الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

العظمى.

وأما منع الماء والطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه ليحرج ويحوج (1) إلى الخلع الواجب عليه، وقد يستعمل في الشريعة مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات، فتعذر إقامة الحد عليه، لمكان الحرم، على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد أنكر منع الماء والطعام، وأنفذ من مكن من حمل ذلك. لأنه قد كان في الدار من النساء والحرم و الصبيان من لا يحل منعه الطعام والشراب، ولو أن حكم المطالبة بالخلع والتجمع عليه والتضافر (2) فيه حكم منع الطعام والشراب في القبح والمنكر لأنكره أمير المؤمنين عليه السلام ومنع منه كما منع من غيره، فقد روي عنه عليه السلام أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا من في الدار من الماء قال عليه السلام لا أرى ذلك في الدار صبيان وعيال لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان، فصرح بالمعنى الذي ذكرناه، ومعلوم أن أمير المؤمنين عليه السلام ما أنكر المطالبة بالخلع بل كان مساعدا على ذلك مشاورا فيه.

فأما قوله: (إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع) فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون قتله وقع على هذا الوجه، لأن في تمسكه بالولاية عليهم وهو لا يستحقها، في حكم الظالم لهم، فمدافعته واجبة.

فأما ما قصه من قصة الكتاب الموجودة، فقد حرفها لأنا قد ذكرنا شرحها الذي وردت به الرواية وهو بخلاف ما ذكره.

وأما قوله: (أنه قال إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب إلى الله مستغفر) فقد أجابه القوم عن هذا فقالوا: هكذا قلت في المرة الأولى

____________

(1) ويجيب، خ ل.

(2) تضافروا على الشئ: تعاونوا.


الصفحة 261
وخطبت على المنبر بالتوبة والاستغفار، ثم وجدنا كتابك بما يقتضي الاصرار على أقبح ما عتبنا منه فكيف نثق بتوبتك واستغفارك؟

فأما قوله: (إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه؟) فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة، وأنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة.

فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته، وأقسم على عبيده في ترك القتال، فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر طلبا للسلامة، وظنا منه بأن الأمر يصلح، والقوم يرجعون عما هم عليه، وما هموا به، فلما اشتد الأمر ووقع اليأس من الرجوع والنزوع لم يمنع أحدا من نصرته، والمحاربة عنه، وكيف يمنع من ذلك وقد بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام يستنصره ويستصرخه! والذي يدل على ذلك أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا للوجه الذي ذكرناه دون غيره. أنه لا خلاف بين أهل الرواية في أن كتبه تفرقت في الآفاق يستنصر ويستدعي الجيوش، فكيف يرغب عن نصرة الحاضر من يستدعي نصرة الغائب، فأما قوله: (إن أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يأتيه حتى منعه ابنه محمد) فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا لأنه لا إشكال في أن أمير المؤمنين عليه السلام لما واجهه عثمان بأنه يتهمه ويستغشه انصرف مغضبا عاملا على أنه لا يأتيه أبدا قائلا فيه ما يستحقه من الأقوال.

فأما قوله في جواب سؤال من قال: إنهم اعتقدوا فيه أنه من المفسدين في الأرض وآية المحاربين تتناوله (وقد كان يجب أن يتولى الإمام ذلك الفعل بنفسه لأن يجري مجرى الحد) فطريف لأن الإمام يتولى ما يجري هذا المجرى إذا كان منصوبا ثابتا، ولم يكن على مذهب أكثر القوم هناك إمام يقوم بالدفع عن الدين، والذب عن الأمة، جاز أن تتولى

الصفحة 262
الأمة ذلك بنفوسها.

وما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب رسول الله عليه السلام كانوا كارهين لما جرى عليه، وأنهم كانوا يعتقدونه منكرا وظلما، وهذا يجري عند من تأمله مجرى دفع الضرورة قبل النظر في الأخبار، وسماع ما ورد من شرح هذه القصة، لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم، وبحيث ينفذ أمرهم ونهيهم، لا يجوز أن يتم، ومعلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة، وأن يغلبوا جميع المسلمين على آرائهم ويفعلوا ما يكرهونه بإمامهم بمرأى منهم ومسمع، وهذا معلوم بطلانه بالبداهة والضرورات، قبل مجئ الآثار وتصفح الأخبار، وتأملها.

