عقائد الشيعة الإمامية /  العلامة الأميني

 

بقية شعراء الغدير في القرن الرابع

 

-22-

أبو الفتح كشاجم

المتوفى 360

لـــــه شغل عـــــن ســــؤال الطلل * أقـــــام الخــليط به ؟ أم رحل ؟

فمـــــا ضمنـــــته لحـــــاظ الظـــبا * تطـــــالعه مــــن سجوف الكلل

ولا تستـــــفز حـــــجـاه الخـــــدود * بمصفـــــرة واحــــمرار الخجل

كفـــــاه كفـــــاه فـــــلا تعــــــــذلاه * كـــــر الجـــــديدين كــــر العذل

طـــــوى الغــــي مشتعلا في ذراه * فتـــــطفى الصبابـــة لما اشتغل

لـــــه فــي البكاء على الطاهرين * مندوحـــــة عـــــن بكــاء الغزل

فكـــــم فيهـــــم مــــن هلال هوى * قبـــــيل التـــــمام وبـــــدر أفـــل

هم حـــــجج الله فـــــي خـــــلقـــه * ويـــــوم المعــــاد على من خذل

ومـــــن أنـــــزل الله تفــــــضيلهم * فـــــرد عـــــلى الله مــــا قد نزل

فجـــــدهم خـــــاتم الأنبـــــيــــــاء * ويعـــــرف ذاك جـــــميـع الملـل

ووالـــــدهم سيـــــد الأوصيـــــاء * ومعـــــطي الفقير ومردي البطل

ومـــن عـلم السمر طعـن الحلي * لدى الروع والبيض ضرب القلل

ولـــــو زالت الأرض يوم الهياج * مـــــن تحت أخمصه (1) لم يزل

ومـــــن صـــــد عـن وجه دنياهم * وقـــــد لبـــــست حـــليها والحلل

وكـــــان إذا مـــــا أضيفـــوا إليه * فـــــأرفعهم رتـــــبة فـــــي المثل

سمـــــاء أضيف إليها الحضيض * وبحـــــر قرنت إليــه الوشل(2)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) أخمص القدم: ما لا يصيب الأرض من باطنها، ويراد به القدم كلها.

 (2) الوشل كما مر: الماء القليل يتحلب من صخر أو جبل.

 

 

/ صفحة 4 /

بجــــود تعــــلم منــــه السحـــــاب * وحــــلم تــــولد منــــه الجــــبل

وكــــم شبـهــــة بــــهــــداه جــــلا * وكــــم خــــطة بحــــجاه فـــصل

وكــــم أطــــفأ الله نــــــار الضلال * بــــه وهي ترمي الهدى بالشعل

ومــــن رد خــــالقــنا شمــــســــه * عــــليه وقــد جنحت للطفل (1)

ولــــو لــــم تعــــد كـــان في رأيه * وفــــي وجــــهه من سناها بدل

ومــــن ضـرب الناس بالمرهفات * عـــلى الدين ضرب عراب الإبل

وقــــد عــــلموا أن يــــوم الغـدير * بغدرهم جــــر يــــوم الجــــمـــل

فيــــا معــــشر الظــــالمين الذيـن * أذاقوا النبــــي مضيــــض الثكل

إلى أن قال:

يخـــــالفكم فيـــــه نـــــص الكتاب * ومـــــا نـص في ذاك خير الرسل

نبـــــذتم وصيتـــــه بالـــــعـــــراء * وقـــــلتـــــم عـــــليه الـذي لم يقل

إلى آخر قصيدته الموجودة في نسخ ديوانه المخطوط 47 بيتا وقد أسقط ناشر ديوانه من القصيدة ما يخالف مذهبه وليست هذه بأول يد حرفت الكلم عن مواضعها.

* (الشاعر) *:

أبو الفتح محمود بن محمد بن الحسين بن سندي بن شاهك الرملي (2) المعروف بكشاجم.

 هو نابغة من رجالات الأمة، وفذ من أفذاذها، وأوحدي من نياقدها، كان لا يجارى ولا يبارى، ولا يساجل ولا يناضل، فكان شاعرا كاتبا متكلما منجما منطقيا محدثا، ومن نطس الأواسي محققا مدققا مجادلا جوادا.

 فهو جماع الفضايل وإنما لقب نفسه بكشاجم إشارة بكل حرف منها إلى علم فبالكاف إلى أنه كاتب، وبالشين إلى أنه شاعر، وبالألف إلى أدبه أو إنشاده، و بالجيم إلى نبوغه في الجدل أو جوده، وبالميم إلى أنه متكلم أو منطقي أو منجم، و لما ولع في الطلب وبرع فيه زاد على ذلك حرف الطاء فقيل: طكشاجم. إلا أنه

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) طفلت الشمس: دنت للغروب. مر حديث رد الشمس في الجزء الثالث 126 - 141.

 (2) نسبة إلى الرملة من أرباض فلسطين.

 

 

/ صفحة 5 /

لم يشتهر به، هذا ما طفحت به المعاجم (1) في تحليل هذا اللقب على الخلاف الذي أوعزنا إليه في الإشارة، لكن الرجل بارع في جميع ما ذكر من العلوم ولعله هو المنشأ للاختلاف في التحليل.

 أدبه وشعره :

إن المترجم قدوة في الأدب وأسوة في الشعر، حتى أن الرفاء السري الشاعر المفلق على تقدمه في فنون الشعر والأدب كان مغرى بنسخ ديوانه، وكان في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب (2) ولشهرته بهذا الجانب قال بعضهم:

يا بـــــؤس مـــــن يمنى بدمع ساجم * يهمى على حجب الفؤاد الواجم (3)

لـــــولا تعـــــلله (4) بكـــأس مدامة * ورسائل الصابي وشعر كشاجم (5)

دوّن شعره أبو بكر محمد بن عبد الله الحمدوني، ثم ألحق به زيادات أخذها من أبي الفرج ابن كشاجم.

 وشعره كما تطفح عنه شواهد تضلعه في اللغة والحديث، وبراعته في فنون الأدب والكتاب والقريض، كذلك يقيم له وزنا في الغرائز الكريمة النفسية، ويمثله بملكاته الفاضلة كقوله:

شهـــــرت نـداي مناصب لي * فــــي ذرى كسرى صريحه

وسجـــــية لـــي في المكارم * إنـــــني فيـــــها شحـــــيحه

متحـــــيزا فيها معلى المجـــ* ــــد مجـــــتـــــنبا منيــــحـه

ولقـــــد سنـــنت من الكتابة * للـــــورى طـــــرقــا فسيحه

وفضضت من عذر المعاني * الغــــر في اللغــة الفصيحه

وشفعـــــت مــأثور الرواية * بالبديـــــع مـــــن القــريحـه

ووصلـــــت ذاك بهـــــمــــة * فـــــي المجد سائبة طموحه

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع شذرات الذهب ج 3 ص 37، والشيعة وفنون الاسلام ص 108.

