الفصل الثالث

شبهات حول المهدي

( 136 )


( 137 )
إذا كانت هناك ثمة أُمور لم تعالج في فصول البحث المتقدمة ولها اتصال مباشر بمسألة الاعتقاد بالامام المهدي عليه السلام ، فانها لاتعدو محاولات التشكيك التي لازالت تتردد على لسان بعض المتطفلين على تراث الاِسلام الخالد ، وقد تعجب لو قلت لك : انهم لايعرفون من علوم الحديث الشريف ومصطلحه شيئاً ؛ ولهذا وقعوا في حبالة الشبهات وتذرعوا بحجج واهية هي أوهى من بيت العنكبوت، كما سيتضح ذلك من دراستها ومناقشتها في هذا الفصل وعلى النحو الآتي :

التذرع بخلو الصحيحين من أحاديث المهدي

ومن الذرائع الواهية التي تمسكوا بها في هذا المقام هو ان البخاري ومسلماً لم يرويا حديثاً في الاِمام المهدي عليه السلام (1).
وقبل مناقشة حجتهم تلك نود التأكيد على أُمور.
الاَول : في الصحيح المنقول عن البخاري انه قال عن كتابه الصحيح: أخرجت هذا الكتاب عن مائة الف حديث صحيح ـ وفي لفظ آخر : عن مائتي ألف حديث صحيح ـ وما تركته من الصحيح أكثر، فالبخاري اذن لم يحكم بضعف كل حديث لم يروه، بل ما حكم عليه بالصحة يزيد على مجموع ما أخرجه عشرات المرات.

____________
(1) انظر : الاِمام الصادق | أبو زهرة : 238 ـ 239، المهدي والمهدوية | أحمد أمين : 41.

( 138 )
الثاني : انه لايعرف عن عالم من أهل السنة قط قد قال بضعف ما لم يروه الشيخان، بل سيرتهم تدل على العكس تماماً. فقد استدركوا على الصحيحين الكثير من الاحاديث الصحيحة ووضعوا لاَجل ذلك الكتب.
الثالث : من مراجعة تعريفهم للحديث الصحيح لاتجده مشروطاً بروايته في الصحيحين أو أحدهما، وكذلك الحال في تعريفهم للخبر المتواتر، ومن هنا يعلم انه ليس من شرط صحة الخبر أو تواتره ان يكون راويه البخاري أو مسلماً أو كلاهما، بل وحتى لو اتفق البخاري ومسلم على عدم رواية خبر متواتر، فلا يقدح ذلك الاتفاق بتواتره عند أهل السنة، وخير ما يمثل هذا هو حديث العشرة المبشرة بالجنة كما هو معلوم عند أهل السنة الذين ذهبوا إلى تواتره ولم يروه البخاري ولا مسلم قط.
الرابع : إن من تذرع في انكار ظهور الاِمام المهدي عليه السلام بخلو الصحيحين من الاَحاديث الواردة بهذا الشأن، لا علم له بواقع الصحيحين كما سنوضحه في جواب هذا الاحتجاج، فنقول :
لايخفى على أحد، ان الاحاديث الواردة في الاِمام المهدي قد تعرضت لبيان مختلف الاَُمور كبيان اسمه الشريف ، وبعض أوصافه، وعلامات ظهوره، وطريقة حكمه بين الرعية وغير ذلك من الاَُمور الكثيرة الاَُخرى، ولاشك أنه ليس من الواجب التنصيص على لفظ (المهدي) في كل حديث من هذه الاحاديث، لبداهة معرفة المراد من دون حاجة إلى التشخيص. فمثلاً لو ورد حديث يبين صفة من صفات المهدي الموعود به في آخر الزمان عليه السلام مع التصريح بلفظ (المهدي)، ثم ذكر الموصوف بهذه الصفة في البخاري مثلاً لا بعنوان المهدي وانما بعنوان (رجل) مثلاً فهل يشك عاقل في أن الرجل المقصود هو

( 139 )
المهدي ؟ وإلاّ فكيف يعرف الاجمال في بعض الاَحاديث ؟ وهل هناك طريقة عند علماء المسلمين شرقاً وغرباً غير رد المجمل إلى المفصل سواء كان المجمل والمفصل في كتاب واحد أو كان كل منهما في كتاب.
واذا ما عدنا إلى الصحيحين سنجد ان البخاري ومسلماً قد رويا عشرات الاحاديث المجملة في المهدي عليه السلام ، وقد أرجع علماء أهل السنة تلك الاحاديث إلى الاِمام المهدي لوجود ما يرفع ذلك الاجمال في الاحاديث الصحيحة المخرجة في بقية كتب الصحاح أو المسانيد أو المستدركات.
بل ونجد أيضاً ما يكاد يكون صريحاً جداً بالامام المهدي في صحيحي البخاري ومسلم، وقبل ان نبين هذه الحقيقة نودُّ ان نقول بأنّ حديث : «المهدي حق ، وهو من ولد فاطمة» قد أخرجه أربعة من علماء أهل السنة الموثوق بنقلهم عن صحيح مسلم صراحة ، وعند الرجوع إلى طبعات صحيح مسلم المتيسرة لا تجد لهذا الحديث أثراً!!
أما من صرّح بوجود الحديث في صحيح مسلم وأخرجه عنه فهم :
1 ـ ابن حجر الهيتمي (ت|974 هـ) في الصواعق المحرقة ، الباب الحادي عشر، الفصل الاَول : ص 163.
2 ـ المتقي الهندي الحنفي (ت|975 هـ) في كنز العمال: ج 14 ص264 حديث 38662.
3 ـ الشيخ محمد علي الصبان (ت|1206 هـ) في اسعاف الراغبين: ص145.
4 ـ الشيخ حسن العدوي الحمزاوي المالكي (ت|1303 هـ) في مشارق الانوار : ص112 وعلى أية حال فإنّ قسماً من أحاديث الصحيحين لا يمكن تفسيره إلاّ بالامام المهدي عليه السلام .

( 140 )
ولم يكن هذا اجتهاداً منّا في فهم أحاديث الصحيحين، وانما هو ما اتفق عليه خمسة من شارحي صحيح البخاري كما سنوضحه في محله.

أحاديث الصحيحين المفسرة في المهدي :

1 ـ أحاديث خروج الدجال في الصحيحين :
اقتصر البخاري في صحيحه على رواية خروج الدجال وفتنته(1)بينما وردت في صحيح مسلم عشرات الاحاديث في خروج الدجال ، وسيرته، وأوصافه، وعبثه ، وفساده ، وجنده ، ونهايته(2).
وقد صرح النووي في شرح صحيح مسلم بأنّ هذه الاحاديث الواردة «في قصة الدجال ، حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده ، وانه شخص بعينه ابتلى الله به عباده ـ إلى أن قال ـ : هذا مذهب أهل السنة، وجميع المحدثين ، والفقهاء ، والنُّظار»(3).
أما علاقة هذه الاحاديث بظهور المهدي عليه السلام فتظهر من شهادة اعلام أهل السنة بتواتر أحاديث المهدي وظهوره في آخر الزمان وخروج عيسى عليه السلام معه فيساعده على قتل الدجال، وقد مرّت اقوالهم في اثبات تواتر تلك الاَحاديث.

2 ـ أحاديث نزول عيسى عليه السلام في الصحيحين :
أخرج البخاري ومسلم كلٌ بسنده عن أبي هريرة انه قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف انتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم
____________
(1) صحيح البخاري 4 : 205 كتاب الانبياء ، باب ما ذكر عن بني اسرائيل و9 : 75 كتاب الفتن باب ذكر الدجال .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 18 : 23 و 58 ـ 78 كتاب الفتن واشراط الساعة.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 18 : 58.

( 141 )
منكم؟»(1).
وفي صحيح مسلم بسنده عن جابر بن عبدالله قال : «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم [يقول] : لا تزال طائفة من أُمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، قال : فينزل عيسى بن مريم عليه السلام ، فيقول أميرهم تعال صلِّ لنا فيقول : لا، إنّ بعضكم على بعض أمراء تكرمة لهذه الاَُمّة»(2).
وإلى هنا يتضح ان امام المسلمين الذي سيكون موجوداً عند نزول عيسى بن مريم عليه السلام كما في الصحيحين انما هو أمير الطائفة التي لا تزال تقاتل على الحق إلى يوم القيامة كما في صحيح مسلم، بحيث يأبى عيسى من إمامة تلك الطائفة وأميرها في الصلاة تعظيماً واجلالاً وتكرمة لهم وهذا هو صريح حديث مسلم من غير تأويل.
واذا ما عدنا إلى كتب الصحاح الاَُخرى والمسانيد وغيرها نجد الروايات الكثيرة جداً التي تصرح بأنّ هذا الاِمام ـ أمير الطائفة التي تقاتل على الحق إلى يوم القيامة ـ هو الاِمام المهدي عليه السلام لاسواه.
منها : ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن سيرين : «المهدي من هذه الأُمة وهو الذي يؤم عيسى بن مريم»(3).
ومنها : ما أخرجه أبو نعيم عن أبي عمرو الداني في سننه بسنده عن حذيفة انه قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «... يلتفت المهدي وقد نزل عيسى ابن مريم كأنما يقطر من شعره الماء ، فيقول المهدي : تقدم صلِّ بالناس، فيقول عيسى : انما اقيمت الصلاة لك ، فيصلي خلف رجل من
____________
(1) صحيح البخاري 4 : 205 باب ماذكر عن بني اسرائيل، وصحيح مسلم 1 : 136 | 244 باب نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وقد وردت أحاديث اخرى بهذا المعنى في كل من البابين المذكورين.
(2) صحيح مسلم 1 : 137 | 247 باب نزول عيسى عليه السلام.
(3) المصنَّف | ابن أبي شيبة 15 : 198 | 19495 .

