عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي

 

فصل في إثبات صانع العالم وبيان صفاته

· في إثبات صانع العالم وبيان صفاته

· حدوث الأجسام لها محدث

الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 25 - 33

إذا ثبت حدوث الأجسام بما قدمنا، فالذي يدل على أن لها محدثا هو ما ثبت في الشاهد من أن الكتاب لا بد لها من كاتب والبناء لا بد له من بان والنساجة لا بد لها من ناسج وغير ذلك من الصنائع.

وإنما وجب ذلك فيها لحدوثها، فيجب أن تكون الأجسام إذا شاركتها في الحدوث أن تكون محتاجة إلى محدث.

فإن قيل: كيف تدعون العلم بذلك وههنا من يخالف في ذلك ويقول الكتابة لا تعلق لها بالكاتب ولا البناء بالباني ولا غير ذلك من الصنائع، وهو الأشعري وأصحابه، لأن عندهم أن هذه الصنائع لا كسب للعبد فيها وإنما هي من فعل الله وحده.

قلنا: الأشعري لم يدفع حاجة البناء إلى بان ولا الكتابة إلى كاتب، وإنما قال فاعلها هو الله تعالى دون العبد. ونحن لم ندع العلم بحاجة هذه الأفعال إلى فاعل معين بل ادعينا حاجتها إلى صانع ما في الجملة.

ثم هل هو القديم أو الواحد منا؟ موقوف على الدليل، ودليله هو أنه يجب وقوع هذه الأفعال بحسب دواعينا وأفعالنا ويجب انتفاؤها بحسب صوارفنا وكراهتنا، فلو كانت متعلقة بغيرنا لما وجب ذلك، كما لا يجب ذلك في طولنا وقصرنا وخلقنا وهيأتنا لم لما تكن متعلقة بنا، فالوجوب الذي اعتبرناه يبطل تعلقها بغيرنا.

فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك [بالعادة دون أن يكون] واجبا. قلنا: ذلك فاسد من وجهين: أحدهما: إن ذلك يبطل الفرق بين الواجب والمعتادة، فيؤدي إلى أنه لا فرق بينهما، وأن يقول قائل انتفاء السواد بالبياض بالعادة وحاجة العلم إلى الحياة بالعادة وغير ذلك من الواجبات، فبأي شيء فرقوا بينهما فهو فرقنا بين أن يكون ذلك واجبا أو معتادا.

الثاني: أنه لو كان ذلك بالعادة لوجب أن يكون من لا يعرف العادات ولا نشأ بين أهلها أن يجوز أن تبنى دار من قبل نفسها أو تنكتب كتابة طويلة بلا كاتب أو أن تنسج نساجة عجيبة من غير ناسج وغير ذلك. والمعلوم خلاف ذلك، لأنه لا يجوز مثل ذلك إلا مؤف العقل فاسد التصور.

فإن قيل: لو خلق الله تعالى عاقلا ابتداءا، فشاهد قصرا مبنيا وكتابة هل كان يعلم أن لها بانيا وكاتبا أم لا، فإن قلتم يعلم قلنا وأي طريق له إلى ذلك، وإن قلتم لا يعلم بذلك فقد بطل ادعاؤكم العلم.

قلنا: من خلقه الله وحده ابتداءا وشاهد الكتابة أو القصر فهو لا يعلمهما محدثين متجددين [فلذلك لا يعلم لهما بانيا وكاتبا، فيحتاج أن يتأمل حالهما حتى يعلمهما محدثين متجددين]، فإذا علمهما متجددة الوجود علم تعلقهما بفاعل.

ونظير ذلك أن من شاهد الأجسام قبل النظر في حدوثها، فإنه لا يعلم أن لها محدثا، فإذا تأمل وعلم حدوثها علم عند ذلك أن لها محدثا.

وإنما قلنا أن علة حاجة هذه الحوادث إلينا حدوثها لا غير لأمرين:

أحدهما: أن الذي يتجدد عند دواعينا حدوث هذه الصنائع وينتفى عند صوارفنا حدوثها أيضا، فعلمنا أن علة حاجتها إلينا حدوثها.