 (2) تاريخ ابن خلكان ج 1 ص 218.

 (3) يمنى: يبتلى ويصاب. يهمى: يسيل. الواجم: العبوس من شدة الحزن (4) علل فلانا بكذا: شغله. أو: لهاه به.

 (5) معجم الأدباء ج 1 ص 326.

 

/ صفحة 6 /

عـــــزيمة لا بالكـــــليـــــلــ * ــة في الخطوب ولا الطليحه

كـــــلتاهما لـــــي صـــاحب * فـــــي كـــــل دامية جــموحه

ويحكي القارئ عن نبوغه وسرده المعاني الفخمة في أسلاك نظمه، ورقة لطائفه، وقوة أنظاره، ودقة فكرته، ومتانة رويته قوله:

لو بحـــــق تـــــناول النجــــم خلق * نلــت أعلى النجوم باستحقاق

أو ليـــــس اللــــسان مني أمضى * مـن ظبات المهندات الرقاق ؟

ويـــــدي تحـــــمل الأنامــــل منها * قـــــلما ليـــــس دمعه بالراقي

أفعـــــوانا تهـــــاب منـه الأعادي * حـــــية يستعـــــيذ منها الراقي

وتـــــراه يجــــود من حيث تجري * منـــــه تـــلك السموم بالدرياق

مطـــــرقا يهـــــلك العــــدو عقابا * ويـــــريش الـــولي ذا الأخفاق

وسطـــــور خطـــــطتها فـي كتاب * مثـــــل غـيم السحابة الرقراق

صغـــــت فـــــيه مــن البيان حليا * باخـــــتراع البعــيد لا الاشفاق

وقـــــواف كـــــأنهن عــقود الدر * منظـــــومة عـــــلى الأعــــناق

غـــــرر تظهر المســـــامع تيــها * حـــــين يسمعنها على الأحداق

ويحـــــار الـــــفهم الرقيق إذا ما * جــال منهن في المعاني الرقاق

ثـــــاويات معـــــي وفـــــكـري قد * سيـــــرها فـــــي نـوازح الآفاق

وإذا مـــــا ألم خـــــطب فـــرأسي * فــــيه مثل الشهاب في الأعناق

وإذا شئـــــت كــان شعري أحلـى * مـــــن حـديث الفتيان والعشاق

حـــــلف مشــــمولة وزير عوان * أســـــد فـي الحروب غير مطاق

إصطـــــباحي تنـــــفيذ أمر ونهي * ومـــــن الراح بالعشي اغتباقي

ووقور الندى ولا أخجل الشارب * مـــــنـــــه ولا أذم الســـــاقـــــي

أنـزع الكأس إن شربت وأسقيه * دهـــــاقا صحـــبي وغـــير دهاق

ومعـــــد للصيـــــد منـــــتخـــبات * مـــــن أصــــول كريمة الأعراق

مضمـــــرات كأنها الخيل تطوى * كـــــل يـــــوم بطـــــونها للسبـاق

رايقـــــات الشبـــــاب مكـتسبات * حـــــللا مـــــن صنيــــعة الخلاق

 

/ صفحة 7 /

تصـــف البيض والجفون إذا ما * أخــــرجت ألسنــــــا من الأشداق

وكـــــأن المها إذا مـــــا رأتــها * حــــذرت واستــــطامنت في وثاق

مع ندامي كأنهـــــم والتــصافي * خـــــلقوا مـــــن تـــــألف واتــفاق

والباحث يجد شاعرنا عند شعره معلما أخلاقيا فذا بعد ما يرى أمثلة خلايقه الكريمة، ونفايس سجاياه، وصدقه في ولاءه، وقيامه بشؤون الانسانية نصب عينيه مهما وقف على مثل قوله:

ولـــدينا لــذي المودة حفظ * ووفـــاء بالعهد والميثاق

أتواخى رضاه جهدي فلما * مسـه الضر مسه إرفاقي

تلـــك أخلاقنا ونحن أناس * همنـــا في مكارم الأخلاق

وقوله:

أنـــــاس أعرضوا عنا * بــــلا جرم ولا معنى

أســـــاؤا ظـــــنهم فينا * فـــهلا أحسنوا الظنا

وخلــــونا ولــــو شاؤا * لعـــــادوا كـالذي كنا

فـــــإن عادوا لنا عدنا * وإن خـــانوا لما خُـنّا

وإن كانوا قد اشتغلوا * فـــــإنا عــــنهم أغنى

وقوله من قصيدة يمدح بها ابن مقلة:

كـــــم فـــــي من خلة لو أنها امتحنت * أدت إلى غـــــبطة أو ســـدت الخله

وهـــــمة فـــــي محـــل النجم موقعها * وعــزمة لم تكن في الخطب منجله

وذلـــــة أكسبتـــــني عـــــز مكـــرمة * وربـــــما يستـــــفاد العـــــز بالــذله

صاحـــــبت سادات أقوام فما عـثروا * يـــــوما عـــــلى هـفوة مني ولا زله

واستمتعــــوا بكـــــفاياتي وكنت لهم * أوفى من الدرع أو أمضى من الاله

خـــــط يـــــروق وألفـــــاظ مهــــذبة * لا وعـــــرة النــظم بل مختاره سهله

لـــــو أنـــــني منهــــل منها أخا ظمأ * روت صـــــداه فـــــلم يحتج إلى غله

وكـــــم سنـــنت رسوما غير مشكلة * كـــــانت لمــــن أمها مسترشدا قبله

عمـــــت فلا منـــشئ الديوان مكتفيا * منهـــــا ولم يغــن عنها كاتب السله

 

/ صفحة 8 /

وصاحبتــــني رجــــالات بــــذلت لـها * مــــالي فــكان سماحي يقتضي بذله

فــــأعمل الــــدهر فـــي ختلي مكائده * والدهــر يعمل في أهل الهوى ختله

لكــــن قنعــــت فلــــم أرغب إلى أحد * والحــــر يحــــمل عـــن أخوانه كله

وتراه متى ما أبعده الزمان عن أخلائه وحجبهم عنه، عز عليه البين، وعظمت عليه شقته، وثقل عليه عبءه، فجاء في شكواه يفزع ويجزع، ويأن ويحن، فيصور على قارئ شعره حنانه وحنينه، ويمثل سجاح عينه لوعة وجده، ولهب هواه بمثل قوله:

يا مــــن لعــين ذرفت * ومــــن لـــروح تلفت

منهــــلــــة عـــبرتها * كــــأنها قد طرفت(1)

إن أمنت فاضت وإن * خــــافت رقيـبا وقفت

وإنــــما بكــــاؤهـــــا * عــــلى ليــــال سلفت

وقوله :

يا معــــرضا لا يلتـــفت * بمثــــل ليــــلي لا تـــبت

بــــرح هجــــرانك بــي * حتى رثى لي من شمت

علقــــت قـــلبي بالمنى * فــــأحيــــه أو فــــأمــت

وبما كان [ كشاجم ] مجلوبا بالحنان ولين الجانب، وسجاحة الخلايق، و حسن الأدب، مطبوعا بالعطف والرأفة، مفطورا على عوامل الانسانية، والغرائز الكريمة، ولم يكن شريرا، ولا ردئ النفس، ولا بذي اللسان، ولا مسارعا في الوقيعة في أحد، كان يرى الشعر إحدى مآثره الجمة، ويعده من فضايله، وما كان يتخذه عدة للمدح، ولا جنة في الهجاء، وما يهمه التوجه إلى الجانبين، لم ير لأي منهما وزنا، لعدم تحريه التحامل على أحد، وعدم اتخاذه مكسبا ليدر له أخلاف الرزق، ولا آلة لدنياه وجمع حطامها، وكان يقول:

ولئــــن شعــــرت لما قصد * ت هجاء شخص أو مديحه

لكــــن وجــــدت الشعر للــ * آداب تــــرجمة فــــصيـــحه

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) طرفت عينه: أصابها شيئ فدمعت.

 

 

/ صفحة 9 /

هجاؤه أخرج القرن الرابع شعراء هجائين قد اتخذ كل واحد منهم طريقة خاصة من فنون الهجاء، وكل فن مع هذه نوع فذ في الهجاء، يظهر ميزه متى قرن بالآخر ومنهم مكثر ومنهم من استقل، وشاعرنا من الفرقة الثانية، وله فن خاص من الهجاء كان يختاره ويلتزم به في شعره.

 ولعلك تجده في فنه المختار مجلوب خلايقه الحسنة، ونفسياته الكريمة، وملكاته الفاضلة، فكأنه قد خمرت بها فطرته، ومزجت بها طينته، أو جرت منه الدم، واستولت على روحه، وحكمت في كل جارحة منه، حتى ظهرت آياتها في هجاؤه النادر الشاذ، فيخيل إليك مهما يهجو أنه واعظ بار يخطب، أو نصوح يودد و يعاتب، أو مجادل دون حقه يجامل، لا أنه يغمز ويعيب، ويغيظ في الوقيعة ويناضل، ويثور ويثأر لنفسه، وتجده قد اتخذ الهجاء شكة دفاع له لا شكة هجوم، وترى كل هجاؤه خليا عن لهجة حادة، وسباب مقذع، عاريا عن قبيح المقال وخبث الكلام، بعيدا عن هتك مهجوه، ونسبته إلى كل فاحشة، وقذفه بكل سيئة، غير مستبيح إيذاء مهجوه، ولا مستحل حرمته، ولا مجوز عليه الكذب والتهمة، خلاف ما جرت العادة بين كثير من أدباء العصور المتقادمة، فعليك النظر إلى قوله في بعض أبناء رؤساء عصره وقد أنفذ إليه كتابا فلم يجبه عنه:

هـــــا قد كتبت فما رددت جوابي * ورجعـــــت مختوما علي كتابي

وأتـــــى رسولا مستكينا يشتكي * ذل الحـــــجاب ونخــــوة البواب

وكأنـــــني بــــك قد كتبت معذرا * وظلمتـــــني بمـــلامة وعــــتاب

فارجع إلى الانصاف واعلم أنه * أولـــــى بذي الآداب والأحساب

يا رحــــمة الله التي قد أصبحت * دون الأنـــــام علي سـوط عذاب

بأبــــي وأمي أنت من مستجمع * تيـــــه القيـــــان ورقــة الكـتاب

وقوله الآخر في هجاء جماعة من الرؤساء:

عـــــدمت رئـــــاسة قوم شقوا * شبابا ونالوا الغنى حين شابوا

حـــــديث بنعـــــمتهم عــــهدهم * فــليس لهم في المعالي نصاب

 

/ صفحة 10 /

يـــــرون التكـــــبر مستصــــوبا * مـــن الرأي والكبر لا يستصاب

وإن كاتبوا صارفوا في الدعاء * كـــــأن دعـــــاؤهم مســتجــــاب

ومن لطيف شعره في الهجاء قوله:

إن مظلـــــومــــــة التي * زوجــت من أبي عمر

ولـــــدت ليلـــة الزفاف * إلـــــى بعــــلهـــــا ذكر

قلت: من أين ذا الغلام * ومـــــا مسهــــا بشر ؟

قـــــال لــــي بعلها: ألم * يـأت في مسند الخبر ؟

ولـــــد المـــرأ للفراش * وللعـــــاهـــــر الحــجر

قلـــــت: هنـــــيته على * رغـــــم من أنكر الخبر

كشاجم والرياسة :

وبما كان المترجم كما سمعت مطبوعا بسلامة النفس، وقداسة النفس، و طيب السريرة، متحليا بمكارم الأخلاق، خاليا من المكيدة والمراوغة والدسيسة، مزاولا عن البذاء والإيذاء والاعتساف، كان مترفعا نفسه عن الرتبة وإشغال المنصة في أبواب الملوك والولاة، وما كان له مطمع في شأن من الوزراء والولاية والكتابة و العمالة عند الأمراء والخلفاء، وما أتخذ فضايله الجمة لها شركا، ولنيل الآمال وسيلة، وكان يرى التقمص بالرياسة من مرديات النفس ويقول:

رأيـــــت الريـــاسة مقرونة * بلـــــبس التـــــكبر والنخوه

إذا مـــــا تقـــــمصهـا لابس * تـــــرفع في الجهر والخلوه

ويقعـــــد عن حـــق إخوانه * ويطــــمع أن يهرعوا نحوه

وينقصهم من جميل الدعاء * ويأمـــــل عـــنـدهم الحظوه

فـــــذلك إن أنـــــا كــــاتبته * فـــــلا يسمــع الله لي دعوه

ولســـــت بـــــآت لـه منزلا * ولـــــو أنــــه يسكن المروه

وكان بالطبع والحال هذه ينهي أوليائه عن قبول الوظايف السلطانية، والتولي بشئ من المناصب عند الحكام، ويحذرهم عن التصدي بوظيفة من شؤون الملك والمملكة، ويمثل بين يديهم شنعة الايتمار، وينبههم بما يقتضيه الترأس من الظلم

 

/ صفحة 11 /

والوقيعة في النفوس، ونصب العداء لمخالفيه، وما يوجب من دحض الحق، وإضاعة الحقوق، ورفض مكارم الأخلاق.