( 142 )
ولدي»(1)‌.
وبعد فلا حاجة للاطالة في ايراد الاحاديث الاَُخرى الكثيرة المبينة بأنّ المراد بالامام في حديث الصحيحين هو الاِمام المهدي عليه السلام (2).
وقد جمع معظم هذه الاحاديث السيوطي في رسالته (العرف الوردي في اخبار المهدي) المطبوعة في كتابه الحاوي للفتاوى ، أخرجها من كتاب الاربعين للحافظ أبي نعيم وزاد عليها ما فات منها على أبي نعيم كالاحاديث التي ذكرها نعيم بن حماد الذي قال عنه السيوطي : «وهو أحد الاَئمة الحفاظ ، وأحد شيوخ البخاري»(3).
أقول : ومن راجع شروح صحيح البخاري يعلم بأنهم متفقون على تفسير لفظة (الامام) الواردة في حديث البخاري بالاِمام المهدي .
فقد جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري التصريح بتواتر أحاديث المهدي اثناء شرحه لحديث البخاري المتقدم حتى قال : «وفي صلاة عيسى عليه السلام خلف رجل من هذه الاَُمّة ، مع كونه في آخر الزمان ، وقرب قيام الساعة، دلالة للصحيح من الاقوال : إن الارض لاتخلو من قائم لله بحجة»(4).
كما فسره في ارشاد الساري بشرح صحيح البخاري بالمهدي ، مصرحاً باقتداء عيسى بالامام المهدي عليهما السلام في الصلاة(5).
كما نجد هذا في عمدة القاري بشرح صحيح البخاري(6)، وأما في
____________
(1) الحاوي للفتاوى | السيوطي 2 : 81.
(2) راجع سنن الترمذي 5 : 152 | 2869 ، مسند أحمد 3 : 130 ، الحاوي للفتاوى 2 : 78 ، فيض القدير للمناوي 6 : 17 .
(3) الحاوي للفتاوى 2 : 80.
(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري 6 : 383 ـ 385.
(5) ارشاد الساري 5 : 419 .
(6) عمدة القاري بشرح صحيح البخاري 16 : 39 ـ 40 من المجلد الثامن.

( 143 )
فيض الباري فقد أورد عن ابن ماجة القزويني حديثاً مفسراً لحديث البخاري ثم قال :
«فهذا صريح في أن مصداق الاِمام في الاحاديث، هو الاِمام المهدي ـ إلى أن قال : ـ وبأيّ حديث بعده يؤمنون ؟»(1).
وأما في حاشية البدر الساري إلى فيض الباري فقد اطال في شرح الحديث المذكور مبيناً ضرورة رجوع شارح الأحاديث إلى أحاديث الصحابة الآخرين في كتب الحديث ذات الصلة بالحديث الذي يراد شرحه، وقد جمع من تلك الاحاديث المبينة لحديث البخاري ما حمله على التصريح بأن المراد بالامام هو الاِمام المهدي عليه السلام قال : «وقد بين هذا المعنى حديث ابن ماجة مفصلاً، واسناده قوي»(2).

3 ـ أحاديث من يحثي المال في صحيح مسلم :
أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن جابر بن عبدالله انه قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر أُمتي خليفة يحثي المال حثياً، لايعدّه عداً»(3).
وقد رواه من طرق أُخرى عن جابر ، وأبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (4)، وصفة إحثاء المال (مبالغة في الكثرة) ليس لها موصوف قط غير الاِمام المهدي عليه السلام في كتب أهل السنة ورواياتهم.
منها : ما أخرجه الترمذي وحسنه بسنده عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «إنَّ في أُمتي المهدي ـ إلى ان قال ـ :

____________
(1) فيض الباري على صحيح البخاري 4 : 44 ـ 47 .
(2) حاشية البدر الساري إلى فيض الباري 4 : 44 ـ 47.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 18 : 38 .
(4) صحيح مسلم 18 : 39.

( 144 )
فيجيء اليه الرجل فيقول : يا مهدي اعطني اعطني فيحثي المال له في ثوبه ما استطاع أن يحمله»(1).
وهذا هو المروي أيضاً عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أيضاً ومن عشرات الطرق(2).

4 ـ أحاديث خسف البيداء في صحيح مسلم :
أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن عبيد الله بن القبطية انه قال : «دخل الحارث بن أبي ربيعة ، وعبدالله بن صفوان ، وانا معهما على أُم سلمة أُم المؤمنين ، فسألاها عن الجيش الذي يخسف به ـ وكان ذلك في أيام ابن الزبير ـ فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعوذ عائذ في البيت ، فيبعث اليه بعث ، فاذا كانوا ببيداء من الارض خسف بهم»(3).
وقد يظن بعض الجهلاء ان هذا الحديث من وضع الزبيريين أبّان ما كان من أزمة عبدالله بن الزبير مع الامويين التي انتهت بقتله . ولكن الواقع ليس كذلك اذ روي الحديث من طرق شتى عن ابن عباس ، وابن مسعود، وحذيفة ، وأبي هريرة ، وجد عمرو بن شعيب ، وأُم سلمة ، وصفية، وعائشه، وحفصة، ونفيرة امرأة القعقاع وغيرهم من كبار الصحابة، مع تصحيح الحاكم لبعض طرقه على شرط الشيخين(4).

____________
(1) سنن الترمذي 4 : 506 | 2232.
(2) المصنف لابن أبي شيبة 15 : 196 | 19485 و 19486 ، ومسند أحمد 3 : 80 ، والمصنف لعبد الرزاق 11 : 371 | 20770، ومستدرك الحاكم 4 : 454، ودلائل النبوة للبيهقي 6 : 514، وتاريخ بغداد 10 : 48، وعقد الدرر للمقدسي الشافعي : 61 باب | 4 ، والبيان للكنجي الشافعي : 506 باب | 11، والبداية والنهاية 6 : 247 ، ومجمع الزوائد 7 : 314 ، والدر المنثور 6 : 58 ، والحاوي للفتاوى 2 : 59 و 62 و 63 و 64 .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 18 : 4 و5 و6 و7.
(4) مسند أحمد 3 : 37، سنن الترمذي 4 : 506 | 2232، ومستدرك الحاكم 4 : 520 وتلخيص المستدرك للذهبي 4 : 520، وأخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح كما نص على ذلك في عون المعبود شرح سنن أبي داود 11 : 380 شرح الحديث 4268.
وقد جمع السيوطي الكثير من طرق الحديث ومن رواه من الصحابة في الدر المنثور 6: 712 ـ 714 في تفسير الآية 51 من سورة سبأ.

( 145 )
وبالجملة فإنّ خسف البيداء يكون بالجيش الذي يقاتل الاِمام المهدي في لسان جميع الاحاديث الواردة في هذا الشأن وهي تكفي لتوضيح المراد بحديث مسلم ، قال في غاية المأمول : «وما سمعنا بجيش خسف به للآن ، ولو وقع لاشتهر أمره كاصحاب الفيل»(1).
اذن ، لابدّ من وقوع الخسف بأعداء المهدي ان عاجلاً أو آجلاً وهنالك سيخسر المبطلون.

التذرع بتضعيفات ابن خلدون لأحاديث المهدي
تذرع منكرو عقيدة ظهور الاِمام المهدي عليه السلام بتضعيفات ابن خلدون لبعض أحاديث المهدي، وللاَسف إنهم لم يلتفتوا إلى ردود علماء الدراية من أهل السنة على ابن خلدون، وتناسوا أيضاً تصريح ابن خلدون نفسه أثناء تضعيفه لبعض الاَحاديث الواردة في الاِمام المهدي بصحة بعضها الآخر.
قال الاستاذ الازهري سعد محمد حسن ـ تلميذ الاستاذ أحمد أمين ـ عن أحاديث المهدي : «ولقد أوسع علماء الحديث ونَقَدَتِه هذه المجموعة نقداً وتفنيداً، ورفضها بشدة العلاّمة ابن خلدون»(2).
ومثل هذا الزعم نجده عند اُستاذه أحمد أمين(3)، وكذلك عند أبي
____________
(1) غاية المأمول شرح التاج الجامع للاصول 5 : 341.
(2) المهدية في الاِسلام : 69.
(3) المهدي والمهدوية : 108.

( 146 )
زهرة(1)، ومحمد فريد وجدي(2)، وآخرين كالجبهان(3)، والسائح الليبي الذي قال : «وقد تتبع ابن خلدون هذه الاَحاديث بالنقد، وضعفها حديثاً حديثاً»(4).

حقيقة تضعيفات ابن خلدون:
مما لاشكَّ فيه، أنَّ ابن خلدون نفسه من القائلين بصحة بعض أحاديث المهدي وضعف بعضها الآخر، وهذا لم يكن اجتهاداً منا في تفسير كلام ابن خلدون بل الرجل صرّح بهذا في تاريخه كما سنوافيك بنقل نص كلامه. ويبدو لنا أن الاُستاذ أحمد أمين لم يرَ تصريح ابن خلدون بصحة بعض الاَحاديث، فأشار إلى تضعيفاته فقط، ثم نقل هؤلاء عنه ذلك مع صياغة جديدة في التعبير من دون مراجعة تاريخ ابن خلدون!
ثم لو فرضنا أن ابن خلدون لم يصرّح بصحة شيء من أحاديث المهدي، أفلا يكفي تصريح غيره من علماء الحديث والدراية بصحة أحاديث المهدي وتواترها ؟ مع أن اختصاص ابن خلدون هو التاريخ والاجتماع !! ثم ما هو المقدار الذي ضعّفه ابن خلدون حتى يُضخّم عمله بهذه الصورة ؟
إنه لم يضعّف سوى تسعة عشر حديثاً فقط من مجموع ثلاثة وعشرين حديثاً فقط، وهو المجموع الكلّي الذي تناوله ابن خلدون بالدراسة والنقد، لا أكثر ، وهو لم يذكر من الذين أخرجوا أحاديث المهدي غير
____________
(1) الاِمام الصادق : 239.
(2) دائرة معارف القرن العشرين 10 : 481.
(3) تبديد الظلام للجبهان : 479 ـ 480.
(4) تراثنا وموازين النقد | علي حسين السائح الليبي : 185. مقال منشور في مجلة كلية الدعوة الاسلامية في ليبيا، عدد | 10 لسنة 1993 م ـ طبع بيروت.

