عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني

 

سلسلة الموضوعات في قصة الدار وتبرير الخليفة والنظر فيها

1 - قال الطبري في تاريخه 5: 98: فيما كتب به إلي السري عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال: كان عبد الله بن سبا يهوديا من أهل صنعاء أمه سوداء فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمدا يرجع وقد قال الله عز وجل: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد .

 فمحمد أحق بالرجوع من عيسى: قال: فقبل ذلك عنه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها، ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد .

 ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء .

 ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمة ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر، فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يضعون فيقرأ أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض ازاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس، وجامعه محمد وطلحة من هذا المكان قالوا: فأتوا عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين ! أيأتيك عن الناس الذي يأتينا ؟ قال: لا والله ما جاءني إلا السلامة .

 قالوا: فإنا قد أتانا وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم، قال: فأنتم

/ صفحة 219 /

شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي، قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم، فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله ابن عمر إلى الشام، وفرق رجالا سواهم فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا: أيها الناس ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم، قالوا جميعا: الأمر أمر المسلمين إلا أن أمرائهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم، واستبطأ الناس عمارا حتى ظنوا أنه قد اغتيل فلم يفجأهم إلا كتاب من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يخبرهم أن عمارا قد استماله قوم بمصر وقد انقطعوا إليه منهم: عبد الله بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر .

 قال الأميني: لو كان ابن سبا بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن، وشق عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه أمراء الأمة وساستها في البلاد، وانتهى أمره إلى خليفة الوقت، فلماذا لم يقع عليه الطلب ؟ ولم يبلغه القبض عليه، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة، والتأديب بالضرب والاهانة، والزج إلى أعماق السجون ؟ ولا آل أمره إلى الإعدام المريح للأمة من شره وفساده، كما وقع ذلك كله على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهتاف القرآن الكريم يرن في مسامع الملأ الديني: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم " المائدة: 33 " .

 فهلا اجتاح الخليفة جرثومة تلكم القلاقل بقتله ؟ وهل كان تجهمه وغلظته قصرا على الأبرار من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ففعل بهم ما فعل مما أسلفنا بعضه في هذا الجزء والجزء الثامن .

 هب أن ابن سبا هو الذي أمال الأمصار على مناوءة الخليفة فهل كان هو مختلقا تلكم الأنباء من دون انطباقها على شئ من أعمال عثمان وولاته ؟ فنهضت الأمة وفيهم وجوه المهاجرين والأنصار على لا شئ ؟ أو أن ما كان يقوله قد انطبق على ما كانوا يأتون به من الجرائم والمآثم، فكانت نهضة الأمة لاكتساحها نهضة دينية يخضع لها كل مسلم

/ صفحة 220 /

وإن كان ابن اليهودية خلط نفسه بالناهضين لأي غاية راقته، وما أكثر الأخلاط في الحركات الصحيحة من غير أن يمس كونهم مع الهايجين بشئ من كرامتهم .

 ولو كان ما أنهاه إليهم ابن سبأ عزوا مختلقا فهلا - لما قدمت وفود الأمصار المدينة - قال لهم المدنيون: إن الرجل برئ من هذه القذائف والهنات وهو بين ظهرانيهم يرون ما يفعل، ويسمعون ما يقول ؟ لكنهم بدلا عن ذلك أصفقوا مع القادمين، بل صاروا هم القدوة والأسوة في تلك النهضة، وكانوا قبل مقدمهم ناقمين عليه .

 ونحن والدكتور طه حسين نصافق عند رأيه هاهنا حيث قال في كتابه " الفتنة الكبرى ص 134: وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ هذا - إن كان كل ما يروى عنه صحيحا - إنما قال ما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها، وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على علي وشيعته من ناحية أخرى، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدا للمسلمين، وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة ؟ وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان ؟ فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الاسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديا ثم أسلم لا رغبا ولا رهبا ولكن مكرا وكيدا وخداعا، ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعا وأحزابا .

 هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ، وإنما الشئ الواضح الذي ليس فيه شك هو أن ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأي وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسية المتباينة، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنة النبي وسيرة صاحبيه كانوا يرون أمورا تطرأ ينكرونها ولا يعرفونها، ويريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش

/ صفحة 221 /

من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الأمور الجديدة بنفوس جديدة، فيها الطمع، وفيها الطموح، وفيها الأثرة، وفيها الأمل البعيد، وفيها الهم الذي لا يعرف حدا يقف عنده، وفيها من أجل هذا كله التنافس والتزاحم لا على المناصب وحدها بل عليها و على كل شئ من حولها .

 وهذه الأمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه، فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم، وهذه أموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار، فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة والانتفاع بهذه الأموال المجموعة ؟ وهذه بلاد أخرى لم تفتح وكل شئ يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها، فما لهم لا يستبقون إلى الفتح ؟ وما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاب الدنيا، ومن الأجر والمثوبة إن كانوا من طلاب الآخرة ثم ما لهم جميعا لا يختلفون في سياسة هذا الملك الضخم وهذا الثراء العريض ؟ وأي غرابة في أن يندفع الطامعون الطامحون من شباب قريش هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء ؟ وأي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار وشباب الأحياء الأخرى من العرب ؟ وفي أن يمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظا إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة، ويؤثر قريشا بعظائم الأمور، ويؤثر بني أمية بأعظم هذه العظائم من الأمور خطرا وأجلها شأنا .

 والشئ الذي ليس فيه شك هو أن عثمان قد ولى الوليد وسعيدا على الكوفة بعد أن عزل سعدا، وولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى .

 وجمع الشام كلها لمعاوية وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش وغيرها من أحياء العرب، وولى عبد الله بن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص، وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان، منهم أخوه لأمه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم خاله، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أمية بن عبد شمس .

 كل هذه حقائق لا سبيل إلى إنكارها، وما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولى وعزل من عزل، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة

/ صفحة 222 /

والولاة والأمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم، وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعا من الناس، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور .

 إنتهى حرفيا .

 على أن ما تضمنته هذه الرواية من بعث عمار إلى مصر وغيره إلى بقية البلاد مما لا يكاد أن يذعن به، أو أن يكون له مقيل من الصحة، ولم يذكر في غير هذه الرواية الموضوعة المكذوبة على ألسنة رواتها المتراوحين بين زندقة وكذب وجهالة، فإن ما يعطيه النظر في مجموع ما روي حول مشكلة عثمان أن عمارا ومحمد بن مسلمة لم يفارقا المدينة طيلة أيامها ومنذ مبادئها إلى غايتها المفضية إلى مقتل عثمان، وعمار هو الذي كان في مقدم الثائرين عليه من أول يومه الناقمين على أعماله، وقد أراد نفيه إلى الربذة منفى أبي ذر بعد وفاته فيه رضوان الله عليهما فمنعته المهاجرون والأنصار كما مر حديثه، وكم وقع عليه في تضاعيف تلكم الأحوال تعذيب وضرب وتعنيف، وكان عثمان يعلم بكراهة عمار إياه منذ يومه الأول، فمتى كان يستنصح عمارا حتى يبعثه إلى البلاد فيحكي عمار له أخبارها، أو يستميله ابن سبأ وأصحابه ؟ وهذا مما لا يعزب علمه عن أي باحث كما تنبه له الدكتور طه حسين في " الفتنة الكبرى " ص 128 حيث قال: أكاد أقطع بأن عمارا لم يرسل إلى مصر ولم يشارك هذين الفتيين (1) فيما كانا بسبيله من التحريض وإنما هي قصة اخترعها العاذرون لعثمان فيما كان بينه وبين عمار قبل ذلك أو بعده مما سنراه بعد حين . ا ه‍ .

2 - قال الطبري ص 99: كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة وعطية قالوا: كتب عثمان إلى أهل الأمصار:

أما بعد فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرفع علي شئ ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم، وقد رفع إلى أهل المدينة أن أقواما يشتمون، وآخرون يضربون، فيا من ضرب سرا وشتم سرا، من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان مني أو من عمالي أو تصدقوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) يعني بهما: محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة .

 

/ صفحة 223 /

فإن الله يجزي المتصدقين .

 فلما قرئ في الأمصار أبكي الناس ودعوا لعثمان وقالوا: إن الأمة لتمخض بشر، وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه عبد الله بن عامر، ومعاوية، وعبد الله ابن سعد، وادخل معهم في المشورة سعيدا وعمرا فقال: ويحكم ما هذه الشكاية وما هذه الاذاعة ؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم وما يعصب هذا إلا بي، فقالوا له: ألم تبعث ؟ ألم نرجع إليك الخبر عن القوم ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشئ ؟ لا والله ما صدقوا ولا بروا ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، ولا كنت لتأخذ به أحدا فيقيمك على شئ، وما هي إلا إذاعة لا يحل الأخذ بها ولا الانتهاء إليها .

 قال: فأشيروا علي .

 فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السر فيلقى به غير ذي المعرفة فيخبر به فيتحدث به في مجالسهم، قال: فما دواء ذلك ؟ قال: طلب هؤلاء القوم ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا من عندهم .

 وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم فإنه خير من أن تدعهم .

 قال معاوية: قد وليتني فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلا الخير والرجلان أعلم بناحيتيهما .

 قال: فما الرأي ؟ قال: حسن الأدب .

 قال: فما ترى يا عمرو ؟ قال: أرى أنك قد لنت لهم، وتراخيت عنهم، و زدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبيك فتشتد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين، إن الشدة تنبغي لمن لا يألو الناس شرا، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتهما جميعا اللين، وقام عثمان فحمد الله وأثنى عليه وقال: كل ما أشرتم به علي قد سمعت، ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه فيكفكف به اللين والمؤاناة والمتابعة إلا في حدود الله تعالى ذكره التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سده شئ فرفق فذاك والله ليفتحن وليست لأحد علي حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس وخيرا ولا نفسي، ووالله إن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها كفكفوا الناس وهبوا لهم حقوقهم واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها .

 فلما نفر عثمان أشخص معاوية و عبد الله بن سعد إلى المدينة، ورجع ابن عامر وسعيد معه .

 ولما استقل عثمان رجز الحادي:

/ صفحة 224 /

قد علمت ضوامر المطي          وضمــــرات عوج القسي

إن الأميــــر بعــــده علي          وفــــي الزبير خلف رضي

وطلحة الحامي لها ولي

فقال كعب وهو يسير خلف عثمان: الأمير بعده صاحب البغلة، وأشار إلى معاوية .

3 - (وأخرج ص 101 بالإسناد الشعيبي المذكور) كان معاوية قد قال لعثمان غداة ودعه وخرج: يا أمير المؤمنين ! إنطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإن أهل الشام على الأمر لم يزالوا فقال: أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ وإن كان فيه قطع خيط عنقي .

 قال: فأبعث إليك جندا منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك .

 قال: أنا أقتر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند مساكنهم وأضيق على أهل دار الهجرة والنصرة ؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ! لتغتالن ولتغزين . قال: حسبي الله ونعم الوكيل . وقال معاوية: يا أيسار ! الجزور، وأين أيسار الجزور . الحديث بطوله .

 4 - (وأخرج ص 103 بالإسناد الشعيبي) لما كان في شوال سنة 35 خرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء المقل يقول: ستمائة . والمكثر يقول: ألف . على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي . و كنانة بن بشر الليثي . وسودان بن حمران السكوني . وقتيرة بن فلان السكوني . وعلى القوم جميعا الغافقي بن حرب العكي . ولم يجترؤا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب، وإنما خرجوا كالحجاج ومعهم ابن السوداء .