وقد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد عن ابن أبي جعفر القاري مولى بني مخزوم قال: كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة عليهم عبد الرحمن ابن عديس البلوى (1) وكنانة بن بشر الكندي (2) وعمرو بن الحمق الخزاعي (3) والذين قدموا من الكوفة مائتين عليهم مالك بن الحارث الأشتر

____________

(1) عبد الرحمن بن عديس البلوي صحابي من أهل بيعة الشجرة، شهد فتح مصر واختط بها، وكان من الفرسان، وكان رئيس الخيل التي سارت إلى عثمان، ولما آل الأمر إلى معاوية سجنه بفلسطين فهرب من السجن فتبعه فارس فقتله سنة 36.

(انظر الإصابة، حرف العين ق 1).

(2) كنانة بن بشر بن عتاب له إدراك، قال في الإصابة حرف الكاف ق 3:

شهد فتح مصر وقتل بفلسطين سنة 36.

(3) عمرو بن الحمق الخزاعي صحابي دعا له النبي صلى الله عليه وآله أن يمتعه بشبابه فمرت له ثمانون سنة ما فيه شعرة بيضاء، سكن الشام ثم الكوفة وكان ممن قام على عثمان مع أهلها، وشهد مع علي عليه السلام حروبه، وكان من أعوان حجر بن عدي الكندي، فلما قبض زياد على حجر هرب عمرو إلى الموصل فقتله عامل الموصل وبعث برأسه إلى معاوية فكان أول رأس أهدي في الاسلام (انظر الإصابة حرف العين، ق 1).


الصفحة 263
النخعي (1) والذين قدموا من البصرة مائة رجل رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي (2) وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين خذلوه لا يرون أن الأمر يبلغ بهم إلى القتل، ولعمري لو قام بعضهم فحثا التراب في وجوه أولئك لانصرفوا، وهذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها.

وروى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال:

قلت له: كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن

____________

(1) مالك بن الحارث الأشتر من كبار التابعين ومن أشهر أصحاب أمير المؤمنين علي عليه السلام، أما سبب تلقيبه بالأشتر فقد نقل الأمير أسامة بن منقذ الكناني في كتابه الموسوم ب " الاعتبار " ص 37 أنه لما ارتد العرب أيام أبي بكر (رض) جهز العساكر إلى المرتدين، فكان أبو مسيكة الأيادي مع بني حنيفة، وكان أشد العرب شوكة، وكان مالك في جيش أبي بكر فلما تواقفوا برز مالك بين الصفين وصاح يا أبا مسيكة بعد الاسلام وقراءة القرآن رجعت إلى الكفر! فقال: إليك عني يا مالك إنهم يحرمون الخمر ولا صبر لي عليها، قال: فهل لك في المبارزة؟ قال: نعم، فالتقيا فضربه أبو مسيكة فشق رأسه وشتر عينه - وبتلك الضربة سمي الأشتر - (الشتر - بفتحتين -: انقلاب في جفن العين) فرجع وهو معتنق فرسه إلى رحله فاجتمع عليه قوم من أهله يبكون، فقال لأحدهم أدخل يدك في فمي فأدخل إصبعه في فمه فعضها مالك فالتوى الرجل من العضة فقال مالك: لا بأس على صاحبكم، يقال:

" إذا سلمت الأضراس سلم الرأس " احشوها - يعني الضربة - سويقا فحشوها وشدوها بعمامته ثم قال: هاتوا فرسي قالوا إلى أين؟ قال: إلى أبي مسيكة فبرز بين الصفين وصاح يا أبا مسيكة فخرج إليه مثل السهم فضربه مالك بالسيف على كتفه فشقها إلى سرجه فقتله فرجع إلى رحله فبقي أربعين يوما لا يستطيع الحراك ثم أبل وعوفي، توفي مالك مسموما حيث دس إليه معاوية مولى لآل عمر عند توجهه إلى مصر فسقاه عسلا مسموما في قصة معروفة.