( 147 )
سبعة فقط وهم :
«الترمذي ، وأبو داود ، والبزّار ، وابن ماجة ، والحاكم ، والطبراني ، وأبو يعلى الموصلي»(1)، تاركاً بذلك ثمانية وأربعين عالماً ممن أخرج أحاديث المهدي أولهم ابن سعد صاحب الطبقات (ت|230 هـ) وآخرهم نور الدين الهيثمي (ت| 807 هـ) .
كما لم يذكر من الصحابة الذين اُسندت إليهم أحاديث المهدي إلاّ أربعة عشر صحابياً(2)، تاركاً بذلك تسعة وثلاثين صحابياً آخر كما فصّلنا ذلك في الفصل الاَول.
علماً بأنه لم يذكر من أحاديث الصحابة الاَربعة عشر إلاّ اليسير جداً، في حين تتبعنا مرويات أبي سعيد الخدري وحده ـ وهو من جملة الاربعة عشر ـ فوجدناها أكثر من العدد الكلي الذي تناوله ابن خلدون. بل وحتى الذي اختاره من أحاديث أبي سعيد الخدري لم يذكر سائر طرقه بل اكتفى باليسير منها لعدم علمه ببقية طرق الحديث الاَُخرى، ومن راجع ما ذكرناه من طرق أحاديث المهدي وقارنه بما في تاريخ ابن خلدون ـ الفصل 52 من المجلد الاَول ـ عَلِمَ علم اليقين بصحة ما نقول .
ومن هنا تعرض ابن خلدون إلى مؤاخذات عنيفة ، وردود مطوّلة ومختصره، وفي هذا الصدد يقول أبو الفيض الشافعي في (ابراز الوهم) في الرد على من تذرع بتضعيفات ابن خلدون : «في الناس اليوم ممن يخفى عليه هذا التواتر ويجهله ويبعده عن صراط العلم جهله ، ويصدّه من ينكر ظهور المهدي وينفيه ، ويقطع بضعف الاَحاديث الواردة فيه ، مع جهله بأسباب التضعيف ، وعدم إدراكه معنى الحديث الضعيف ، وتصوره
____________
(1) تاريخ ابن خلدون 1 : 555 الفصل ـ 52.
(2) تاريخ ابن خلدون : 556 .

( 148 )
مبادئ هذا العلم الشريف ، وفراغ جرابه من أحاديث المهدي الغنية ـ بتواترها ـ عن البيان لحالها والتعريف ، وإنما استناده في إنكاره مجرد ما ذكره ابن خلدون في بعض أحاديثه من العلل المزوّرة المكذوبة ، ولَمَزَ به ثقات رواتها من التجريحات الملفقة المقلوبة ، مع أنّ ابن خلدون ليس له في هذه الرحاب الواسعة مكان ، ولا ضرب له بنصيب ولاسهم في هذا الشأن، ولا استوفى منه بمكيال ولاميزان . فكيف يعتمد فيه عليه ، ويرجع في تحقيق مسائله اليه ؟! فالواجب : دخول البيت من بابه ، والحق: الرجوع في كل فن إلى أربابه ، فلا يقبل تصحيح أو تضعيف إلاّ من حفّاظ الحديث ونقّاده»(1).
ثم نقل بعد ذلك عن جملة من حفّاظ الحديث ونقّاده قولهم بصحة أحاديث المهدي وتواترها.
وقال الشيخ أحمد شاكر : «ابن خلدون قد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قحماً لم يكن من رجالها ، انه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمته تهافتاً عجيباً ، وغلط أغلاطاً واضحة . إنّ ابن خلدون لم يحسن فهم قول المحدّثين ، ولو اطّلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئاً مما قال»(2).
وقال الشيخ العباد : «ابن خلدون مؤرخ وليس من رجال الحديث فلا يعتد به في التصحيح والتضعيف، وإنما الاعتماد بذلك بمثل البيهقي، والعقيلي، والخطابي، والذهبي، وابن تيمية، وابن القيّم، وغيرهم من
____________
(1) إبراز الوهم المكنون : 443.
(2) الرد على من كذب بالاحاديث الصحيحة الواردة في المهدي : مقال للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد ، منشور في مجلة الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة العدد | 1 السنة | 12 برقم (46) سنة 1400 هـ .

( 149 )
أهل الرواية والدراية الذين قالوا بصحة الكثير من أحاديث المهدي»(1).
وعلى أية حال فإنّ حجة المتمسكين بتضعيفات ابن خلدون حجة داحضة لاعتراف ابن خلدون نفسه بصحة أربعة أحاديث من مجموع ما ذكره وهي :
1 ـ ما رواه الحاكم من طريق عون الاعرابي عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري . فقد سكت عنه ابن خلدون ولم ينقده بحرف واحد لوثاقة جميع رجاله عند أهل السنة قاطبة. وهو وإن لم يصرح بصحته إلاّ ان سكوته دليل على اعترافه بصحة الحديث(2).
2 ـ ما رواه الحاكم أيضاً من طريق سليمان بن عبيد ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري. قال عنه ابن خلدون : «صحيح الاسناد»(3).
3 ـ ما رواه الحاكم عن علي عليه السلام حول ظهور المهدي وصححه الحاكم على شرط الشيخين . قال ابن خلدون : «وهو إسناد صحيح كما ذكر»(4).
4 ـ ما رواه أبو داود السجستاني في سننه من رواية صالح بن الخليل، عن أُم سلمة . قال ابن خلدون عن سنده : «ورجاله رجال الصحيح لامطعن فيهم ولا مغمز»(5).

تضعيفات ابن خلدون بلغة الاَرقام :
إنَّ لغة الارقام الحسابية لاتقبل نقاشاً ولاجدلاً، وسوف نُخضع نتائج
____________
(1) مقال الشيخ عبد المحسن العباد الآنف الذكر.
(2) تاريخ ابن خلدون 1 : 564 من الفصل ـ 52.
(3) تاريخ ابن خلدون 1 : 564 .
(4) تاريخ ابن خلدون 1 : 565 .
(5) تاريخ ابن خلدون 1 : 568 .

( 150 )
البحث في تضعيفات ابن خلدون إلى تلك اللغة لنرى القيمة العلمية لعمله على جميع الافتراضات المحتملة ، وذلك بعد تصنيف أحاديث المهدي عليه السلام واستقرائها من ألف مجلد كما في (معجم أحاديث المهدي) ويقع في خمسة مجلدات اشتملت على مايأتي :
1 ـ المجلدان الاول والثاني: اشتملا على (560) حديثاً من الاحاديث المروية بطرق الفريقين والمسندة جميعها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
2 ـ المجلدان الثالث والرابع : اشتملا على (876) حديثاً ، اسندت إلى الاَئمة من أهل البيت عليهم السلام ، واشترك أهل السنة برواية الكثير جداً منها مع الشيعة الامامية.
3 ـ المجلد الخامس: اشتمل على (505) أحاديث ، وكلها من الاحاديث المفسِّرة للآيات القرآنية، وفي هذا المجلد تغطية وافية لجميع ما أورده المفسرون ـ من أهل السنة والشيعة ـ من أحاديث تفسيرية في الاِمام المهدي عليه السلام .
وبهذا يكون مجموع الاحاديث غير المفسرة للآيات (1436) حديثاً ومع المفسِّرة سيكون المجموع (1941) حديثاً.
اما عن طرقها جميعاً فلعلها تقرب من أربعة الاف طريق.
فاذا علمت هذا ، فاعلم أخي المسلم ان :
1 ـ مجموع أحاديث المهدي عليه السلام التي تناولها ابن خلدون بالنقد هي (23) حديثاً فقط .
2 ـ اسانيد هذه الاحاديث (28) اسناداً فقط .
3 ـ الصحيح منها باعتراف ابن خلدون كما مر أربعة أحاديث .
4 ـ الضعيف منها (19) حديثاً فقط .
اذن : فأحاديث المهدي عليه السلام التي لم تتناولها دراسة ابن خلدون هي

( 151 )
(1918) حديثاً منها (537) حديثاً مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم و(876) حديثاً مسنداً إلى أهل البيت عليهم السلام و(505) حديثاً مفسِّراً للآيات الكريمة في المهدي عليه السلام .
وبهذا يعلم ان العدد (23) لايشكل في الواقع إلاّ النسب التالية :
1 ـ 107،4 % من مجموع الاحاديث المسندة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
2 ـ 601،1 % من مجموع الاحاديث المسندة إلى النبي وأهل البيت عليهم السلام .
3 ـ 184،1 % من مجموع سائر الاحاديث .
أما لو كان ابن خلدون قد تناول بالنقد جميع أحاديث الاِمام المهدي عليه السلام لارتفع عدد الاحاديث الصحيحة (وهو أربعة عنده من مجموع 23) إلى الارقام التالية طبقاً للغة التناسب :
1 ـ (98) حديثاً صحيحاً، لو كان تناول بالنقد جميع ما أُسند إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
2 ـ (250) حديثاً صحيحاً ، لو كان تناوله لما أُسند إلى النبي وأهل بيته عليهم السلام .
3 ـ (338) حديثاً صحيحاً ، لو كان تناوله لسائر الاحاديث .
ولايخفى بأنّ العدد الاول منها يكفي للحكم بتواتر احاديث المهدي عليه السلام .
وأما عن الاحاديث المردودة عند ابن خلدون ، فلو قيست بما لم يتناوله منها، لكانت بالقياس إلى مجموعها تمثل النسب التالية :
1 ـ 392،3 % من مجموع الاحاديث المسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
2 ـ 320،1 % من مجموع ما أُسند إلى النبي وأهل بيته عليهم السلام .
3 ـ 978،0 % من مجموع سائر الاحاديث .

( 152 )
وبعد.. فكيف يدّعى بأنّ ابن خلدون قد ضعف جميع أحاديث المهدي عليه السلام ؟ هذا مع ما تقدم عنه بأنّه من المصرحين بصحة بعض الاَحاديث على الرغم من قلة ما تناوله منها.

حصر المهدي بعيسى بن مريم
ربما قد تذرع المنكرون من المستشرقين وغيرهم لظهور الاِمام المهدي عليه السلام في آخر الزمان بحديث محمد بن خالد الجندي الذي حصر المهدي بنبي الله عيسى عليه السلام ، ولم أجد أحداً تعرض لهذا الحديث من علماء الاِسلام إلاّ وقد سخر منه وانتقده، فهو مردود بالاتفاق، ولكي لاينطلي زيفه على أحد لابدّ من بيان حقيقته ، فنقول :
الحديث أخرجه ابن ماجة عن يونس بن عبد الاَعلى ، عن الشافعي، عن محمد بن خالد الجندي ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن البصري ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : «لايزداد الاَمر إلاّ شدّة ، ولا الدنيا إلاّ إدباراً ، ولا الناس إلاّ شُحّاً ، ولا تقوم الساعة إلاّ على شرار الناس ، ولا مهدي إلاّ عيسى بن مريم»(1).
وهذا الحديث لايحتاج في رده وإبطاله إلى عناء ، اذ تكفي مخالفته لجميع ما تقدّم من الاَحاديث المصرّح بصحّتها وتواترها ، ولو صحّ الاستدلال بكل مايروى على علاّته ، لكان علم الرجال وفن دراية الحديث لغواً يجلّ عنه علماء الاسلام ، وكيف لايكون كذلك ومعناه تصحيح الموضوعات ، والحكم على الكذابين بأنّهم من أعاظم الثقات،
____________
(1) سنن ابن ماجة 2 : 1340 | 4039، وقد أخرج ابن ماجة نفسه حديث : «المهدي حق وهو من ولد فاطمة» 2 : 1368 | 4086 ، وقد سبق وان ذكرنا من صححه أو من صرح بتواتره من أهل السنة .

