الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

 

واستخراج علة إزالة الغلبة عن الإمام وهي على ظنه لأن يتمكن من إقامة الحدود ونقلها إلى أهل العقد، وأوجب عليهم اختيار من يقوم بالحدود كما أوجب عليهم إزالة الغلبة عمن يقوم بذلك، واستعمل أيضا فيها القياس من وجه آخر لأنه استخرج علة وجوب إقامة الأمراء والقضاة والحكام على الأمة وأوجب بمثلها اختيار الأئمة في الأصل فيتوصلوا إلى ما ينصب الأمر والحاكم من أجله، وكل هذا سلوك طريقة القياس فكيف ينكر صاحب الكتاب أن يستعمل في الإمامة ما هو المستعمل له والمتعلق به.

فأما قوله: (وقد ذكر شيخانا (1) أنه لا يمتنع في المجمعين (2) على إقامة الإمام إنهم رجعوا إلى دليل (3)، لأنه لا بد لهذا الاجماع من أصل ودليل، وربما قالا إنهم رجعوا في ذلك إلى ما روي من قوله عليه السلام " إن وليتم أبا بكر تجدوه قويا في دين الله ضعيفا في بدنه وإن وليتم عمر وجدتموه قويا في دين الله قويا في بدنه، وإن وليتم عليا وجدتموه هاديا مهديا يحملكم على الحق (4)... الخبر " (5) فليس في الخبر الذي أورده وحكى أن شيخيه إدعيا أن المجتمعين (6) على وجوب الإمامة وإقامة الإمام رجعوا إليه وعولوا عليه لو كان صحيحا، وليس في الحقيقة دلالة على وجوب الإمامة لأن لفظه يقتضي التخيير لا الإيجاب وليس في التصريح بالتخيير لفظ إلا وهو جار مجرى لفظ هذا الخبر، وليس لأحد أن يقول إن التخيير إنما هو في

____________

(1) هما أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم كما تقدم.

(2) المجتمعين، خ ل.

(3) غ " إلى ذلك ".

(4) كنز العمال ج 6 ص 5 ونقل أوله في المغني فقط.

(5) المغني 20 ق 1 / 49.

(6) المجمعين، خ ل.


الصفحة 127
أعيان المولين الإمامة، وليس في أصل الولاية ووجوب إقامة الإمام تخيير في لفظ الخبر، لأنه وإن كان الأمر على ما ذكره فليس - أيضا - في لفظ الخبر مع التخيير في أعيان من يولي الإيجاب للولاية، وفرض الإمامة، وأقل الأحوال إذا لم يكن الخبر موجبا للتخيير في الأمرين ولا فيه إيجاب لأصل الولاية أن لا يكون فيه دلالة لمن ذهب إلى وجوب إقامة الإمام، لأن الدلالة على صحة مذهبه من هذا يفتقر إلى أن يكون موجبا بصريحه أو بفحواه إقامة الإمام، وإذا لم يكن كذلك فلا دلالة فيه.

فأما قوله: " والذي يجب أن يحصل في هذا الباب أنه لا بد من القول بأنه عليه السلام دل في الجملة على ما يقوم به الإمام ويتميز به من غيره وعلى صفات الإمام، ولا يجوز استدراك ذلك من جهة القياس، ولو صح ذلك كان لا يجوز أن يستدرك بقياس للإمامة على الإمارة وهو فرع لها لأن إثبات الأصل بالفرع لا يمكن، ولا يجوز أن يقول عليه السلام " فإن وليتم أبا بكر " لم يتقدم منه معنى هذه التولية والتعرض (1) بها لأن ذلك يجري مجرى التنبيه على عهد متقدم في البيان، فقد ثبت أيضا بالأخبار أنهم في حياته سألوه عمن يقوم بالأمر من بعده (2) ولا يصح ذلك إلا وقد بين لهم الإمامة على الجملة التي ذكرناها، وكل ذلك يبين أنه لا بد من نص قاطع منه عليه السلام في الإمام وصفته وما يقوم به (3) في الجملة... (4) ".