والثاني: أن هذه الأشياء لها ثلاثة أحوال: حال عدم، وحال حدوث، وحال بقاء. فهي لا تحتاج إلينا في حال عدمها، لكونها معدومة في الأزل، وهي تستغني عني في حال بقائها، وإنما تتعلق بنا وتحتاج إلينا في حال حدوثها، فعلمنا بذلك أن علة حاجتها إلينا الحدوث، فعند ذلك نحكم بحاجة الأجسام، إذا ثبت حاجة حدوثها إلى محدث للاشتراك في علة الحاجة.

وهذه الجملة كافية في هذا الباب، فإن استيفاء ذلك ذكرناه في شرح الجمل، وفي هذا القدر كفاية إنشاء الله تعالى.

· يجب أن يكون صانع العالم قادرا حيا موجودا عالما مدركا للمدركات سميعا بصيرا مريدا وكارها قديما موجودا في الأزل

وأما ما يجب أن يكون عليه من الصفات: فأول ذلك أنه يجب أن يكون قادرا، لأن الفعل لا يصح أن يصدر إلا من قادر. ألا ترى أنا نجد فرقا بين من يصح منه الفعل وبين من يتعذر عليه ذلك، فلا بد من أن يكون من صح منه الفعل مختصا بأمر ليس عليه من تعذر عليه ذلك وإلا تساويا في الصحة أو التعذر [وقد علمنا خلافه].

وأهل اللغة من اختص بهذه المفارقة يسمونه قادرا، فأثبتت المفارقة لمقتضى العقل والتسمية لأجل اللغة، فإذا كان صانع العالم صح منه الفعل وجب أن يكون قادرا. على أنا دللنا على أن أفعالنا محتاجة إلينا دال على حاجتها إلى من له صفة المختارين، فإسنادها إلى من ليس له صفة المختارين في البطلان كبطلان إسنادها إلى مؤثر، وكلاهما فاسدان.

على أن صانع العالم لا يخلو من أن يكون قادرا مختارا أو موجبا هو علة أو سبب، ولا يجوز أن يكون علة ولا سببا، لأنهما لا يخلو من أن يكونا قديمين أو محدثين، فلو كانا محدثين لاحتاجا إلى علة أخرى أو سبب آخر، وذلك يؤدي إلى ما لا نهاية له من العلل والأسباب، وإن كانا قديمين وجب أن يكون العالم قديما، لأن العلة توجب معلولها في الحال والسبب يوجب المسبب إما في الحال أو الثاني، وكلاهما يوجبان قدم الأجسام وقد دللنا على حدوثها، فبطل بذلك أن يكون صانع العالم موجبا ولم يبق بعد ذلك إلا أن يكون مختارا له صفة القادرين.

وإذا ثبت كونه قادرا وجب أن يكون حيا موجودا، لأن من المعلوم أن القادر لا يكون إلا كذلك، فثبت أنه تعالى قادر حي موجود.

وأما الذي يدل على أنه عالم هو أن الأحكام ظاهر في أفعاله كخلق الإنسان وغيره من الحيوان، لأن فيه من بديع الصنعة ومنافع الأعضاء وتعديل الأمزجة وتركيبها على وجه يصح معه أن يكون حيا لا يقدر عليه إلا من هو عالم بما يريد فعله، لأنه لو لم يكن عالما لما وقع على هذا الوجه من الأحكام والنظام ولاختلف في بعض الأحوال، ولما كان ذلك واقعا على حد واحد ونظام واحد واتساق واحد دل على أن صانعه عالم.

وكذلك خلقه الثمار في أوقات مخصوصة لا تختلف وفي كل شجر ما هو من جنسه وفي كل حيوان من شكله دال على أن خالق ذلك عالم، وإلا لكان يجوز أن يخلق الفواكه الصيفية في الشتاء والشتوية في الصيف، ويخلق في البهيمة من جنس ابن آدم أو في ابن آدم من جنس البهائم، أو يخلق في النخل نبقا وفي الرمان تفاحا وغير ذلك. وفي علمنا بالمطابقة في هذا الباب دليل على أن صانعها عالم بما صنعه. ألا ترى أن في المشاهد لا تقع الكتابة إلا ممن هو عالم بها، ولا النساجة إلا ممن هو عالم بترتيبها وكيفية إيقاعها، وغيره وإن كان أقدر منه يتعذر عليه مثله لفقد علمه، والضعيف القليل القدر يصح منه ذلك لعلمه بكيفية إيقاعه.