( 153 )
وعلى المجاهيل بأنّهم من مشهوري الرواة ، وعلى النواصب بأنّهم من السادات ؟! ولما كان في الاِسلام حديث متواتر قط بعد خلط الثقة المأمون بالمجروح والمطعون ، ومزج الحابل بالنابل ، والسليم بالسقيم.
وهل لعاقل مسلم ان يصدق بدجّال من دجاجلة الرواة اسمه محمد بن خالد الجندي ؟ وهو الذي وضع إلى الجند ـ مسيرة يومين من صنعاء ـحديث الجند المشهور وضعه، وهو : «تعمل الرحال إلى أربعة مساجد : مسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد الاَقصى، ومسجد الجند»(1). فانظر كيف حاول استمالة قلوب الناس إلى زيارة معسكر الجند بعد أن مهّد له بشدّ الرحال إلى المساجد الثلاثة المقدسة عند جميع المسلمين؟ !
والعجب من الحافظ ابن ماجة كيف انطلت عليه زيادة محمد بن خالد الجندي عبارة : (ولامهدي إلاّ عيسى بن مريم) في هذا الحديث، مع أن نفس هذا الحديث له طرق صحيحة اُخرى لاتوجد فيها تلك الزيادة، منها ما أخرجه الطبراني والحاكم بسندهما عن أبي اُمامة وبنفس ألفاظ حديث ابن ماجة لكن من غير عبارة «ولامهدي إلاّ عيسى بن مريم» وقد صححه الحاكم فقال : «هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه»(2).
نعم أورد الحاكم حديث ابن ماجة مع زيادته أيضاً لكنه صرّح بأنّه إنما أورده في مستدركه تعجّباً لامحتجّاً به على الشيخين : البخاري ومسلم(3).
وقد تناول ابن القيم في (المنار المنيف) حديث : «ولامهدي إلاّ عيسى بن مريم» ونقل كلمات علماء أهل السنة بشأنه، وأنه مما تفرد به محمد بن خالد الجندي، ونقل عن الآبري (ت|363 هـ) قوله : «محمد بن خالد ـ هذا
____________
(1) تهذيب التهذيب 9 : 125 | 202.
(2) مستدرك الحاكم 4: 440 كتاب الفتن والملاحم، وانظر المعجم الكبير للطبراني 8: 214 | 7757.
(3) مستدرك الحاكم 4 : 441 ـ 442، كتاب الفتن والملاحم.

( 154 )
ـ غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل» وعن البيهقي : «تفرد به محمد بن خالد هذا، وقد قال الحاكم أبو عبدالله : مجهول ، وقد اختلف عليه في إسناده ، فروي عنه ، عن أبان بن أبي عياش ، عن الحسن ـ مرسلاً ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : فرجع الحديث إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول ، عن أبان بن أبي عياش وهو متروك ، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو منقطع . والاَحاديث على خروج المهدي أصح إسناداً»(1).
ونقل ابن حجر قدح أبي عمرو، وأبي الفتح الاَزدي بمحمد بن خالد(2).
وقال الذهبي : «قال الاَزدي : منكر الحديث ، وقال أبو عبدالله الحاكم: مجهول، قلت : حديث (لا مهدي إلاّ عيسى بن مريم) ، وهو خبر منكر أخرجه ابن ماجة»(3).
وقال القرطبي : «فقوله : ولا مهدي إلاّ عيسى، يعارض أحاديث هذا الباب ـ ثم نقل كلمات من طعن بمحمد بن خالد وأنكر عليه حديثه إلى أن قال ـ : «والاَحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة أصح من هذا الحديث، فالحكم لها دونه»(4).
وقال ابن حجر : «وصرح النسائي بأنّه منكر، وجزم غيره من الحفاظ بأنّ الاَحاديث التي قبله ـ أي الناصّة على أنّ المهدي من ولد فاطمة ـ أصح
____________
(1) المنار المنيف : 129|324 و : 130 | 325.
(2) تهذيب التهذيب 9 : 125 | 202.
(3) ميزان الاعتدال 3 : 535 | 7479.
(4) التذكرة 2 : 701.

( 155 )
إسناداً»(1)).
كما وصف أبو نعيم في الحلية هذا الحديث بالغرابة ، وقال : «لم نكتبه إلاّ من حديث الشافعي»(2).
وقال ابن تيمية : «والحديث الذي فيه : (لامهدي إلاّ عيسى بن مريم) رواه ابن ماجة ، وهو حديث ضعيف رواه عن يونس ، عن الشافعي ، عن شيخ مجهول من أهل اليمن ، لا تقوم باسناده حجّة ، وليس هو في مسنده بل مداره على يونس بن عبد الاَعلى ، وروي عنه أنّه قال : حُدّثت عن الشافعي ، وفي الخَلَعِيّات وغيرها : حدثنا يونس، عن الشافعي. لم يقل : حدثنا الشافعي ، ثم قال عن حديث محمد بن خالد الجندي : وهذا تدليس يدل على توهينه ، ومن الناس من يقول : ان الشافعي لم يروه» (3).
ولكثرة ما طُعن به محمد بن خالد الجندي حاول بعض أنصار الاِمام الشافعي أن يدرأ عن الشافعي رواية هذا الحديث متهماً تلميذ الشافعي بالكذب في رواية هذا الخبر عنه ، عن محمد بن خالد الجندي ، مدّعيا أنّه رأى الشافعي في المنام وهو يقول : «كذب عليَّ يونس بن عبد الاَعلى، ليس هذا من حديثي»(4).
وقد فنّد أبو الفيض الغماري حديث : (ولامهدي إلاّ عيسى بن مريم) بثمانية وجوه هي في غاية الجودة والمتانة(5).

____________
(1) الصواعق المحرقة : 164.
(2) حلية الاولياء 9 : 61 .
(3) منهاج السنّة | ابن تيمية 4 : 101 ـ 102.
(4) الفتن والملاحم | ابن كثير : 32 .
(5) إبراز الوهم المكنون : 538.

( 156 )

التذرع بدعاوى المهدوية السابقة

احتج اللامهدويون بدعاوى المهدوية السابقة في إنكار عقيدة ظهور الاِمام المهدي عليه السلام في آخر الزمان ، كادعاء الحسنيين مهدوية محمد بن عبدالله بن الحسن ، والعباسيين مهدوية المهدي العباسي ، ونحو ذلك من الادعاءات الاَُخرى كادعاء مهدوية ابن تومرت، أو المهدي السوداني ، أو محمد بن الحنفية رضي الله عنه .
وهذا الاحتجاج يبتني بالدرجة الاساس على قياس فكرة ظهور المهدي بتلك الدعاوى المهدوية الباطلة، وليس هناك من ريب في ان هذا الادعاء هو مجرد اصطناع موازنة خادعة بين الباطل من جهة والحق من جهة أُخرى ، ثم الخلط بين هذا وذاك .
أما أولاً : فانه لم تحصل أية علامة من علامات ظهور المهدي في حياة فرد واحد من أولئك الذين ادُّعِيَ لهم المهدوية، وقد مر بعض هذه العلامات بروايات الصحيحين .
وأما ثانياً : فلثبوت وفاة هؤلاء جميعاً، ولايوجد أحد من المسلمين يعتقد بحياتهم.
وأما ثالثاً : فانهم لم يكونوا في آخر الزمان، وهو شرط ظهور الاِمام المهدي عليه السلام ، ولايعرف أحد منهم قد ملاَالدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .
وأما رابعاً : وهو الاَهم ، فانه لو صح هذا الاحتجاج لبطلت العدالة ، اذ ادعاها طواغيت الارض كلهم من فرعون مصر إلى فراعين عصرنا، ولحكمنا على العلماء بالجهل بدعوى أدعياء العلم من الجهلاء على طول

( 157 )
التاريخ ، ولصار الشجاع في نظرنا جباناً والكريم بخيلاً ، والحليم سفيهاً ، اذ ما من صفة كريمة إلاّ وقد ادّعاها البعض فيه زوراً.
وإذا ما عدنا إلى قضية (المهدي) نجدها واحدة من أهم القضايا التي دوّخت بصداها ذوي الاَطماع السياسية، فلا جرم أن يدّعيها البعض لاَنفسهم أو يروّجها لهم أتباعهم لتحقيق مآربهم .
وكما ان العاقل لاينكر وجود الحق بمجرد ادّعاء من لايستحقه، فكذلك ينبغي عليه أن لاينكر ظهور المهدي المبشّر به في آخر الزمان على لسان أكرم ما خلق الله عزّ وجل ، نبينا الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، بمجرد دعاوى المهدوية الباطلة ، هذا مع تصريح علماء الاِسلام بصحة الكثير من أحاديث المهدي المروية بطرق شتى بما يفيد مجموعها التواتر ، كما ارسل بعضهم تواترها ارسال المسلّمات كما تقدم في هذا البحث.
وبعد أن انكشف واقع هذه الشبهات ، وأصبح ساقها هشيماً ، وعودها حطاماً ، وبناؤها ركاماً ، بقيت شبهة أُخرى ، خلاصتها معارضة طول عمر الاِمام المهدي للعقل والعلم.
وهذه الشبهة هي من أهم ما تمسكوا به في المقام ، وسوف نقف عندها بالمقدار الذي يسمح به البحث في فصله الاَخير ، لكي يتضح بجلاء أن تلك الشبهة مخالفة لمنطق العقل والعلم ، مؤكدين على ان للعقل حدوداً تستقل عن رغبات الفرد وأهوائه الشخصية وميوله واتجاهاته ، واحكاماً يستسيغها جميع العقلاء ولايقتصر قبولها على عقل زيد أو عمرو.
فهناك فارق كبير جداً بين ما هو ممتنع الوقوع في نفسه بحيث لايمكن ان يقع في أي حال من الاحوال حتى على أيدي الانبياء والاوصياء عليهم السلام ، كاجتماع النقيضين ، وبين ما هو ممكن الوقوع في نفسه

( 158 )
وان لم تجرِ العادة بوقوعه ، مع التأكيد أيضاً على أنَّ المحال العقلي ليس كالمحال العادي من حيث الوقوع وعدمه، ولكن خلط هؤلاء بين المحالين أدى إلى الزعم بأنّ كل ما لم يجرِ في العادة انما هو من المحال العقلي لعدم قدرتهم على التمييز بينهما.
وسوف نبرهن في الفصل الآتي على ان ما تمسكوا به لايصح حجة لا في منطق العقل ولا في منطق العلم على حدٍ سواء.

