عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي

 

حياة الشيخ الطوسي

 

لم يكن شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي انسانا مغمورا حتى يحتاج إلى التعريف به والإشادة بمآثره، بل هو طود شامخ وعلم معروف انتشرت آثاره العلمية في الأندية الإسلامية وعرفت مآثره الدينية في كافة الأوساط إنه لم يمت كما مات ملايين من الذين ساروا أياما في الركب البشري ثم طواهم الأجل فنسي ذكرهم التاريخ كأن لم يكونوا في هذه الدنيا إنه حي تتجدد ذكراه على مر العصور والدهور نعم، سيبقى حي الذكر أولئك الذين أدركوا مغزى (خلقتم للحياة لا للفناء) واتجهوا بكنه وجودهم إلى الحي القيوم واستضاؤا في مسيرتهم العملية بأنوار الأنبياء وجعلوا سيرة أولياء الحق دستورهم المتبع. هؤلاء سيبقى ذكرهم حيا خالدا ولا يجد الفناء إليهم سبيلا.

إنهم أدركوا أن ما في الكون فإن زائل، لا يبقى شيء سوى الله تعالى ولا يدوم إلا وجهه الكريم، فانقطعوا عما سواه وتوجهوا إليه واكتسبوا منه عز شأنه بقاء الذكر وبدلوا مماتهم بالحياة، لم تستهوهم زخارف الدنيا المادية ومظاهرها الخلابة الكاذبة، فأبدلهم الله جل جلاله بالذكر الطيب على الألسن وفي القلوب.

والشيخ الطوسي من النفر المعدودين الذين سلكوا هذا السبيل واتبعوا أئمة الهدى وجدوا واجتهدوا في نشر الاسلام وتركيز المذهب الحق (مذهب التشيع)، فيحق له أن يكون غرة في جبين الدهر ومصباحا مضيئا في صفحات التاريخ البارزة وعلما شامخا في ميدان العلم والتحقيق.

إن شيخ الطائفة عالم عامل مزج العلم بالعمل والقول بالفعل وأخلص لله تعالى في نيته وجعل خدمة الدين الحنيف همه وجهده، فجزاه الله بالحياة الأبدية وصار التاريخ يلهج بذكره ويثني عليه ثناءا عطرا وينظر إليه بنظر الاعظام والاكبار.

عندما يقرأ الإنسان ما كتبه المحققون عن شيخ الطائفة ويتعمق في النعوت التي أضفوها عليه وجمل الثناء التي أطلقوها فيه يشعر بأن هناك سرا في هذه النظرة منهم بالنسبة إليه، وينبعث لكشف هذا السر ومعرفة الرمز المودع في هذا الإنسان الذي أصبح عملاقا على صفحات التاريخ. أليس هذا السر هو الذي قلناه من إخلاص العمل من الشوائب.

ولد شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي في خراسان في شهر شعبان سنة 385، وبعد طي بعض المراحل الدراسية في موطنه هاجر سنة 408 إلى بغداد عاصمة العلم في العراق، فتتلمذ خمس سنوات على الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي التلعكبري، وبعد وفاة المفيد في سنة 413 تتلمذ الطوسي على الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي المتوفى سنة 436.

وبعد أن توفي السيد المرتضى انتقلت الزعامة الدينية للطائفة إلى الشيخ الطوسي، فأصبح الزعيم الأوحد للشيعة والمرجع الأعلى لهم، وخصص الخليفة العباسي (القائم بأمر الله) كرسي الكلام به إذ عرف بالمقام العلمي الرفيع، فانهالت عليه الأسئلة المذهبية العلمية من كل الأقطار وكان يجيب عليها بكل طلاقة وحرية، مع الاشتغال بالتدريس على المذاهب الإسلامية غير الشيعية، وكان محفل درسه يضم طائفة كبيرة من علماء سائر المذاهب بالإضافة إلى ما يضم من علماء الشيعة.

