الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

السامعون حتى كشفوا عن حاله، فوجدوه أنه لما احتمل جريحا إلى منزله، ووجد ألم الجراح قتل نفسه بمشقص فإنما شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنار عقيب بلائه للوجه الذي ذكرناه، والذي يدل على أن بشارته بالنار لم تكن لكون الزبير تائبا مقلعا، بل لبعض ما ذكرناه هو أنه لو كان كما ادعوه لأقاده أمير المؤمنين عليه السلام به، ولماطل دمه (1) وفي عدوله عن ذلك دلالة على ما ذكرناه.

قال صاحب الكتاب: (فأما توبة عائشة فمشهورة لأن عمرها امتد بعد الصنيع الذي كان منها، وتواتر عنها ما كانت تذكره من الندامة حالا بعد حال، فروي عن عمار أنه أتاها فقال: سبحان الله ما أبعد هذا من الأمر الذي عهد إليك، أمرك الله إلا أن تقري في بيتك، فقالت: من هذا أبو اليقظان؟ قال: نعم قالت: أما والله ما علمت إلا أنك لقوال بالحق، فقال الحمد لله الذي قضي لي على لسانك (2) والمشهور عن عمار أنه خطب بالكوفة عند الاستنفار فذكر عائشة. فقال أما إنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لشقوة (3) وإياها وذكر عن ابن عباس أنه قال لعائشة ألست إنما سميت أم المؤمنين بنا، قالت بلى أولسنا أولياء زوجك قالت بلى، قال: فلم خرجت بغير إذننا؟ فقالت أيها الرجل كان

____________

(1) طل دمه: ذهب هدرا.

(2) تاريخ الطبري 4 / 545.

(3) غ " لتبتغوه " أو يبدو أنه تصحيف.


الصفحة 351
قضاء وأمر خديعة ويروي عنها عبد الله بن عبيد الله بن عمير أنها قالت:

والله لوددت أني كنت غصنا رطبا وأني لم التبس في هذا الأمر، تعني يوم الجمل وروي أن سائلا سأل أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام عن عائشة ومسيرها في تلك الحرب فاستغفر لها فقال له: أتستغفر لها وتتولاها فقال نعم أما علمت ما كانت تقول يا ليتني كنت شجرة يا ليتني كنت مدرة. وذلك توبة وروى أبو الحسن عن الحسن (1) أنه قال قالت عائشة لأن أكون جلست (2) من مسيري الذي سرت أحب إلي من أن يكون لي عشرة أولاد من رسول الله صلى الله عليه وآله كلهم مثل ولد الحارث ابن هشام. وثكلتم وروي عن حذيفة أنه قال: (إني لأعلم قائد فتنة في الجنة، وأتباعه في النار) (3) وروي أن عائشة أرسلت إلى أبي بكرة (4) رجلا من بني جمح. فقالت: ما يمنعك من إتياني أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أحدثت بدعة. فأرسل إليها لا هذا ولا هذا ولكن تذكرين يوما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندك فبشر بظفر أصحابه (5) فخر ساجدا، ثم قال الرسول (حدثني) فقال كان الذي يلي أمرهم امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وآله: (هلكت الرجال حيث أطاعت النساء) قالها ثلاثا فلما رجع الرسول إلى عائشة بكت حتى بلت خمارها. وكل ذلك يبين ما وصفناه من توبتها وقد كانت وجدت في قلبها، ما كان من أمير المؤمنين صلوات الله عليه يوم الإفك عند استشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يحكي عنها بعد ذلك، لا يدل على

____________

(1) أبو الحسن الظاهر أنه المدائني والحسن البصري.

(2) غ " جلست في منزلي ".

(3) في المغني " ومن اتبعه في النار ".

(4) غ " بكر " تحريف.

(5) غ " أصحاب له ".


الصفحة 352
خلاف التوبة، وإنما كانت تائبة لهذا الوجه. ولم يكن الذي تأتيه مما يقدح في إعظامها لأمير المؤمنين عليه السلام، لأن الواحد قد يعظم الواحد في الدين ومع ذلك (1) يجد في قلبه الألم والغم من بعض أفعاله) (2) يقال له: ما بيناه من الطرق الثلاث من قبل في الكلام على توبة طلحة والزبير وما يدعونه منها هي المعتمدة فيما يدعونه من توبة عائشة فأول الطرق أن جميع ما رويته من الأخبار وليس يمكنك ولا أحد أن يدعي أنه معلوم ولا مقطوع على صحته، وأحسن أحواله أن يوجب ذلك استقصاء لا يحتاج إلى إعادته.