____________

(1) غ " والفرض لها ".

(2) غ على الجملة.

(3) من أمور الإمامة.

(4) المغني 20 ق 1 / 49.


الصفحة 128
فعندنا أن بيان ذلك غير محتاج إليه لأن العقول تدل على وجوب الإمامة وعلى صفات الإمام وما يحتاج فيه إليه، وما يدل العقول عليه ليس يجب بيانه من طريق السمع ولو لم يعلم ذلك من طريق العقول لما احتيج فيه إلى نص قاطع من الرسول صلى الله عليه وآله كما ادعى أن الأمة قد علمت ما كان يتولاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أمورهم كسياسته لهم وتعليمه وتوقيفه (1) وإقامة الحدود على مستحقيها وتأديب الجناة. وتقويم البغاة، وإنصاف المظلوم من الظالم إلى غير ذلك مما يطول تعداده، وهو معروف معلوم لمن عاصر النبي صلى الله عليه وآله، ولمن لم يكن أيضا في زمانه، فإنا ومن كان قبلنا ممن يلحق بتلك الحال نعلم ما كان يتولاه الرسول صلى الله عليه وآله من أمور أمته علما لا يتخالجنا فيه الشك، وكان (2) ما ذكرناه معلوما للقوم وكانوا أيضا يعلمون أن الخليفة لغيره بالاطلاق هو القائم مقامه فيما يتولاه ويراعيه ويدبره، وإنما تختص الخلافة ببعض ما ينظر فيه المستخلف لأمر يخصها ويقصرها على بعض دون بعض.

وهذا الذي ذكرناه في معنى الاستخلاف معلوم بالعادة لنا ولجميع الفضلاء الذين قد شاهدوا الملوك والأمراء والولاة، وعلموا كيفية استخلافهم لمن يستخلفونه، بل لكل من عرف مستخلفا ومستخلفا، ألا ترى أن رعية الملك إذا هم بسفر وانتهت به العلة والمرض إلى حال يؤيس معها من حياته تسأله عمن يستخلف عليهم، أما بعد موته، وأما بعد بعده بالسفر عنهم. فإذا قال لهم:

____________

(1) أي ما وقفهم عليه من الأحكام.

(2) في الأصل " وإذا كان ذلك " ولا يستقيم المعنى إلا بحذف إذا لعدم الجزاء في الكلام.


الصفحة 129
خليفتي فلان أو فلان لم يحسن منهم أن يقولوا له: بين لنا من يتولانا وما يتولاه خليفتك فينا، وما يحتاج إلى خليفتك فيه من أمورنا، لأنهم إذا كانوا عارفين بما يتولاه ذلك الملك المستخلف من أمورهم فهم عالمون بأن خليفته القائم مقامه يتولى من أمورهم ما كان يتولاه مستخلفه إلا أن يخص بعض الولايات المستخلف بنص صريح فيخرج من جملة ما ينظر فيه خليفته، ولهذا يحسن أن يقول لهم: خليفتي عليكم في كذا وكذا فلان، فأما إذا استخلف بالاطلاق وسئل عن خليفته في الجملة لم يكن المفهوم إلا ما قدمناه، فليس في سؤال القوم للنبي صلى الله عليه وآله: من يقوم بالأمر من بعده لو كانوا سألوه حسب ما ادعاه دلالة على ما توهمه من وقوع بيان متقدم فيه - عليه وعلى آله السلام - لأن ما ذكرناه من معرفتهم بما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وآله وبأن الخليفة لغيره هو القائم بما كان يقوم به المتولي لما كان يتولاه يغني عن بيان منه عليه السلام، وليس يقتضي سؤالهم إلا للشك في عين القائم بالأمر بعده دون الشك في الشئ الذي يقوم به.