 وخرج أهل الكوفة في أربع رفاق، وعلى الرفاق زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضرة الحارثي، وعبد الله بن الأصم، أحد بني عامر بن صعصعة، وعددهم كعدد أهل مصر وعليهم جميعا عمرو بن الأصم، وخرج أهل البصرة في أربع رفاق وعلى الرفاق حكيم ابن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح الحطم بن ضبيعة القيسي، وابن المحرش ابن عبد عمرو الحنفي، وعددهم كعدد أهل مصر، وأميرهم جميعا حرقوص ابن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم من الناس، فأما أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عليا، وأما أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة كانوا

/ صفحة 225 /

يشتهون الزبير، فخرجوا وهم على الخروج جميع وفي الناس شتى لا يشك كل فرقة إلا أن الفلج معها، وأمرها سيتم دون الأخريين، فخرجوا حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث تقدم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص (1) وجاءهم ناس من أهل مصر وتركوا عامتهم بذي المروة، ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم وقالا: لا تعجلوا ولا تعجلونا حتى ندخل لكم المدينة ونرتاد، فإنه بلغنا أنهم قد عسكروا لنا فوالله إن كان أهل المدينة قد خافونا واستحلوا قتالنا ولم يعلموا علمنا فهم إذا علموا علمنا أشد وإن أمرنا هذا لباطل، وإن لم يستحلوا قتالنا ووجدنا الذي بلغنا باطلا لنرجعن إليكم بالخبر، قالوا: إذهبا .

 فدخل الرجلان فلقيا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعليا وطلحة والزبير (2) وقالا: إنما نأتم هذا البيت ونستعفي هذا الوالي من بعض عمالنا، ما جئنا إلا لذلك واستأذنا للناس بالدخول، فكلهم أبى ونهى وقال: بيض ما يفرخن .

 فرجعا إليهم فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا عليا، ومن أهل البصرة نفر فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير وقال كل فريق منهم: إن بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم ثم كررنا حتى نبغتهم .

 فأتى المصريون عليا وهو في عسكر عند أحجار الزيت (3) عليه حلة أفواف معتم بشقيقة حمراء يمانية متقلد السيف ليس عليه قميص، وقد سرح الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فالحسن جالس عند عثمان وعلي عند أحجار الزيت فسلم عليه المصريون وعرضوا له فصاح بهم وأطردهم وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان ومحمد صلى الله عليه وسلم فارجعوا لا صحبكم الله (4) قالوا: نعم .

 فانصرفوا من عنده على ذلك .

 وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي وقد أرسل ابنيه إلى عثمان فسلم البصريون عليه وعرضوا له فصاح بهم و أطردهم وقال: لقد علم المؤمنون إن جيش ذي المروة في ذي خشب والأعوص ملعونون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) الأعوص: موضع على أميال من المدينة يسيرة .

 (2) لا تنس هاهنا ما أسلفنا لك في هذا الجزء من حديث أم المؤمنين وعلي أمير المؤمنين و طلحة والزبير .

 (3) أحجار الزيت: موضع بالمدينة داخلها قريب من الزوراء .

 (4) راجع ما مضى من حديث على أمير المؤمنين تعرف جلية الحال .

 

/ صفحة 226 /

على لسان محمد صلى الله عليه وسلم (1) وأتى الكوفيون الزبير وهو في جماعة أخرى وقد سرح ابنه عبد الله إلى عثمان فسلموا عليه وعرضوا له فصاح بهم وأطردهم وقال: لقد علم المسلمون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم (2) .

 فخرج القوم وأروهم أنهم يرجعون فانفشوا عن ذي خشب والأعوص حتى انتهوا إلى عساكرهم وهي ثلاث مراحل كي يفترق أهل المدينة ثم يكروا راجعين فافترق أهل المدينة لخروجهم، فلما بلغ القوم عساكرهم كروا بهم فبغتوهم، فلم يفجأ أهل المدينة إلا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان وقالوا: من كف يده فهو آمن .

 وصلى عثمان بالناس أياما ولزم بيوتهم ولهم يمنعوا أحدا من كلام، فأتاهم الناس فكلموهم وفيهم علي فقال: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم ؟ قالوا: أخذنا مع بريد كتابا بقتلنا، وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك وأتاهم الزبير فقال الكوفيون والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعا .

 كأنما كانوا على ميعاد فقال لهم علي: كيف علمتم يا أهل الكوفة ! ويا أهل البصرة ! بما لقي أهل مصر وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا، هذا والله أمر أبرم بالمدينة قالوا: فضعوه علي ما شئتم لا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا وهو في ذلك يصلي بهم وهم يصلون خلفه ويغشى من شاء عثمان وهم في عينه أدق من التراب، وكانوا لا يمنعون أحدا من الكلام وكانوا زمرا بالمدينة يمنعون الناس من الاجتماع .. إلخ .

 قال الأميني: تعطي هذه الرواية أن الذي رد الكتائب المقبلة من مصر والبصرة والكوفة هو زعماء جيش أحجار الزيت: أمير المؤمنين علي وطلحة والزبير يوم صاحوا بهم وطردوهم ورووا رواية اللعن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم البدريون وغيرهم من أصحاب محمد العدول، فما تمكنت الكتائب من دخول المدينة وقد أسلفنا إصفاق المؤرخين على أنهم دخلوها وحاصروا الدار مع المدنيين أربعين يوما أو أكثر أو أقل حتى توسل عثمان بعلي أمير المؤمنين عليه السلام، فكان هو الوسيط بينه وبين القوم، وجرى هنالك ما مر تفصيله من توبة عثمان على صهوة المنبر، ومن كتاب عهده إلى البلاد على ذلك، فانكفأت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع ما مر من حديث طلحة وصولته وجولته في تلك الثورة تعلم صدق الخبر .

 (2) راجع ما أسلفنا من حديث الزبير حتى يتبين لك الرشد من الغي .

 

/ صفحة 227 /

عنه الجماهير الثائرة بعد ضمان علي عليه السلام ومحمد بن مسلمة بما عهد عثمان على نفسه، لكنهم ارتجعوا إليه بعد ما وقفوا على نكوصه وكتابه المتضمن بقتل من شخص إليه من مصر فوقع الحصار الثاني المفضي إلى الإجهاز عليه، وأنت إذا عطفت النظرة إلى ما سبق من أخبار الحصارين وأعمال طلحة والزبير فيهما وقبلهما وبعدهما نظرة ممعنة لا تكاد أن تستصح دفاعهما عنه في هذ الموقف، وكان طلحة أشد الناس عليه، حتى منع من إيصال الماء إليه، ومن دفنه في مقابر المسلمين، لكن رواة السوء المتسلسة في هذه الأحاديث راقهم إخفاء مناوئة القوم لعثمان فاختلقوا له هذه وأمثالها .

5 - (وأخرج ص 126 بالإسناد الشعيبي) :

آخر خطبة خطبها عثمان رضي الله عنه في جماعة: إن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية، فآثروا ما بقي على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله، اتقوا الله عز وجل فإن تقواه جنة من بأسه ووسيلة عنده، واحذروا من الله الغير، وألزموا جماعتكم لا تصيروا أحزابا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا .

 قالوا: لما قضى عثمان في ذلك المجلس حاجاته، وعزم له المسلمون على الصبر والامتناع عليهم بسلطان الله قال: أخرجوا رحمكم الله فكونوا بالباب وليجامعكم هؤلاء الذين حبسوا عني، وأرسل إلى طلحة والزبير وعلي وعدة أن ادنوا فاجتمعوا فأشرف عليهم، فقال: يا أيها الناس ! اجلسوا فجلسوا جميعا المحارب الطارئ، والمسالم المقيم فقال: يا أهل المدينة ! إني استودعكم الله وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي، إني والله لا أدخل على أحد يومي هذا حتى يقضي الله في قضاه، ولأدعن هؤلاء وراء بابي غير معطيهم شيئا يتخذونه عليكم دخلا في دين الله أو دنيا حتى يكون الله عز وجل الصانع في ذلك ما أحب، وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم فرجعوا إلا الحسن ومحمد وابن الزبير وأشباها لهم فجلسوا بالباب عن أمر آبائهم، وثاب إليهم ناس كثير ولزم عثمان الدار

/ صفحة 228 /

6 - (وروى ص 126 بالإسناد الشعيبي) :

قالوا: كان الحصر أربعين ليلة والنزول سبعين فلما مضت من الأربعين ثماني عشرة قدم ركبان من الوجوه فأخبروا خبر من قد تهيأ إليهم من الآفاق حبيب من الشام، ومعاوية من مصر، والقعقاع من الكوفة، ومجاشع من البصرة، فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شئ حتى الماء، وقد كان يدخل علي بالشئ مما يريد، وطلبوا العلل فلم تطلع عليهم علة، فعثروا في داره بالحجارة ليرموا فيقولوا: قوتلنا وذلك ليلا فناداهم: ألا تتقون الله ؟ ألا تعلمون أن في الدار غيري ؟ قالوا: لا والله ما رميناك قال: فمن رمانا ؟ قالوا: الله .

 قال: كذبتم إن الله عز وجل لو رمانا لم يخطئنا وأنتم تخطؤننا، وأشرف عثمان على آل حزم وهم جيرانه فسرح ابنا لعمرو إلى علي بأنهم قد منعونا الماء فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئا من الماء فافعلوا وإلى طلحة والزبير وإلى عائشة رضي الله عنها وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكان أولهم إنجادا له علي وأم حبيبة، جاء علي في الغلس فقال: يا أيها الناس إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، لا تقطعوا عن هذا الرجل المادة فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي، وما تعرض لكم هذا الرجل، فبم تستحلون حصره وقتله ؟ قالوا: لا والله ولا نعمة عين، لا نتركه يأكل ولا يشرب، فرمى بعمامته في الدار بأني قد نهضت فيما أنهضتني .

 فرجع وجاءت أم حبيبة على بغلة لها برحالة مشتملة على إداوة فقيل: أم المؤمنين أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها فقالت: إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل .

 قالوا: كاذبة وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف فندت بأم حبيبة فتلقاها الناس وقد مالت رحالتها فتعلقوا بها وأخذوها وقد كادت تقتل فذهبوا بها إلى بيتها، وتجهزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة، واستتبعت أخاها فأبى فقالت: أم والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلن .

 وجاء حنظلة الكاتب حتى قام على محمد بن أبي بكر فقال: يا محمد ! تستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها وتدعوك ذؤبان العرب إلى ما لا يحل فتتبعهم ؟ فقال: ما أنت وذاك يا ابن التميمية ؟ فقال: يا ابن الخثعمية ! إن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبتك عليه بنو عبد مناف .

 وانصرف وهو يقول:

/ صفحة 229 /

عجب لما يخوض الناس فيه          يرومـــون الخلافة أن تزولا

ولــو زالت لزال الخير عنهم          ولاقــــوا بعــــدها ذلا ذليــلا

وكـانوا كاليهود أو النصارى          ســـواء كلهم ضلوا السبيلا

ولحق بالكوفة وخرجت عائشة وهي ممتلئة غيظا على أهل مصر، وجاءها مروان بن الحكم فقال: يا أم المؤمنين ! لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل .

 فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثم لا أجد من يمنعني، لا والله ولا أعير ولا أدري إلى ما يسلم أمر هؤلاء، وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة فلزموا بيوتهم، وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الفضلات عليهم الرقباء، فأشرف عثمان على الناس فقال: يا عبد الله بن عباس ! فدعى له فقال: إذهب فأنت على الموسم .