 وحسبك ما كتبه إلى صديق له وكان قد تقلد البريد من قوله:

صرت لي عامل البريد مقينا (1) * وقـــــديما إلـــــي كنـــــت حبـيــبا

كنــــت تستثقل الرقيب فقد صرت * عـــــليـــنا بمـــــا وليـــت رقيــــبا

كـــرهتك النفوس وانحرفت عنك * قلـــــوب وكنـــــت تسبــي القلوبا

أفـــــلا يعجـــــب الأنــام بشخص * صـــــار ذئـــبا وكان ظبيا ربيبا؟!

حكمه ودرر كلمه :

فياله في شعره من شواهد صادقة تمثله بهذا الجانب العظيم، وتعرب عن قدم صدقه في حث أمته إلى المولى سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبت الدعوة إليه بدرر الكلم وغرر الحكم، وإصلاح أمته ببيان بحقيقة، وتشريح دعوة النفس الأمارة بالسوء، وهن حكمياته قوله:

ليــــس خــــلق إلا وفــــيه إذا مــــا * وقــــع الفــــحــص عنه خير وشر

لازم ذاك فــــي الجــــبلــــة لا يــــد * فــــعــــه لــــه بــــذلك خـــــــــبــــر

حــــكمة الصانــــع المـــــدبر أن لا * شيء إلا وفــــيه نــــفــــع وضـــر

فــــاجتهــــد أن يكـون أكبر قسميك * مــــن النــــفع والأقــــل الأضــــــر

وتحــــمل مــــرارة الــــرأي واعلم * أن عــــقــــبــــى هـــــواك منه أمر

رض بفعل التدبير نفسك واقصرها * عــــليه فــــفيه فضــــل وفـــــخــــر

لا تطــــعهــــا عــــلى الــذي تبتغيه * وليــــرعهــــا منــك اعتساف وقهر

إن مــــن شــــأنها مجـــانبة الخير * وإتــــيان كــــل مــــا قــــد يــــغـــــر

وقوله:

عجــــبي ممــن تعالت حاله * وكـــفاه الله زلات الطـــــلب

كيف لا يقسم شطري عمره * بـــين حــــالين: نعيم وأدب

فــــإذا مــــا نـال دهرا حظه * فحــــديث ونشــــيد وكــــتب

مــــرة جــــدا وأخرى راحة * فـإذا ما غسق الليل انتصب

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) مذكر المقينة: الماشطة.

 

/ صفحة 12 /

يقتضي الدنيا نهــــارا حقها * وقضـــى لله لـــــيلا ما يجب

تلــــك أقسام متى يعمل بها * عــامل يسعد ويرشد ويصب

ومن كلمه الذهبية في تحليل معنى الرضا عن النفس وما يوجب ذلك من سخطها وجموحها ورفض الآداب قوله:

لم أرض عن نفسي مخافة سخطها * ورضــى الفتى عن نفسه إغضابها

لـــــو أنــــني عنها رضيت لقصرت * عـــــما تـــــريد بمثـــــلها آدابـــــهـا

وبـبـيـــننا آثـــــار ذاك وأكـــــثــرت * عـــــذلي عـــــليه وطـال فيه عتابها

ومن حكمه قوله:

بالحرص في الرزق يذل الفتى * والصبـــر فيه الشرف الشامخ

ومستزيد فــــي طــــلاب الغنى * يجـــــمع لحـــــما مــا له طابخ

يضيـــــع مـــــا نال بما يرتجي * والنـــــار قـــــد يطــفئها النافخ

وقوله:

حـــــلل الشبـيـبــة مستعاره * فـــدع الصبا واهجر دياره

لا يشغـــــلنـــــك عــن العلا * خـــــود تمنـــــيــك الزياره

خـــــود تطيـــــب طيـــــبــها * ويـــــزين ساعدها سواره

يخـــــلو أوائـــــل حـــــبــها * ويشـــــوب آخــــره مراره

مـــــا عـــــذر مثــلك خالعا * فـــــي سكـــــر لذته عذاره

من بعــــد مــــا شد الأشـــ * ـــد عــلى تـــلابـــيـه إزاره

من ساد في عصر الشباب * غـــــدت لســـودده غــفاره

ما الفخــــر أن يغدو الفتى * متشبعـــــا ضخــم الحراره

كلفا بشرب الراح مشـــغــ * ــوفـــــا بغــــزلان الستاره

مهجـــــورة عـــــرصـــاته * لا تقـــــرب الأضـياف داره

الفخـــــر أن يشـجي الفتي * أعـــــداؤه ويعـــــز جـــاره

ويـــــذب عـــــن أعـراضه * ويشـــــب للطـــــراق نـاره

ويـــــروح إمـــــا للإمـــرة * سعـــــيـــــه أو للـــــوزاره

 

/ صفحة 13 /

فـــــرد الكــتابة والخطــــا * بة والبـلاغة والعــــبــــاره

متـــــيقـظ العـــزمات يجـــ * ــتنب الكـــــرى إلا غــراره

فكـــــأنه مـــــن حـــــــــدّة * ونفـــــاذ تـــــدبــــير شراره

حـــــتى يخـــــاف ويرتجى * ويـــــرى لـــه نشب وشاره

فـــــي مـــــوكب لجب كأن * الليـــــل ألبـــــسه خـــماره

تـــــزهي به عصب تنفض * عـــــن منـــــاكبه غــــباره

ويطـــــيل أبــناء الرغائب * فـــــي مشـــــاكله انــتظاره

فـــــادأب لمجـــــد حـــادث * أو ســـــالف يعــــلي مناره

واعــــمر لنفسك في العلا * حــــالا وكن حسن العماره

وأقـــــمر لها ســـــوقا يُنــ * ـــفـّـقها وتاجـــــرها تجاره

لا تغد كـــــلا واجــتـــنـــب * أمـــــرا يخــاف الحر عاره

وإذا عــــدمت عن المآكل * خـــــيرها فكـــــل الحـجاره

رحلة كشاجم :