(2) حكيم - بضم أوله مصغرا - بن جبلة العبدي أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان عثمان بعثه إلى السند ثم نزل البصرة وقتل بها يوم الجمل (انظر الإصابة حرف الحاء ق 3 بترجمته) ويعني بيوم الجمل يوم الجمل الأصغر الذي حدث قبل قدوم أمير المؤمنين عليه السلام البصرة راجع في تفصيل ذلك شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ح 9 ص 218 - 223.


الصفحة 264
عثمان؟ قال إنما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.

وروي عن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن مقتل عثمان هل شهده واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم شهده ثمانمائة، وكيف يقال: إن القوم كانوا كارهين، وهؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل واحد منهم ويروحون ويشاورونه فيما يصنعونه، وهذا عبد الرحمن بن عوف وهو عاقد الأمر لعثمان، وجالبه إليه، ومصيره في يده، يقول على ما رواه الواقدي قد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه: عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه فبلغ عثمان ذلك فبعث إلى بئر كان يسقى منها نعم عبد الرحمن فمنع منها، ووصى عبد الرحمن أن لا يصلي عليه عثمان، فصل عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص، وقد كان حلف لما تتابعت أحداثه ألا يكلم عثمان أبدا.

وروى الواقدي قال: لما توفي أبو ذر بالربذة (1) تذاكر أمير المؤمنين عليه السلام وعبد الرحمن فعل عثمان فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

هذا عملك، فقال له عبد الرحمن فإذا شئت: فخذ سيفك وأخذ سيفي أنه خالف ما أعطاني.

فأما محمد بن مسلمة (2) فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية: أردد عني، فقال: لا والله لا اكذب الله في

____________

(1) النعم واحدة الأنعام وهي الأموال الراعية وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل.

(2) الربذة بين المدينة وبدر وتسمى اليوم " الواسطة " تقع على يمين الذاهب إلى المدينة بها قبر أبي ذر الغفاري والموضع معروف في تلك المنطقة وقد زرته مرارا عند العودة من الحج إلى المدينة.

(3) محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي أسلم قديما وشهد بدرا فما بعدها كان عند عمر معدا لكشف الأمور المعضلة في البلاد سكن الربذة بعد قتل عثمان واعتزل أيام علي عليه السلام وتوفي سنة 46 (الإصابة حرف الميم ق 1).


الصفحة 265
سنة مرتين، وإنما عني بذلك أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى وضمن لهم عن عثمان الرضا.

وفي رواية الواقدي، إن محمد بن مسلمة كان يؤتى وعثمان محصور فيقال له: عثمان مقتول فيقول: هو قتل نفسه أما كلام أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة واحدا واحدا، فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح، ومن أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة، وما صرحوا به من خلعه والاجلاب عليه، فعليه بكتاب الواقدي فقد ذكر هو وغيره من ذلك ما لا زيادة عليه في هذا الباب.

قال صاحب الكتاب: (فأما رده الحكم بن أبي العاص (1) فقد روى عنه أنه لما عوتب في ذلك، ذكر أنه كان استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما لم يقبل أبو بكر وعمر قوله لأنه شاهد واحد، وكذلك روى عنهما فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص فلم يقبلا فيه خبر الواحد، وأجرياه مجرى الشهادة، فلما صار الأمر إلى عثمان حكم بعلمه، لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب وفي غيره عند شيخنا (2) ولا يفصلان بين حد وحق لا أن يكون العلم قبل الولاية، أو حال الولاية، ويقولان أنه أقوى في الحكم من البينة والاقرار (3) ثم ذكر عن أبي علي أنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في أذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رده، فلا بد من تجويز كونه معذورا ثم سأل نفسه في أن الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة، وأن التهمة كانت في رد الحكم

____________

(1) الحكم بن أبي العاص بن أمية عم عثمان (رض) (انظر ترجمته في أسد الغابة 3 / 34 / وانظر أسباب نفيه إلى الطائف بترجمته من الإصابة (حرف الحاء ق 1).

(2) يريد الكعبي والجبائي وقد تكرر ذكرهما في الكتاب.

(3) المغني 20 ق 2 / 51.


الصفحة 266
قوية لقرابته، وأجاب (بأن الواجب على غيره أن لا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه، لأنه قد نصب منصبا يقتضي زوال التهمة عنه وحمل أفعاله على الصحة ولو جوزنا امتناعه للتهمة لأدى إلى بطلان كثير من الأحكام).