 وكان ممن لزم الباب فقال: والله يا أمير المؤمنين ! لجهاد هؤلاء أحب إلي من الحج، فأقسم عليه لينطلقن فانطلق ابن عباس على الموسم تلك السنة، ورمى عثمان إلى الزبير بوصيته فانصرف بها، وفي الزبير اختلاف أأدرك مقتله أو خرج قبله ؟ وقال عثمان: يا قوم ! لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح . الآية .

 أللهم حل بين الأحزاب وبين ما يأملون كما فعل بأشياعهم من قبل .

 قال الأميني: هذه الرواية مفتعلة من شيعة عثمان المصطفين في إسنادها تجاه ما ثبت عن عائشة وطلحة والزبير وغيرهم من جهودهم المتواصلة في التضييق على الرجل، وإسعار نار الحرب والإجهاز عليه بما أسلفناه في هذا الجزء لكن أكدى الظن، وأخفق الأمل أن هاتيك الروايات أخرجها الاثبات من حملة التاريخ، وأصفق عليها المؤرخون وهذه تفرد بها هؤلاء الوضاعون، ومن ذا الذي يعير سمعا لها بعد الاخبات إلى التاريخ الصحيح ؟ وملأ أذنه هتاف عائشة: اقتلوا نعثلا قتله الله فقد كفر .

 إلى كلمات أخرى لها مر مجملها في هذا الجزء ص 215 وفصلنا ها في ص 77 - 86 .

 وإن تهالك طلحة دون التشديد عليه وقتله بكل ما تسنى له مما لا يجهله ملم بالحديث والتاريخ، وكان يوم الدار مقنعا بثوب يرميها بالسهام، وهو الذي منع منه الماء، وهو الذي حمل الناس إلى سطح دار ابن حزام فتسوروا منها دار عثمان، وهو الذي منعه من أن يدفن في مقابر المسلمين، وهو الذي أقعد لمجهزيه في الطريق ناسا

/ صفحة 230 /

يرمونهم بالحجارة، وهو الذي قتله مروان ثم قال: لأبان بن عثمان: قد كفيتك بعض قتلة أبيك، وهو الذي قال فيه وفي صاحبه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: كان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف، وأرفق حدائهما العنيف .

 ولو كان طلحة كما زعمه الوضاعون فما معنى هتاف عثمان: أللهم اكفني طلحة ابن عبيد الله فإنه حمل علي هؤلاء وألبهم .

 وقوله: ويلي على ابن الحضرمية - يعني طلحة - أعطيته كذا وكذا بهارا ذهبا وهو يروم دمي يحرض على نفسي، أللهم لا تمتعه به ولقه عواقب بغيه .

 وإلى الآن يرن في الاسماع قول الزبير يومئذ: اقتلوه فقد بدل دينكم .

 وقوله: ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني، إن عثمان لجيفة على صراط غدا .

 وقوله لعثمان: إن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة يمنعون من ظلمك، ويأخذونك بالحق .. إلخ .

 وإلى الآن في صفحات التاريخ قول سعد بن أبي وقاص: قتله سيف سلته عائشة وشحذه طلحة، وسمه علي، قيل: فما حال الزبير ؟ قال: أشار بيده وصمت بلسانه .

 إلى كلمات آخرين مرت في هذا الجزء .

 ولو كان ابن عباس كما اختلق عليه هؤلاء فلماذا لم يكترث بكتاب عثمان و استغاثته به لما ألقي على الحجيج وهو أميرهم وهو على منصة الخطابة، فمضى في خطبته من حيث انقطعت، ولم يتعرض لذلك بشئ، ولا اعتد بخطابه حتى جرى المقدور المحتم ؟ ولماذا كان يحاذر بطش معاوية به على مقتل عثمان لما أراد أمير المؤمنين عليه السلام أن يرسله إلى الشام ؟ .

 راجع مصادر هذه كلها فيما مر من صفحات هذا الجزء .

 7 - (وأخرج ص 128 بالإسناد الشعيبي) :

قالوا: فلما بويع الناس السابقة فقدم بالسلامة فأخبرهم من الموسم أنهم يريدون جميعا المصريين وأشياعهم، وأنهم يريدون أن يجمعوا ذلك إلى حجهم، فلما أتاهم ذلك مع ما بلغهم من نفور أهل الأمصار أعلقهم الشيطان وقالوا: لا يخرجنا مما وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل، فيشتغل بذلك الناس عنا، ولم يبق خصلة يرجون بها النجاة إلا قتله، فراموا الباب فمنعهم من ذلك الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان

/ صفحة 231 /

ابن الحكم وسعيد بن العاص ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم واجتلدوا فناداهم عثمان: الله الله أنتم في حل من نصرتي .

 فأبوا ففتح الباب وخرج ومعه الترس والسيف لينهنههم فلما رأوه أدبر البصريون وركبهم هؤلاء ونهنههم فتراجعوا وعظم على الفريقين وأقسم على الصحابة ليدخلن، فأبوا أن ينصرفوا فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين، وقد كان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حج ثم تعجل في نفر حجوا معه، فأدرك عثمان قبل أن يقتل وشهد المناوشة ودخل الدار فيمن دخل وجلس على الباب من داخل، وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت ؟ فاتخذ عثمان تلك الأيام القرآن نحبا يصلي وعنده المصحف فإذا أعيا جلس فقرأ فيه، وكانوا يرون القراءة في المصحف من العبادة، وكان القوم الذين كفكفهم بينه وبين الباب، فلما بقي المصريون لا يمنعهم أحد من الباب ولا يقدرون على الدخول جاؤا بنار فأحرقوا الباب والسقيفة، فتأجج الباب والسقيفة حتى إذا احترق الخشب خرت السقيفة على الباب، فثار على أهل الدار وعثمان يصلي حتى منعوهم الدخول، وكان أول من برز لهم المغيرة بن الأخنس وهو يرتجز:

قـــد علمت جارية عطبول          ذات وشـــاح ولهـــا جديل

أني بنصل السيف خنشليل          لأمنعــــن منــــكم خــليلي

بصــــارم ليـس بذي فلول

وخرج الحسن بن علي وهو يقول:

لا دينهم ديني ولا أنا منهم          حتى أسير إلى طمار شمام

وخرج محمد بن طلحة وهو يقول:

أنا ابن من حامى عليه بأحد          ورد أحزابا على رغم معــــد

وخرج سعيد بن العاص وهو يقول:

صبرنا غداة الدار والموت واقب          بأسيافنا دون ابن أروى نضارب

وكنا غداة الروع في الدار نصرة          نشافههم بالضرب والموت ثاقب

فكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير أمره عثمان أن يصير إلى أبيه في وصية بما أراد وأمره أن يأتي أهل الدار فيأمرهم بالانصراف إلى منازلهم فخرج عبد الله بن

/ صفحة 232 /

الزبير آخرهم فما زال يدعي بها ويحدث الناس عن عثمان بآخر ما مات عليه .

8 (وأخرج ص 129 بالإسناد الشعيبي) :

قالوا: وأحرقوا الباب وعثمان في الصلاة وقد افتتح " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " وكان سريع القراءة فما كرثه ما سمع وما يخطئ وما يتتعتع حتى أتى عليها قبل أن يصلوا إليه، ثم عاد فجلس إلى عند المصحف وقرأ: الذين قال لهم الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .

وارتجز المغيرة بن الأخنس وهو دون الدار في أصحابه:

قد علمت ذات القرون الميل          والحــــلي والأنامــل الطفول

لتصــــدقن بيعــــتي خـــليلي          بصــــارم ذي رونق مصقول

لا أستقيــــل إن أقــلت قيلي

وأقبل أبو هريرة والناس محجمون عن الدار إلا أولئك العصبة فدسروا فاستقبلوا فقام معهم وقال: أنا أسوتكم .

 وقال: هذا يوم طاب امضرب - يعني إنه من القتال و طاب وهذه لغة حمير - ونادى: يا قوم ! مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار، وبادر مروان يومئذ ونادى: رجل رجل .

 فبرز له رجل من بني ليث يدعى النباع (1) فاختلفا ضربتين فضربه مروان أسفل رجليه وضربه الآخر على أصل العنق فقلبه فانكب مروان واستلقى فاجتر هذا أصحابه، واجتر الآخر أصحابة، فقال المصريون: أما والله لا أن تكونوا حجة علينا في الأمة لقد قتلناكم بعد تحذير فقال المغيرة: من بارز ؟ فبرز له رجل فاجتلدوا وهو يقول:

أضربهم باليابس           ضرب غلام بائس          من الحياة آيس

فأجابه صاحبه ... وقال الناس: قتل المغيرة بن الأخنس فقال الذي قتله: إنا لله فقال له عبد الرحمن بن عديس: ما لك ؟ قال: إني أتيت فيما يرى النائم فقيل لي: بشر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار .

 فابتليت به، وقتل قباث الكناني نيار بن عبد الله الأسلمي، واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها حتى ملؤها، ولا يشعر الذين بالباب، وأقبلت القبائل على أبنائهم فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم وندبوا رجلا لقتله، فانتدب له

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) كذا والصحيح: البياع، وهو عروة بن شييم الليثي كما مر .

 

/ صفحة 233 /

رجل فدخل عليه البيت فقال: اخلعها وندعك .

 فقال: ويحك والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام ولا تغنيت ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست خالعا قميصا كسانيه الله عز وجل وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاء .

 فخرج وقالوا: ما صنعت ؟ فقال: علقنا والله، والله ما ينجينا من الناس إلا قتله وما يحل لنا قتله، فأدخلوا عليه رجلا من بني ليث فقال: ممن الرجل ؟ فقال: ليثي .

 فقال: لست بصاحبي قال: وكيف ؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي صلى الله عليه وسلم في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا ؟ قال: بلى . قال: فلن تضيع . فرجع وفارق القوم، فأدخلوا عليه رجلا من قريش فقال: يا عثمان ! إني قاتلك . قال: كلا يا فلان ! لا تقتلني .

 قال: وكيف ؟ قال: إن رسول الله استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دما حراما، فاستغفر ورجع وفارق أصحابه، فأقبل عبد الله بن سلام حتى قام على باب الدار ينهاهم عن قتله، وقال: يا قوم ! لا تسلوا سيف الله عليكم فوالله إن سللتموه ولا تغمدوه، ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرة فإن قتلتموه لا يقيم إلا بالسيف، ويلكم إن مدينتكم محفوفة بملائكة الله والله لئن قتلتموه لتتركنها، فقالوا: يا ابن اليهودية ! وما أنت وهذا ؟ فرجع عنهم .

 قالوا: وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي أبكر فقال له عثمان: ويلك أعلى الله تغضب ؟ هل لي إليك جرم إلا حقه أخذته منك فنكل ورجع .

 قالوا: فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره ثار قتيرة وسودان بن حمران السكونيان والغافقي فضربه الغافقي بحديدة معه وضرب المصحف برجله فاستدار المصحف فاستقر بين يديه وسالت عليه الدماء، وجاء سودان بن حمران ليضربه فانكبت عليه نائلة ابنة الفرافصة واتقت السيف بيدها فتعمدها ونفح أصابعها فأطن أصابع يدها وولت فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجيزة وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، وقد كان عثمان أعتق من كف منهم فلما رأوا سودان قد ضربه أهوى له بعضهم فضرب عنقه فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت وأخرجوا من فيه ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى فلما خرجوا إلى الدار وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل ملاءة نائلة والرجل يدعى كلثوم

/ صفحة 234 /

ابن تجيب فتنحت نائلة فقال: ويح أمك من عجيزة ما أنمك، وبصر به غلام لعثمان فقتله وقتل وتنادى القوم أبصر رجل من صاحبه، وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه، وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم وليس فيه إلا غرارتان (1) فقالوا: النجاء فإن القوم إنما يحاولون الدنيا، فهربوا وأتوا بيت المال فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالتانئ يسترجع ويبكي، والطارئ يفرح، وندم القوم وكان الزبير قد خرج من المدينة فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله، فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحم الله عثمان وانتصر له . وقيل: إن القوم نادمون . فقال: دبروا دبروا، وحيل بينهم وبين ما يشتهون . الآية .