وإذا كان القدر اليسير من أفعالنا المحكمة لا تقع إلا من عالم، فألا تقع الأفعال التي أشرنا إليها الزائدة على أحكام كل محكم أولى وأحرى، فثبت بذلك أن صانع العالم عالم.

ولا يجوز أن يكون بصفة الظانين ولا المعتقدين، [لأن الصنائع المحكمة تحتاج إلى من له صفة العالمين دون الظانين المعتقدين]، لأنها تحتاج إلى أمر يلزم كمال العقل ولا يخرج عنه من ثبوت عقله، والظن والاعتقاد الذي ليس بعلم لا يوجب لزومه لكمال العقل. فوجب من ذلك أن يكون صانع العالم عالما دون أن يكون ظانا أو معتقدا.

ويجب أيضا أن يكون مدركا للمدركات سميعا بصيرا، لأن الحي الذي لا آفة به متى وجدت المدركات وارتفعت الموانع واللبس وجب أن يكون مدركا لها.

ألا ترى أن من كانت حواسه صحيحة ووجدت المرئيات وارتفعت الموانع واللبس وجب أن يكون رائيا لها، وكذلك إذا وجدت الأصوات وسمعه صحيح وجب أن يدركها ويفصل بين حاله وهو مدرك لها وبين أن لا يدركها.

وهذا الفرق لا يستند إلى كونه حيا، لأنه كان حيا قبل ذلك ولم يجد نفسه كذلك ولا إلى كونه عالما لأنه يكون عالما بها قبل إدراكها ولا يجد نفسه على هذه الحال. ألا ترى أن الإنسان يعلم الصوت بعد تقضيه ويعلمه أيضا قبل وجوده ولا يجد نفسه على ما يجد عليه إذا أدركه، وكذلك المتألم يدرك الآلام وإن لم يعلمها.

فثبت بذلك أن الادراك غير العلم والحياة. وإذا كان القديم تعالى حيا والآفات والموانع لا تجوز عليه لأنه ليس يرى بحاسة ووجدت المدركات وجب أن يكون مدركا لها. وليس لواحد أن يقول: إن الواحد منا يدرك بمعنى هو إدراك، والمعنى ولا يجوز عليه تعالى، وذلك أن الادراك ليس بمعنى، وإنما الواحد منا يدرك لكونه حيا، بدلالة أنه لو كان معنى لجاز أن يكون حيا وحواسه صحيحة والموانع مرتفعة واللبس زائل ولو وجد المدركات فلا يدركها بأن لا يفعل فيه الادراك، وذلك يؤدي إلى السفسطة والشك في المشاهدات وأن لا يثق بشيء من المدركات، وما أدى إلى ذلك يجب أن يكون باطلا.

ويجب أيضا أن يكون سميعا بصيرا، لأنه حي لا آفة به. وفائدة السميع البصير أنه على صفة يجب معها أن يسمع المسموعات ويبصر المبصرات، وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به.

وعلى هذا يوصف تعالى بذلك في الأزل ولو كان له بكونه سميعا بصيرا صفة زائدة على ما قلناه لجاز أن يكون الواحد منا حيا لا آفة به ولا يوصف بأنه سميع بصير، والمعلوم خلاف ذلك.

وأما سامع مبصر فمعناه أنه مدرك للمسموعات والمبصرات، وذلك يقتضي وجود المسموعات والمبصرات، ولذلك لا يوصف بهما في الأزل. وأما شام وذائق فليس المراد بهما كونه مدركا، بل المستفاد بالشام أنه قرب الجسم المشموم إلى حاسة شمه، والذائق أنه قرب الجسم المذوق إلى حاسة ذوقه. ولذلك يقولون شممته فلم أجد له رائحة، وذقته فلم أجد له طعما ولا يقولون أدركته فلم أدركه لأنه مناقضة، وجرى مجرى قوله أصغيت إليه فلم أسمعه، فهاتان يكون؟ سبب الادراك على وجه دون أن يكون نفس الادراك.

ويجب أيضا أن يكون تعالى مريدا وكارها، لأنه ثبت أنه آمر وناه ومخبر والأمر لا يقع إلا ممن هو مريد للمأمور به، والنهي لا يقع نهيا إلا مع كراهية المنهي عنه، والخبر لا يقع خبرا إلا بإرادة كونه خبرا. بدلالة أن هذه الصيغ كلها توجد فيما ليس بأمر ولا نهي ولا خبر.