غادر المترجم بيئة نشأته [ الرملة ] إلى الأقطار الشرقية، وساح في البلاد، ورحل رحلة بعد أخرى إلى مصر وحلب والشام والعراق، وكان كما كان في قصيدته التي يمدح بها ابن مقلة بالعراق:

هـــــذا عـــلى أنني لا أستفيق ولا * أفيـــق من رحلة في إثرها رحله

وما على البدر نقص في إضاءته * أن ليس ينفك من سيرو من نقله

وقال وهو في مصر:

قـــــد كـــــان شوقي إلى مصر يؤرقني * فـــــاليوم عـــدت وغادت مصر لي دارا

أغدو إلى الجيزة الفيحاء مصطحبا(1) * طـــــورا وطـــورا أرجي السير أطوارا

بــيــــنا أســـــامي رئــــيسا في رياسته * إذ رحـــــت أحــسب في الحانات خمارا

فللـــــدواويــــن إصبـــــاحي ومنصرفي * إلـــــى بـــــيوت دمـــى يعــــلمن أوتارا

أمـــــا الشبــــاب فـــــقد صاحبت شرته * وقـــــد قـــــضيت لبـــــانات وأوطـــــارا

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) الجيزة: بليدة في غربي فسطاط مصر.

 

 

/ صفحة 14 /

من شادن من بني الأقبـــــاط يعقـــد ما * بـــيـــن الكثـــيب وبـــــين الخضر زنارا

وكأنه في بعض آناته يرى نفسه بين مصر والعراق، ويتذكر أدواره فيهما، و ما ناله في سفره إليهما من سراء أو ضراء، أو شدة أو رخاء، وما حظي من الأهلين من النعمة والنقمة، والاكبار والاستحقار، فيمدح هذا ويذم ذلك فيقول:

يــــــا هــــــذا قلت فاسمعي لفتى * فــــــي حــــــاله عــبرة لمعتبره

أمــــــرت بالصبــــر والسلو ولو * عــــــشقت ألفيت غير مصطبره

مـــن مبلغ إخوتي ؟ وإن بعدوا: * إن حــــــياتي لبعــــــدهم كـــدره

قــــــد همـت شوقا إلى وجوههم * تــــــلك الوجـــوه البهية النضره

أبنــــــاء ملك عــــــلاهم بهــــــم * عــــــلى العــلا والفخار مفتخره

تــــــرمي بهم نعــــــمة تــــزينها * مــــــروءة لم تكـــــن ترى نزره

مـــــا أنفك ذا الخلق بين منتصر * عــــــلى الأعادي بهم ومنتصره

جــــــبال حــــــلم بــــــدور أنـدية * أســــــد وغى في الهياج مبتدره

بيض كرام الفعال لا بخل الأيدي * وليــست مــــــن النــــدى صفره

للنــــــاس منهم منـــــــافع ولهم * منــــــافع فــــــي الأنام مشتهره

متــــــى أراني بمصـــــر جارهم * نسبــــــي بهــــا كل غادة خضره

والنــــــيل مستــــــكمل زيـــادته * مثــــــل دروع الكـــــــماة منتثره

تغــــــدو الــزواريق فيه مصعدة * بــــــنا وطــــــورا تروح منـحدره

والــــــراح تسعــــــى بها مذكرة * أردانــــــها بالعــــــبــير مختمره

بكــــــران لكن لهــــــذه مــــــائة * وتــــــلك ثنــــــتان وثـنتا عشره

يــــــا ليتني لــــم أر العراق ولم * أسمــــع بذكر الأهواز والبصره

تــــــرفعني تــــــارة وتخـــفضني * أخـــرى فمن سهلة ومن وعره

فــــــوق ظهر سلــــــهــــبة (1) * قــــــطانها والبــــــدار مغــــتفره

وتــــــارة فــــــي الفـرات طامية * أمــــــواجه كــــــالخـيال معتكره

حــــــتى كأن العــــراق تعشقني * أو طــــــالبتني يد الــــــنوى بتره

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) السلهبة: الجسيمة 

 

/ صفحة 15 /

وكان يجتمع في رحلاته مع الملوك والأمراء والوزراء ويحظى بجوائزهم، و يستفيد من صلاتهم، ويتصل بمشيخة العلم والحديث والأدب، ويقرأ عليهم، ويسمع عنهم، ويأخذ منهم، وجرت بينه وبينهم محاضرات ومناظرات ومكاتبات، إلى أن تضلع في العلوم، وحاز قصب السبق في فنون متنوعة، وتقدم في الكتابة والخطابة، وحصل له من كل فن حظه الأوفى، ونصيبه الأعلى حتى عرفه المسعودي في (مروج الذهب) 2 ص 523 بأنه كان من أهل العلم والرواية والأدب.

عقيدته :

إن عصر المترجم من العصور التي زاعت فيه النحل والمذهب، وشاعت فيه الأهواء والآراء، وقل فيه من لا يرى في العقايد رأيا يفسر به إسلامه وهو ينص به على خبيئة قلبه تارة ويضمرها أخرى، وأما شاعرنا فكان في جانب من ذلك، إماميا صادق التشيع، مواليا لأهل بيت الوحي، متفانيا في ولائهم، ويجد الباحث في خلال شعره بينات تظاهره بالتهالك في ولاء آل الله، وبثه الدعوة إليهم بحججه القوية، والتفجع في مصابهم والذب عنهم، والنيل من مناوئيهم، واعتقاده فيهم أنهم وسايله إلى المولى في الحاضرة، وواسطة نجاحه في الآخرة.

 وكان من مصاديق الآية الكريمة: يخرج الحي من الميت. فإن نصب جده السندي ابن شاهك وعدائه لأهل البيت الطاهر وضغطه واضطهاده الإمام موسى بن جعفر صلوات الله عليه في سجن هارون مما سار به الركبان، وسودت به صحيفة تاريخه، إلا أن حفيده هذا باينه في جميع نزعاته الشيطانية، فهو من شعراء أهل البيت المجاهرين بولائهم، المتعصبين لهم، الذابين عنهم ولا بدع فإن الله هو الذي يخرج الدر من بين الحصى، وينبت الورد محتفا بالأشواك، فمن نمازج شعره في المذهب قوله:

بكـــــاء وقل غـناء البكاء * عـــلى رزء ذرية الأنبياء

لئن ذل فيه عزيز الدموع * لقـــد عز فيه ذليل العزاء

أعــــــاذلتي إن برد التقى * كسانيه حبي لأهل الكساء

سفينة نــــوح فمن يعتلق * بحــــبهم يعـــــتلق بالنجاء

 

/ صفحة 16 /

 