( 159 )

الفصل الرابع

المهدي ومنطق العقل والعلم

( 160 )


( 161 )

إنَّ المنكرين للامام المهدي بالتشخيص الذي حددناه ـ أي بكونه محمداً نجل الاِمام الحسن العسكري عليه السلام ـ ينطلقون من دوافع ومنطلقات بعيدة عن منهج الاِسلام في الدعوة الى الايمان بالعقائد؛ فمنهج الاِسلام كما يقوم على العقل والمنطق، فإنه يعتمد على الفطرة ويستند الى الغيب.
والايمان بالغيب جزءٌ من عقيدة المسلم إذ تكررت الدعوة قرآناً وسنّةً فمن القرآن الكريم، قوله تعالى : (
ألم ذلك الكتاب لاريب فيه هدىً للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ...)(1).
وقوله تعالى : (
تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ...)(2)وفي السنّة النبوية مئات الروايات المؤكدة على الايمان بالغيب والتصديق بما يُخبر به الرُسل والاَنبياء . وهذا الايمان بالغيب لا تصحُّ عقيدة المسلم بإنكاره سواء تعقَّله وأدرك أسراره وتفصيلاته أم لم يستطع الى ذلك سبيلاً ، كما هو الامر مثلاً بالنسبة الى الايمان بالملائكة وبالجنّ وبعذاب القبر ، وسؤال الملكين في القبر ، الى غير ذلك من المغيبات التي ذكرها القرآن أو أخبر بها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونقلها إلينا الثقاة العدول المؤتمنون ، ومن جملة ذلك بل من أهمها قضية الاِمام المهدي الذي سيظهر في آخر الزمان ليملاَالاَرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.

____________
(1) سورة البقرة : 2 | آية 1 ـ 3 .
(2) سورة هود 11 | 49 .

( 162 )
فالمهدي قد نطقت به الصحاح والمسانيد والسنن فلا يسعُ مسلماً إنكاره ، لكثرة الطرق ووثاقة الرواة ودلائل التاريخ والمشاهدة الثابتة لشخصه كما حقق في محلّه من هذا البحث.
ومن هنا وجدنا المنكرين ، سواء الذين تأثروا بمناهج الغرب، ودراسات المستشرقين ، أم ممن نزعه عِرقُ التعصب لما توارثه عن سلفه، حاولوا جميعهم ـ بعد أنْ أعيتهم الحيلة ، واُسقط ما في أيديهم إزاء الاَدلة النقلية المتظافرة ، والبراهين الساطعة ، والاعترافات المتتالية بشخص المهدي الموعود ـ أن يثيروا بعض الشبهات الهزيلة ، والتلبيسات الباطلة لصرف الاَُمّة المسلمة عن القيام بدورها ، والنهوض بمسؤلياتها في مرحلة الانتظار والترقب ، متبعين في ذلك مغالطات مفضوحة ؛ إذ زعموا أن طول عمر المهدي وما يتصل به يتعارض مع العلم ومنطق العقل والواقع. وسيتضح للقارىَ ـ بتسديد الله تعالى وتوفيقه ـ كيف أن منطقهم ساقط بحسب موازين العلم وأُصول المنطق الحق والمنهج السليم .
ولعل أهم الشبهات التي تثار هنا هي مسألة صغر سنّ الاِمام ، وطول عمره، والفائدة من الغيبة بالنسبة له ، ومسألة استفادة الاَُمّة المسلمة منه وهو مستور غائب.
وسنحاول مناقشة ذلك وفق المنطق العلمي والدليل العقلي.

السؤال الاَول : كيف كان اماماً وهو في الخامسة من عمره ؟
والجواب : إنَّ الاِمام المهدي عليه السلام خَلَفَ أباه في إمامة المسلمين، وهذا يعني أنّه كان إماماً بكلّ ما في الاِمامة من محتوىً فكري وروحي في وقتٍ مبكر جداً من حياته الشريفة.
والاِمامة المبكرة ظاهرة سَبَقَهُ إليها عدد من آبائه عليهم السلام ، فالاِمام الجواد محمد بن علي عليه السلام تولّى الاِمامة وهو في الثامنة من عمره ، والاِمام علي

( 163 )
بن محمد الهادي عليه السلام تولّى الاِمامة وهو في التاسعة من عمره ، والاِمام أبو محمد العسكري وهو والد الاِمام المهدي المنتظر تولّى الاِمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره ، ويلاحظ أن ظاهرة الاِمامة المبكرة بلغت ذروتها في الاِمام المهدي والاِمام الجواد، ونحن نسمّيها ظاهرة لاَنّها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهدي عليهم السلام تشكل مدلولاً حسيّاً عملياً عاشه المسلمون، ووعوه في تجربتهم مع الاِمام بشكل وآخر ، ولايمكن أن يُطالب بإثبات ظاهرة من الظواهر هي أوضح وأقوى من تجربة أُمّة، ونوضح ذلك ضمن النقاط الآتية :
1 ـ لم تكن إمامة الاِمام من أهل البيت عليهم السلام مركزاً من مراكز السّلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الاَبِ إلى الابن ، ويدعمها النظام الحاكم كما كان الحال في الامويين والفاطميين والعباسيّين ، وإنّما كانت تكتسب ولاءَ قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي والاِقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الاِمامة لزعامة الاِسلام وقيادته على أُسس فكرية وروحية.
2 ـ إنَّ هذه القواعد الشعبية بُنيت منذُ صدر الاسلام ، وازدهرت واتّسعت على عهد الاِمامين الباقر والصادق عليهما السلام وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الاِمامان، في داخل هذه القواعد، تشكل تياراً فكرياً واسعاً، في العالم الاسلامي يضمُّ المئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الاسلامية والبشرية المعروفة وقتئذٍ، حتى قال الحسن بن علي الوشاء : «فإنّي أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجدَ الكوفة ـ تسعمائة شيخٍ كلٌّ يقول حدثني جعفر بن محمد»(1).

____________
(1) رجال النجاشي : 40 | 80 في ترجمة الحسن بن علي بن زياد الوشاء.

( 164 )
3 ـ إنَّ الشروط التي كانت هذه المدرسة، وما تمثله من قواعد شعبية في المجتمع الاسلامي ، تؤمن بها ، وتتقيد بموجبها في تعيين الاِمام والتعرّف على كفاءته للاِمامة شروط شديدة ، لاَنها تؤمن بأن الاِمام لايكون إماماً إلاّ إذا كان معصوماً وكان أعلم علماء عصره .
4 ـ إنَّ المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدّم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الامامة ؛ لاَنّها كانت في نظر السلطة المعاصرة لها تشكل خطاً عدائياً ، ولو من الناحية الفكرية على الاَقل ، الاَمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذٍ وباستمرار تقريباً بحملات من التصفية والتعذيب ، فَقُتِل من قُتِل ، وسُجنَ من سُجِنَ ، ومات المئات في ظلمات المعتقلات . وهذا يعني أن الاعتقاد بامامة أئمة أهل البيت عليهم السلام كان يكلفهم غالياً ، ولم يكن له من الاِغراءات سوى ما يُحسُّ به المُعْتَقِد أو يفترضه من التقرّب إلى الله تعالى والزلفى عنده.
5 ـ إنَّ الاَئمة الذين دانت هذه القواعد الشعبية لهم بالاِمامة، لم يكونوا معزولين عنها، ولامتقوقعين في بروجٍ عاجية عالية شأن السلاطين مع شعوبهم ، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلاّ أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجنٍ أو نفي ، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدّثين عن كل واحدٍ من الاَئمة الاَحدَ عشرَ من آباء المهدي عليه السلام ، ومن خلال ما نُقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الاِمام ومعاصريه ، وما كان يقوم الاِمام به من أسفار من ناحيةٍ ، وما كان يبثّهُ من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الاسلامي من ناحية أُخرى ، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنورة عندما يؤمّون الديار المقدّسة من كلِّ مكان لاَداء فريضة الحج، كل ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحةٍ بين الاِمام وبين قواعده الممتدة في أرجاء العالم الاِسلامي بمختلف

( 165 )
طبقاتها من العلماء وغيرهم .
6 ـ إنَّ السلطة المعاصرة للاَئمة عليهم السلام كانت تنظر إليهم والى زعامتهم الروحية بوصفها مصدر خطرٍ كبير على كيانها ومقدّراتها، وعلى هذا الاَساس بذلت كلَّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة، وتحملت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات ، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك، وكانت حملات المطاردة والاعتقال مستمرة للائمة أنفسهم على الرغم مما يخلّفه ذلك من شعور بالاَلم أو الاشمئزاز عند المسلمين ، ولاسيما الموالين على اختلاف درجاتهم.
وإذا اخذنا بنظر الاعتبار هذه النقاط الست ، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشك ، أمكن أن نخرجَ بالنتيجة الآتية :
إنَّ ظاهرة الاِمامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وَهماً من الاَوهام؛ لاَنَّ الاِمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين، ويدينُ له بالولاء والاِمامة كل ذلك التيار الواسع لابدَّ أن يكون في أعلى الدرجات والمراتب من العلم والمعرفة وسعة الاُفق والتمكّن من الفقه والتفسير والعقائد ، لاَنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنعَ تلك القواعد الشعبية بإمامته ، مع ما تقدّم من أن الاَئمة كانوا في مواقع تتيحُ لقواعدهم التفاعل معهم ، وللاَضواء المختلفة أن تُسلط على حياتهم وموازين شخصيتهم ، فهل ترى أن صبيّاً يدعو إلى إمامة نفسه وينصب منها علماً للاسلام وهو على مرأىً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية ، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تكلّف نفسها اكتشاف حاله، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الاِمامة المبكرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقييم هذا الصبيّ الاِمام ؟