فأما ما يعارض الأخبار ليس يمكنك ولا أحد أن يدعي أنه معلوم ولا مقطوع على صحته، وأحسن أحواله أن يوجب ذلك استقصاء لا يحتاج إلى إعادته.

فأما ما يعرض الأخبار التي رواها فإن الواقدي، روى بإسناده عن شعبة عن ابن عباس قال: أرسلني علي عليه السلام إلى عائشة بعد الهزيمة، وهي في دار الخزاعيين يأمرها أن ترجع إلى بلادها، قال:

فجئتها، فوقفت على بابها ساعة لا يؤذن لي، ثم أذنت فدخلت ولم توضع لي وسادة، ولا شئ أجلس عليه، فالتفتت فإذا وسادة في ناحية البيت على متاع فتناولتها وضعتها، ثم جلست عليها، فقالت عائشة: يا ابن عباس أخطأت السنة تجلس على متاعنا بغير إذننا، فقلت لها ليست بوسادتك تركت متاعك في بيتك الذي لم يجعل الله لك بيتا غيره فقالت والله ما أحب أن أصبحت في منزل غيره، قلت أما حين اخترت لنفسك فقد كان الذي رأيت، فقالت: أيها الرجل أنت رسول فهلم ما

____________

(1) غ " وأي كان ذلك ".

(2) المغني 20 ق 2 / 90.


الصفحة 353
قيل لك قال: فقلت: إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترحلي إلى منزلك وبلدك فقالت: ذاك أمير المؤمنين عمر (1) قال ابن عباس فقلت: أمير المؤمنين عمر والله يرحمه، وهذا والله أمير المؤمنين فقالت: أبيت ذلك. فقلت:

أما والله ما كان إلا فواق عنز (2) حتى ما تأمرين ولا تنهين كما قال الشاعر الأسدي:


ما زال أعداء القصائد بيننا شتم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن أمرك فيهم في كل مجمعة طنين ذباب (3)

قال ابن عباس فوالله يعلم لبكت حتى سمعت نشيجها، فقالت:

أفعل ما بلد أبغض إلي من بلد لصاحبك مملكة بعد، وبلد قتل فيه أبو محمد وأبو سليمان، تعني طلحة بن عبيد الله وابنه. فقلت: أنت والله قتلتهما قالت: وأجلهما إلي قلت: لا ولكنك لما شجعوك على الخروج خرجت، فلو أقمت ما خرجا، قال: فبكت مرة أخرى أشد من بكائها الأول، ثم قالت: والله لئن لم يغفر الله لنا لنهلكن، نخرج لعمري من بلدك، فأبغض بها والله بلد إلي وبمن فيها، فقلت: الله ما هذا جزاؤنا بأيدينا (4) عندك ولا عند أبيك، لقد جعلنا أباك صديقا، وجعلناك للناس أما، فقالت: أتمنون علي برسول الله؟ قلت إي والله لأمتنن به عليك، والله لو

____________

(1) غ " عمر يرحمه الله ".

(2) الفواق - بضم الفاء وفتحها - ما بين الحلبتين في الوقت لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الجدي لتدر ثم تحلب. ويضرب ذلك مثلا: في قصر المدة فيقال: ما أقام عنده إلا فواقا، وفي الحديث " العيادة فواق ناقة، وكان في الأصل " فواق عنز غدير " والتصحيح من ر.

(3) المجمعة " موضع الإجماع.

(4) غ " جزاء أيدينا عندك ".


الصفحة 354
كان لك لمننت به، قال ابن عباس: فقمت وتركتها فجئت عليا عليه السلام فأخبرته خبرها وما قلت لها فقال عليه السلام: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) (1).

فإن قيل: في الخبر دليل على توبتها، وهو قولها عقيب بكائها: لئن لم يغفر الله لنا لنهلكن.

قلنا: قد كشف الأمر ما عقبت هذا الكلام به، من اعترافها ببغض أمير المؤمنين عليه السلام وبغض أصحابه المؤمنين، وقد أوجب الله عليها محبتهم وتعظيمهم. وهذا دليل على الاصرار وأن بكائها إنما كان للخيبة لا للتوبة، وما في قولها: لئن لم يغفر الله لنا لنهلكن، من دليل للتوبة، وقد يقول المصر مثل ذلك إذا كان عارفا بخطئه فيما ارتكبه وليس كل من ارتكب ذنبا يعتقد أنه حسن حتى لا يكون خائفا من العقاب عليه، وأكثر مرتكبي الذنوب يخاف المصاب مع الاصرار ويظهر منهم مثل ما يحكى عن عائشة ولا يكون توبة.

