ ! وقد طن في أذن الدنيا قول أمير المؤمنين عليه السلام: ما هو إلا الكفر، أو قتال القوم.

 فهلا عرف الرجل وبال أمر أصحاب الجمل، ومغبة تلك النخوة والغرور، والتركاض وراء الأهواء والشهوات، بعد قتل آلاف مؤلفة من الصالح والطالح، من أهل الحق والباطل ؟ فإشهاره السيف لإزهاق النفوس بريئة كانت أو متهمة من رجال أو نساء أو أغلمة، وقتل أمم وزرافات تعد بالآلاف بإنسان واحد قتله المجتهدون العدول من أمة محمد بعد إقامة الحجة عليه، إنما هو مما حظرته الشريعة، ولم يعرف له مساغ من الدين، وكان ابن هند في الأمر كما كتب إليه الإمام عليه السلام: لست تقول فيه بأمر بين يعرف له أثر، ولا عليك منه شاهد، ولست متعلقا بآية من كتاب الله، ولا عهد من رسول الله (2).

 وتاسعا: إلى أن ما حكم به خليفة الوقت يجب اتباعه ولا يجوز نقضه فقد كتب علي عليه السلام إلى معاوية في كتاب له: وأما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان فإني نظرت في هذا الأمر، وضربت أنفه وعينه فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك، ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عما قليل يطلبونك، لا يكلفونك أن تطلبهم في بر ولا بحر (3).

فهلا كان ذلك نصا من الإمام عليه السلام على أنه لا مساغ له لأن يدفع قتلة عثمان لأي إنسان ثائر، وإن طلب ذلك منه غي وشقاق، فهل كان معاوية يحسب أن أمير المؤمنين عليه السلام يتنازل عن رأيه إذا ما ارتضاه هو ؟ أو يعدل عن الحق ويتبع هواه ؟ حاشا ثم حاشا، أو لم يكن من واجب معاوية البخوع لحكم الإمام المطهر بنص القرآن والإخبات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 34 ط مصر، العقد الفريد 2: 284، الإمامة والسياسة 1: 81، شرح ابن أبي الحديد 1: 248، ج 3: 300.

 (2) كتاب صفين لابن مزاحم ص 122، شرح ابن أبي الحديد 3: 412.

 (3) كتاب صفين ص 96، 102، العقد الفريد 2: 286، شرح ابن أبي الحديد 3: 409.

 

/ صفحة 302 /

إلى رأيه الذي لا يفارق القرآن ؟ كيف لا ؟ وقد صح عن القوم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روايات تمسكوا بها في اتباع نظراء معاوية ويزيد من أئمة الضلال وأمراء الجور والعدوان مثل ما عزي إليه صلى الله عليه وآله: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.

 قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله ! إن أدركت ذلك ؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع (1).

وسأل سلمة بن يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه ثم سأله فجذبه الأشعث بن قيس فقال صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم (2).

هذا رأي القوم في أمراء الشر والفساد فما ظنك بالامام العادل المستجمع لشرايط الخلافة الذي ملأت الدنيا النصوص في وجوب اقتصاص أثره، و الموافقة لآرائه وكل ما يرتأيه من حق واضح ؟ !.

 وعاشرا: إلى أن قاتل عثمان المباشر لقتله اختلف فيه كما مر تفصيله في الجزء التاسع ويأتي أيضا بين جبلة بن الايهم المصري. وكبيرة السكوني. وكنانة بن بشر التجيبي. وسودان بن حمران. ورومان اليماني. ويسار بن غلياض. وعند ابن عساكر يقال له: حمال (3).

فقتل منهم من قتل في الوقت، ولم يكن أحد من الباقين في جيش الإمام عليه السلام ولا ممن آواهم هو، فلم يكن لأحد عند غيرهم ثار، وأما الذين آواهم الإمام عليه السلام فهم المسببون لقتله من المهاجرين والأنصار، أو المؤلبون عليه من الصحابة العدول، ولم يشذ عنهم إلا أناس يعدون بالأنامل.

 وبعد هذه كلها هلا كانت لتبرأة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام نفسه من دم عثمان وقد كتبها إلى طلحة والزبير ومعاوية، ولتبرأة الأعيان من الصحابة إياه منذ مقتل عثمان إلى أن استحر القتال في واقعة صفين، وقد كتبوها إلى طلحة والزبير ومعاوية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) صحيح مسلم 6: 20، سنن البيهقي 8: 157.

 (2) صحيح مسلم 6: 19، سنن البيهقي 8: 158.

 (3) الصواعق ص 66.

 

/ صفحة 303 /

ومن لف لفهم، قيمة توازن عند معاوية شهادات الزور التي لفقها هو من أناس لا خلاق لهم، وثبتتها حيله ودسائسه، وأجراها ترغيبه وترهيبه ؟ وقد علم هو أن أمير المؤمنين من هو، وصلحاء الصحابة الذين وافقوه على التبرأة والتبرير من هم، ومن أولئك الطغمة الثائرين لخلافه، والمجلبين عليه، جير: كان يعلم كل ذلك لكنه الملك و السلطان وهما يبرران لصاحب النهمة والشره كل بائقة وموبقة.