وحكي عن أبي الحسين الخياط (1) (إنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله صلى الله عليه وآله لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد، لأن النفي إذا كان صلاحا في الحال لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات.

وتغير حال المنفي، وإذا جاز لأبي بكر أن يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه، وإن كان قد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بنفوذه من حيث تغيرت الحال فغير ممتنع مثله في الحكم (2).

قال: (وأما ما ذكروه من إيثار أهل بيته بالأموال، فقد كان عظيم اليسار كثير الأموال، فلا يمتنع أن يكون إنما أعطاهم من ماله، وإذا احتمل ذلك، وجب حمله على الصحة (2) وحكي عن أبي علي (إن الذي روي من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته مائة ألف دينار لكل واحد، إنما هو من ماله ولا رواية تصح في أنه أعطاهم ذلك من بيت المال، ولو صح ذلك كان لا يمتنع أن يكون أعطى من بيت المال ليرد عوضه من ماله، لأن للإمام عند الحاجة أن يفعل ذلك، كما له أن يقرض غيره) ثم حكي عن أبي على (إن ما روي من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان ليس بمحفوظ ولا منقول على وجه يوجب قبوله وإنما يرويه من يقصد التشنيع على عثمان (2) وحكي عن أبي الحسين الخياط (إن ابن أبي سرح لما غزا البحر ومعه مروان في الجيش ففتح الله عليه، وغنموا غنيمة عظيمة

____________

(1) ما حكاه القاضي عن الخياط ساقط من " المغني ".

(2) كل ما رمزنا إليه، برقم (2) فمن المغني 20 ق 2 / 51 علما بأن المرتضى حذف ما لا يخل بالمعنى من كلام القاضي.


الصفحة 267
اشترى مروان الخمس من ابن أبي سرح بمائة ألف، وأعطاه أكثرها ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح، وقد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال، وللإمام فعل ذلك ترغيبا في مثل هذه الأمور قال: وهذا الصنيع منه كان في السنة الأولى من إمامته، ولم يتبرأ أحد منه فيها، فلا وجه للتعلق به، وذكر فيما أعطاه لأقاربه إنه وصلهم لحاجتهم، ولا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه صلاحا (1)) وذكر في إقطاعه بني أمية القطائع (إن الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها من جهات ويعلمون أنه لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها وعمارتها فيؤدي عنها ما يجب من الحق، وله أن يصرف ذلك إلى من يقوم به، وله أيضا أن يزيد بعضا على بعض بحسب ما يعلم من الصلاح والتآلف، وطريق ذلك الاجتهاد (1)).

قال: (وأما ما ذكروه من أنه حمى الحمى عن المسلمين، فجوابه:

أنه لم يحم الكلأ لنفسه، ولا استأثر به، لكنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها نعود على المسلمين، وقد روي عنه هذا الكلام بعينه، وأنه قال إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة، وقد أطلقته الآن، وأنا استغفر الله، وليس في الاعتذار ما يزيد على ذلك، فأما ما ذكروه من اعطائه من بيت مال الصدقة المقاتلة فلو صح فإنما فعل ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة إليه واستغناء أهل الصدقات على طريق الاقتراض (2) وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يفعل مثل ذلك سرا (3) وللإمام في مثل هذه الأمور أن

____________

(1) كل ما رمزنا إليه برقم (1) فمن المغني 20 ق / 2 / 51.

(2) أي يعطيهم قرضا على عطاياهم وفي شرح نهج البلاغة " على سبيل الأفراض؟؟ ".

(3) كلمة " سرا " ساقطة من " المغني ".


الصفحة 268
يفعل ما جرى هذا المجرى لأن عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض من الناس فبان يجوز أن يتناول من مال في يده ليرده من المال الآخر أولى (1)).

وحكي عن أبي علي في قصة ابن مسعود وضربه أنه قال: (لم يثبت عندنا ضربه إياه، ولا صح عندنا طعن عبد الله عليه، ولا إكفاره له، والذي يصح في ذلك أنه كره منه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت وإحراقه المصاحف، وثقل ذلك عليه كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه.