وروى الواقدي بإسناده أن عمارا استأذن على عائشة بالبصرة بعد الفتح فأذنت له فدخل فقال: يا أمة كيف رأيت صنع الله حين جمع الحق والباطل، ألم يظهر الحق على الباطل، وزهق الباطل؟ فقالت: إن الحرب دول وسجال (2) وقد اديل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن انظر يا عمار كيف تكون في عاقبة أمرك.

____________

(1) آل عمران.

(2) دول - بكسر الدال - جمع دولة بالضم - وهي الشئ الذي يتداول، وقال أبو عمرو ابن العلاء: بالضم في المال وبالفتح في الحرب " وقال عيسى بن عمر " كلتاهما تكونان في المال والحرب سواء " (انظر المادة في صحاح الجوهري).


الصفحة 355
وروى الواقدي أنها لما دخل عليها عمار أيضا فقال: كيف رأيت ضرب بنيك على الحق وعلى دينهم فقالت: استبصرت من أجل إنك غلبت فقال: أنا أشد استبصارا من ذلك والله لو غلبتمونا حتى تبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنكم على الباطل فقالت عايشة:

هكذا تخيل إليك إتق الله يا عمار إن سنك قد كبرت ودق عظمك ودنى أجلك إذ وهبت دينك لابن أبي طالب قال: أي والله اخترت لنفسي في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فرأيت عليا عليه السلام أقرأهم لكتاب الله، وأعلمهم بتأويله، وأشدهم تعظيما لحق الله وحرمته، مع قرابته وعظم بلائه وعنائه في الاسلام قال فسكتت.

وروى الطبري في تاريخه إنما لما انتهى قتل أمير المؤمنين عليه السلام إلى عائشة قالت:


فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر

فمن قتله؟ فقيل: رجل من مراد لعنه الله فقالت:


فإن يك نائيا فلقد نعاه تباع ليس في فيه التراب

فقالت زينب بنت سلمة ابن أبي سلمة (1): العلي تقولين هذا؟ فقالت إني انسي فإذا نسيت فذكروني (2).

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 150 حوادث سنة 40.

(2) زينب بنت أبي سلمة المخزومية يقال: ولدت بأرض الحبشة، وضعتها أمها بعد مقتل ابن سلمة وتزوج رسول الله صلى الله عليه وآله أمها وهي ترضعها، وكان اسمها برة فغيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانت من أفقه نساء المدينة، (انظر كتاب النساء من الإصابة حرف الزاي ق 1 بترجمتها).


الصفحة 356
وهذه سخرية منها بزينب وتمويه عليها تخوفا من شناعتها، ومعلوم ضرورة أن الناسي الساهي لا يتمثل بالشعر في الأغراض التي تطابق مراده، ولم يكن ذلك منها إلا عن قصد ومعرفة.

وروي أيضا عن ابن عباس أنه قال لأمير المؤمنين عليه السلام لما أبت عايشة الرجوع إلى المدينة: أرى أن تدعها يا أمير المؤمنين بالبصرة ولا ترحلها فقال صلوات الله عليه له: إنها لا تألو شرا ولكني أردها إلى بيتها الذي تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه، فإن الله بالغ أمره.

وروى محمد بن إسحاق أن عائشة لما وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة، لم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين عليه السلام وكتبت إلى معاوية وإلى أهل الشام مع الأسود بن أبي البختري (1) لتحرضهم عليه، وروي عن مسروق أنه قال: دخلت على عائشة فجلست إليها فحدثني واستدعت غلاما لها أسود يقال له: عبد الرحمن حتى وقف، فقالت: يا مسروق أتدري لم سميته عبد الرحمن فقلت: لا فقالت: حبا مني لعبد الرحمن بن ملجم.

فأما قصتها لدفن الحسن عليه السلام (2) ومنعها من مجاورته عليه السلام لجده وخروجها على بغلة تأمر الناس بالقتال، وتقول: لا تدخلوا بيتي من لا أهوى، فمشهورة حتى قال لها عبد الله بن عباس رضي الله عنه: يوما على بغل ويوما على جمل فقالت: ما نسيتم يوم الجمل يا ابن عباس إنكم ذوو حقد، ولو ذهبنا إلى ذكر ما روي عن هذه المرأة من

____________

(1) الأسود بن أبي البختري واسم أبي البختري العاص قتل أبوه يوم بدر كافرا أسلم يوم الفتح سيره معاوية مع بسر بن أرطاة ليقتل شيعة علي بالمدينة (انظر أسد الغابة 1 / 82).