ألا ترى أن قوله تعالى {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} وقوله تعالى {اعملوا ما شئتم} بصورة الأمر والمراد به التهديد، وقوله تعالى {فأتوا بسورة من مثله} صورته صورة الأمر والمراد به التحدي، وقوله تعالى {وإذا حللتم فاصطادوا} المراد به الإباحة. ونظائر ذلك كثيرة جدا، فلا يمكن مع ذلك أن يكون آمرا لجنسه ولا لصيغته ولا لحدوثه، لأن جميع ذلك يوجد فيما ليس بأمر، فلم يبق إلا أنه يكون آمرا لإرادة المأمور به.

والكلام في النهي والخبر مثل ذلك. وأيضا فقد ثبت أنه تعالى خلق الخلق ولا بد أن يكون له فيه غرض، لأنه إن لم يكن له فيه غرض كان عبثا، وذلك لا يجوز عليه. ولا يجوز أن يكون خلقهم لنفع نفسه، لأن ذلك لا يجوز عليه، لأنا سنبين استحالة المنافع عليه. فلم يبق إلا أنه خلق الخلق لمنافعهم، ومعناه أنه أراد نفعهم بذلك، فثبت بذلك أنه مريد.

ويجب أن يكون تعالى قديما موجودا في الأزل، لأنه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث، والكلام في محدثه كالكلام فيه، فكان يؤدي إلى محدثين ومحدثي المحدثين إلى ما لا نهاية له، وذلك فاسد. وأيضا فإنه فاعل الأجسام والأعراض المخصوصة من الألوان والطعوم وغيرهما، والمحدث لا يصح منه فعل الجسم ولا هذه الأعراض المخصوصة، فوجب أن يكون من صحت فيه قديما.

وإنما كان كذلك لأن المحدث لا يكون قادرا إلا بقدرة، والقدرة لا يصح بها فعل الأجسام. وإنما قلنا "إن المحدث لا يصح أن يكون قادرا لنفسه" لأنه لو جاز أن يكون الجسم قادرا لنفسه لوجب أن تكون الأجسام كلها قادرة لنفسها لأنها متماثلة، والمعلوم خلاف ذلك.

وإنما قلنا "إن القدرة لا يقع بها فعل جسم" لأنا لو اجتهدنا كل الجهد أن نوجد جسما أو جوهرا لتعذر ذلك، ولا وجه لتعذره إلا أنه غير مقدور لنا وبذلك نفصل بين ما هو مقدور لنا وبين ما ليس بمقدور لنا.

فبان بذلك أن من صح منه الجسم لا يكون إلا قديما ولا يكون محدثا. وهو تعالى متكلم. والطريق الذي يعلم كونه متكلما السمع، لأن العقل لا يدل عليه، وإنما يدل على أنه قادر على الكلام، لأنه جنس من الأفعال وهو قادر على جميع الأجناس. وقد أجمع المتكلمون على أنه تعالى متكلم لا خلاف بينهم، وإجماعهم حجة. ومعلوم أيضا من دين النبي عليه السلام أنه تعالى متكلم، وأن هذا القرآن كلام الله تعالى.

فإن قيل: السمع مستند إلى قول النبي×، والنبي بأي شيء يعلم أنه متكلم؟ فإن قلتم بسمع آخر أدى إلى ما لا نهاية له من المستمعين، أو ينتهى إلى مسمع علم عقلا أنه متكلم، وإلا فما الجواب؟

قيل: لا يمتنع أن يعلم النبي كونه متكلما بكلام يسمعه يتضمن بأنه كلام الله، ويقترن بذلك علم معجز، فيقطع على ذلك أنه كلامه وأنه متكلم. ويمكن أيضا أن يخلق الله تعالى فيه العلم الضروري بأنه ليس بكلام أحد من المخلوقين وقد تقرر في عقله أن المحدث لا بد أن يكون له محدث، فيعلم عند ذلك أنه كلامه القديم، لأنه لا واسطة بين القديم والمحدث، وإذا بطل أنه كلام محدث ثبت أنه كلام قديم.