مني المسلمون في ذلك العصر بآل سلجوق الذين كانوا شديدي العصبية في التسنن، وكانوا دائم النشاط في إثارة الضغائن ضد الشيعة والمذهب الشيعي يثيرون الخلافة العباسية بالتوافه ويوجدون الغوغاء في العامة.

ومن الضوضاء الذي أحدثوه ضد الشيخ الطوسي أن وجدوا كتابه مصباح المتهجد واتهموه بأشياء فيه منها جمع أدعية فيها اللعن والسب ووشوا بذلك عند الخليفة، فدعاه الخليفة إلى الحضور لديه مع كتابه، وبعد الحضور والسؤال عن التهم بين الطوسي ما جرى يوم عاشوراء على العترة الطاهرة وكيف استوجب أعداؤهم اللعن، وكان إيضاح الموضوع لدى الخليفة من القوة بحيث أدى إلى احترام الخليفة للطوسي ورفعة مكانه عنده.

ولكن أعداء الاسلام لم يقتنعوا بهذا وزادوا في إثارة الفتن والغوغاء، حتى أدى الأمر إلى تلاحم الشيعة والسنة في سنة 448 وذهبت نفوس جماعة من الطرفين، واضطر الشيخ الطوسي في سنة 449 إلى ترك بغداد والهجرة عنها، ووجد الأعداء الفرصة في جمع آثاره العلمية وآثار الشيعة في ساحات احراقها بمشهد ومرأى من الناس، وبهذا التصرف الوحشي أضاعوا على المسلمين كثيرا من منابعهم العلمية والثقافية.

هذه الوقائع الأليمة كانت تكفي لتحطيم قوى الشيخ الطوسي وتزعزعه عن السير قدما في الطريق الذي كان قد شقه لنفسه، ولكن حيث كان يستمد قواه من عالم الغيب ويتعلم الصمود أمام الحوادث من مدرسة أهل البيت عليهم السلام، زادت الاحداث في تقوية روحه وتركيزه في الصمود لنشر الحق والدعوة إلى الدين، فهاجر من بغداد ليلقي رحل اقامته بالنجف الأشرف في جوار أبي الأئمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على يد الشيخ الطوسي تأسست جامعة النجف الأشرف، وبجهوده المشكورة بنيت الحوزة العلمية في هذه المدينة المقدسة، وبإقامته في هذه البلدة المباركة اجتمعت ثلة مختارة من علماء الطائفة حوله كان لهم الأثر البالغ في تنمية العلوم الإسلامية وازدهارها، وبدأت تشع إشعاعها العلمي والديني على المسلمين عامة وعلى الشيعة خاصة.

ولأنها حوزة أسست على التقوى والصلاح زاولت نشاطها لمدة ألف سنة وستزاول -إنشاء الله تعالى- إلى مدى الدهر.

خرج الشيخ الطوسي من بغداد خائفا شريدا ودخل النجف مضطرب القلب، وكأن الله تعالى شاء أن يصنع من خوفه عزا للشيعة ومن اضطرابه عظمة للطائفة، فأنشأ هذه المدرسة العظيمة التي أصبحت غنية بالعطاء الفكري والتثقيفي ولجأ إليها كل متعطش إلى العلم والبحث والتحقيق، وكانت حصيلتها رجالات ممتازة في ميادين العلوم الإسلامية بمختلف الأعصار، يتحدث عنهم التاريخ فيبتهج بمآثرهم الخالدة إن الطواغيت والذين استهوتهم الرئاسة والمال والسيطرة، لا يمكنهم درك هذه الحقائق ولا تدع لهم نفوسهم المتجبرة فرصة الاقتراب من خالقهم، فعاقبتهم الهلاك والبوار.