(2) ر " في دفن ".


الصفحة 357
الكلام الغليظ الشديد الدال على بقاء العداوة واستمرار الحقد والعصبية، لأطلنا وأكثرنا، فأي دليل أدل على أنها معاوية لأمير المؤمنين عليه السلام عداوة قديمة لا سبب لها من تهمته بقتل عثمان وغيره مع (1) أنها كانت تؤلب على عثمان، فتأمر صريحا بقتله، ولم يكن عليه السلام إلا بريئا، ولم يكن على عثمان أشد منها ولا أغلظ، فلما قتل كما أرادت أظهرت السرور والابتهاج، ظنا منها أن الأمر يعدل به إلى طلحة أو غيره، وأن أمير المؤمنين عليه السلام لا يحظى بطائل، فلما عرفت الأمر على حقيقته رجعت على أدراجها تزكي عثمان وتبكيه وتندبه، فما الذي بان لها من أمره بعد الأقوال المسموعة منها فيه! وهل هذا إلا شح منها على أمير المؤمنين عليه السلام بالأمر؟

وروى البلاذري عن عباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو يوسف الأنصاري أنه سمع أهل الكوفة يحدثون أن الناس لما بايعوا عليا عليه السلام بالمدينة بلغ عائشة أن الناس قد بايعوا طلحة فقالت: إيه ذا الإصبع (2) لله أنت لقد وجدوك لها مجلسا وأقبلت جذلة مسرورة، حتى انتهت إلى سرف (3) استقبلها عبيد بن سلمة الذي يدعى ابن أم كلاب (4) فسألته عن الخبر، فقال: قتل الناس عثمان، قالت: نعم ما صنعوا قال: خيرا جازت بهم الأمور إلى خير مجاز بايعوا ابن عم نبيها عليه السلام فقالت: أو فعلوها، وددت بأن هذه انطبقت على هذه، إن تمت الأمور لصاحبك الذي ذكرت، فقال لها: ولم والله ما أرى اليوم في الأرض مثله، فلم تكرهين سلطانه؟ فلم ترجع إليه

____________

(1) في الأصل " من ".

(2) تعني طلحة لأنه أشل.

(3) سرف - بكسر الراء - موضع من مكة على عشرة أميال (نهاية ابن الأثير مادة " سرف ".

(4) قال ابن حجر في القسم الرابع من حرف العين من الإصابة: " عبيد بن أم كلاب له رواية عن عمر ".


الصفحة 358
جوابا، وانصرفت إلى مكة فاتت الحجر فاستبرزت (1) فقالت: إنا عبنا على عثمان في أمور سميناها له، ووقفناه عليها، وتاب منها واستغفر الله، فقبل المسلمون منه ذلك. ولم يجدوا من ذلك بدا فوثب عليه من إصبع من أصابع عثمان خير منه فقتله، فقتل والله وقد ماصوه كما يماص الثوب الرحيض (2) وصفوه كما يصفى القليب، ومن تأمل ما روي عنها في هذا المعنى وهو كثير حق تأمله وانقلابها في عثمان مادحة بعد أن كانت في الحال ذامة لا لشئ سوى حصول الأمر لمن يستحقه علم من أمرها ما لا يخرجه من قلبه تأويل، ولا يدفعه تذليق (3) وفي بعض ما ذكرناه من الأخبار كفاية، في معارضته أخباره لو لم يكن فيها تأويل ولا احتمال ونحن نتكلم الآن على ما تعلق به صاحب الكتاب في توبتها من الأخبار.

أما الأخبار فالخبر الذي تضمن موافقة عمار لها إنك لقوال بالحق، فأبعد شئ من حجة في التوبة أو شبهه، وما روي من اعترافها بصدق عمار بأنها مأمورة بأن تقر في بيتها من الدلالة على التوبة والندم، وهل كانت من جحد ذلك متمكنة، وأي منافاة بين الاعتراف بذلك. وبين الاصرار.

فأما ما حكاه بعد عن عمار من أنها زوجته في الدنيا والآخرة فظاهر البطلان. لأن أقوال عمار المشهورة بخلاف ذلك، وبعد فإن عمارا إنما قال ذلك بالكوفة عند الاستنفار وقبل الحرب، ويجوز أن يكون ظانا أن الأمر لا يفضي إلى ما أفضى إليه فقال: إنها زوجته في الدنيا والآخرة على

____________

(1) استبرزت: ظهرت بعد خفاء.