وقيل: إن بعض موالي عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في عثمان [ فإما أن يكون هو الذي ضربه أو أمر بضربه فلم يصح عندنا (2) ] ولو صح أنه أمر بضربه لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود (3) لأن للإمام تأديب غيره، وليس لغيره الوقيعة فيه إلا بعد البيان) وذكر (أن الوجه في جمع الناس على قراءة واحدة تحصين القرآن وضبطه، وقطع المنازة فيه والاختلاف) قال: (وليس لأحد أن يقول: لو كان واجبا لفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أن الإمام إذا فعله صار كأنه فعله عليه السلام (4) ولأن الأحوال في ذلك تختلف.

وقد روي عن عمر أنه كان قد عزم على ذلك فمات دونه، وليس لأحد أن يقول أن إحراقه المصاحف إنما كان استخفافا بالدين وذلك لأنه

____________

(1) المغني 20 ق 2 / 52.

(2) ما بين الحاصرتين من " المغني " علما بأن هذه الجملة في المغني أخرت عن التي بعدها وأقحمت بين " جمع الناس على رواية واحد " وبين الرواية عن عمر.

(3) عبارة المغني " لم يكن بأن يكون طعنا في ابن مسعود بأولى من أن يكون طعنا بعثمان " ولا ريب أن القاضي لا يريد هذا المعنى وما في المتن أوجه.

(4) الضمير " عليه السلام " لرسول الله صلى عليه وآله، والمعنى يصير فعل الإمام فعلا له عليه السلام.


الصفحة 269
إذا جاز من الرسول صلى الله عليه وآله أن يخرب المسجد الذي بنى ضرارا وكفرا فغير ممتنع إحراق المصاحف [ إذا كان في تركه مفسدة ] (1) وحكي عن أبي الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عابه لعزله إياه * ثم حكى صاحب الكتاب أن عثمان اعتذر إليه فلم يقبل عذره ولما أحضره عطاه في مرضه قال ابن مسعود منعتني إياه إذ كان ينفعني وجئتني به عند الموت لا أقبله وأنه طرح أم حبيبة عليه ليزيل ما في نفسه * (2) فلم يجب قال: وهذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم، ويوجب براءة عثمان من هذا العيب لو صح ما رووه من ضربه).

يقال له: أما ما ادعيته وبنيت الأمر في قصة الحكم من أن عثمان لما عوتب في رده ادعى أن الرسول صلى الله عليه وآله أذن له في ذلك فهو شئ ما سمع إلا (3) منك ولا يدرى من أين نقلته، وفي أي كتاب وجدته، وما رواه الناس كلهم بخلاف ذلك.

وقد روى الواقدي من طرق مختلفة، وغيره، أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبي صلى الله عليه وآله إلى الطائف وقال لا تساكنني في بلد أبدا، فجاءه عثمان فكلمه فأبى، ثم كان من أبي بكر مثل ذلك، ثم كان من عمر مثل ذلك، فلما قام عثمان أدخله ووصله وأكرمه، فمشى في ذلك علي عليه السلام والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعمار بن ياسر، حتى دخلوا على عثمان فقالوا له: إنك قد أدخلت هؤلاء القوم يعنون الحكم ومن معه وقد كان

____________

(1) ما بين المعقوفين من المغني.

(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني " وكذا ما حكاه قبله عن الخياط.

(3) في شرح نهج البلاغة " فهو شئ لم يسمع إلا من قاضي القضاة، ولا يدري من أين نقله، وفي أي كتاب وجده ".


الصفحة 270
النبي صلى الله عليه وآله أخرجه، وأبو بكر وعمر، وإنا نذكرك الله والاسلام ومعادك، فإن لك معادا ومنقلبا، وقد أبت ذلك الولاة من قبلك. ولم يطمع أحد أن يكلمهم فيه، وهذا سبب نخاف الله تعالى عليك فيه، فقال: إن قرابتهم مني حيث تعلمون، وقد كان رسول الله حيث كلمته أطمعني في أن يأذن له، وإنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم. ولن يضركم مكانهم شيئا، وفي الناس من هو شر منهم، فقال علي عليه السلام: " لا أحد شرا منه ولا منهم " ثم قال علي عليه السلام: " هل تعلم أن عمر قال: والله ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس، والله لئن فعل ليقتلنه " قال: فقال عثمان ما كان منكم أحد يكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه، وينال من المقدرة ما أنال إلا أدخله، وفي الناس من هو شر منه، قال: فغضب علي عليه السلام قال: " والله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت. وسترى يا عثمان غب ما تفعل " ثم خرجوا من عنده.

وهذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب الكتاب، لأن الرجل لما احتفل ادعى أن الرسول كان أطمعه في ردة، ثم صرح بأن رعايته فيه من القرابة هي الموجبة لرده ومخالفة الرسول صلى الله عليه وآله.

وقد روي من طرق مختلفة أن عثمان لما كلم أبا بكر وعمر في رد الحكم أغلظا له وزبراه، وقال له عمر: يخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأمرني أن أدخله، والله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل غير عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله لئن أشق باثنتين كما تنشق الأبلمة (1) أحب إلي من أن أخالف لرسول الله صلى الله عليه وآله أمرا

____________

(1) الأبلم: خوص النخل، واحدته أبلمة - بضم اللام - والمثل يضرب في المساواة، ويريد لو أشق شقين.


الصفحة 271
وإياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم، وما رأينا عثمان قال في جواب هذا التعنيف والتوبيخ من أبي بكر وعمر أن عندي عهدا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه لا أستحق معه عتابا ولا تهجينا (1) وكيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معظم له بأن يأتي إلى عدو لرسول الله صلى الله عليه وآله، مصرح بعداوته والوقيعة فيه حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكي مشيته، فطرده رسول الله صلى الله عليه وآله وأبعده ولعنه، حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وآله فيؤويه ويكرمه ويرده إلى حيث أخرج منه، ويصله بالمال العظيم، ويصله إما من مال المسلمين، أو من ماله، إن هذا لعظيم كبير، قبل التصفح والتأمل، والتعلل بالتأويل الباطل.

فأما قول صاحب الكتاب: (إن أبا بكر وعمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد، وجعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص) فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشئ في باب الحكم، على ما رواه جميع الناس ثم ليس هذا من الباب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين، بل هو بمنزلة كل ما يقبل فيه أخبار الآحاد، وكيف يجوز أن يجري أبو بكر وعمر مجرى الحقوق ما ليس فيها؟

وقوله: (لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته، لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه) ليس بشئ لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول صلى الله عليه وآله إذنا، وإنما ادعى أنه أطمعه في ذلك، وإذا جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية، بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا.

____________

(1) تهجين الأمر: تقبيحه.


الصفحة 272
فأما قوله: (الواجب على غيره أن لا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لانتصابه منصبا يقضي إلى زوال التهمة) فأول ما فيه، أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة، والتهمة قد تكون لها إمارات وعلامات، فما وقع فيها عن إمارات وأسباب تتهم في العادة كان مؤثرا وما لم يكن كذلك وكان مبتدئا فلا تأثير له، والحكم هو عم عثمان، وقريبه ونسيبه، ومن قد تكلم فيه وفي رده مرة بعد أخرى لوال بعد وال، وهذه كلها أسباب التهمة، فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة، لتطرق التهمة فيه.

فأما ما حكاه عن الخياط (من أن الرسول صلى الله عليه وآله لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك، لأن الأحوال قد تتغير) فظاهر البطلان لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا حظر شيئا أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور، أو حظر المباح، ومن جوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا، لأنه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه، ولو جوزنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص لم نأمن من أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر وإسقاط الصلاة بأن يتغير الحال.

وهذا هدم للشريعة.

فأما استشهاده باسترداد عمر من جيش أسامة فالكلام في الأمرين واحد، وقد مضى ما فيه.