 وأتى الخبر طلحة فقال: رحم الله عثمان وانتصر له وللاسلام وقيل له: إن القوم نادمون .

 فقال: تبا لهم وقرأ: فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون .

 وأتى علي فقيل: قتل عثمان: فقال رحم الله عثمان وخلف علينا بخير . وقيل: ندم القوم . فقرأ: كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر . الآية . وطلب سعد فإذا هو في حائطه وقد قال: لا أشهد قتله .

 فلما جاءه قتله قال: فررنا إلى المدينة فدنينا وقرأ: الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أللهم أندمهم ثم خذهم .

 9 - (وأخرج ص 131 بالإسناد الشعيبي) :

قال المغيرة بن شعبة لعلي: إن هذا الرجل مقتول وإنه إن قتل وأنت بالمدينة اتخذوا فيك فاخرج فكن بمكان كذا وكذا، فإنك إن فعلت وكنت في غار باليمن طلبك الناس .

 فأبى وحصر عثمان اثنتي وعشرين يوما ثم أحرقوا الباب وفي الدار أناس كثير فيهم عبد الله بن الزبير ومروان فقالوا: إئذن لنا .

 فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا فأنا صابر عليه، وإن القوم لم يحرقوا باب الدار إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه، فأحرج على رجل يستقتل ويقاتل، وخرج الناس كلهم ودعا بالمصحف يقرأ فيه والحسن عنده فقال: إن أباك الآن لفي أمر عظيم، فأقسمت عليك لما خرجت .

 وأمر عثمان أبا كرب رجلا من همدان وآخر من الأنصار أن يقوما على باب بيت المال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) ذكره ابن كثير في تاريخه 7: 189 وحرفه وبدله بقوله: فأخذوا بيت المال وكان فيه شئ كثير جدا .

 

/ صفحة 235 /

وليس فيه إلا غرارتان من ورق، فلما أطفئت النار بعد ما ناوشهم ابن الزبير ومروان وتوعد محمد بن أبي بكر ابن الزبير ومروان، فلما دخل على عثمان هربا، ودخل محمد ابن أبي بكر على عثمان فأخذ بلحيته فقال: أرسل لحيتي فلم يكن أبوك ليتناولها، فأرسلها ودخلوا عليه فمنهم من يجئه بنعل سيفه وآخر يلكزه وجاءه رجل بمشاقص معه فوجأه في ترقوته، فسال الدم على المصحف وهم في ذلك يهابون في قتله، وكان كبيرا وغشي عليه ودخل آخرون، فلما رأوه مغشيا عليه جروا برجله، فصاحت نائلة وبناته، وجاء التجيبي مخترطا سيفه ليضعه في بطنه فوقته نائلة فقطع يدها، واتكأ بالسيف عليه في صدره، وقتل عثمان رضي الله عنه قبل غروب الشمس ونادى مناد: ما يحل دمه ويحرج ماله ؟ فانتهبوا كل شئ، ثم تبادروا بيت المال فألقى الرجلان المفاتيح ونجوا وقالوا: الهرب الهرب، هذا ما طلب القوم .

10 - (وأخرج ص 135 بالإسناد الشعيبي) :

لما حدثت الأحداث بالمدينة خرج منها رجال إلى الأمصار مجاهدين وليدنوا من العرب فمنهم من أتى البصرة، ومنهم من أتى الكوفة، ومنهم من أتى الشام .

 فهجموا جميعا من أبناء المهاجرين بالامصار على مثل ما حدث في أبناء المدينة، إلا ما كان من أبناء الشام فرجعوا جميعا إلى المدينة إلا من كان بالشام فأخبروا عثمان بخبرهم فقام عثمان في الناس خطيبا فقال: يا أهل المدينة ! أنتم أصل الاسلام وإنما يفسد الناس بفسادكم، ويصلحون بصلاحكم، والله والله والله لا يبلغني عن أحد منكم حدث أحدثه إلا سيرته، ألا فلا أعرفن أحدا عرض دون أولئك بكلام ولا طلب، فإن من كان قبلكم كانت تقطع أعضاؤهم دون أن يتكلم أحد منهم بما عليه ولا له .

 وجعل عثمان لا يأخذ أحدا منهم على شر أو شهر سلاح عصا فما فوقها إلا سيره .

 فضج آبائهم من ذلك حتى بلغه أنهم يقولون: ما أحدث التسيير ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سير الحكم بن أبي العاص فقال: إن الحكم كان مكيا فسيره رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلى الطائف، ثم رده إلى بلده فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيره بذنبه ورسول الله صلى الله عليه وسلم رده بعفوه، وقد سيره الخليفة من بعده وعمر رضي الله عنه من بعد الخليفة، وأيم الله لآخذن العفو من أخلاقكم، ولأبذلنه

/ صفحة 236 /

لكم من خلقي، وقد دنت أمور ولا أحب أن تحل بنا وبكم وأنا على وجل وحذر فاحذروا واعتبروا .

 قال الأميني: هذه سلسلة بلاء وحلقة أكاذيب جاء بها أبو جعفر الطبري في تاريخه بإسناد واحد أبطلناه وزيفناه وأوقفناك عليه وعلى ترجمة رجاله في الجزء الثامن ص 84، 140، 141، 333، أضف إليها ما ذكره المحب الطبري مما أسلفنا صدره في هذا الجزء صفحة 179 من طريق سعيد بن المسيب مما اتفق الرواة والحفاظ والمؤرخون على نقله وجاء بعض بزيادة مفتعلة وتبعه المحب الطبري وإليك نصها: ثم بلغ عليا أنهم يريدون قتل عثمان فقال: إنما أردنا منه مروان فأما قتل عثمان فلا، وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل إليه، وبعث الزبير ابنه، وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان ويسألونه إخراج مروان، فلما رأى الناس ذلك رموا باب عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي بدمائه وأصاب مروان سهم وهو في الدار وكذلك محمد بن طلحة، وشج قنبر مولى علي، ثم إن بعض من حصر عثمان خشي أن يغضب بنو هاشم لأجل الحسن والحسين فتنتشر الفتنة، فأخذ بيد رجلين فقال: لهما: إن جاء بنو هاشم فرأوا الدم على وجه الحسن كشفوا الناس عن عثمان وبطل ما تريدون، ولكن اذهبوا بنا نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم أحد، فتسوروا من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان، وما يعلم أحد ممن كان معه، لأن كل من كان معه كان فوق البيت ولم يكن معه إلا امرأته فقتلوه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها من الجلبة، فصعدت إلى الناس فقالت: إن أمير المؤمنين قتل .

 فدخل عليه الحسن والحسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان مذبوحا فانكبوا عليه يبكون، ودخل الناس فوجدوا عثمان مقتولا فبلغ عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا فاسترجعوا وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب ؟ ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة .

 ولعن عبد الله بن الزبير، وخرج علي وهو غضبان فلقيه طلحة فقال: مالك يا أبا الحسن ؟ ! ضربت الحسن

/ صفحة 237 /

والحسين ؟ وكان يرى أنه أعان على قتل عثمان . فقال: عليك كذا وكذا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدري لم تقم عليه بينة ولا حجة . فقال طلحة: لو دفع مروان لم يقتل . فقال علي: لو أخرج إليكم مروان لقتل قبل أن تثبت عليه حكومة .

 وخرج علي فأتى منزله وجاء الناس كلهم إلى علي ليبايعوه، فقال لهم: ليس هذا إليكم إنما هو إلى أهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو الخليفة، فلم يبق أحد من أهل بدر إلا قال: ما نرى أحق لها منك، فلما رأى علي ذلك جاء المسجد فصعد المنبر وكان أول من صعد إليه وبايعه طلحة والزبير وسعد وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وطلب مروان فهرب وطلب نفرا من ولد مروان بني أبي معيط فهربوا (1) .

 وفي لفظ المسعودي في مروج الذهب 1: 441: لما بلغ عليا أنهم يريدون قتله بعث بابنيه الحسن والحسين ومواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته، وأمرهم أن يمنعوه منهم، وبعث الزبير ابنه عبد الله، وبعث طلحة ابنه محمدا وأكثر أبناء الصحابة أرسلهم آباؤهم اقتداء بمن ذكرنا فصدوهم عن الدار، فرمي من وصفنا بالسهام واشتبك القوم وجرح الحسن وشج قنبر وجرح محمد بن طلحة، فخشي القوم أن يتعصب بنو هاشم و بنو أمية فتركوا القوم في القتال على الباب ومضى نفر منهم إلى دار قوم من الأنصار فتسوروا عليها وكان ممن وصل إليه محمد بن أبي بكر ورجلان آخران وعند عثمان زوجته، وأهله ومواليه مشاغيل بالقتال، فأخذ محمد بن أبي بكر بلحيته فقال: يا محمد ! والله لو رآك أبوك لساءه مكانك .

 فتراخت يده وخرج عنه إلى الدار، ودخل رجلان فوجداه فقتلاه، وكان المصحف بين يديه يقرأ فيه فصعدت امرأته فصرخت وقالت: قد قتل أمير المؤمنين .

 فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما من بني أمية فوجدوه وقد فاضت نفسه رضي الله عنه فبكوا فبلغ ذلك عليا وطلحة والزبير وسعدا وغيرهم من المهاجرين والأنصار فاسترجع القوم ودخل علي الدار وهو كالواله الحزين فقال لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب ؟ ولطم الحسن وضرب الحسين وشتم محمد بن طلحة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) الرياض النضرة 2: 125 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 108، نقلا عن ابن عساكر، تاريخ الخميس 2: 261، 262، نقلا عن الرياض .

 

/ صفحة 238 /

ولعن عبد الله بن الزبير فقال له طلحة: لا تضرب يا أبا الحسن ! ولا تشتم ولا تلعن، ولو دفع مروان ما قتل، وهرب مروان وغيره من بني أمية وطلبوا ليقتلوا فلم يوجدوا، وقال علي لزوجته نائلة بنت الفرافصة: من قتله ؟ وأنت كنت معه .

 فقالت: دخل إليه رجلان وقصت خبر محمد بن أبي بكر، فلم ينكر ما قالت، وقال: والله لقد دخلت وأنا أريد قتله فلما خاطبني بما قال خرجت ولا أعلم بتخلف الرجلين عني، ولله ما كان لي في قتله سبب، ولقد قتل وأنا لا أعلم بقتله .

 وروى ابن الجوزي في التبصرة (1) من طريق ابن عمر قال: جاء علي إلى عثمان رضي الله عنهما يوم الدار وقد أغلق الباب ومعه الحسن بن علي وعليه سلاحه فقال للحسن: ادخل إلى أمير المؤمنين فاقرأه السلام وقل له: إنما جئت لنصرتك فمرني بأمرك .

 فدخل الحسن ثم خرج فقال لأبيه: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: لا حاجة لي بقتال وإهراق الدماء قال: فنزع علي عمامة سوداء ورمي بها بين يدي الباب وجعل ينادي: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وإن الله لا يهدي كيد الخائنين .

 وعن شداد بن أوس نزيل الشام والمتوفى بها عهد معاوية أنه قال: لما اشتد الحصار بعثمان رضي الله عنه يوم الدار رأيت عليا خارجا من منزله معتما بعمامة رسول الله متقلدا سيفه وأمامة ابنه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم في نفر من المهاجرين والأنصار فحملوا على الناس وفرقوهم ثم دخلوا على عثمان فقال علي: السلام عليك يا أمير المؤمنين ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر، وإني والله لا أرى القوم إلا قاتلوك فمرنا فلنقاتل .