وكذلك ما ادعى من قوله: " إن وليتم أبا بكر " لا يقتضي وقوع بيان منه لمعنى الولاية والغرض بها. لأن ما ذكرناه من المعرفة الحاصلة لهم أقوى من كل بيان بالقول وآكد من كل لفظ، وإنما حمل صاحب الكتاب على ادعاء بيان متقدم ذهابه عن التفصيل الذي أوردناه، ولأنه رأى سؤالهم من يقوم بالأمر بعده يقتضي تقدم معنى الولاية والغرض بها في نفوسهم، ولا شك في أن ذلك كان مقدره عندهم ولكن من الوجه الذي بيناه لا من حيث ظن صاحب الكتاب.

فأما إنكاره للقياس في الإمامة فقد بينا أنه قد استعمله واعتمده، بل قد استعمل نفس ما أنكره من حمل الإمامة على الإمارة ولم يمنعه منه

الصفحة 130
كون الإمارة فرعا والإمامة أصلا، فكأنه بهذا الإنكار منكر على نفسه، وليس له أن يقول: إنما حملت الإمامة على الإمارة في إثبات وجوب الإمامة، والذي أنكرت حمل الإمامة على الإمارة في إثبات صفات الإمام وما يقوم به، لأنه إن جاز له أن يحمل الإمامة على الإمارة في إثبات وجوبها ولم يمنع من ذلك كون هذه أصلا وهذه فرعا ومجيزون لغيره أن يحملها عليها في إثبات صفات الإمام وما يقوم به ويستخرج من الإمارة علة ينقلها إلى الإمامة في باب ما يقوم به الإمام وصفاته كما فعل في إثبات وجوب إقامته.

فأما قوله: " لكن ذلك النص مما لا يجب نقله إذا كان الاجماع والكتاب قد أغنيا عنه كما لا يجب نقل خبر في أصول الصلاة والزكاة [ الواجبة ] (*) إذا كان الاجماع قد أغنى عنه، لأن نقل الدليل إنما يجب لأمور كلها مفقودة في ذلك، فهذه الطريقة هي الواجبة (*) (1) دون ما حكيناه عن شيوخنا من قبل: إن الدليل القاطع في ذلك يجوز أن يكون بقول منه، ويجوز أن يكون بما تكرر منه من البيان بالفعل فيما كان يوليه من (2) الأمراء والحكام، ففهم من قصده أنه إنما يفعل ذلك على وجه واجب،... (3) " فناقض لكثير من أصوله ومعتمد أصحابه في الإمامة، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد نص على وجوب الإمامة وصفات الإمام وما يتولاه وبين جميع ذلك لأمته فما بال الأنصار اجتمعت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يعقدوا لأحدهم الأمر حتى جرى بينهم وبين

____________

(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

(2) في الأصل " مع ".

(3) المغني 20 ق 1 / 49.


الصفحة 131
المهاجرين ما هو مذكور (1)، ويكف ذهب عليهم بيان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصفات الإمام التي من جملتها أن يكون من المهاجرين، وظنوا أن الأمر يصلح فيهم ولهم ليس يخلو حالهم من وجهين:

إما أن يكون تعمدوا دفع ذلك البيان الواقع من الرسول والعمل بخلافه، وإظهار الجحد له أو سهوا عنه ونسوا كيف جرت الحال فيه، وأي الوجهين كان انتقض به أصول خصومنا، لأنه إن كانوا تعمدوا الجحد لما ذكرناه فقد جاز مثل ذلك على الأنصار في كثرة عددها ومنزلتها من الدين والفضل والاختصاص بالرسول، وصدق الموالاة والمتابعة جحد ما وقفهم عليه الرسول وأظهره لهم، وألزمهم العلم به، ودون عدد الأنصار لا يجوز خصومنا عليه مثل هذا.