فأما قوله في جواب ما يسأل عنه من إيثاره أهل بيته بالأموال (إنه لا يمتنع أن يكون إنما أعطاهم من ماله) فالرواية بخلاف ذلك، وقد صرح الرجل أنه كان يعطي من بيت المال صلة لرحمه، ولما وقف على ذلك لم يعتذر منه بهذا الضرب من العذر، ولا قال إن هذه العطايا من مالي، ولا اعتراض لأحد فيه، وقد روى الواقدي بإسناده عن الميسور بن عتبة أنه

الصفحة 273
قال: سمعت عثمان يقول: إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف (1) أنفسهما وذوي أرحامهما وإني تأولت فيه صلة رحمي وروي عنه أنه كان بحضرته زياد بن عبيد الله الحارثي مولى الحارث بن كلدة الثقفي، وقد بعث أبو موسى بمال عظيم من البصرة، فجعل عثمان يقسمه بين أهله وولده بالصحاف، ففاضت عينا زياد دموعا لما رأى من صنيعه بالمال، فقال: لا تبك فإن عمر كان يمنع أهله وذوي أرحامه ابتغاء وجه الله، وأنا أعطي أهلي وقرابتي ابتغاء وجه الله، وقد روي هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة.

وروى الواقدي بإسناده قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان. فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص.

وروي أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها.

وروى أبو مخنف والواقدي جميعا أن الناس أنكروا على عثمان اعطاءه سعيد بن أبي العاص مائة ألف فكلمه علي عليه السلام والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن في ذلك. فقال: إن لي قرابة ورحما، فقالوا: أما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذو رحم؟ فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما، وأنا أحتسب في عطاء قرابتي، قال: فهديهما والله أحب إلينا من هديك.

وقد روى أبو مخنف أنه لما قدم على عثمان عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص (2) من مكة وناس معه أمر لعبد الله ثلاثمائة ألف.

____________

(1) الظلف - بالتحريك - المنع.

(2) العيص خ ل.


الصفحة 274
ولكل واحد من القوم مائة ألف وصك (1) بذلك على عبد الله بن الأرقم (2) وكان خازن بيت المال فاستكثره ورد الصك به، ويقال: إنه سأل عثمان أن يكتب بذلك كتاب دين فأبي ذلك. وامتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم. فقال له عثمان: إنما أنت خازن لنا، فما حملك على ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم: كنت أراني خازنا للمسلمين، وإنما خازنك غلامك والله لا ألي لك بيت المال أبدا، فجاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر، ويقال: بل ألقاها إلى عثمان فدفعها عثمان إلى نائل مولاه، وروى الواقدي أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت المال إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم، فلما دخل بها عليه، قال له: يا أبا محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول لك: إنا قد شغلناك عن التجارة، ولك ذو رحم أهل حاجة ففرق هذا المال فيهم، واستعن به على عيالك، فقال عبد الله بن الأرقم: ما لي إليه حاجة، وما عملت لأن يثبتني عثمان، والله لئن كان هذا من مال المسلمين ما بلغ قدر عملي على أن أعطى ثلاثمائة ألف درهم ولئن كان من مال عثمان ما أحب أن أرزأه (3) من ماله شيئا وما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه وينبه عليه.

____________

(1) صك: كتب، والصك: الكتاب.

(2) عبد الله بن الأرقم القرشي الزهري كانت آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمة أبيه الأرقم أسلم عام الفتح وكتب للنبي وأبي بكر وعمر استعمله عمر على بيت المال وعثمان بعده ثم إنه استعفى عثمان من ذلك فأعفاه، ولما استكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن إليه ووثق به وكان إذا كتب إلى بعض الملوك يأمره أن يختمه ولا يقرؤه لأمانته عنده، وقد ذكر ابن الأثير قريبا مما نقله المرتضى عن الواقدي (انظر أسد الغابة / 3 / 115).

(3) أرزأه: أي أصيب منه، كأنه مأخوذ من قولهم: رزأته رزيئة: أي أصابته مصيبة.


الصفحة 275
وأما قوله: (لو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن يكون ذلك على طريق القرض) فليس بشئ لأن الروايات أولا تخالف ما ذكره، وقد كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال أن يقول لهم هذا على سبيل القرض، وأنا أرد عوضه، ولا يقول ما تقدم ذكره، من إنني أصل به رحمي، على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت مال المسلمين إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة، يعود عليهم نفعا، أو في سد خلة وفاقة لا يتمكنون من القيام بالأمر معها، فإما أن يقترض المال ليتسع (1) ويمرح فيه مترفي بني أمية وفساقهم فلا حد يجيز ذلك.