 فقال عثمان: انشد الله رجلا رأى لله عز وجل عليه حقا وأقر أن لي عليه حقا أن يهريق في سببي ملء محجمة من دم أو يهريق دمه في .

 فأعاد علي رضي الله عنه القول فأجاب عثمان بمثل ما أجاب، فرأيت عليا خارجا من الباب وهو يقول: أللهم إنك تعلم أنا قد بذلنا المجهود ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة فقالوا له: يا أبا الحسن ! تقدم فصل بالناس، فقال: لا أصلي بكم والإمام محصور ولكن أصلي وحدي، فصلى وحده وانصرف إلى منزله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع تلخيصه قرة العيون المبصرة 1: 180 .

 

/ صفحة 239 /

فلحقه ابنه وقال: والله يا أبت ! قد اقتحموا عليه الدار قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هم والله قاتلوه، قالوا: أين هو يا أبا الحسن ؟ ! قال: في الجنة والله زلفى، قالوا: وأين هم يا أبا الحسن ؟ ! قال: في النار والله .

 ثلاثا .

 الرياض النضرة 2: 127، تاريخ الخميس 2: 262 .

 ومن طريق محمد بن طلحة عن كناسة (1) مولي صفية: شهدت مقتل عثمان فاخرج من الدار أمامي أربعة من شباب قريش مضرجين بالدم محمولين كانوا يدرؤن عن عثمان وهم: الحسن بن علي و عبد الله بن الزبير ومحمد بن حاطب ومروان فقلت له: هل تدري محمد بن أبي بكر بشئ من دونه ؟ قال: معاذ الله دخل عليه فقال له عثمان: يا ابن أخي ! لست بصاحبي وكلمه بكلام فخرج (2) في الاسناد كنانة ذكره الأزدي في الضعفاء، وقال: لا يقوم إسناد حديثه وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك .

 وقال أيضا: ليس إسناده بمعروف (3) وروى البخاري في تاريخه 4 قسم 1 ص 237 من طريق كنانة مولى صفية قال: كنت أقود بصفية لترد عن عثمان فلقيها الأشتر فضرب وجه بغلتها حتى قالت: ردوني ولا يفضحني هذا الكلب .

 وكنت فيمن حمل الحسن جريحا، ورأيت قاتل عثمان من أهل مصر يقال له: جبلة .

 وقال سعيد المقبري عن أبي هريرة: كنت محصورا مع عثمان في الدار فرمي رجل منا، فقلت: يا أمير المؤمنين! الآن طاب الضراب قتلوا رجلا منا .

 قال: عزمت عليك يا أبا هريرة ! إلا رميت بسيفك، فإنما تراد نفسي، وسأقي المؤمنين بنفسي اليوم، قال أبو هريرة: فرميت بسيفي فلا أدري أين هو حتى الساعة (4) لم أقف علي رجال إسناد هذه الأسطورة غير سعيد المقبري، وهو سعيد بن أبي سعيد أبو سعد المدني، والمقبري نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاورا لها .

 قال يعقوب ابن شيبة والواقدي وابن حبان: إنه تغير وكبر واختلط قبل موته بأربع سنين . راجع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) كذا في بعض النسخ والصحيح: كنانة .

 (2) الاستيعاب 2، 478، تهذيب التهذيب 7: 141، تاريخ الخميس 2: 264 .

 (3) تهذيب التهذيب 8: 450 .

 (4) الاستيعاب 2: 478، تهذيب التهذيب 7: 142، تاريخ الخميس 2: 263 .

 

/ صفحة 240 /

تهذيب التهذيب 4: 38، ومتن الرواية أقوى شاهد على اختلاط الرجل، فإن أول من رمى يوم الدار هو رجل من أصحاب عثمان رمى نيار بن عياض الأسلمي وكان شيخا كبيرا فقتله الرجل كما مر في ص 201 ومضى في ص 200: إن أبا حفصة مولى مروان هو الذي أنشب القتال ورمى نيار الأسلمي، ولعلك تعرف أبا هريرة ومبلغه من الصدق والأمانة على ودايع العلم والدين، وإن كنت في جهل من هذا فراجع كتاب أبي هريرة لسيدنا الحجة شرف الدين العاملي حياه الله وبياه، ولعل تقاعد أبي هريرة عن نصرة الإمام أمير المؤمنين علي على السلام في حروبه الدامية كان لأنه لم يك يدري أين سيفه .

 وعن أشعب بن حنين مولى عثمان: إنه كان مع عثمان في الدار فلما حصر جر مماليكه السيوف فقال لهم عثمان: من أغمد سيفه فهو حر .

 فلما وقعت في أذني كنت والله أول من أغمد سيفه، فأعتقت .

 قال الذهبي: هذا الخبر باطل لأنه يقتضي أن لأشعب صحبة وليس كذلك لسان الميزان 4 :، 12 .

صورة مفصلة :

عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: كنا مع عثمان رضي الله عنه وهو محصور في الدار فقال: وبم يقتلونني ؟ وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير حق فيقتل بها، فوالله ما أحببت لديني بدلا منذ هداني الله تعالى، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت نفسا بغير حق، فبم يقتلونني ؟ فلما اشتد عطشه أشرف على الناس فقال: أفيكم علي ؟ فقالوا: لا .

 فقال: أفيكم سعد ؟ فقالوا: لا .

 فسكت ثم قال: ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء ؟ فبلغ ذلك عليا فبعث إليه بثلاث قرب مملؤة ماء فما وصل إليه حتى جرح بسببها عدة من بني هاشم وبني أمية، فلما بلغ عليا أن عثمان محاصر يراد قتله قام خارجا من منزله معتما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا سيفه وأمامه ابنه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من الصحابة والمهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ودخلوا على عثمان وهو محصور فقال له علي كرم الله وجهه: السلام عليك يا أمير المؤمنين ! إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالا ثلاثا إختر إحداهن:

/ صفحة 241 /

إما أن تخرج فتقاتلهم ونحن معك وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابا سوى الباب الذي هم عليه فتركب رواحلك وتلحق بمكة فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية .

 فقال عثمان: أما أن أخرج إلى مكة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 يقول: يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم .

 فلن أكون أنا .

 وأما أن ألحق بالشام فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 قال: فأذن لنا أن نقاتلهم ونكشفهم عنك، قال: فلا أكون أول من يأذن في محاربة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فخرج علي وهو يسترجع وقال للحسن والحسين: إذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل إليه، وبعث الزبير ابنه، وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من أصحاب محمد أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان ويسألونه إخراج مروان، فلما رأى ذلك محمد بن أبي بكر وقد رمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء على بابه وغيره، فخشي محمد بن أبي بكر أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن ويكشفوا الناس عن عثمان فأخذ بيد رجلين من أهل مصر فدخلوا من بيت كان بجواره، لأن كان من كان مع عثمان كانوا فوق البيوت ولم يكن في الدار عند عثمان إلا امرأته، فنقبوا الحائط فدخل عليه محمد بن أبي بكر فوجده يتلو القرآن فأخذ بلحيته فقال له عثمان: والله لو رآك أبوك لساءه فعلك .

 فتراخت يده ودخل الرجلان عليه فقتلاه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، قيل: جلس عمرو بن الحمق على صدره ضربه حتى مات، ووطأ عمير بن ضابئ على بطنه فكسر له ضلعين من أضلاعه، وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها لما كان حول الدار من الناس وصعدت امرأته فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل فدخل الناس فوجدوه مذبوحا وانتشر الدم على المصحف على قوله تعالى: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم "، وبلغ الخبر عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا فاسترجعوا، وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب ؟ ورفع يده فلطم الحسن، وضرب على صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير، وخرج وهو غضبان حتى أتى منزله، وجاء الناس يهرعون إليه فقالوا له: نبايعك فمد يدك فلا بد لنا من أمير .

 فقال علي: والله أني

/ صفحة 242 /

لأستحي أن أبايع قوما قتلوا عثمان، وإني لأستحي من الله تعالى أن أبايع وعثمان لم يدفن بعد، فافترقوا ثم رجعوا فسألوه البيعة فقال: أللهم إني مشفق مما أقدم عليه فقال لهم: ليس ذلك إليكم إنما ذلك لأهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة، فلم يبق أحد من أهل بدر حتى أتى عليا فقالوا: ما نرى أحدا أحق بها منك، مد يدك نبايعك .

 فبايعوه، فهرب مروان وولده، وجاء علي وسأل امرأة عثمان فقال لها: من قتل عثمان ؟ قالت: لا أدري دخل عليه محمد بن أبي بكر ومعه رجلان لا أعرفهما، فدعا محمدا فسأله عما ذكرت امرأة عثمان فقال محمد: لم تكذب والله دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكر لي أبي فقمت عنه وأنا تائب إلى الله تعالى، والله ما قتلته ولا أمسكته .

 فقالت امرأته: صدق ولكنه أدخلهما عليه .

 راجع أخبار الدول للقرماني هامش الكامل لابن الأثير 1: 210 - 213 .

نظرة في الموضوعات :

هذه الموضوعات اختلقت تجاه التاريخ الصحيح المتسالم عليه المأخوذ من مئات الآثار الثابتة المعتضد بعضها ببعض، فيضادها ما أسلفناه في البحث عن آراء أعاظم الصحابة في عثمان وما جرى بينهم وبينه من سئ القول والفعل، وفيهم بقية أصحاب الشورى وغير واحد من العشرة المبشرة وعدة من البدريين، وقد جاء فيه ما يربو على مائة وخمسين حديثا راجع ص 69 - 157 من هذا الجزء .

 وتكذبها أحاديث جمة مما قد منا ذكرها ص 157 - 163 من حديث المهاجرين والأنصار وأنهم هم قتلة عثمان .

 ومن حديث كتاب أهل المدينة إلى الصحابة في الثغور من أن الرجل أفسد دين محمد فهلموا وأقيموا دين محمد صلى الله عليه وسلم .

 ومن حديث كتاب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ويقسمون له بالله أنهم لا يمسكون عنه أبدا حتى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من الله .

 ومن حديث كتاب المهاجرين إلى مصر أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها، فإن كتاب الله قد بدل، وسنة رسوله قد غيرت .

 إلى آخر ما مر في ص 161، 162 .

 

/ صفحة 243 /

ومن حديث الحصار الأول المذكور في صفحة 168 - 177 .

 ومن حديث كتاب المصريين إلى عثمان إنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة، أو ضلالة مجلحة مبلجة . إلى آخر مر ص 170 . ومن حديث عهد الخليفة على نفسه أن يعمل بالكتاب والسنة سنة 35 كما مر ص 170 - 172 . ومن حديث توبته مرة بعد أخرى كما فصلناه ص 172 - 178 . ومن حديث الحصار الثاني الذي أسلفناه ص 177 - 189 . ومن حديث كتاب عثمان إلى معاوية في أن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة . إلى آخر ما سبق في صفحة 190 . ومن حديث كتابه إلى الشام عامة: إني في قوم طال فيهم مقامي واستعجلوا القدر في . وخيروني بين أن يحملوني على شارف من الإبل الدحيل، وبين أن أنزع لهم رداء الله .

 إلى آخر ما مر ص 190 . ومن حديث كتابه أهل البصرة المذكور صفحة 191 .

 ومن حديث كتابه إلى أهل الأمصار مستنجدا يدعوهم إلى الجهاد مع أهل المدينة واللحوق به لنصره كما مر ص 191 .

 ومن حديث كتابه إلى أهل مكة ومن حضر الموسم ينشد الله رجلا من المسلمين بلغه كتابه إلا قدم عليه .. إلخ .