وإن كانوا ذهبوا عنه سهوا ونسيانا فذلك أيضا مما لا يجوز الخصوم على مثل الأنصار ولا فرقة من فرقهم، وجماعة من جماعاتهم، ويعتقدون أنه في حكم المستحيل بالعادة، على أنه إن جاز على الأنصار مع كونهم على هذه الصفات التي قدمناها جحد ما وقع من بيان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في صفات الإمام والسهو عنه جاز عليهم وعلى جماعة المهاجرين جحد النص على أمير المؤمنين على الوجه الذي تذهب إليه الشيعة أو السهو عنه والنسيان له، وكل ما يشنع به الخصوم في تجويز مثل ما ذكرناه عليهم في النص لازم لهم في تجويز مثله عليهم فيما بينه الرسول عندهم من صفات الإمام فأعرضوا عنه وراموا العمل بخلافه وليس يمكن أحدا منهم أن يقول: إن الأنصار لم تسمع بيان صفات الإمام من الرسول

____________

(1) يراجع في تفصيل وقائع السقيفة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 من ص 21 إلى 61 وص 218 و ج 6 من ص 5 - 45.


الصفحة 132
ولا وقفت عليها من جهته فلذلك حسن منهم أن يروموا العقد لأحدهم ولهذا لما روى لهم أبو بكر الخبر المقتضي لحصول الإمام في المهاجرين أحسنوا الظن به، وصدقوه وعدلوا عما كانوا هموا به، لأن الأنصار من أهل الحل والعقد، وممن كان قد كلف اختيار الإمام والعقد له عند خصومنا.

وليس يجوز أن يكلفهم الرسول اختيار من لا يوقفهم على صفته، لأنه إن جاز ذلك في الأنصار جاز فيها (1) وفي المهاجرين، وبطل ما عول عليه صاحب الكتاب وأحوجه إلى هذا الكلام الذي نحن في نقضه.

وكيف ينسى خصومنا في هذا الموضع ما لا يزالون يقولونه ويعتمدونه في تقبيح قولنا، والتشنيع على مذهبنا من تعظيمهم لأمر الإمامة، وتفخيمهم لشأن النص عليها، وأن النصوص فيها يجب أن تكون أظهر وأشهر من النصوص على سائر الفرائض والعبادات، لأنها أصل الدين وقطبه، والمنزلة الثالثة للنبوة ولأن العبادة بمعرفتها عامة، وبكثير العبادات خاصة إلى غير ما ذكرناه مما يظنون فيه، ويسهبون (2) فيوجبون به علينا أن يكون الخلق مشتركين في معرفة النص الوارد فيها، وأن يكون العلم بها عاما غير خاص، وشائعا غير خاف، وما ذكرنا من النص على صفات الإمام وما يتولاه والمختارين له، وما هذه سبيله في وجوب الظهور والاشتراك في المعرفة به لا يجوز أن يخفى على الأنصار ولا يتصل بهم حتى يسمعوه من واحد في مجلس الخصومة والنزاع

____________

(1) أي في جماعة الأنصار.

(2) يسهبون: يكثرون الكلام.


الصفحة 133
فيقلدوه ويحسنوا الظن به، فإن جوز خصومنا مع جميع ما حكيناه عنهم من وصفهم للنصوص الواردة في الإمامة مما يقتضي ظهورها وشياعها، ووقوف الكل عليها أن يكون الأنصار لم يقف [ وا ] على نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صفة الإمام جاز أيضا فيهم وفي أمثالهم أن لا يقفوا على نصه على أمير المؤمنين عليه السلام وإيجابه إمامته بعده، ولا شئ يتعاطى (1) في إبطال ما تذهب إليه في النص إلا ويمكن إبطال ما ادعاه صاحب الكتاب من النص على صفة الإمام بمثله وقوله: " إذا كان الاجماع والكتاب قد أغنيا عنه " طريف، لأن ما ادعاه في الاجماع مفهوم - وإن كان غير صحيح - فأما الكتاب فما يعلم فيه شئ يدل على صفات الإمام، وما يقوم به ويتولاه، وقد كان يجب أن يشير إلى ذلك لنشاركه في علمه، وإذا كان في الكتاب ما ادعاه فما الذي أحوج إلى بيان الرسول بالنص القاطع لذلك؟ وأي شئ آكد مما يدل الكتاب عليه، ويرشد إليه؟ ولأن جاز أيضا أن لا ينقل النص الذي يدل عليه لأن الكتاب قد أغنى عنه جاز لخصومه من أهل الإمامة أن يقولوا:

إن النبي صلى الله عليه وآله قد نص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة، وأوجب له فرض الطاعة بعده، ولم يجب نقل ذلك لأن الكتاب قد أغنى عنه فإن فيه ما يدل على إمامته عليه السلام مثل قوله (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) (2) إلى غير ما تلوناه مما هو معروف فيكونوا بهذا القول أعذر من صاحب الكتاب لأنهم أحالوا على مواضع من الكتاب تدل

____________

(1) يتعاطى: يخوض فيه.

(2) سورة المائدة 55 وسيأتي التعليق عليها في الفصل الذي عقده المرتضى لإبطال ما دفعه القاضي من النص على الإمامة.


الصفحة 134
على مذهبهم، وهي وإن لم تدل عند صاحب الكتاب ففيها شبهة يدخل مثلها على العقلاء وهو لم يشر لنا إلى ما ادعاه إنه يدل من الكتاب على صفات الإمام وما يتولاه ولا إلى ما يمكن أن يكون شبهة لمن ذهب إلى مذهبه.

فأما ما مضى في أثناء كلامه من أن الصلاة والزكاة لم ينقل في أصولهما أخبار من الوجه الذي تو همه فباطل، لأنا لا نذهب إلى أن في أوصل الصلاة والزكاة أخبارا ظهرت في الأصل واستفاضت ولم يجب نقلها فيما بعد لما ذكره من الاجماع لأنه غير ممتنع عندنا أن يكون النبي صلى الله عليه وآله لم يرد من جهته في الصلاة والزكاة إلا ما قد نقل واتصل بنا من جهة الآحاد، وليس المعول من أمر الصلاة وما أشبهها على أخبار مخصوصة ترد بصيغ متفقة وبتواتر النقل بهذا، بل المعول عندنا فيها على اضطرار الرسول عليه السلام من كان من أسلافنا إلى وجوبها، وعلمهم من قصده ضرورة إيجابها عل الوجه الذي وجبت عليه، واضطرار من كان في ذلك العصر من وليهم من الأخلاف إلى مثل ما اضطروا إليه، ثم على هذا التدريج حتى يتصل الأمر بنا فنكون مضطرين إلى أن من شاهدناه من أسلافنا ادعى أن سلفه اضطره إلى أن الرسول أوجب هذه العبادات وأفهم حاضريه من قصده ضرورة وجوبها، فبهذا الوجه نعلم وجود هذه العبادات ويستغنى عن أخبار متواترة لها ألفاظ مخصوصة، وصيغ معروفة كما يستغنى بمثل هذه الطريقة في العلم بأحوال النبي صلى الله عليه وآله المشهورة، وبمثلها أيضا نعلم أحوال الملوك والبلدان فشتان (1) بين قولنا هذا

____________

(1) في مختار الصحاح: " شتان ما هما، وشتان ما زيد وعمرو أي بعد ما بينهما.

قال الأصمعي: لا يقال شتان ما بينهما، وقال الشاعر: (لشتان ما بين اليزيدين في الندى) ليس بحجة لأنه مولد وإنما الحجة قول الأعشى.


شتان ما يومي على كورها ويوم حيان أخي جابر "

انتهى.

وقد تمثل أمير المؤمنين عليه السلام بقول الأعشى هذا في خطبته المعروفة بالشقشقية.