فأما قوله حاكيا عن أبي علي: (إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان، ليس بمحفوظ ولا منقول) فتعلل منه بالباطل، لأن العلم بذلك يجري مجرى الضروري مجرى العلم بسائر ما تقدم ومن قرأ الأخبار علم ذلك على وجه لا يعترض فيه لك كما يعلم نظائره.

وقد روى الواقدي عن أسامة بن زيد عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين إفريقية فأصاب عبد الله ابن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم، وهذا كما ترى يتضمن الزيادة على الخمس ويتجاوز إلى إعطاء الكل.

وروى الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت المسور (2) قالت: لما بنى مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه، وكان

____________

(1) لينتدح، خ ل والمعنى واحد لأن المندوحة: هي السعة.

(2) أم بكر هي بنت المسور بن مخرمة الزهري صحابي معروف ومن جملة من روى عنه ابنته هذه ذكر ذلك ابن عبد البر في الإصابة حرف الميم ق 1 بترجمة المسور.


الصفحة 276
المسور ممن دعاه، فقال مروان وهو يحدثهم: والله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه فقال المسور: لو أكلت طعامك وسكت كان خيرا لك. لقد غزوت معنا إفريقية وإنك لأقلنا مالا ورقيقا وأعوانا وأخفنا ثقلا، فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية، وعملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين.

وروى الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف أن مروان ابتاع خمس إفريقية بمائتي ألف، أو بمائة ألف دينار، وكلم عثمان فوهبها له، فأنكر الناس ذلك على عثمان.

وهذا بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط واعتذر ب (أن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب) وهذا الاعتذار ليس بشئ.

ثم قال: (والذي رويناه في هذا الباب خال من البشارة، وإنما يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه فتركه، أو ابتدأ هو بصلته، ولو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائد نفعه على المسلمين، وتلك البشارة لا يستحق أن يبلغ البشير بها مأتي ألف دينار ولا اجتهاد في مثل هذا ولا فرق بين من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى مثله، ومن جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها، ومن ارتكب ذلك ألزم جواز أن يؤدي الاجتهاد إلى جواز إعطاء هذا البشير جميع أموال المسلمين في الشرق والغرب).

وأما قوله: (إنه فعل ذلك في السنة الأولى من أيامه ولم يتبرأ أحد منه) فقد مضى الكلام فيه مستقصى.


الصفحة 277
فأما قوله: (إنه وصل بني عمه لحاجتهم، ورأى في ذلك صلاحا) فقد بينا أن صلاته لهم كانت أكثر مما تقتضيه الحاجة والخلة، وأنه كان يصل منهم المياسير وذوي الأحوال الواسعة، والضياع الكثيرة، ثم الصلاح الذي زعم أنه رآه لا يخلو من أن يكون عائدا على المسلمين أو على أقاربه، فإن كان على المسلمين، فمعلوم ضرورة أنه لا صلاح لأحد من المسلمين في إعطاء مروان مأتي ألف دينار، والحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، وابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم، إلى غير ذلك ممن هو مذكور، بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر، وإن أراد الصلاح العائد على الأقارب فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين وبنفعهم بما يضر به المسلمين.

فأما قوله: (إن القطائع التي أقطعها بني أمية إنما أقطعهم إياها لمصلحة تعود على المسلمين، لأنها كانت خرابا لا عامر لها فسلمها إلى من يعمرها، ويؤدي الحق فيها) فأول ما فيه أنه لو كان الأمر على ما ذكره ولم يكن هذه القطائع على سبيل الصلة والمعونة لأقاربه لما خفى ذلك على الحاضرين، ولكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه، ولا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من أحداثه، ثم كان يجب لو فعلوا ذلك أن يكون جوابه لهم بخلاف ما روي من جوابه، لأنه كان يجب أن يقول لهم: وأي منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم وإيصال المنافع إليهم؟ وإنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم، وما كان يجب أن يقول ما تقدمت روايته من أني محتسب في إعطاء قرابتي، وأن ذلك على سبيل الصلة لرحمي إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكروه.

فأما اعتذاره في الحمى (إنه حماه الإبل الصدقة التي منفعتها تعود