أما المؤمنون ورجال الحق فلو نالتهم المصائب الفادحة في فترات من حياتهم، فمآل أمرهم إلى النصر وجميل الذكر، وهم أحياء بالحياة الدائمة الباقية أفتتحت مدرسة النجف العظيمة على يد شيخ الطائفة وتوافد عليها الطلاب من هنا وهناك وجعلوا ينهلون من نميرها العذب ويتعلمون من علومها ويتأدبون بأخلاقها الإلهية، ثم انتشر طلابها في البلاد يبثون المعارف التي اكتسبوها ويعلمون الناس الأسس العقائدية والآداب الإسلامية، ولم تمض إلا فترة قصيرة أمست النجف منبرا عاليا للدعوة الدينية والتعاليم الإسلامية اثنا عشرة سنة بقي الشيخ الطوسي بالنجف يدأب بجد لا يعرف الكلل والملل حتى وضع أسس هذه المدرسة العلمية، وكانت تحتاج إلى مؤهلات علمية وأساتذة تضمن دوامها وبقاءها بعد مؤسسها العظيم، فهيأ لها المؤهلات العلمية بما ألف من الكتب والرسائل وضمن لها البقاء بما ربى من العلماء الأعلام الكاملين في العلم والعمل.

إننا في القرن الخامس عشر نقرأ تاريخ القرن الخامس ونلمس عظمة الشيخ الطوسي في المدرسة الكبرى التي أنشأها بجهوده، ونحس بمتانة أسسها وقوتها التي داومت هذه القرون، بالرغم من الزوابع الشديدة التي كادت أن تعصف بها.

لقد توالي عليها ضروب من المحن وجد أعداء المذهب في إزالتها، ولكن لم تزل قائمة بإذن الله يتخرج منها كل سنة لفيف من خيرة العلماء الدعاة ويعجبني في هذا المجال نقل قصة ذكرها المؤرخون نستدل منها على شدة إخلاص الشيخ الطوسي في عمله وسر خلوده في التاريخ:

كان جماعة من المشايخ في بغداد يتذاكرون كتاب (النهاية) وترتيب أبوابه وفصوله، فكان كل واحد منهم يعارض مؤلفه في مسائل ويذكر أنه لا يخلو من خلل، ثم اتفق أنهم خرجوا لزيارة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام -وذلك على عهد الشيخ نفسه- فأجمع رأيهم على أن يصوموا ثلاثا ويغتسلوا ليلة الجمعة ويصلوا ويدعوا بحضرة مولانا أمير المؤمنين فلعله يتضح لهم ما اختلفوا فيه، فسنح لهم أمير المؤمنين عليه السلام في النوم وقال لهم: لم يصنف مصنف في فقه آل محمد صلى الله وآله وسلم كتابا أولى بأن يعتمد عليه ويتخذ قدوة ويرجع إليه أولى من كتاب (النهاية) الذي تنازعتم فيه، وإنما كان ذلك لأن مصنفه اعتمد في تصنيفه على خلوص النية لله والتقرب والزلفى لديه، فلا ترتابوا في صحة ما ضمنه مصنفه واعملوا به وأقيموا مسائله، فقد تعنى في ترتيبه وتهذيبه والتحري بالمسائل الصحيحة بجميع أطرافها.

فلما انتبهوا أقبل كل واحد منهم على صاحبه فقال: رأيت الليلة رؤيا تدل على صحة (النهاية) والاعتماد على مصنفها، فأجمعوا على أن يكتب كل واحد منهم رؤياه على بياض قبل التلفظ، فوافقت الرؤيا لفظا ومعنى وقاموا متفرقين مغتبطين بذلك، فدخلوا على شيخهم أبي جعفر الطوسي، فحين وقعت عيناه عليهم قال لهم: لم تسكنوا إلى ما كنت أوقفتكم عليه في كتاب (النهاية) حتى سمعتم من لفظ مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.

فتعجبوا من قوله وسألوه عما استقبلهم من ذلك فقال: سنح لي أمير المؤمنين عليه السلام كما سنح لكم، وحكى رؤياه على وجهها.

هذا هو الطوسي، وهذه هي مدرسته العظيمة، وهذا هو سر خلوده.