(2) ماص الشئ دلكه، وموص الثوب غسله، والرحيض: المغسول.

(3) في المطبوعة، " تزليق " واخترنا ما في ر فيكون من الذلاقة وهي الفصاحة والبلاغة.


الصفحة 359
ما ظنه في الحال ولم يسند خبره إلى النبي صلى الله عليه وآله فيقطع به وليس كل ما ظنه كان يكون صحيحا وكيف يقول عمار ومذهبه معروف في تنزيه الله عن القبيح: إن الله ابتلاكم بها، وكيف يبتلي الله بالمعاصي وبما قد نهى عنه وحذر منه.

وأما الخبر الثاني وقولها مجيبة لابن عباس أيها الرجل كان قضاء وأمر خديعة فأول ما فيه أن يحيل على الله بذنبه، ويدعي أنه هو الذي قضاه عليه لا يقبل توبته عند جماعتنا، وليس له أن يحمل القضاء ها هنا على العلم دون الخلق والحكم، ليخرجها من أن تكون غالطة، وذلك أن المعلوم إنها كانت معتذرة بكلامها، ولا عذر لها في أن يعلم الله منها القبيح، وإنما العذر في القضاء المخالف العلم ألا ترى أنها ضمت إلى ذلك ذكر الخديعة لتلقي اللوم على غيرها، ولا مطابقة بين الخديعة والقضاء الذي هو العلم، فكيف تكون مخدوعة وقد ظهر منها بعد التمكن منها، وزوال كل شبهة عنها، من الكلام الغليظ في أمير المؤمنين عليه السلام وفي متبعيه ما يدل على استبصارها في عداوته، وإصرارها على مشاقته.

فأما قولها: وددت أني كنت غصنا رطبا، وفي بعض الأخبار:

شجرة أو مدرة، فإنه لا يدل على التوبة، وإنما يدل على التلهف والتحسر، ويجوز أن يكون من حيث خابت عن طلبتها، ولم تظفر ببغيتها، مع الذل الذي لحقها وألحقها العار في الدنيا، والإثم في الآخرة. فمن أين أن ذلك ندم على الفعل القبيح من الوجه الذي يسقط الذم؟ وليس فيه أكثر من لفظ التمني الذي يستعمله المستبصر المحقق وتارة يكون ندما وتوبة، إذا كان خوفا من ضرر الآخرة، وندما على القبيح لقبحه، وتارة يكون على الاستضرار في الدنيا لفوت غرض أو خيبة أو بعض ما ذكرناه، وهذا هو الجواب عن تعلقهم ببكائها وتمنيها الموت، وقولها لأن لا أكون شهدت هذا اليوم أحب إلي من أن يكون لي من رسول

الصفحة 360
الله صلى الله عليه وسلم عشرة أولاد كعبد الرحمن بن الحارث بن هشام (1) على إنه قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك اليوم أنه قال: (وددت أنني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة) فلو كان تمنى الموت دليل التوبة لوجب أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مقلعا به عن قبيح، وقد خبر الله تعالى عن مريم عليها السلام أنها قالت: (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) (2) ومعلوم أن ذلك لم يكن منها على سبيل التوبة من قبيح، وأنها خافت الضرر العاجل بالتهمة.

فأما أمير المؤمنين عليه السلام فمعنى كلامه إن صحت الرواية أنه كان صلوات الله وسلامه عليه محزونا بقتل شيعته وأصحابه، وفقد أنصاره والمخلصين في ولايته، وبوقوع الفتنة في الجمهور، ودخول الشبهة على كثير من أهل الاسلام، حتى أداهم إلى الاختلاف والتحارب الذي يشمت الأعداء، ويسوء الأولياء، وكيف تكون عائشة تائبة نادمة، ولم ينقل عنها مع امتداد الزمان بها شئ من ألفاظ التوبة المختصة بها، ولا صرحت في وقت من الأوقات بأني نادمة على ما كان مني من حرب الإمام العادل، وخلع طاعته وقتل شيعته، ورميه بدم عثمان وهو برئ منه، وعالمة بقبح جميع ذلك، وعازمة على ترك معاودة أمثاله، أو معنى هذه الألفاظ، وكيف عدلت عن هذا كله إلى تمني الموت وقولها: يا ليتني كنت شجرة أو مدرة، وما فيه شئ يختص التوبة من لفظ ولا معنى، وهو محتمل على ما ذكرناه.