 ومن حديث يوم الدار والقتال فيه، وحديث من قتل في ذلك المعترك مما مضى في ص 198 - 204 .

 ومن حديث مقتل عثمان وتجهيزه ودفنه بحش كوكب بدير سلع مقابر اليهود المذكور ص 204 - 217 .

 ومما ثبت من أحوال هؤلاء الذين زعموا أنهم بعثوا أبنائهم للدفاع عن عثمان، وأنهم لم يفتأوا مناوئين له إلى أن قتل وبعد مقتله إلى أن قبر في أشنع الحالات، أما علي أمير المؤمنين فمن المتسالم عليه أنه لم يحضر مقتل الرجل في المدينة فضلا عن دخوله عليه قبيل ذلك واستيذانه منه للذب عنه وبعد مقتله وبكاءه عليه وصفعه ودفعه وسبه

/ صفحة 244 /

ولعنه وحواره حول الواقعة، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 230 ردا علي حديث: الظاهر أن هذا ضعيف لأن عليا لم يكن بالمدينة حين حصر عثمان ولا شهد قتله .

 وقد سأله عثمان أن يخرج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة، و كان ذلك مرة بعد أخرى وفي إحداهما قال لابن عباس: قل له فليخرج إلى ماله بينبع فلا أغتم به ولا يغتم بي .

 فأتى ابن عباس عليا فأخبره فقال عليه السلام: يا ابن عباس ! ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب أقبل وأدبر، بعث إلي أن أخرج، ثم بعث إلي أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج .

 وعلي عليه السلام هو الذي مر حديث رأيه في عثمان فراجع حتى يأتيك اليقين بأنه صلوات الله عليه لم يكن كالواله الحزين، ولم يكن ذاهبا عقله يوم الدار، ولا يقذفه بهذه الفرية الشائنة إلا من ذهبت به الخيلاء، وتخبطه الشيطان من المس، وخبل حب آل أمية قلبه واختبله، فلا يبالي بما يقول، ولا يكترث لما يتقول .

 وأما طلحة فحدث عنه ولا حرج، كان أشد الناس على عثمان نقمة، وله أيام الحصارين وفي يومي الدار والتجهيز خطوات واسعة ومواقف هائلة خطرة ثائرة على الرجل كما مر تفصيل ذلك كله، وإن كنت في ريب من ذلك فاسأل عنه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لتسمع منه قوله: والله ما استعجل متجردا للطلب بدم عثمان إلا خوفا من أن يطالب بدمه لأنه مظنته، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط مما أجلب فيه ليلبس الأمر ويقع الشك . وقوله: لحا الله ابن الصعبة أعطاه عثمان ما أعطاه وفعل به ما فعل . إلى أقواله الأخرى التي أوقفناك عليها .

 وسل عنه عثمان نفسه وقد مرت فيه كلماته المعربة عن جلية الحال، وسل عنه مروان لماذا قتله ؟ وما معنى قوله حين قتله لأبان عثمان: قد كفيتك بعض قتلة أبيك ؟ وسل عنه سعدا ومحمد بن طلحة وغيرهما ممن مر حديثهم .

 وأما الزبير فإن سألت عنه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فعلى الخبير سقطت قال عليه السلام له: أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته ؟ سلط الله على أشدنا عليه اليوم ما يكره، وقال فيه وفي طلحة: إنهم يطلبون حقا هم تركوه، ودما هم سفكوه، فإن كنت شريكهم فيه فإن لهم نصيبهم منه، وإن كان ولوه دوني فما الطلبة إلا قبلهم .

 إلى آخر ما

/ صفحة 245 /

أسلفناه من كلماته عليه السلام .

 وقد مر قول ابن عباس: أما طلحة والزبير فإنهما أجلبا عليه وضيقا خناقه .

 و قول عمار بن ياسر في خطبة له: إن طلحة والزبير كانا أول من طعن وآخر من أمر .

 وقول سعيد بن العاص لمروان: هؤلاء قتلة عثمان معك إن هذين الرجلين قتلا عثمان: طلحة والزبير، وهما يريدان الأمر لأنفسهما، فلما غلبا عليه قالا: نغسل الدم بالدم والحوبة بالحوبة .

 وأما سعد بن أبي وقاص فهو القائل كما مر حديثه: وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعنا عنه ولكن عثمان غير وتغير، وأحسن وأساء، فإن كنا أحسنا فقد أحسنا، وإن كنا أسأنا فنستغفر الله .

 وأعطف على هؤلاء بقية الصحابة الذين حسب واضعوا هذه الروايات أنهم بعثوا أبناءهم للدفاع عن عثمان، وقد أسلفنا إجماعهم عدا ثلاثة رجال منهم على مقته المفضي إلى قتله، وهل ترى من المعقول أن يمقته الآباء إلى هذا الحد الموصوف ثم يبعثوا أبنائهم للمجالدة عنه ؟ إن هذا إلا اختلاق .

 وهل من المعقول أن القوم كانوا يمحضون له الولاء، وحضروا للمناضلة عنه، فباغتهم الرجلان اللذين أجهزا عليه وفرا ولم يعلم بهما أحد إلى أن أخبرتهم بهما الفرافصة ولم تعرفهما هي أيضا، وكانت إلى جنب القتيل تراهما وتبصر ما ما ارتكباه منه ؟ .

 وهل عرف مختلق الرواية التهافت الشائن بين طرفي ما وضعه من تحريه تقليل عدد المناوئين لعثمان المجهزين عليه حتى كاد أن يخرج الصحابة الآباء منهم والأبناء عن ذلك الجمهور، ومما عزاه إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السلام من قوله لما انثال إليه القوم ليبايعوه: والله إني لأستحي أن أبايع قوما قتلوا عثمان .

 الخ ؟ وهو نص على أن مبايعيه أولئك هم كانوا قتلوا عثمان وهم هم المهاجرون والأنصار الصحابة الأولون الذين جاء عنهم يوم صفين لما طلب معاوية من الإمام عليه السلام قتلة عثمان وأمر عليه السلام بتبرزهم فنهض أكثر من عشرة آلاف قائلين: نحن قتلته، يقدمهم عمار بن ياسر، ومالك الأشتر، و محمد بن أبي بكر، وفيهم البدريون، فهل الكلمة المعزوة إلى الإمام عليه السلام لمبايعيه عبارة أخرى عن الرجلين المجهولين اللذين فرا ولم يعرف أحد خبرهما ؟ أو هما وأخلاط من

/ صفحة 246 /

الناس الذين كانت الصحابة تضادهم في المرمى ؟ وهل في المعقول أن يلهج بهذا إلا معتوه ؟ وهل نحت هذا الانسان الوضاع إن صدق في أحلامه عذرا مقبولا لأولئك الصحابة العدول الذابين عن عثمان بأنفسهم وأبنائهم الناقمين على من ناوئه في تأخيرهم دفنه ثلاثا وقد ألقي في المزبلة حتى زج بجثمانه إلى حش كوكب، دير سلع، مقبرة اليهود، ورمي بالحجارة، وشيع بالمهانة، وكسر ضلع من أضلاعه، وأودع الجدث بأثيابه من غير غسل ولا كفن، ولم يشيعه إلا أربعة، ولم يمكنهم الصلاة عليه ؟ فهل كل هذا مشروع في الاسلام، والصحابة العدول يرونه ويعتقدون بأنه خليفة المسلمين، وأن من قتله ظالم، ولا ينبسون فيه ببنت شفة، ولا يجرون فيه أحكام الاسلام ؟ أو أنهم ارتكبوا ذلك الحوب الكبير وهم لا يتحوبون متعمدين ؟ معاذ الله من أن يقال ذلك .

 أو أن هذا الانسان زحزحته بوادره عن مجاري تلكم الأحكام، وحالت شوارده بينه وبين حرمات الله، وشرشرت منه جلباب الحرمة والكرامة ومزقته تمزيقا، حتى وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة ؟ ومن الكذب الصريح في هذه الروايات عد سعد بن أبي وقاص في الرعيل الأول ممن بايع عليا عليه السلام وهو من المتقاعدين عن بيعته إلى آخر نفس لفظه وهذا هو المعروف منه والمتسالم عليه عند رواة الحديث ورجال التاريخ، وقد نحتت يد الافتعال في ذلك له عذرا أشنع من العمل، راجع مستدرك الحاكم 3: 116 .

 ومن المضحك جدا ما حكاه البلاذري في الأنساب 5: 93 عن ابن سيرين من قوله: لقد قتل عثمان وإن في الدار لسبعمائة منهم الحسن وابن الزبير فلو أذن لهم لأخرجوهم من أقطار المدينة .

 وعن الحسن البصري (1) قال: أتت الأنصار عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين ! ننصر الله مرتين نصرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وننصرك . قال: لا حاجة لي في ذلك ارجعوا .

 قال الحسن: والله لو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه .

 أي عذر معقول أو مشروع هذا ؟ يقتل خليفة المسلمين في عقر داره بين ظهراني سبعمائة صحابي عادل وهم ينظرون إليه، ومحمد بن أبي بكر قابض على لحيته عال بها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع إزالة الخفاء 2: 242.

/ صفحة 247 /

حتى سمع وقع أضراسه، وشحطه من البيت إلى باب داره، وعمرو بن الحمق يثب ويجلس علي صدره، وعمير بن ضابئ يكسر أضلاعه، وجبينه موجوء بمشقص كنانة بن بشر، ورأسه مضروس بعمود التجيبي، والغافقي يضرب فمه بحديد، ترد عليه طعنة بعد أخرى حتى أثخنته الجراح وبه حياة فأرادوا قطع رأسه فألقت زوجتاه بنفسهما عليه، كل هذه بين يدي أولئك المئات العدول أنصار الخليفة غير أنهم ينتظرون حتى اليوم إلى إذن القتيل وإلا كانوا أخرجوهم من أقطار المدينة، ولو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه .

أين هذه الأضحوكة من الاسلام والكتاب والسنة والعقل والعاطفة والمنطق والاجماع والتاريخ الصحيح ؟ ! .

نظرة في المؤلفات

إن ما سطرناه في عثمان إلى هذا الحد أساس ما علوا عليه بنيان فضله، وتبرير ساحته عن لوت أفعاله وتروكه، وتعذيره في النهابير التي ركبها والدفاع عنه، وقد أوقفناك على الصحيح الثابت مما جاء فيه، وعلى المزيف الباطل مما وضع له، ومن جنايات المؤرخين ضربهم الصفح عن الأول، وركونهم إلى الفريق الثاني من الروايات فبنوا ما شادوه على شفا جرف هار، فلم يأت بغيرها أي عثماني في العقيدة، أموي في النزعة، ضع يدك على أي كتاب لأحدهم في التاريخ والحديث مثل تاريخ الأمم والملوك للطبري، والتمهيد للباقلاني، والكامل لابن الأثير، والرياض النضرة للمحب الطبري، وتاريخ أبي الفدا، وتاريخ ابن خلدون، والبداية والنهاية لابن كثير، والصواعق لابن حجر، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، وروضة المناظر لابن الشحنة الحنفي، وتاريخ أخبار الدول للقرماني، وتاريخ الخميس للديار بكري، ونزهة المجالس للصفوري، ونور الأبصار للشبلنجي، تجده مشحونا بتلكم الموضوعات المسلسلة، أتوا بها مرسلين إياها إرسال المسلم، وشوهوا بها صحيفة التاريخ بعد ما سودوا صحائفهم، وموهوا بها على الحقائق الراهنة .