 

- 19 -

دفاع ابن حجر عن معاوية بأعذار مفتعلة

أنت إذا قضيت الوطر عن معاوية ومعاذيره التافهة في هذه المعمعة، فهلم معي إلى ناصره الأخير - ابن حجر - الذي فاتته النصرة بالضرب والطعن، فطفق يسود صحيفة من صحائفه الشوهاء بأعذار مفتعلة في صواعقه، يتصول بها كمن يدلي بحجج قاطعة، وابن حجر وإن لم يكن أول من نحت تلكم الأعذار، وقد سبقه إليها أناس آخرون من أبناء حزم وتيمية وكثير، غير أن ما جاء به ابن حجر يجمع شتات ما تترس به القوم دفاعا عن ابن هند، وزاد هو في طنبوره نغمات، قال في الصواعق ص 129: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة: أن ما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة، للاجماع على حقيتها لعلي كما مر (1) فلم تهج الفتنة بسببها وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه، فامتنع علي ظنا منه أن تسليمهم إليهم على الفور مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بعسكر علي يؤدي إلى اضطراب وتزلزل في أمر الخلافة التي بها انتظام كلمة أهل الاسلام سيما وهي في ابتدائها لم يستحكم الأمر فيها، فرأى علي رضي الله عنه أن تأخير تسليمهم أصوب إلى أن يرسخ قدمه في الخلافة، ويتحقق التمكن من الأمور فيها على وجهها، ويتم له انتظام شملها واتفاق كلمة المسلمين، ثم بعد ذلك يلتقطهم واحدا فواحدا ويسلمهم إليهم، ويدل لذلك أن بعض قتلته عزم على الخروج على علي ومقاتلته لما نادى يوم الجمل بأن يخرج عنه قتلة عثمان، وأيضا فالذين تمالؤا على قتل عثمان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) ذكره في الصواعق ص 71.

 

/ صفحة 304 /

كانوا جميعا كثيرة كما علم مما قدمته في قصة محاصرتهم له إلى أن قتله بعضهم، جمع من أهل مصر قيل: سبعمائة، وقيل: ألف، وقيل خمسمائة، وجمع من الكوفة، وجمع من البصرة وغيرهم قدموا كلهم المدينة وجرى منهم ما جرى، بل ورد أنهم هم وعشائرهم نحو من عشرة آلاف فهذا هو للحامل لعلي رضي الله عنه عن الكف عن تسليمهم لتعذره كما عرفت.

 ويحتمل أن عليا رضي الله عنه رأى أن قتلة عثمان بغاة حملهم على قتله تأويل فاسد استحلوا به دمه رضي الله عنه لإنكارهم عليه أمورا كجعله مروان ابن عمه كاتبا له ورده إلى المدينة بعد أن طرده النبي صلى الله عليه وآله منها، وتقديمه أقاربه في ولاية الأعمال، وقضية محمد بن أبي بكر، ظنوا أنها مبيحة لما فعلوه جهلا منهم وخطأ والباغي إدا انقاد إلى الإمام العدل لا يؤاخذ بما أتلفه في حال الحرب عن تأويل دما كان أو مالا كما هو المرجح من قول الشافعي رضي الله عنه، وبه قال جماعة آخرون من العلماء، وهذا الاحتمال وإن أمكن لكن ما قبله أولى بالاعتماد منه.

 إلخ قال الأميني: هب أن عثمان قتل مظلوما بيد الجور والتعدي.

 وأنه لم يك يقترف قط ما يهدر دمه.

 وأن قتله لم يقع بعد إقامة الحجة عليه والأخذ بكتاب الله في أمره.

 وأنه لم يقتل في معمعة بين آلاف مكردسة من المدنيين والمصريين والكوفيين والبصريين.

 ولم تكن البلاد تمخضعت عليه، وما نقم عليه عباد الله الصالحون.

 وأن قاتله لم يجهل من يوم أودى به، وكان مشهودا يشار إليه، ولم يكن قتيل عمية (1) لا يدرى من قتله حتى تكون ديته من بيت مال المسلمين.

 ولم يقتل الذين باشروا قتله وكان قد بقي منهم باقية يقتص منها.

 وأن المهاجرين والأنصار ما اجتمعوا على قتله، ولم تكن لأولئك المجتهدين العدول يد في تلك الواقعة، ولم يشارك في دمه عيون الصحابة.

 وأن أهل المدينة ليسوا كاتبين إلى من بالآفاق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنكم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) بكسر العين والميم المشددة مع تشديد الياء.

 

/ صفحة 305 /

إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل تطلبون دين محمد صلى الله عليه وسلم فإن دين محمد قد أفسده من خلفكم وترك، فهلموا فأقيموا دين محمد صلى الله عليه وسلم.

 وأن المهاجرين لم يكتبوا إلى من بمصر من الصحابة والتابعين: أن تعالوا إلينا و تداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها، فإن كتاب الله قد بدل، وسنة رسول الله قد غيرت، وأحكام الخليفتين قد بدلت.