الصفحة 135
الذي حكيناه وقول صاحب الكتاب " إن هناك نصا قاطعا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وعرف ثم لم ينقل " ولولا أن المرجع في معرفة هذه الأمور إلى ما اعتبرناه دون الاجماع أوجب أن يكون من هو غير معترف بصحة الاجماع من المسلمين ثم من طوائف أهل الملل والبراهمة (1) والملحدين لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وآله دعا إلى صلوات مخصوصة وأوجب زكوات معينة، وفي علمنا في عموم من عددنا بالعبادات الظاهرة، وأن صاحب الشريعة دعا إليها، وكان من دينه اتخاذها دليل على أن المعرفة بها غير موقوفة على الاجماع، وليس يمكنه أن يدعي الضرورة في صفات الإمام، ووجوب إقامته لما ادعينا نحن من ذلك في الصلاة وما أشبهها، لأن ثبوت الخلاف في وجوب الإمامة وصفات الإمام ممن لا يجوز عليه دفع الضرورة، فبطل أن يكون العلم به ضرورة.

ثم يقال له: إنك قد دخلت بما أوردته من الكلام في هذا الأصل في أكبر وأقبح مما يعيبه أصحابك علينا ويعيرونا باعتقاده وانتحاله (2) لأنهم عابوا علينا القول بالنص من حيث لم تنقله الأمة بأسرها (3)، ولم يروه طوائف المخالفين وإن كان فرقة مشهورة كثيرة العدد نابهة الذكر قد قامت

____________

(1) انتحاله: المتذهب به.

(2) يعني من اعتقد أن الإمامة بالنص لا بالاختيار.

(3) بأسرها: بأجمعها، والأسار - بكسر الهمزة -: القد الذي يشد به العشب ونحوه، فإذا قيل هذا لك بأسره أي بقده والمعنى بجميعه.


الصفحة 136
بنقله، وتدينت بروايته، وأنت قد صرحت في قولك بأن النبي نص على صفات الإمام وما يتولاه ويقوم به وبين ذلك لأمته وإن كان لم ينقله واحد منها، ولم يروه صغير من جملتها ولا كبير، وهذه مناقضة ظاهرة يحمل عليها عشق المذهب والمحبة لتشييده وترقيعه بالجيد والردئ وما ذكره صاحب الكتاب من بعد هذا الفصل إلى آخر كلامه فهو آخر الباب لا نحتاج إلى مناقضته فيه لأنه بين زيادة أوردها على نفسه في وجوب الإمامة وأجاب عنها بما لا شبهة فيها ولا متعلق بمثلها، وبين تفريع على صحة الاختيار وبناء على أصول الذاهبين إليه، وسيجئ الكلام في فساد الاختيار مستقصى إن شاء الله، بمشيئته، وحسن توفيقه.


الصفحة 137

 

فصل
في الكلام على اعتراضه
على ما حكاه من أدلتنا في وجوب الإمامة والعصمة
(1)


قال صاحب الكتاب حكاية عنا:

" شبهة لهم، قالوا: وجدنا النقص قد عم الناس وقد كلفوا مع ذلك الصواب في العلم والعمل فلا بد في المكلف الحكيم أن يرسل رسولا وينصب حجة ليزيل نقصهم، وربما فسروا هذا النقص بذكر السهو والغفلة وجوازهما على جميعهم فلا بد من منبه مزيل لهذا الأمر عنهم، وربما فسروا ذلك باتباع الشهوات، وجواز الشبهة، ويقولون: فلا بد من معصوم يعدل بهم فيما كلفوه عن هذه الطريقة،... (2) ".

فيقال له: لسنا نرضى فيما حكيته عنا من الاستدلال لفظك ولا ترتيبك ولا تفسيرك، ودليلنا على وجوب الإمامة ووجه وجوبها من طريق العقل وبعد التعبد بالشرع قد بيناه ودللنا على كون الإمامة لطفا في فعل الواجبات والطاعات، وتجنت المقبحات، وارتفاع الفساد، وانتظام أمر الخلق، وأشرنا - أيضا - إلى ما يوجب الحاجة إليه من الشرائع، بأن

____________

(1) العصمة: لطف يمتنع من يختص بها عن فعل المعصية مع قدرته عليها.

(2) المغني 20 ق 1 / 56.