فأما ما رواه عن أبي جعفر عليه السلام من الاستغفار لها من بعيد

____________

(1) عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وقولها هذا نقله ابن الأثير في أسد الغابة 3 / 284 بترجمة عبد الرحمن وزاد عليه " أو مثل عبد الله بن الزبير " توفي عبد الرحمن في أيام معاوية.

(2) مريم / 34.


الصفحة 361
الرواية عن الحق، وبإزاء هذا الخبر ما لا يحصى كثرة عن أبي جعفر وآبائه وأبنائه عليهم السلام مما يتضمن خلاف الاستغفار، ويقتضي غاية الاصرار مما لم تذكره استغناء عن ذكره لشهرته في أماكنه. على أنه لا حجة له في ذلك على مذاهبنا لأنا نجيز عليه التقية، ويجوز أن يكون ذلك السائل من أهل العداوة فاتقاه بهذا القول وورى فيه تورية تخرجه من أن يكون كذبا. وبعد فإن علق توبتها بتمنيها أن تكون شجرة أو مدرة، وقد بينا أن ذلك لا يكون توبة وهو عليه السلام بهذا أعلم منا.

فأما ما رواه عن حذيفة فهو خبر عن مذهبه واعتقاده وليسا على من خالفه رحمه الله بحجة.

فأما ما عقب به ذلك من خبرها مع أبي بكرة وبكائها حتى بلت خمارها. فقد بينا أن البكاء دليل التحسر والتلهف، وأنه يحتمل غير التوبة كاحتماله لها.

فأما قوله: (إنها كانت وجدت في قلبها من مشورة أمير المؤمنين عليه السلام في بابها بما أشار به في قصة الإفك، فإن الذي يحكى عنها بعد ذلك لا يدل على خلاف التوبة) إلى آخر الفصل، فإنما هو إرهاص وتأسيس وتأويل ما روي عنها من الأخبار الدالة على إصرارها ومقتها وعداوتها وصرفها إلى غير وجهها، لأن صاحب الكتاب أحس بما أورده أصحابنا عليه من معارضة أخباره. فقدم هذه الرواية، والمقدمة لأجل ذلك، وليس يبلغ ألم ما ذكره من المشورة ونقل عليها إلى أن تمتنع من تسميته بأمير المؤمنين وتصرح بأنها تبغض البلد الذي يحله لأجله، وتظهر السرور بقتله وقد حز ذلك في - ب؟؟ الاسلام وأهله وتضعضعت له أركانه ودعائمه. ومن تأمل ما روي عنها في هذا الباب علم أنه أكثر مما يقتضيه ثقل

____________

(1) انظر مروج الذهب 2 / 377.

(2) بريرة مولاه عائشة أم المؤمنين (انظر ترجمتها في أسد الغابة 5 / 409).


الصفحة 362
القلب والوجد اللذان لا ينتهيان إلى العداوة والشحناء، ولم يجر من أمير المؤمنين عليه السلام في قصة الإفك ما يقتضي وجدا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشاره فأشار بم يقتضيه ظاهر الحال من مسألة بريرة (1) عن الأمر فسألها الرسول صلى الله عليه وآله فقالت: ما علمت إلا خيرا. فلو كان أمير المؤمنين عليه السلام أشار بخلاف الصواب، وبما فيه تحامل عليها لما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وليس في المشورة التي ذكرها ما يقتضي حقدا ولا غضبا.

قال صاحب الكتاب: (أما سعد بن أبي وقاص. فقد بينا أنه رضي بيعته عليه السلام، وإنما ترك القتال معه. ولم يضيق أمير المؤمنين عليه السلام عليه فلا إثم عليه، وإن (كان ضيق عليه وعلى أمثاله في المحاربة معهم فهم آثمون، ولا ندري ما يبلغ هذا الإثم (2) لأنهم الذين يعظم قعودهم والحاجة إليهم ماسة).

قال: (وقد روي مع ذلك ما يدل على الندامة مما لا يحصى في الوقت ذكره وروى [ جندب ابن أبي ثابت (3) ] عن ابن عمر أنه كان يقول ما ندمت على شئ كندامتي ألا أكون قاتلت الفئة الباغية وروى خبر آخر يجري هذا المجري عن الزهري أن معاوية قال: من أحق بهذا الأمر مني قال ابن عمر فهممت أن أقول من ضربك وأباك (4)) قال:

(والكلام في محمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد كالكلام فيمن تقدم، وإنما وجب التشدد في ذكر توبة طلحة والزبير وعائشة لأن العلم محيط

____________

(1) كلام القاضي في ابن عمر نقله المرتضى باقتضاب (انظر المغني 20 ق 2 / 92).