لعـــــمري لقـــد ضل رأي الهوى * بأفــئــــــدة مــــن هــواها هوائي

وأوصـــــى النــــبي ولكن غــدت * وصـــــــايـــــاه منـــبذة بالعــــراء

ومـــــن قبـــــلها أمر الميــتون، * بـــــــرد الأمـــــور إلـى الأوصياء

ولم ينشر القــــوم غل الصــدور * حــــــتى طــــــواه الردى في رداء

ولــــو سلمـــــوا لامــام الهــدى * لقــوبـــــل معـــــوجهم باســـــتواء

هـــلال إلى الرشد عالي الضــيا * وسيف على الكفر ماضي المضاء

وبـــــحــــر تــدفــق بالمعجــزات * كمـــــا يتـــــدفق ينـــــبوع مــــــاء

عـــــلوم سمـــــاويـــــة لا تـــنال * ومـــــن ذا يــــنال نجوم السماء ؟

لعـــــمري الأولــــى جحدوا حقه * ومـــــا كـــــان أولاهـــــم بالــولاء

وكم موقف كــان شخص الحمام * مـــــن الخـــــوف فيه قليل الخفاء

جـــــلاه فـــــإن أنـــــكروا فضلـه * فـــــقد عرفت ذاك شمس الضحاء

أراهـــــا العجـــــاج قبيل الصباح * وردت عـــــليه بعـــــيد المـــــساء

وإن وتـــــر القـــــوم فــي بدرهم * لقـــــد نقـــــض القــوم في كربلاء

مطـــــايا الخطايا خذي في الظلام * فـــــما هـــــم إبــليس غير الحداء

لـــــقد هتكت حـــــرم المصـــطفى * وحـــــل بهـــــن عـــــظيم البـــلاء

وساقـــــوا رجـــــالهم كالعـــــبـيد * وحـــــادوا نســـــاءهم كـــــالإماء

فـــــلو كـــــان جـــــدهم شــــاهدا * ليـــــتبع أظعـــــانهم بالبـــــكـــــاء

حـقـــــود تضـــــرم بـــــدريــــــــة * وداء الحقـــــود عـــــزيز الـــدواء

تـــــراه مع المــــوت تحت اللواء * والله والنصـــــر فـــــوق اللـــواء

غـــــداة خـــــميس إمـــــام الهدى * وقـــــد غـــــاث فيهم هزبر اللقاء

وكـــــم أنـــــفس فــي سعير هوت * وهـــــام مطـــــيرة فـــــي الهـواء

بضـــــرب كـما انقد جيب القميص * وطعـــــن كـــما انحل عقد السقاء

وخـــــيرة ربـــــي مــــن الخيرتين * وصفـــــوة ربـــــي مــن الأصفياء

طهـــــرتم فكنـــــتم مديـــح المديح * وكـــــان ســــــواكم هجاء الهجاء

قضيـــــت بحـــــبكم مـــــا عــــــلي * إذا مـــــا دعـــــيت لفـصل القضاء

 

/ صفحة 17 /

وأيقــــنـــــــت أن ذنــــوبــــي بــــه * تســــاقط عــــني سقــــوط الهـباء

فصــــلى عــــليكم إلــــه الــــورى * صــــلاة تــــوازي نجــــوم السماء

وقوله في مدحهم صلوات الله عليهم:

آل النــــبي فضــــلتــــم * فــضـل النجوم الزاهره

وبهــــرتم أعــــدائكـــم * بالمــــأثرات الســـائره

ولكم مع الشرف البلا * غة والحــــلوم الوافره

وإذا تفوخــــر بالعـــلا * منكــــم عــــلاكم فاخره

هــــذا وكــــم أطفـــأتم * عــــن أحــمد من نائره

بالسمر تخضب بالنجـــ* ــيع وبالسـيوف البائره

تشــــفى بهـــا أكبادكم * مــــن كــل نـفس كافره

ورفضتــــم الـــدنيا لذا * فــــزتم بحــــظ الآخـره

وقوله في ولاء أمير المؤمنين عليه السلام مشيرا إلى ما رويناه ص 26 في الجزء الثالث مما ورد في حب أمير المؤمنين:

حب الوصي مبــــرة وصلــــه * وطهـارة بالأصــــل مكتــــفلـه

والنــــاس عــــالمهم يدين به * حـبا ويجهل حــــقه الجــــهلـه

ويـــرى التشـــيع في سراتهم * والنصب في الأرذال والسفله

وقوله في المعنى:

حــــب عــــلي عــــلو همه * لأنــــه ســــيــــد الأئــــمـه

ميــــز محبــــيه هـل تراهم * إلا ذوي ثــــروة ونعــمه؟!

بــــين رئيــــس إلــى أديب * قــد أكمل الطرف واستتمه

وطيــــب الأصــل ليس فيه * عند امتحان الأصول تهمه

فهــــم إذا خـــلصوا ضياء * والنصب الظـــالمون ظلمه

هذه الأبيات ذكرها له الثعالبي في (ثمار القلوب) ص 136 في وجه إضافة السواد إلى وجه الناصبي، ويأتي مثله في ترجمة الناشي الصغير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  النجيع: من الدم ما كان مائلا إلى السواد.

 

 

/ صفحة 18 /

ولكشاجم يرثي آل الرسول صلى الله عليه وآله قوله:

أجــــل هـــــو الـــــرزء فــــادحه * باكـــــره فـــــاجـــــع ورائحــــــه

لأربـــــع دار عـــــفا ولا طــــــلل * أوحـــــش لمـــــا نـــــأت ملاقحه

فجـــــائع لـــــو درى الجـنين بها * لعـــــاد مبـــــيضـــــة مسالـــــحه

يا بـــــؤس دهــر على آل رسول * الله تجـــــتاحهـــــم جــوائحه (1)