( 166 )
وهَبْ أنَّ الناس لم يتحركوا لاستطلاع الموقف، فهل يمكن أن تمرَّ المسألة أياماً وشهوراً بل أعواماً دون أن تتكشّف الحقيقة على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبيّ الاِمام وسائر الناس ؟
وهل من المعقول أن يكون صبيّاً في فكره وعلمه حقاً ثم لايبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل ؟
واذا افترضنا أنَّ القواعد الشعبية لامامة أهل البيت لم يُتَح لها أن تكتشف واقع الاَمر ، فلماذا سكتت السلطة القائمة ولم تعمل على كشف الحقيقة إذا كانت في صالحها ؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الاِمام الصبيّ صبيّاً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان ؟ وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدّم الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته، وتبرهن على عدم كفاءته للاِمامة والزعامة الروحية والفكرية. فلاِن كان من الصعب الاِقناع بعدم كفاءة شخص في الاَربعين أو الخمسين لتسلّم الاِمامة، فليس هناك صعوبة في الاِقناع بعدم كفاءة صبي اعتيادي مهما كان ذكياً وفطناً للاِمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الاِمامية وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ.
إنَّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة هو أنها أدركت أنَّ الاِمامة المبكرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً.
والحقيقة أنها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة ـ أي تعريضه للاختبار ـ فلم تستطع ، والتأريخ يحدّثنا عن محاولات من هذا القبيل وعن فشلها، بينما لم يحدّثنا إطلاقاً عن موقف تزعزت فيه ظاهرة الاِمامة المبكّرة أو واجه فيه الصبيّ الاِمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.

( 167 )
وهذا معنى ما قلناه من أنَّ الاِمامة المبكّرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت عليهم السلام ، وليست مجرّد افتراض، كما أنَّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربانية ، ويكفي مثالاً لظاهرة الاِمامة المبكّرة في التراث الرباني: النبي يحيى عليه السلام ، قال تعالى : ( يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيناهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً..)(1).
ومتى ثبت أن الاِمامة المبكّرة ظاهرة واقعية وموجودة فعلاً في حياة أهل البيت ، لم يَعُدْ هناك اعتراض فيما يخصّ حياة المهدي عليه السلام ، وخلافته لاَبيه وهو صغير.

السؤال الثاني : طول العمر
إن أهم مايثيرونه في هذا المجال ، ويروّجون له باستمرار قديماً وحديثاً، هو قولهم : إذا كان المهدي يُعبّرُ عن إنسان حيّ عاصرَ الاَجيال المتعاقبة منذ أكثر من أحدَ عشرَ قرناً فكيف تأتّى له هذا العمر الطويل ؟ وكيف نجا من القوانين الطبيعية التي تحتمّ مروره بمرحلة الشيخوخة (2)!!
ومن الجائز أن نطرح الشبهة بصورة سؤالٍ كأن يقال : هل بالاِمكان أن يعيش الانسانُ قروناً طويلة ؟!
وللاِجابة عن هذا السؤال لابدَّ من التمهيد ببحث مسألة الاِمكان هنا. فهناك ثلاثة أنواع متصورة للاِمكان :
الاَول : ما يصطلح عليه بالاِمكان العملي، ويُراد به ما هو ممكن
____________
(1) سورة مريم : 19 | 12. وقد مرّ في الفصل الثاني برقم 5 و 8 اعتراف أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي، وأحمد بن يوسف القرماني الحنفي بان المهدي عليه السلام اُعطي الحكمة وهو صبيٌّ، فراجع.
(2) هذه الشبهة مطروحة في كتب العقائد منذ القرون البعيدة، وقد ذكرها وتصدى للاجابة عنها كبار علماء الاِماميّة، بوجوهٍ جديدة ومن أبعاد مختلفة، ونحن نتعرّض لبعضها فقط.

( 168 )
فعلاً وواقعاً. أي له تحقق ووجود ظاهر ومتعين .
والثاني : مايصطلح عليه بالامكان العلمي، ويُراد به ما هو غير ممتنعٍ من الناحية العلمية الصِرفة، أي أنَّ العلم لايمنع وقوعه وتحققه ووجوده فعلاً.
والثالث : مايصطلح عليه بالامكان المنطقي، ويُراد به ما ليس مستحيلاً عقلاً، أي أنَّ العقل لايمنع وقوعه وتحققه .
واستناداً الى هذا نعرض المسألة كالآتي مبتدئين بالاِمكان المنطقي فنقول :
هل إنَّ امتداد عمر الانسان مئات السنين ممكن منطقياً، أي ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية ؟
والجواب : نعم بكل تأكيد ، فقضية امتداد العمر فوق الحدّ الطبيعي أضعافاً مضاعفةً ليست في دائرة المستحيل ، كما هو واضح بأدنى تأمل. نعم هو ليس مألوفاً ومشاهداً ، ولكن هناك حالات ، نقلها أهل التواريخ، وتناقلتها بعض النشرات العلمية ، تجعل الانسان لايستغرب ولايُنكر ، على أنَّ الغرابة ترتفع تماماً عندما يقرع سمعَ المسلم صوتُ الوحي ومنطوق القرآن في النبي نوح عليه السلام : (
وَلَقَدْ أرْسَلْنَا نوُحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَاماً)(1)ولتقريب مسألة الامكان بهذا المعنى نضربُ مثالاً كالآتي: لو أنَّ أحداً قال لجماعةٍ إني أستطيع أن أعبرَ النهر ماشياً ، أو أجتاز النارَ دون أن أُصابَ بسوء ، فلا بدَّ أن يستغربوا وينكروا ، لكنه لو حقّق ما قاله بالفعل فعبر النهر ماشياً أو اجتاز النار بسلام ؛ فإنَّ انكارهم واستغرابهم سيزول عند ذلك . فلو جاء آخر وقال مثلَ مقالة الاَول ، فإنَّ درجة الاستغراب ستقلُّ ، وهكذا لو جاء ثالث ورابع وخامس ، فإنَّ ما وقع
____________
(1) العنكبوت : 29 | 14.

( 169 )
منهم من الاستغراب أوّل مرّة سوف لايبقى على حالته وقوّته في المرة الخامسة ، بل يضعف جداً الى أنْ يزول.
وهكذا نقول في مسألتنا ، فإنَّ القرآن قد أخبر : أن نوحاً عليه السلام لبثَ في قومه ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً ، وهذا غير عمره قبل النبوّة ! وأن عيسى عليه السلام لم يمت وإنما رفعه الله إليه كما في قوله تعالى : (
وَقَوْلِهِمْ إنّا قَتَلْنَا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وما صَلَبُوه وَلَكِنْ شُبِّه لَهُمْ وإِنّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فيهِ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مَالَهُم بِهِ من عِلْمٍ إلاّ اتباع الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَل رَفَعَهُ اللهُ إليهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكيماً )(1).
وأيضاً فقد جاء في روايات الصحيحين (البخاري ومسلم) أنّه سينزل إلى الاَرض، وكذلك جاء فيهما أن الدجال موجود حي(2).
وعليه فعندما تتحدث الروايات الصحيحة ويشهد الشهود ، وتتوالى الاعترافات بوجود (المهدي) من عترة الرسول الاَكرم ، من ولد فاطمة، نجل الحسن العسكري الذي ولد سنة ( 255 هـ ) ، فسوف لايبقى عند ذلك وجه للاستغراب والانكار إلا عناداً واستكباراً .
وقد جاء في تفسير الرازي : «قال بعض الاَطباء : العمر الاِنساني لايزيد على مائة وعشرين سنة ، والآية تدلّ على خلاف قولهم ، والعقل يوافقها، فإنَّ البقاء على التركيب الذي في الاِنسان ممكن لذاته وإلاّ لما بقى ، ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن ؛ لاَنَّ المؤثر فيه إنْ كان واجب الوجود فظاهر الدوام، وإن كان غيره فله مؤثر ، وينتهي الى الواجب وهو دائم ، فتأثيره
____________
(1) النساء : 4 | 157 ـ 158.
(2) فصلنا الحديث عن أحاديث نزول عيسى وأحاديث خروج الدجال في الصحيحين (البخاري ومسلم) وذكرنا من اعتبرها عقيدة ثابتة لاَهل السنة مع تصريحهم ببقاء الدجال حياً إلى آخر الزمان وان عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان ليساعد الاِمام المهدي عليه السلام على قتله، راجع الفصل الثالث (التذرع بخلو الصحيحين من أحاديث المهدي).

( 170 )
يجوز أن يكون دائماً . فإذن البقاء ممكن في ذاته، فإن لم يكن فلعارض، لكن العارض ممكن العدم ، وإلاّ لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع. فظهر أنَّ كلامهم على خلاف العقل والنقل»(1).
هكذا برهن الرازي على جواز طول عمر الانسان بخلاف المعتاد كما هو الثابت في طول عمر عيسى عليه السلام ، والبرهان نفسه يصح الاستدلال به على طول عمر المهدي عليه السلام ، ويقرّب هذا الاستدلال اتفاق الصحاح وغيرها على نزول عيسى في آخر الزمان لمساعدة المهدي على قتل الدجال وقد عرفت الجواب عن سؤال : من هو الاِمام المهدي ؟ مفصلاً.
وننقل الكلام الى الامكان العملي:
ونتساءل :
هل إنَّ الامكان العملي بالنسبة الى نوع الانسان متاحٌ الآن ، وتساعد عليه التجربة أم لا ؟
والجواب :
إنَّ التجارب المعاصرة في ضوء الامكانات المتاحة والظروف الموجودة لم تنجح لحد الآن في تحقيق مثل هذه الحالة ، أي اطالة عمر الانسان إلى حدٍّ أكثر من ضعفٍ أو ضعفي العمر الطبيعي ، وهذا أمرٌ مشهود لايحتاج إلى برهان .
وهذا لايدل على عدم طول عمر الانسان ، لان الامكان العملي ينحصر بمحاولات اطالة العمر الطبيعي للانسان بيد الانسان نفسه ، إلاّ أن الاعمار بيد الله عزّ وجل ، اذن تدخل الانسان في إطالة العمر على خلاف التقدير غير ممكن.
نعم انه سبحانه يوفر الاَسباب الكفيلة بادامة حياة المعمرين إلى حين
____________
(1) التفسير الكبير | الرازي 25 : 42.