 وجاء بعد هؤلاء المحدثون المتسرعون وهم يحسبون أنهم يمحصون التاريخ والحديث تمحيصا، ويحللون القضايا والحوادث تحليلا صحيحا متجردين عن الأهواء والنزعات غير متحيزين إلى فئة، ولا جانحين إلى مذهب، لكنهم بالرغم من هاتيك الدعوى

/ صفحة 248 /

وقعوا في ذلك وهم لا يشعرون، فحملوا إلينا كل تلكم الدسائس في صور مبهرجة رجاء أن تنطلي عند الرجرجة الدهماء، لكن قلم التنقيب أماط الستار عن تمويههم، وعرف الملأ الباحث أنهم إنما ردوا ما هنالك من بوائق ومخازي .

كما ردها يوما بسوءته عمرو

وأثبتوا فضائل بنيت على أساس منهدم، وربطوها بعرى متفككة، فهلم معي نقرأ صحيفة من " الفتوحات الإسلامية " تأليف مفتي مكة السيد أحمد زيني دحلان مما ذكره في الجزء الثاني من سيرة الخلفاء الأربعة ص 354 - 517 قال في ص 492 تحت عنوان: ذكر ما كان لسيدنا عثمان من الاقتصاد في الدنيا وحسن السيرة: كان عثمان رضي الله عنه زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة، عادلا في بيت المال (1) لا يأخذ لنفسه منه شيئا (2) لأنه كان غنيا، وغناه كان مشهورا من حياة النبي صلى الله وعليه وسلم وبعد وفاته، وكان كثير الانفاق في نهاية الجود والسماحة والبذل في القريب والبعيد (3) وأنزل الله فيه: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (4) وقوله تعالى: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا و قائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه (5) .

 وقوله تعالى: رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه (6) .

 وكان يخطب الناس وعليه إزار غليظ عدني ثمنه أربعة دراهم (7) وكان يطعم الناس طعام الأمارة ويدخل بيته يأكل الخل والزيت، قال الحسن البصري: دخلت المسجد فإذا أنا بعثمان متكئا على ردائه فأتاه سقا آن يختصمان إليه فقضى بينهما،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) فلماذا نقم عليه الصحابة أجمع ؟ ولماذا قتلوا ذلك الزاهد الراغب العادل ؟ (2) راجع الجزء الثامن ص 288، 289 ط 2 .

 (3) إلا من كان يمت بالبيت الهاشمي ويحمل ولاء العترة كأبي ذر وعمار وابن مسعود ونظرائهم .

(4) مر في الجزء الثامن ص 57 ط 2 بطلان هذا التقول على الله .

 (5) أسلفنا في هذا الجزء في ترجمة عمار القول الصحيح في نزول الآية .

 (6) مر في الجزء الثاني ص 51 ط 2 نزولها في علي وحمزة وعبيدة بن الحرث .

 وأخرج البخاري في صحيحه في التفسير ج 7: 91 نزولها في أنس بن النضر وذكر ابن حجر نزولها في جماعة ولم يذكر فيهم عثمان، راجع فتح الباري 8: 420 .

 (7) راجع ما رويناه في الجزء الثامن ص 291 ط 2 .

 

/ صفحة 249 /

وعن عبد الله بن شداد قال: رأيت عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة وهو يومئذ أمير المؤمنين وعليه ثوب قيمته أربعة دراهم .

 وسئل الحسن البصري ما كان رداء عثمان ؟ قال: كان قطري .

 قالوا: كم ثمنه ؟ قال: ثمانية دراهم .

 وكان رضي الله عنه شديد المتواضع، قال الحسن البصري: رأيت عثمان وهو أمير المؤمنين نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه فيجئ الرجل فيجلس إليه، ثم يجئ الرجل فيجلس إليه، فيجلس هو كأنه أحدهم وروى خيثمة قال: رأيت عثمان نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين، وفي رواية أخرى لخيثمة أيضا: رأيت عثمان يقيل في المسجد ويقوم وأثر الحصاة في جنبه فيقول الناس: يا أمير المؤمنين ! وكان يلي وضوءه في الليل بنفسه فقيل له: لو أمرت بعض الخدم لكفوك، قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه، وكان رضي الله عنه يعتق في كل جمعة رقبة منذ أسلم إلا أن لا يجد ذلك تلك الجمعة فيجمعها في الجمعة الأخرى .

 قال العلامة ابن حجر في الصواعق: إن جملة ما أعتقه عثمان رضي الله عنه ألفان وأربعمائة .

 ومن تواضعه: أنه كان يردف غلامه خلفه أيام خلافته ولا يعيب ذلك .

 وكان يصوم النهار ويقول الليل إلا هجعة من أوله .

 وكان يختم القرآن كل ليلة في صلاته .

 وكان كثيرا ما يختمه في ركعة، وكان إذا مر على المقبرة يبكي حتى تبتل لحيته، وكان من العشرة المبشرين بالجنة .

 ومن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض، وكان من السابقين للاسلام، فإنه أسلم بعد أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة، و شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة والزهد في الدنيا، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: رحمك الله يا عثمان ! ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك (1) وكثرت الفتوحات في زمن خلافته فقد فتح في زمنه أفريقية وسواحل الأردن وسواحل الروم واصطخر وفارس وطبرستان وسجستان وغير ذلك، وكثرت أموال الصحابة في خلافته حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمائة ألف، ونخلة بألف، وعن الحسن البصري قال: كانت الأرزاق في زمن عثمان وافرة وكان الخير كثيرا، وأصاب الناس مجاعة في غزوة تبوك فاشترى طعاما يصلح العسكر وأخرج أبو يعلى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عثمان في الجنة وقال: لكل نبي خليل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) هل تؤيد هذه الصحيحة المزعومة وما قبلها سيرة الرجل ؟ ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون .

 

/ صفحة 250 /

في الجنة وإن خليلي عثمان بن عفان .

 وفي رواية: لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان بن عفان .

 وقال صلى الله عليه وسلم: ليدخلن بشفاعة عثمان سبعون ألف كلهم استحقوا النار الجنة بغير حساب .

 وأخرج أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه: أول من هاجر إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر إلى الله تعالى بأهله بعد لوفى، ولما زوج النبي صلى الله عليه وسلم بنته أم كلثوم لعثمان قال لها: إن بعلك لأشبه الناس بجدك إبراهيم وأبيك محمد صلى الله عليه وسلم .

 وقال صلى الله عليه وسلم: أشد أمتي حياء عثمان بن عفان .

 وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله أوحى إلي أن أزوج كريمتي يعني رقية وأم كلثوم من عثمان .

 وقال صلى الله عليه وسلم: إن عثمان حيي تستحي منه الملائكة، و قال صلى الله عليه وسلم: إنما يشبه عثمان بأبينا إبراهيم .

 وقال صلى الله عليه وسلم: ما زوجت عثمان بأم كلثوم إلا بوحي من السماء .

 وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان: يا عثمان ! هذا جبريل يخبرني إن الله زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها، وأخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله ! علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقال عثمان: يا رسول الله ! علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ما على عثمان ما فعل بعد اليوم .

 وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثره في حجره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم .

 وفي رواية عن حذيفة: إنها عشرة آلاف دينار فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: غفر الله لك يا عثمان ! ما أسررت وما أعلنت وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي عثمان ما عمل بعدها، وأخرج الواحدي: إن الله أنزل بسبب ذلك في حق عثمان: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

 وعن أبي سعيد الخدري قال: ارتقبت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من أول الليل إلى أن طلع الفجر يدعو لعثمان بن عفان يقول: أللهم عثمان بن عفان رضيت عنه فارض عنه، فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر .

 وعن جابر بن عطية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا عثمان ! ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما أبديت وما هو كائن إلى يوم القيامة .. الخ .

 

/ صفحة 251 /

هذه بلايا تمنتها يد الغلو في الفضائل، منيت بها الأمة، وطمست تحت أطباقها حقايق العلم والدين، وانطمست بها أنوار الهداية، وستعرف أنها روايات مختلقة زيفتها نظارة التنقيب ولا يصح منها شئ، غير أن المفتي دحلان على مطمار قومه أرسلها إرسال المسلم، وموهها على أغرار الملأ الديني، ولا يجد عن سردها منتدحا، ذلك مبلغهم من العلم إن هم إلا يظنون، ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا .

(الفتنة الكبرى) :

واقرأ صحيفة من " الفتنة الكبرى " للدكتور طه حسين قال في بدء كتابه .

 هذا حديث أريد أن أخلصه للحق ما وسعني إخلاصه للحق وحده، وأن أتحرى فيه الصواب ما استطعت إلى تحري الصواب سبيلا، وأن أحمل نفسي فيه على الانصاف لا أحيد عنه ولا أمالئ فيه حزبا من أحزاب المسلمين على حزب، ولا أشايع فيه فريقا من الذين اختصموا في قضية عثمان دون فريق، فلست عثماني الهوى، ولست شيعة لعلي، و لست أفكر في هذه القضية كما كان يفكر فيها الذين حاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وجنوا معه أو بعده نتائجها .

 وأنا أعلم أن الناس ما زالوا ينقسمون في أمر هذه القضية إلى الآن كما كانوا ينقسمون فيها أيام عثمان رحمه الله، فمنهم العثماني الذي لا يعدل بعثمان أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الشيخين، ومنهم الشيعي الذي لا يعدل بعلي رحمه الله بعد النبي أحدا لا يستثني الشيخين ولا يكاد يرجو لمكانهما وقارا، ومنهم من يتردد بين هذا وذاك يقتصد في عثمانيته شيئا، أو يقتصد في تشيعه لعلي شيئا، فيعرف لأصحاب النبي مكانتهم ويعرف لأصحاب السابقة منهم سابقتهم، ثم لا يفضل بعد ذلك أحدا منهم على الآخر يرى أنهم جميعا قد اجتهدوا ونصحوا لله ولرسوله وللمسلمين، فأخطأ منهم من أخطأ وأصاب منهم من أصاب، ولأولئك وهؤلاء أجرهم لأنهم لم يتعمدوا خطيئة ولم يقصدوا إلى إساءة، وكل هؤلاء إنما يرون آراءهم هذه يستمسكون بها ويذودون عنها و يتفانون في سبيلها، لأنهم يفكرون في هذه القضية تفكيرا دينيا، يصدرون فيه عن الإيمان، ويبتغون به ما يبتغي المؤمن من المحافظة على دينه والاستمساك بيقينه وابتغاء

/ صفحة 252 /

رضوان الله بكل ما يعمل في ذلك أو يقول .

 وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدا كاملا من النزعات والعواطف والأهواء مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها الخ .

 هكذا يحسب الدكتور ويبدي أنه لا يروقه النزول على حكم العاطفة ولا التحيز إلى فئة أو جنوح إلى مذهب، وقد تجرد فيما كتب عن كل ذلك حتى عن الإيمان والدين، وزعم أنه قصر نظرته في قضايا عثمان على البساطة ليتسنى له الحكم الطبيعي، والقول في تلكم الحوادث على الحقائق المحضة، هكذا يحسب الدكتور، لكنه سرعان ما انقلب على عقبيه كرا على ما فر منه، فلم يسعه إلا الركون إلى العواطف ومتابعة النزعات، فلم يرتد إلا تلكم السفاسف التي اختلقتها سماسرة العثمانيين، ولم يسرح في مسيره إلا مقيدا بسلاسل أساطير الأولين التي سردها الطبري ومن شايعه أو سبقه بتلك الأسانيد الواهية والمتون المزيفة التي أوقفناك عليها في هذا الجزء وفيما سبقه من الأجزاء، فلم نجد مائزا بين هذا الكتاب وبين غيره من الكتب التي حسب الدكتور أن مؤلفيها حدت بهم الميول والنزعات، فما هو إلا فتنة كبرى كما سماه هو بذلك .