(2) ر " لأن ".

(3) الزيادة من المغني.

(4) الارهاص - في الأصل - أول صف من الحائط ثم استعمل في مقدمة الشئ.


الصفحة 363
بعظم خطبهم (1) فكان لا بد من ذكر ما يزول به الذم، فأما غيرهم ممن ذكرناه فلا وجه يقطع به على أن الذي فعلوه كبيرة (2).

وذكر: (إن سعد بن أبي وقاص من العشرة وخبر البشارة يدل على توبته).

وحكي عن ابن علي (إن أبا موسى الأشعري تاب بعد ما عمله في التحكيم) وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام قال له: وقد دخل إلى الحسن عليه السلام يعوده من علة: " أشامت يا أبا موسى أم عائد؟

قال: بل عائد، قال: " أما إنه لا يمنعني ما في نفسي عليك أن أقول لك ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (من عاد مريضا كان في رحمة الله ماشيا حتى إذا قعد غمرته التوبة " فإن صح ذلك وما شاكله من الأخبار. فقد أزال عن نفسه ما يستحقه وإلا فالذم والعقاب لا زمان له على الأمر العظيم الذي ارتكبه (3)).

يقال له: أما سعد بن أبي وقاص وابن عمرو من يجري مجراهما ما في التخلف عن بيعته أمير المؤمنين عليه السلام فلم يفسقوا عندنا على الحقيقة بما كان منهم من القعود عن بيعته عليه السلام في تلك الحال وإنما كانوا فساقا بما تقدم من جحودهم النص، وشكهم في إمامته بعد الرسول صلى الله عليه وآله بلا فصل، وقد بينا فيما تقدم أن إمامة أمير المؤمنين لا طريق إليها إلا بالنص، وأن من دفع النص لا يمكنه أن يثبتها بالاختيار، وبينا

____________

(1) الخطب: الأمر العظيم، وفي المغني " خطأهم ".

(2) المغني 20 ق 2 / 92.

(3) نقل المرتضى كلام القاضي في أبي موسى باختصار، والذي في المغني: فقد كان قبل التحكيم منه بالكوفة ما كان لكن الذي ظهر منه قعوده عن الحرب وذلك محتمل، أما ما علمه بعد التحكيم فعظيم يوجب البراءة لا محالة لكن شيخنا أبا علي ذكر أنه تاب بعد ذلك ورجع إلى أمير المؤمنين بالكوفة بعد ما كان تنحى عنه وخرج إلى الحجاز وفي ذلك أخبار مروية، ثم نقل عيادة للحسن عليه السلام الخ.


الصفحة 364
أن هؤلاء الممتنعين لم يكن لهم عذر في الامتناع عن المحاربة جميعهم، بل فيهم من اعتذر بذلك. وفيهم من التمس أن يكون الاختيار بعد الشورى وإجالة الرأي، وفيهم من راعى الإجماع وامتنع من البيعة لفقده.

وبعد، فأي عذر لهم في تأخرهم عن المحاربة معه إذا كانوا على ما ادعاه صاحب الكتاب قد بايعوه، ورضوا بإمامته. والبيعة تشتمل على النصرة والمحاربة فكيف يدخل فيها من يخرج عن بعضها؟! وأن يحتاج في وجوب المحاربة إلى التشدد لأن سبب وجودها متقدم وهو البيعة. على أنه عليه السلام قد استنصر الناس، ودعاهم إلى القتال معه في الجمل وصفين، ولم يترك غاية في التشدد فينبغي أن يأثموا بالقعود عن المحاربة على كل حال.

فأما ابن عمر فإن كان قد ندم على ترك جهاد الفئة الباغية فما ندم على غيره مما يجب فسقه، وكيف لا يكون ما فعلوه من القعود عن بيعته، أو من المحاربة - وقد وجب عليهم - كبيرا، وفي ذلك مشاقة الإمام وخروج عن طاعته. ولئن جاز أن لا يكون فسقا ليجوزن أن لا يكون محاربته كذلك.

فأما خبر البشارة (1) فقد مضى الكلام عليه.

فأما أبو موسى فلم يذكر في توبته (على تصحيفه فيها وتشككه - إلا الخبر الذي رواه في العيادة. وليس فيه دليل على التوبة. وإنما روى أمير المؤمنين عليه السلام ما سمع، ومعلوم أنه لا يصح حمله على العموم.