إذا تفـــــكرت فـــــي مصــــــابهم * أثقـــــب زنـــــد الهمــــوم قادحه

بعـــــضهم قـــــربت مصـــــارعه * وبعـــــضهم بوعـــــدت مطارحه

أظـــــلم فـــــي كـــــربلاء يـومهم * ثـــــم تجـــــلى وهـــــم ذبـــائحه

لا يـــــبرح الغـــــيث كـــل شارقة * تهـــــمى غـــــواديه أو روائحه

عـــــلى ثــرى حلة غريب رسول * الله مجـــــروحـــــة جـــــوارحه

ذل حـــــماه وقـــــل نـــــاصـــــره * ونـــــال أقـــــصى منــاه كاشحه

وسيـــــق نســـــوانه طــلاح (2) * أحــــسن أن تهادى بهم طلائحه

وهـــن يمنعن بالوعيد من النوح * والمـــــلا الأعـــــلى نـــــوائحــه

عـــــادى الأسى جـــــده ووالـــده * حـــــين استغـــــاثـتهما صوائحه

لـــــو لــــم يرد ذو الجلال حربهم * به لضـــــاقت بهـــــم فســـــائحه

وهو الذي اجتـاح حين ما عقرت * ناقـــــته إذ دعـــــاه صـــــالـــحه

يا شيـــــع الغــــي والضلال ومن * كـــــلهم جـــــمة فـــــضائحــــــه

غـــــششتم الله فـــــي أذيــــة من * إليـــــكم أديـــــت نصـــــائـحـــــه

عفـــــرتم بالـــــثرى جــــبين فتى * جـــــبريل قـــــبل النـــبي ماسحه

سيـــــان عـــــند الإله كـــــلكـــــم * خـــــاذله منـــــكم. وذابـــــحـــــه

عـــــلى الـــــذي فـــــاتهـم بحقهم * لعـــــن يغـــــاديه أو يـــــراوحــه

جهـــــلتم فيـهم الذي عرفه البيت * ومـــــا قـــــابلت أبـــــاطـــــحــــه

إن تصـــــمتــوا عن دعائهم فلكم * يـــــوم وغـــــى لا يجــاب صائحه

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 م - (1) جاحه واجاجه واجتاحه: استأصله وأهلكه. جوائح جمع جائحة: البلية والداهية العظيمة) م - (2) طلاح: معيية من السفر ).

 

 

/ صفحة 19 /

في حــيث كبش الردي يناطح من * أبـــــصر كـــــبش الــورى يناطحه

وفـــــي غــد يعرف المخالف من * خـــــاسر ديـــــن منـــــكم ورابحـه

وبـــــين أيـــــديكـــــم حريق لظى * يلـــــفح تـــــلك الـــــوجوه لافـــحه

إن عـــــبتموهم بجـــــهلكم سفها * مـــــا ضر بـــــدر السمــــاء نائحه

أو تــكتموا الحق فالقرآن مشكله * بـــــفضلهم نـــــاطق وواضـــــحـه

مـــــا أشـــرق المجد من قبورهم * إلا وسكـــــانها مصـــــابـــــحـــــه

قـــــوم أبـــــى حـــد سيف والدهم * للـــــدين أو يستـــــقيم جـــــامحـه

وهـــــو الذي استأنس الزمان به * والـــــدين مـــــذعــــورة مسارحه

حـــــاربه القـــــوم وهـــو ناصره * قـــــدما وغـــــشوه وهـــو ناصحه

وكـــــم كــسى منهم السيوف دما * يـــــوم جـــــلاد يطـــــيح طـــــائحه

مـــــا صــــفح القوم عندما قدروا * لمـــــا جـــــنت فـــــيهم صفـــائحه

بـــــل منـــــحوه العــناد واجتهدوا * أن يمنعـــــوه والله مـــــانـــــحـــه

كـــــانوا خـــــفافـــــا إلـــــى أذيته * وهـــــو ثـــــقيل الوقـــــار راجحه

وله قوله:

زعـــــموا أن مــــن أحب عليا * ظـــــل للفـــــقر لابــسا جلبابا

كـــــذبوا مــــن أحـبه من فقير * يتحـــــلى من الغـــــنى أثـوابا

حرفوا منطـــق الوصي بمعنى * خـــــالفوا إد تــأولوه الصوابا

إنما قال: ارفضوا عنكم الدنيا * إذا كـــــنتم لنـــــا أحـــــبابـــــا

مشايخه وتأليفه لم نقف في المصادر التي بين أيدينا على ما يفيدنا في التنقيب عن أيام صباه، و كيفية تعلمه، وأساتذته في فنونه، ومشايخه في علومه، والمصادر برمتها خالية من البحث عن هذا الجانب إلا أن شعره يفيدنا تلمذه على الأخفش الأصغر علي بن سليمان المتوفى سنة 315 فهو إما قرأ عليه في مصر أيام الأخفش بها وقد ورد الأخفش مصر سنة 287 وخرج منها إلى حلب سنة 306، وإما في بغداد قبل أن غادرها الأخفش إلى مصر، إذ يذكر قرائته عليه في قصيدة يمدحه بها في الشام حينما نزل بها الأخفش

 

/ صفحة 20 /

إما في رواحه إلى مصر ، إما في أوبته عنها فقال:

فلمـــــا خـــــيل الصبـــح * ولمـــــا يـــــبد تبــليجه

واتبعـــــت العـــرا وجها * كـــسى البشر تباهيجه

إلـــــى كعـــــبـــــة آداب * بأرض الشام محجوجه

إلى معـــــدن بالحـــكمة * والآداب مـــــمــــزوجه

سماعـــــي قـــــرائــــي * لـــه في العلم مرجوجه

ومن يعـــــدل بالعــــــلم * مـــــن المنـــآد تعويجه

إذ الأخـــــبار حـــــاجته * ثناها وهــــي محجوجه

به تغـــــدو مـــن الشك * قلـــــوب القـوم مثلوجه

ويلقـــــى طرق الحكمة * للأفهـــــام منهـــــوجـه

لكي يفرج عني الخطب * لا أسطـــيع تــفــــريجه

وكـــــي يمنـحني تأديبه * المحـــــض وتخـــريجه

ومـــــن أولـــى بتقريب * خـــلا من كنت ضريجه

ومـن توجني من علمه * أحـــــسن تـــــتــــويجه

له أدب النديم كما في فهرست ابن النديم.

 2 - كتاب الرسائل.

 3 - ديوان شعره.

 4 - كتاب المصايد والمطارد (1).

 5 - خصايص الطرف.

 6 - الصبيح.

 7 - البيرزة في علم الصيد.

 ولادته ووفاته :

ما عثرنا في الكتب والمعاجم على ما يفيدنا تاريخ ولادته لكن يلوح من شعره الذي يذكر فيه شيبه وهرمه في أوايل القرن الرابع أنه ولد في أواسط القرن الثالث

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) ينقل عنه ابن خلكان في تاريخه ج 2 ص 379.