( 171 )
أجلهم، ودور العلم هنا اكتشاف تلك الاَسباب لا أكثر إذ ليس بمقدوره إبداع الاَسباب لا نحصارها بيده عزوجل بلا خلاف ، وعلى هذا يُفسر الامكان العلمي الآتي الذي ننقل الكلام اليه ، فنتساءَل :
هل إنَّ زيادة عمر إنسان أكثر من الحدّ الطبيعي المعتاد ممكن علمياً أم لا؟!
والجواب :
أولاً : نعم هي في دائرة الامكان العلمي ، ولدينا شواهد وأرقام كثيرة تؤكد إمكانها علمياً ، منها :
1 ـ إنَّ التجارب العلمية آخذةٌ بالازدياد لاِطالة عمر الانسان أكثر من المعتاد، وهذه التجارب حثيثة وجادة لتعطيل قانون الشيخوخة ، فقد جاء في مجلة المقتطف المصرية ، الجزء الثاني من المجلد 59، الصادرة في آب (اغسطس) 1921 م ، الموافق 26 ذي القعدة سنة 1339 هـ ص206 تحت عنوان ( خلود الانسان على الارض ) ما هذا لفظه :
قال الاستاذ (ريمند بول) أحد أساتذة جامعة جونس هبكنس بأمريكا : «إنه يظهر من بعض التجارب العلمية أنَّ أجزاء جسم الانسان يمكن أن تحيا الى أيّ وقتٍ أُريد ، وعليه فمن المحتمل أن تطول حياة الانسان الى مائة سنة ، وقد لايوجد مانع يمنع من إطالتها الى ألف سنة» .
وذكرت هذه المجلة في العدد الثالث من المجلد 59 الصادر في أيلول من نفس العام ص 239، «إنه في الاِمكان أن يبقى الانسان حيّاً أُلوفاً من السنين إذا لم تعرض عليه عوارض تصرم حبلَ حياته ، وقولهم هذا ليس مجرد ظن ، بل نتيجة عملية مؤيدة بالامتحان».
ونكتفي بهذا القدر في تأييد ماذكرناه من الامكان العلمي، الذي يسعى العلماء جاهدين لتحويله الى إمكان عملي واقعي فعلي.

( 172 )
2 ـ وفي كتاب صدر حديثاً بعنوان حقائق أغرب من الخيال الجزء الاَوّل ص : 24 نشر مؤسسة الايمان ـ بيروت ، ودار الرشيد | دمشق .
جاء فيه : توفي (بيريرا) في عام 1955 م في وطنه الاَُم مونتريا في سن 166 عاماً ، وقد شهد على عمره أصدقاؤه ، وسجلاّت مجلس البلدية، وبيريرا نفسه الذي استطاع أن يتذكر بوضوح كبير معركة كاراجينا (حدثت في عام 1815 م) ! وفي نهاية حياته أُحضر الى نيويورك حيث فحصه جمع من الاَطباء المختصين، ومع أنهم وجدوه محتفظاً بضغط دم رجل شاب، ونبض شرياني صحيح وقلب جيد ، وعقل شاب ، فقد قرروا أنه رجل عجوز جداً أكثر من 150 عاماً.
وجاء في ص 23 ، أن توماس بار عاش 162 عاماً .
على أنّ السجستاني صاحب السنن قد ألّف كتاباً باسم (المعمّرون) ذكر فيه الكثير من المعمرين ، وفيهم من تجاوزت أعمارهم خمسمائة سنة.
3 ـ إنَّ مجرد إجراء التجارب من قبل الاَطباء للتعرف على مرض الشيخوخة ، وأسباب الموت ، والمحاولات الدائبة من قِبَلهم ونجاحها ولو بقدر محدود لاِطالة عمر الانسان، لهو دليل على الاِمكان ، وإلاّ لكان تصرفهم عبثاً ، خلاف العقل.
«وفي ضوء ذلك كله لايبقى مبرر منطقي للاستغراب والانكار بخصوص (قضية المهدي) اللهمّ إلا أن يسبق (المهدي) العلمَ نفسه، فيتحول الامكان النظري (العلمي) الى امكان عملي في شخصه، قبل أن يصلَ العلمُ في تطوره الى مستوى القدرة الفعلية. وهذا أيضاً لايوجد مبررٌ عقليٌّ لاستبعاده وإنكاره ؛ إذ هو نظير من يسبق العلمَ في اكتشاف دواءٍ للسرطان مثلاً . ومثل هذا السِبق في الفكر الاسلامي قد حصل في أكثر من

( 173 )
مفردةٍ وعنوانٍ ، فقد سجّلَ القرآن الكريم نظائر ذلك حين أوردَ وأشارَ الى حقائق علمية تتعلق بالكونِ وبالطبيعةِ وبالانسانِ ، ثم جاءت التجارب العلمية الحديثة لتزيحَ عنها الستار أخيراً . ثم لماذا نذهب بعيداً وأمامنا القرآن الكريم يصرّح (بالامكان العملي) فيما يتعلق بعمر نوحٍ عليه السلام »(1)؟
وكذلك صرّحت الآثار النبوية بوجود أشخاص أحياء منذ قرون متطاولةٍ ؛ كالخضرِ ، والنبي عيسى عليه السلام ، والدجّال على ما نقله مسلمٌ في صحيحه من حديث الجساسة . فلماذا نؤمن بمثل هذه الوجودات المشخصة، مع انّهم ليس لهم من دورٍ أو أهميةٍ فيما يتعلق بمستقبل الاِسلام إلاّ المسيح الذي سيكون وزيراً ومساعداً للمهدي وقائداً لجيوشه كما في الكثير من روايات الظهور .
ولماذا ينكر البعض حياة المهدي الذي سيكون له ذلك الدور الاَعظم، « يمللأ الاَرضَ قسطاً وعدلاً..» وينزل عيسى ليصلي خلفه (2)؟!!
ثانياً : لو افترضنا قانون الشيخوخة قانوناً صارماً ، وإطالة عمر الانسان أكثر من الحد الطبيعي والمعتاد هو خلاف القوانين الطبيعية التي دلّنا عليها الاستقراء ؛ فالاَمرُ بالنسبةِ للمهدي عليه السلام يكون حينئذٍ من قبيل المعجزة، وهي ليست حالة فريدة في التاريخ.
ثم إنَّ الاَمرَ بالنسبة للمسلم الذي يستمد عقيدتَه من القرآن الكريم والسُّنة المشرفة ليس منكراً أو مستغرباً ، إذ هو يجدُ أن القانون الطبيعي الذي هو أكثر صرامةً قد عُطّلَ، كالذي حَدَثَ بالنسبةِ للنبي إبراهيم عليه السلام عندما أُلقي في النار العظيمة فأنجاه الله تعالى بالمعجزة ، كما صرَّح القرآن
____________
(1) راجع بحث حول المهدي| الشهيد محمدباقر الصدر.
(2) اعترف بهذا خمسة من شارحي صحيح البخاري كما مرّ مفصلاً في أول الفصل الثالث، فراجع.

( 174 )
قائلاً : ( قلنا يا نارُ كوني بَرْدَاً وسلاماً على إبراهيم )(1).
وهذه المعجزة وأمثالها من معاجز الانبياء ، والكرامات التي أختصَّ الله بها أولياءه ، قد أصبحت بمفهومها الديني أقرب إلى الفهم بدرجةٍ أكبر بكثير في ضوء المعطيات العلمية الحديثة والانجازات الكبيرة التي حققها العلماء بوسائلهم المادية. فلقد بدأنا نشهدُ من الاختراعات والاكتشافات التي لو حُدّثنا عنها سابقاً لاَنكرناها غايةَ الاِنكار ثم ها هي بأيدينا الآن نستخدمها ونلهو بها أحياناً، فمثلاً (التلفزيون) ، فلقد كنّا نقرأ في الروايات في أبواب الملاحم (أنه سيكون في آخر الزمان يَرى ويسمع من في المشرق من هو في المغْرِب..). وربما عَدَّ بعضُهم ذلك ضرباً من اللامعقول، ثم ها نحن نشهده ونشاهده . واستناداً إلى ذلك نقول : إنَّ استبعاد أمرٍ وإنكاره لمجرد عدم وجودِ حالةٍ مماثلة أو مقاربة نشاهدها، ليس مقبولاً منطقياً وليس مبرِّراً علمياً ، إذا كان الاَمرُ يقع في دائرة الامكان العلمي والمنطقي ، وقامت عليه الشواهد والاَدلة .
ونظير تلك الاخبار المنبئة في تراثنا عن بعض الاكتشافات العلمية الباهرة، الاخبار الاَُخرى المُنبئة باعجاز عن ظهور الاِمام المهدي بما ينطبق تمام الانطباق مع معطيات الحضارة المعاصرة .
فقد ورد عن الاِمام الصادق عليه السلام انه قال : «إنَّ قائمنا اذا قام مدَّ الله عزوجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لايكون بينهم وبين القائم بريد ، يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه في مكانه»(2).