 ترى الدكتور يحايد حذرا من أن يحيد عن مهيع الحق ويجور في الحكم، و زعم الحياد أسلم في اليوم الحاضر كما كان في الأمس الدابر، فذهب مذهب سعد بن أبي وقاص الحايد في القضية واتبع أثره، قال في ديباجة كتابه: عاش قوم من أصحاب النبي حين حدثت هذه القضية وحين اختصم المسلمون حولها أعنف خصومة عرفها تاريخهم فلم يشاركوا فيها ولم يحتملوا من أعبائها قليلا ولا كثيرا، وإنما اعتزلوا المختصمين وفروا بدينهم إلى الله، وقال قائلهم سعد بن أبي وقاص رحمه الله: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول: أصاب هذا وأخطأ ذاك .

 فأنا أريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهم الله، لا أجادل عن أولئك ولا عن هؤلاء، وإنما أحاول أن أتبين لنفسي وأبين للناس الظروف التي دفعت أولئك وهؤلاء إلى الفتنة، وما استتبعت من الخصومة العنيفة التي فرقتهم وما زالت تفرقهم إلى الآن، وستظل تفرقهم في أكبر الظن إلى آخر الدهر، وسيرى الذين يقرأون

/ صفحة 253 /

هذا الحديث أن الأمر كان أجل من عثمان وعلي وممن شايعهما وقام من دونهما، وأن غير عثمان لو ولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن، ومن اختصام الناس حوله واقتتالهم بعد ذلك فيه . ا ه‍ .

 هاهنا نجد الدكتور جاريا على ما عهد إلى نفسه تجرد عن العواطف، وجانب المبادئ الدينية، وحايد الدين الحنيف حقا، ونظر إلى القضية بالحرية المحضة، وحسبها فتنة يحق للعاقل أن يكون فيها كابن لبون لا ظهر له فيركب ولا ضرع فيحلب، ونعم الرأي هذا لولا الاسلام المقدس، لولا ما جاء به نبي العظمة، لولا ما نطق به كتاب الله العزيز، لولا ما تقتضيه فروض الانسانية والعواطف البشرية القاضية بخلاف ما ذهب إليه الدكتور، وإني لست أقضي العجب منه، ولست أدري كيف يقدس مذهب ابن أبي وقاص، أيسوغ للباحث المسلم أن يصفح في تلكم القضايا عن حكم الدين المقدس، ويشذ عما قرره نبي الاسلام، ويسحق العواطف كلها حتى ما يستدعيه الطبع الانساني والغريزة العادلة في كسح الفساد والتفاني دون صالح المجتمع العام ؟ ألم يكن هنالك كتاب ناطق أو سنة محكمة أو شريعة حاكمة أو عقل سليم يبعث الملأ الديني إلى الدفاع عن كل مسلم مدت إليه يد الظلم والجور فضلا عن خليفة الوقت الواجب طاعته ؟ ما الذي أحوج المتمسك بعرى الدين الحنيف إلى سيف يعقل ويبصر وينطق والله يقول: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ؟ أو لم يكفهم إنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه .

 ما الذي أذهل الدكتور عن قول الصحابي العظيم حذيفة اليماني: لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل ؟ وكيف يشتبه الحكم في القضية على المسلم النابه وهي لا تخلو عن وجهين، فإن عثمان إن كان إماما عادلا قائما بالقسط عاملا بالكتاب والسنة مرضيا عند الله ؟ فالخروج عليه معلوم الحكم عند جميع فرق المسلمين لا يختلف فيه اثنان، ولا تشذ فئة عن فئة، وإن لم يكن كذلك وكان كما حسبه أولئك العدول من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومرت آرائهم ومعتقداتهم فيه ؟

/ صفحة 254 /

فالحكم أيضا بين مبرهن بالكتاب العزيز كما استدل بذلك الثائرون عليه لما قال لهم: لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه . أو كفر بعد إسلامه، أو قتل نفسا بغير نفس فيقتل بها .

 فقالوا: إنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت: قتل من سعى في الأرض فسادا، وقتل من بغى، ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شئ من الحق ومنعه ثم قاتل دونه وكابر عليه، وقد بغيت، ومنعت الحق، وحلت دونه وكابرت عليه .

 الحديث " راجع ص 205 " فنحن لا نعرف وجها للحياد كما ذهب إليه ابن أبي وقاص في القضية وفي المواقف الهائلة بعدها، فالحياد - وإن راق الدكتور - تقاعد عن حكم الله، وتقاعس عن الواجب الديني، وخروج عما قررته الحنيفية البيضاء، نعم: الحياد حيلة أولئك المتشاغبين المتقاعدين عن بيعة إمام المتقين أمير المؤمنين، المتقاعسين عن نصرته، المتحايدين عن حكم الكتاب والسنة في حروبه ومغازيه، عذر تترس به سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري ومحمد بن مسلمة السابقون الأولون من رجال الحياد الزائف، والانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره .

كتاب عثمان بن عفان

وأعطف على كتاب عثمان بن عفان للمدرس في كلية اللغة العربية بمصر الأستاذ صادق إبراهيم عرجون نظرة ممعنة حيث يقول في فاتحته: فهذا طراز من البحث في سيرة ثالث الراشدين " عثمان " رضي الله عنه، صورت به حياته صورة لا أعيذها من إجمال غير مجحف بحق، ولا أعضها تفصيل يظهر حجة أو يدفع شبهة .

 وقد احتفلت فيه بتحقيق ما احتف بهذه السيرة الأسيفة من عوامل اجتماعية و سياسية، دفعت المجتمع الاسلامي دفعا عاصفا إلى أخطر انقلاب عرفه التاريخ في الاسلام وسيرة عثمان رضي الله عنه حرية بالبحث الممحص الهادئ، ليكشف منها ما سترته الأقاصيص العابثة من فضائل، وما شوهته الروايات الغالطة من محاسن، ويصحح ما غالطت بينها من حقائق، ويزيف ما بهرجه المتقولون من أكاذيب مزورة وحكايات باطلة .

 

/ صفحة 255 /

وقد حاولت جهدي أن أتتبع الخطوط الأصيلة في حياة عثمان رضي الله عنه، فلائمت بينها حتى ارتسمت منها هذه الصورة التي أرجو أن تكون لبنة بين لبنات متساندة في دراسة حياة رجالات الاسلام، وسير أبطاله الغر الميامين، تبصرة وذكرى للمؤمنين . والله ولي التوفيق . ا ه‍ .

 ثم ألق نظرة أخرى على مواضيع كتابه تجدها غير منطبقة على ما يقول في شئ منها، وإنما هي نعرات طائفية ممقوتة، وفضائل مفتعلة دستها يد الغلو فيها، وسفاسف موضوعة حبذت الشهوات اختلاقها، كلل أساطير السلف بزخرف القول، وزخرف أباطيل الأولين بالبيان المزور، لم نجد له فحصا عن حال الأسانيد، وتهافت المتون، وفقه الحديث، وطرق مواضيع مهمة من فقه عثمان وأغاليطه وأحداثه وهو يروقه التفصي عنها فلم يتفص إلا بالتافهات لا سيما في المسائل الفقهية التي هو بمجنب عنها، فنحت لها أعذارا باردة، أو أنها أعظم من تلكم المآثم، فلنمر عليها كراما .

 وما ظنك بكتاب يكون من مصادره كتاب فجر الاسلام، لأحمد أمين ذلك المتحذلق المختلق، وكتاب الخضري ذلك الأموي المباهت، ومحاضرات كرد علي العثماني الشامي المناوئ لأهل بيت الوحي، وأمثال هذه من كتب السلف والخلف مما لا يعرج عليه ؟ وفيه الخلط والخبط، وضوضاء الدجالين، ولغط المستأجرين .

 ومن أعجب ما رأيت قوله ص 41 من الكتاب تحت عنوان " الكذب على ذلك رسول الله ": وفي هذه المرحلة من تاريخ الاسلام بدئت أكاذيب الفرق والأحزاب فيما يكيد به بعضها لبعض، حتى أخذت تلك الأكاذيب صورة الحجاج بأحاديث يتقولها زعماء الفرق ورؤساء الأحزاب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كثر من هذه الأكاذيب ما زعموه كان في حق الأئمة والخلفاء، وقالت كل شيعة فيمن شايعته وفي منافسيه عندها ما شاء لها الهوى، وتجاذب هذا النوع طرفي الافراط والتفريط مدحا وذما، و اختلاقا وتقولا، حتى غشى سير هؤلاء الأجلاء بغشاء من الغموض حجب الحقايق عن كثير من الناظرين .

 وليس بأقل خطرا من ذلك ما افترقوه في جنب القرآن الكريم من تأويلات محرفة لآيات الله تعالى عن مواضعها، ومن هنا وهناك تألفت سلسلة الموضوعات

/ صفحة 256 /

والخرافات والأساطير التي ابتلي بها المسلمون، وانتشرت بينهم التلبيسات الملتوية والشبه الغامضة، فشوهت جمال الشريعة المطهرة، وحشي بها كثير من كتب المؤلفين المتقدمين والمتأخرين، حتى أصبحت وبالا على الدين، وشرا على المسلمين، وحائلا دون نهضتهم وتقدمهم، وسلاحا في أيدي خصوم الاسلام، وعائقا عن الوصول إلى كثير من الحقايق التاريخية والعلمية والدينية، ولولا توفيق الله تعالى رحمة بهذه الأمة، ورعاية لهذا الدين الكريم، لطائفة من أئمة المسلمين المصطفين الأخيار، انتهضوا لنقد الأسانيد وتنقيح الروايات، وبهرجة الزائف منها، وحظر الرواية عن كل صاحب بدعة في الاسلام، لما بقيت للاسلام صورته النيرة التي جاء بها القرآن الحكيم، وأداها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه نقية صافية . ا ه‍ .

 هذه نفثات الأستاذ الصادق، وهذه حسراته وزفراته المتصاعدة وراء ضياع التاريخ الاسلامي، وراء طمس الحقايق تحت أطباق الظلمات، وراء تشويه الأساطير والمخاريق والأباطيل جمال الشريعة المطهرة، ولعمر الحق لقد أحسن وأجاد، والرايد لا يكذب، غير أن المسكين هو من أسراء تلكم السلاسل المتسلسة من الموضوعات والخرافات التي ابتلي بها المسلمون، وعاقته الأغشية المدلهمة عن الوصول إلى الحقايق التاريخية والعلمية والدينية، وثبطته التلبيسات الملتوية عن نيل الصحيح الناصع من التاريخ والحديث، فما أصاب من الحق نيلا، وما أسعفته فكرته هذه على الطامات ولا قدر شعرة، وما أوضحت له سبل النجاح، وما هدته إلى المهيع اللايح، فليته ثم ليته كان يأخذ بأقوال أولئك الأئمة المصطفين الأخيار في نقد الأسانيد في الجرح والتعديل، وكان يعمل بها ويتخذها دستورا لنفسه، مقياسا فيما سطره من الأكاذيب والأفائك، وليته كان يرحم هذه الأمة، ويرعى هذا الدين الكريم مثلما هم رحموا ورعوا، وما زرف في تأليفه، وما أعاد لأساطير الأولين الخلقة جدتها بعد ألف وثلثمائة عاما من عمرها .

 وهل هو بعد ما وقف على هذا الجزء ووجد كتابه مؤلفا من سلسلة بلايا وحلقة أباطيل زيفها أولئك الأئمة الذين هو اصطفاهم واختارهم وأثنى عليهم يقرع سن الندم ويتبع سنن الحق اللاحب ؟ أو أنه يلج فيما سود به صحائف كتابه أو صحيفة تاريخه ويتمادى في غيه وليه ؟ وما التوفيق إلا بالله .