لأن فيمن يعود المرضى الكافر والفاسق، فهم مستثنون منه. على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد صرح بما في نفسه عليه، وإن لم يمنعه ذلك أن يخبره بما سمع. ولو كان تائبا قبل ذلك لكان ما في النفس عليه زائلا غير

____________

(1) يعني حديث العشرة المبشرة.


الصفحة 365
ثابت.

وهذه جملة كافية ولم يبق بعد هذا الفصل من فصول صاحب الكتاب في الإمامة ما يحتاج إلى تتبعه لأنه تكلم على بغي معاوية ووجوب محاربته (1) ثم تكلم على الخوارج بجملة من الكلام واقعة موقعها (2) ثم تكلم في فضل أمير المؤمنين عليه السلام ونصر أنه الأفضل بكلام أيضا صحيح (3) وتكلم في إمامة الحسن والحسين عليهما السلام بكلام بناه على صحة الاختيار (4) وقد مضى ما في الاختيار، ثم تكلم فيما يختص به الإمام لكونه إماما، وما يخرجه من كونه إماما وما لا يخرجه من ذلك بكلام طويل وفيه صحيح وباطل (5) والباطل مبني على أصول قد قدمنا الكلام عليها وأفسدناها، ثم ذكر جملة من مذاهب الغلاة وأشار إلى جملة من الرد عليهم (6) وذكر اختلاف الإمامية في أعيان الأئمة (7) من غير احتجاج به لهم أو عليهم. وأحال في الكلام عليهم إلى ما تقدم من كلامه الذي تتبعناه ونقضناه، ثم ختم بفصل الفصول يتضمن ذكر أقاويل الزيدية واختلافهم (8) مما لا وجه لحكايته وتتبعه.

ونحن الآن قاطعون كتابنا على هذا الموضع لوفائنا بما شرطناه وقصدناه، ولم نأل جهدا وتحريا للحق فيما اشتمل عليه هذا الكتاب من

____________

(1) 20 ق 2 / 93.

(2) 20 ق 2 / 95.

(3) 20 ق 122.

(4) المغني 20 ق 1 / 165.

(5) المغني 20 ق 2 / 173.

(6) المغني 20 ق 2 / 177.

(7) المغني 20 ق 2 / 177 - 183.

(8) المغني 20 ق 2 / 185، ومما يجدر التنبيه عليه أن كلام القاضي في أقاويل الزيدية رد عليه الشيخ محي الدين محمد بن أحمد بن علي بن الوليد برسالة سماها " المفني لشبه المغني " وطبع هذا الرد ملحقا بالجزء العشرين من المغني.


الصفحة 366
كلامنا بحسب ما بلغته أفهامنا، واتسعت له طاقتنا، ونحن نقسم على من تصفحه وتأمله لا يقلدنا في شئ منه، وأن لا يعتقد بشئ مما ذكرناه إلا ما صح في نفسه بالحجة، وقامت عليه عنده الأدلة.

ومن تأمل هذا الكتاب وجد بين ابتدائه وانتهائه تفاوتا في باب الاختصار والشرح، والعلة في ذلك أن النية اختلفت فيه فابتدأناه بنية مختصر عازم على حكاية أوائل كلام صاحب الكتاب وأطراف فصوله.

وإيجاز الكلام واختصاره ورأينا من بعد أن نبسط الكلام ونشرحه، ونحكي كلامه على وجهه من غير حذف (1) لشئ منه فعملنا على ذلك بعد أن مضت قطعة من الكتاب على الرأي الأول، وقد كان الواجب أن نعطف على ما تقدم من الكتاب فنشرحه ليلحق بأواسطه وآخره (2) لكن منع من ذلك أن الذي خرج منه سار في البلاد، وتناوله الناس قبل كمال الكتاب وتمامه، ولم يكن تلافيه لهذا الوجه وأشفقنا من أن تتغير النسخ مما تقدم منه فتختلف وتتفاوت.

والحمد لله رب العالمين على ما وهبه من المعونة. ورزقه من البصيرة. وإياه نسأل أن يؤيدنا بتوفيقه وتسديده، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا مقربة من ثوابه، مبعدة من عقابه إنه سميع الدعاء قريب مجيب، وصلاته على خيرته من خلقه محمد نبيه، والطيبين من عترته وذريته، وسلامه ورحمته وبركاته.

إلى هنا انتهى الجزء الرابع من كتاب " الشافي في الإمامة " لعلم الهدى الشريف المرتضى بحسب تجزئة هذه الطبعة وبانتهائه تم الكتاب.

وآخر دعوانا (أن الحمد لله رب العالمين).

____________

(1) ر " خلف " والظن أنه تحريف.

(2) ر " وأواخره ".