 

 

/ صفحة 21 /

قال من قصيدة:

وإن شيـــــبي قـــــد لاحت كــــواكبه * في ظلمـــــة من سواد اللمة الجثله

فهذه جملة في العـــــذر كـــــافـــــية * تغـنــيك فاغن عن التفصيل بالجمله

وبان مني شباب كان يشفـــــع لـــي * سقيا لــه مـــــن شباب بان سقيا له

قد كــــــان بابـــــي للعــافين منتجعا * ينتابـــــه ثـــــلة من بعـــــدها ثـــــلة

وكنـــت طود المنى يؤوى إلى كنفي * كحـــــائط مشـــرف مــــن فوقه ظله

أفـــنى الكثير فما إن زال ينقـــصني * متى دفعـــــت إلــى الأفــــنان والقله

وقـــــد غـــنيت وأشغالــي تبين من * فــضـــــلي فــقد سترته هذه العـــطله

والسيف في الغمد مجهول جواهره * وإنمـــــا يجتـــــنـــيه عين من سلـــه

وهذه القصيدة يمدح بها أبا علي ابن مقلة الوزير ببغداد في أيام وزارته قبل حبسه وقد قبض عليه وحبس سنة 324 وتوفي 328.

 وأما وفاته ففي " شذرات الذهب " أنه توفي سنة 360 وتبعه - تاريخ آداب اللغة العربية - وفي كشف الظنون، وكتاب الشيعة وفنون الاسلام، والأعلام للزركلي أنها في سنة 350 ورددها غير واحد من المعاجم بين التاريخين، وكل منهما يمكن أن يكون صحيحا، كما يقرب إليهما ما في مقدمة ديوانه من أنه توفي سنة 330 وهو كما سمعت في مدحه ابن مقلة كان يشكو هرمه قبل سنة 324.

* (لفت نظر) * ذكر المسعودي في " مروج الذهب " ج 1 ص 523 لكشاجم أبياتا كتبها إلى صديق له ويذم النرد وذكر اسمه أبو الفتح محمد بن الحسن، وأحسبه منشأ ترديد سيدنا صدر الدين الكاظمي في تأسيس الشيعة في إسمه وإسم أبيه بين محمود ومحمد.

 والحسين والحسن، وذكر المسعودي صوابه في مروجه 2 ص 545، 548، 550.

 ولده :

أعقب المترجم ولديه أبا الفرج وأبا نصر أحمد ويكني كشاجم نفسه بالثاني في قوله:

قالوا: أبو أحمد يبني. فقلت لهم: * كما بنـــت دودة بنــــيان السـرق

 

/ صفحة 22 /

بنـــــته حـــــتى إذا تــم البناء لها * كان التمام ووشك الخير في نسق

ويثني عليه ويصفه بقوله:

نفسي الفداء لمن إذا جرح الأسى * قـــــلبي أسوت به جـــروح أسائي

كبـــــدي وتاموري وحـــبة ناظري * ومـــــؤملي فــــــي شدتي ورخائي

ربيـــــته متوسما فـــــي وجـــهــه * ما قـــــبل فـــــي توســـمت آبـــائي

ورزقـــــته حسن الـــــقبول مبـيـنا * فـــــيـــــه عـــــطــاء الله ذي الآلاء

وغـــــدوت مقتنيا له عـــــن أمــه * وهـــــي النجـــــيـــبة وابنة النجباء

وعمرت منه مجالسي ومسالكــي * وجمعــت منه مـــــأربي وهــــوائي

فأظـــــل أبهـــــج في النهار بقربه * وأريـــــه كيـــــف تنــــاول العــلياء

وأزيـــــره العـــــلماء يــأخذ عنهم * ولشـــــذ من يغـــــدو إلى العــلماء

وإذا يجـــــن الليـــل بات مسامري * ومجـــــاوري ومـــــمـــــثلا بإزائي

فأبـــــيت أدني مهجتي من مهجتي * وأضـــــم أحـــــشائي إلــى أحشائي

وكان أبو نصر أحمد بن كشاجم شاعرا أديبا ومن شعره يذم به بخيلا قوله(1):

صديق لنا من أبرع الناس في البخل * وأفضلهـــم فيــــه وليــس بذي فضل

دعـــــاني كما يدعو الصديق صديقه * فجـــــئت كما يـــــأتي إلى مثله مثلي

فـــــلما جـــــلسنا للطعـــــام رأيــــته * يـــــرى أنه من بعض أعضائه أكلي

ويغـــــتاظ أحـــــيانا ويشتــــــم عـبده * وأعـــلم أن الغـيظ والشتم من أجلي

فأقبـــــلت أستـــــل الغـــــذاء مخافة * وألحـــــاظ عــينيه رقــيب على فعلي

أمـــــد يدي سرا لأســـــرق لقـــــمة * فيلحظـــــني شـــــزرا فــأعبث بالبقل

إلـــــى أن جنــــت كفي لحتفي جناية * وذلك أن الجـــــوع أعـــدمني عقلي

فجـــــرت يـــــدي للحين رجل دجاجة * فجــرت كما جرت يدي رجلها رجلي

وقـــــدم من بعـــــد الطـــــعام حلاوة * فلـــــم أستـــــطع فـيها أمر ولا أحلي

وقـــــمت لو أنـــــي كنـــــت بـيت نية * ربحـــت ثواب الصوم مع عدم الأكل

وذكر الثعالبي في " يتيمة الدهر " ج 1 ص 257 - 251 من شعره ما يناهز

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) يتيمة الدهر ج 1 ص 248، ونهاية الإرب ج 3 ص 318.

 

/ صفحة 23 /

ستين بيتا.

 وقال صاحب تعاليق اليتيمة ج 1 ص 240: [ لم نعثر في ديوان كشاجم على شيئ من هذه المختارات ] ذاهلا عن أن الديوان المعروف هو لكشاجم لا لابنه أبي نصر أحمد الذي انتخب الثعالبي من شعره، ويستشهد بشعره الوطواط في " غرر الخصايص ".

 خرج أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات الوزير المتوفى سنة 391 إلى بستانه بالمقس فكتب إليه أبو نصر بن كشاجم على تفاحة بماء الذهب وأنفذها إليه (1).

إذ الــوزير تخلى * للنــيل في الأوقات

فقــــد أتاه سميّا  * ه جعفر بن الفرات

ويوجد في " بدايع البداية " شيئا من شعره راجع ج 1 ص 157، وذكر من شعره ابن عساكر في تاريخه ج 4 ص 149 ما نظمه سنة 356 بالرملة لما ورد إليها أبو علي القرمطي القصير.

 ويذكر محمد بن هارون بن الأكتمي ابني كشاجم ويهجوهما بقوله(2):

يا بـــــني كشاجم أنتما * مستعملان مجــــربان

مـــات المشوم أبوكما * فخلفتماه على المكان

وقــــرنتما في عصرنا * ففعـــلتما فعـل القران

لغــــلاء أسعار الطعام * وميـتة الملك الهجان

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) في معجم الأدباء ج 2 ص 411.

 (2) يتيمة الدهر 1 ص 352.