____________
(1) سورة الانبياء : 21 | 69.
(2) روضة الكافي 8 : 201 | 329.

( 175 )

السؤال الثالث : لماذا هذه الغيبة الطويلة ؟
قالوا : لماذا كلّ هذا الحرص على إطالة عمر المهدي عليه السلام إلى هذا الحدّ، فتعطّل القوانين لاَجله ، أو نضطر إلى المعجزة ؟! ولماذا لا نقبل الافتراض الآخر الذي يقول : إنَّ قيادة البشرية في اليوم الموعود يمكن أن تترك لشخصٍ آخر يُولد في ذلك الزمان ، ويعيش الظروف الموضوعية، لينهض بمهمّته التغييرية ؟!
والجواب عنه ـ بعد الاِحاطة بالمطالب المذكورة في البحث ـ واضح جداً، فإنّ الله عزّ وجل قد أبقى أشخاصاً في هذا العالم أو غيره أحياءً أطول بكثير مما انقضى من حياة المهدي عليه السلام ، وذلك لحِكَمٍ وأسرار لانهتدي إليها ، أو علمنا ببعضها ، وعلى كلِّ حالٍ نؤمن بها إيماناً قطعيّاً، فليكن الاَمر كذلك بالنسبة الى المهدي ؛ لاَنا ـ كما أشرنا من قبل ـ بصفتنا مسلمين نؤمن بأنّ الله تعالى لايفعل عبثاً، وأيضاً : نؤمن بمغيّبات كثيرةٍ عنّا قامت عليها البراهين المتينة من العقل والنقل ، فلا يضرنا اذا لم نعلم بالحكمة في معتَقدٍ من معتقداتنا ، وكذلك الحال في الاحكام الشرعيّة والاعمال العباديّة ، فقد لانهتدي إلى سرّ حكمٍ من الاحكام وفلسفة قانونٍ من القوانين الالهيّة ، لكن التعبد بالنصر أمر لا بد منه خصوص بعد ثبوته بنحو اليقين.
وعليه نقول : إن كانت الاَدلّة التي أقمناها في الفصول السابقة على ضرورة الايمان بالمهدي، مع تلك المواصفات الخاصة، وأنّه الحجة بن الحسن العسكري، وأنّه ولد وكان إماماً بعد أبيه ـ وفي الخامسة من عمره الشريف ـ وأنّه حي موجود على طول عمره المبارك... فإنّ النتيجة الحتميّة هي القول بهذه الغيبة الطويلة، سواء علمنا ـ مع ذلك ـ بسرٍّ من أسرارها أو لم نعلم... وإنْ كان بالاِمكان أن نتصوّر لها بعض الاسرار بقدر

( 176 )
أفهامنا القاصرة وعقولنا المحدودة. فأمّا من لايطيق من المسلمين الالتزام بالمعجزة في طول عمر الاِمام والفوائد المترتبة على وجوده ـ مع كونه غائباً ـ وجب عليه تصحيح اعتقاده من الاصل وفي ضوء الاَدلة من العقل والنقل.
وعلى هذا الاساس أيضاً لايمكننا قبول الافتراض الآخر، لاَنَّ المفروض أن الاَدلة قادتنا إلى استحالة ( خلو الاَرض من حجّةٍ لله ولو آناً واحداً )، وبعد الايمان بذلك ـ سواء علمنا بشيء من الحكم في ذلك، ممّا جاء في الكتب العلمية المفصّلة في الباب أو لم نعلم ـ فلا مناص من القول بوجود الاِمام منذ ولادته، وأنّه لامجال لفرض الافتراض الآخر أبداً.
السؤال الرابع : كيف الاستفادة من الاِمام الغائب ؟
وأخيراً هناك سؤال ربما يدور في الاَذهان ، وهو : إذا كان الاِمام المهدي كذلك ، فما هي الفائدة بالنسبة للاُمة، وهو غائبٌ مستور ، متوارٍ عن الاَنظار؟!
والجواب :
إنَّ الذي يحقق ويدقق في هذه المسألة، يجب أن يضع في حسابه أولاً الروايات والاَخبار الصحيحة التي تتحدث عن ظهوره الذي سيكون بصورةٍ مفاجئة وسريعة ، أو على حدِّ لسان بعض الروايات « بغتة » . أي دون تحديد زمن مخصوص أو وقتٍ معيّن، وهذا يترتّب عليه ترقب كل جيلٍ من أجيال المسلمين لظهوره المبارك . إنَّ المتأمل لهذه المسألة سوف لايصعب عليه أن يكتشف فوائد ومزايا جمةً تتعلق بالاُمّة المرحومة، منها:
1 ـ إنَّ ذلك يدعو كلّ مؤمن إلى أن يكون على حالةٍ من الاستقامة على الشريعة، والتقيّد بأوامرها ونواهيها، والابتعاد عن ظلم الآخرين ، أو غصب حقوقهم ، وذلك لاَنَّ ظهور الاِمام المهدي ـ الذي سيكون مفاجئاً ـ

( 177 )
يعني قيام دولته وهي التي يُنتصف فيها للمظلوم من الظالم، ويُبسَط فيها العدل ويُمحى الظلم من صفحة الوجود . ولايقولنَّ أحدٌ إنَّ الشريعة ودستورها القرآن منعت الظلم والتظالم وهذا يكفي.
فإنَّ جوابه : إنَّ الشعور والاعتقاد بوجود السلطة وبتمكنها وسلطنتها يعدُّ رادعاً قوياً ، وقد جاء في الاَثر الصحيح «إنَّ اللهَ ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن..».
2 ـ إنَّ ذلك يدعو كلّ مؤمن إلى أن يكون في حالةِ طوارئ مستمرة من حيث التهيؤ للانضمام إلى جيش الاِمام المهدي والاستعداد العالي للتضحية في سبيل فرض هيمنة الاِمام الكاملة وبسط سلطته على الارض لاِقامة شرع الله تعالى. وهذا الشعور يخلق عند المؤمنين حالةً من التآزر والتعاون ورصّ الصفوف والانسجام لاَنهم سيكونون جُنداً للاِمام عليه السلام .
3 ـ إنَّ هذه الغيبة تحفّز المؤمن بها للنهوض بمسؤوليته ، وخاصة في مجال الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتكون الاَُمّة بذلك متحصّنة متحفّزة. إذ لايمكن تقيّد أنصار الاِمام المهدي عليه السلام بالانتظار فحسب ، دون الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر استعداداً لبناء دولة الاِسلام الكبرى وتهيئة قواعدها حتى ظهور الاِمام المهدي عليه السلام .
4 ـ إنَّ الاُمّة التي تعيش الاعتقاد بالمهدي الحي الموجود تبقى تعيش حالة الشعور بالعزة والكرامة، فلا تطأطئ رأسها لاَعداء الله تعالى ، ولاتذلُّ لجبروتهم وطغيانهم، إذ هي تترقب وتتطلع لظهوره المظفّر في كلِّ ساعة، ولذلك فهي تأنف من الذلِّ والهوان، وتستصغر قوى الاستكبار، وتستحقر كلّ مايملكون من عدةٍ وعدد.
إنَّ مثل هذا الشعور سيخلق دافعاً قويّاً للمقاومة والصمود والتضحية، وهذا هو الذي يخوّف أعداء الله وأعداء الاِسلام، بل هذا هو سرّ خوفهم ورعبهم الدائم، ولذلك حاولوا على مرّ التاريخ أن يُضعفوا العقيدة

( 178 )
بالمهدي، وأن يُسخّروا الاَقلام المأجورة للتشكيك بها، كما كان الشأن دائماً في خلق وإيجاد الفرق والتيارات الضالّة والهدّامة لاحتواء المسلمين، وصرفهم عن التمسّك بعقائدهم الصحيحة ، والترويج للاعتقادات الفاسدة مثلما حصل في نحلة البابية والبهائية والقاديانية والوهابية.
هذا ، ويمكن أن نضيف إلى هذه الثمرات والفوائد المهمة فوائد اُخرى يكتسبها المُعتقِد بظهور المهدي عليه السلام في آخرته، ويأتي في مقدمتها تصحيح اعتقاده بعدل الله تعالى ورأفته بهذه الاُمّة التي لم يتركها الله سدىً ينتهبها اليأس ويفتك بها القنوط لما تشاهده من انحراف عن الدين، دون أن يمدّ لها حبل الرجاء بظهور الدين على كلِّ الاَرض بقيادة المهدي عليه السلام .
ومنها : تحصيل الثواب والاَجر على الانتظار، فقد ورد في الاَثر الصحيح عن الصادق عليه السلام : «المنتظر لاَمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله».
ومنها : الالتزام بقوله تعالى حكايةً عن وصية إبراهيم عليه السلام لبنيه : (
يابَنِيَّ إنَّ الله اصْطَفى لَكُم الدّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاّ وأنتُم مُسْلِمُون )(1)، وقد مرّ بأن من مات ولم يعرف إمام زمانه ـ وفي عصرنا هو المهدي عليه السلام ـ مات ميتةً جاهلية. واستناداً إلى كلِّ ماذكرناه يظهر معنى : إنَّ الاَرض لاتخلو من حجةٍ لله تعالى.


* * *
واخيراً ، فإنّ مما تسعى إليه بُؤَر النفاق وبشكل دؤوب هو بحثها الحثيث بين صفوف المسلمين ، لعلها تجد فيهم من تتلقفه وتحوطه برعايتها، وتمنحه الالقاب العلمية الكاذبة التي يَشْرَه إليها ؛ لكي تتخذه مطيّة لاغراضها وبوقاً لدعاياتها عبر المجلات والمؤتمرات التي تندد
____________
(1) البقرة : 2 | 132.

( 179 )
بالاِسلام وأُصوله الشامخة ، ولن تجد بغيتها إلاّ فيمن انحرف عن المحجة البيضاء ، ورمى بنفسه كالطفل في احضان مربية حمقاء تسخّره لكل لعبة قذرة، كما نلحظه اليوم في تقريب سلمان رشدي ومن على شاكلته، على أمل أن تجد سمومهم طريقها إلى كل جسد مسلم ضعيف.
ولهذا كان من الواجب الاِسلامي التنبيه على هذه الوسيلة الدنيئة، وتوعية المسلمين بأهدافها وغاياتها واخطارها، وتحصينهم بالاِيمان الصحيح الذي أمر به هرم الاِسلام المقدس : (القرآن الكريم ، والسنّة المطهرة ، ومدرسة أهل البيت عليهم السلام ) .
وتلبية لنداء الواجب الاِسلامي ، كان الحديث ـ في هذا الكتاب ـ عن الاِمام المهدي الذي هو حديث الاِسلام بنقائه وصفائه ، وقد تبين بالتفصيل أنّ الاعتقاد بظهور الاِمام المهدي في آخر الزمان إنّما هو من مستلزمات الوثوق بصدق رسالة الاِسلام الخالدة ، وأنّ التكذيب به هو تكذيب برسالة الاِسلام التي أخبرت عن ظهوره !
ونحسب ان في فصول هذا الكتاب ـ الذي اعتنى بسلاسة الاسلوب وقوة الدليل ـ ما يميزه عن غيره لما فيه من تلبية وافية لحاجة المثقف الاِسلامي بأي درجة كان لمعرفة حقيقة المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي.


والحمد لله على هدايته، والصلاة والسلام على أفضل
أنبيائه ورسله محمد، وعلى آله الطاهرين،
وصحبه المخلصين ومن سار على
نهجهم إلى يوم الدين
المحرم الحرام
1417 هـ