 إلى آخر ما مر ج 9.

 وأن طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وعمرو بن العاص لم يكونوا أشد الناس عليه، ولم يكن لهم تركاض وراء تلك الثورة.

 وما قرع سمع الدنيا نداء عثمان: ويلي على ابن الحضرمية - يعني طلحة - أعطيته كذا وكذا بهارا ذهبا وهو يروم دمي، يحرض على نفسي.

 وأن طلحة لم يقل: إن قتل - عثمان - فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأنه لم يمنع الناس عن إيصال الماء إليه.

 وأن مروان لم يقتل طلحة دون دم عثمان، ولم يؤثر عنه قوله يومئذ: لا أطلب بثأري بعد اليوم.

 وأن الزبير ما باح بقوله: اقتلوه فإنه غير دينكم، وإن عثمان لجيفة على - الصراط غدا.

 وأن عائشة ما رفعت عقيرتها بقولها: اقتلوا نعثلا قتله الله فقد كفر.

 وإنها لم تقل لمروان: وددت والله إنك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره في رجل كل واحد منكما رحا وإنكما في البحر. ولم تقل لابن عباس: إياك أن ترد الناس عن هذا الطاغية.

 وأن عمرو بن العاص لم يقل: أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع، إن كنت لأحرض عليه حتى أني لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.

 وأن سعد بن أبي وقاص لم يبح بقوله: أمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه.

 وأن عثمان لم يبق جثمانه ملقى ثلاثا في مزبلة لا يهم أمره أحدا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الصحابة العدول.

 وأن طلحة لم يك يمنع عن تجهيزه ودفنه في مقابر المسلمين، وأنه لم يقبر في حش كوكب جبانه اليهود بعد ذل الاستخفاف.

 

/ صفحة 306 /

وأن ما أسلفناه في الجزء التاسع من حديث أمة كبيرة من الصحابة وفيهم العمد والدعائم كل ذلك لم يصح.

 وأن إمام الوقت ليس له العفو عن قصاص كما عفى عثمان عن عبيد الله بن عمر حين قتل هرمزان وجفينة بنت أبي لؤلؤة بلا أي جريرة.

 وأن معاوية لم يك يتثبط عن نصرته، ولم يتربص عليه دائرة السوء، ولم يشهد عليه عيون الصحابة بأن الدم المهراق عنده، وأنه أولى رجل بأن يقتص منه ويؤخذ بدم عثمان.

 وأن عثمان لم يكن له خلف يتولى دمه غير معاوية.

 وأن عليا عليه السلام هو الذي قتل عثمان، أو آوى قاتليه.

 وأن معاوية لم يك غائبا عن ذلك الموقف، وكان ينظر إليه من كثب، فعلم بمن قتله، وبمن انحاز عن قتله.

 وأن ما ادعاه معاوية لم يكن إفكا وبهتا وزورا من القول متخذا عن شهادة مزورة واختلاق.

 وأن هذه الخصومة لها شأن خاص لا ترفع كبقية الخصومات إلى إمام الوقت.

 وأن قتال معاوية إنما كان لطلب قتلة عثمان فحسب لا لطلب الخلافة، وأنه لم يك يروم الخلافة في قتاله بعد ما كان يعلم نفسه إنه طليق وابن طليق، ليس ببدري و لا له سابقة، وأنه لا يستجمع شرايط الخلافة، وأنه لم تؤهله لها الخيرة والاجماع والانتخاب. هب أن الوقايع هكذا وقعت - يا بن حجر - ؟ ! واغضض عن كل ما هنالك من حقائق ثابتة على الضد مما سطر (1) فهلا كانت مناوئة معاوية مع خليفة وقته الإمام المنصوص والمجمع عليه خروجا عليه ؟ ! وهلا كان الحزب السفياني بذلك بغاتا أهانوا سلطان الله، و استذلوا الإمارة الحقة، وخلعوا ربقة الاسلام من أعناقهم ؟ ! فاستوجبوا إهانة الله، يجب قتالهم ودرأهم عن حوزة الإيمان، وكانوا مصاديق للأحاديث المذكورة في أول هذا البحث ص 272، 273.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع الجزء التاسع حتى تقف على حقيقة الأمر.

 

/ صفحة 307 /

إن معاوية لم يكن خليفة ولا انعقدت له بيعة، وإنما كان واليا عمن تقدم من - الذين تصرمت أيام خلافتهم، فلزمته بيعة أمير المؤمنين وهو بالشام كما كتب إليه بذلك الإمام عليه السلام، وكان تصديه للشؤون العامة واليا على أهل ناحيته محتاجا إلى أمر جديد أو تقرير لولايته الأولى من خليفة الوقت، وكل ذلك لم يكن، إن لم نقل: إن أمير المؤمنين عليه السلام عزله عما تولاه، وإنه سلام الله عليه أوفد عليه من يبلغه عنه لزوم الطاعة واللحوق بالجماعة، كما إنه عليه السلام كتب إليه بذلك.

اللاحق

السابق