الصفحة 138
قلنا: إنه يفسر مجملها، ويبين محتملها (1)، ويوضح عن الأغراض الملتبسة فيها، ويكون المفزع في الخلاف الواقع فيما الأدلة الشرعية عليه كالمتكافئة إليه، وليكون من وراء الناقلين فمتى وقع منهم ما هو جائز عليهم من الإعراض عن النقل يبين ذلك وكان قوله الحجة فيه.

فأما ما حكاه من التعلق بلفظ النقص وعمومه للخلق، فالمراد من تعلق أصحابنا به ارتفاع العصمة عنهم، وجواز مقارفة القبيح عليهم، ويقولون: إذا كانوا بهذه الصفة افتقروا إلى رئيس يجمع شملهم، وينظم أمرهم ليرتفع بوجوده من الفساد ما يكون واقعا عند فقده، فهذا مراد من استعمل اللفظة التي حكاها.

فأما جواز السهو فليس مما يوجب من أجله الحاجة إلى الإمام، لأن السهو أولا غير جائز عندنا عليهم في كل شئ، والأشياء التي يجوز فيها السهو لا يجوز في جميعهم أن يسهوا عنها، ولا في الجماعات الكثيرة، وإن تعلق متعلق بالسهو فليس يجوز أن نوجب من أجل جوازه الحاجة إلى الإمام فيما لا يبطل السهو عنه قيام الحجة به وثبوتها وإنما يوجب جواز السهو الحاجة إلى الإمام في الموضع الذي يكون السهو موجبا لبطلان الحجة، وانسداد طريق الاستدلال على المكلف.

فمثال الأول في العقليات وأدلتها، لأن السهو عنها لا يبطل دلالتها، ولا يخرج المكلفين عن التمكن من إصابة الحق إذا قصدوه، واستدلوا عليه.

ومثال الثاني الشرعيات التي طريق العمل بها الأخبار لأن الناقلين.

____________

(1) المحتمل: الأمر الذي يفسر بعدة وجوه، قال علي عليه السلام لابن عباس لما وجهه لمحاجة الخوارج " لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه ".


الصفحة 139
متى سهوا عن النقل وأعرضوا بطلت الحجة به، ولم يكن للمكلف طريق العمل بالشئ الذي عدلوا عن نقله.

وهب أن الجماعة المتواترين لا يجوز أن يلحق جميعهم السهو عما نقلوه، إذا جاز ذلك على الآحاد منهم ثم يلحقهم السهو عن المنقول فيتركوا نقله، وهم إذا نقلوه مع غيرهم كان الخبر متواترا ووجبت الحجة به، وإذا أخلوا بنقله خرج عن حد التواتر وعن كونه حجة فقد عاد الأمر إلى جواز السهو على الترتيب الذي ذكرناه يحوج إلى الحجة.

فأما اتباع الشهوات فإن أريد به ما قدمناه من مواقعة الخطأ وفعل القبيح لحق بطريقتنا، وإن لم يرد ذلك فلا معنى له.

فأما جواز الشبهة فلم نعرف أحدا من أصحابنا تعلق به لا سيما على هذا الإطلاق ومن هذا الوجه، لأن ما دلالته ثابتة من العقليات والشرعيات لا يخل دخول الشبهة على من تدخل عليه بإمكان التوصل إليه، ومعرفة الحق منه، وإنما تخل الشبهة بالحجة ويفتقر إلى الإمام إذا دخلت على باقي الأخبار، وأوجبت عدولهم عن النقل وسقوط الحجة به، فمن هذا الوجه يستقيم التعلق بدخول الشبهة لا من الوجه الذي توهمه صاحب الكتاب وعناه.

قال صاحب الكتاب بعد فصل لا يقتضي نقضا: " يقال لهم فيما ادعوه من النقض: أيمكنكم مع ثباته القيام بما كلفتموه؟ فإن قالوا:

نعم، فلا حاجة لهم إلى الإمام وإن كان النقص قائما لأن النقص في هذا الوجه بمنزلة وصفهم بأنهم أجسام ومحدثون إلى غير ذلك مما لا يؤثر في هذا الباب... (1) ".

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 56.


الصفحة 140
فيقال له: قد بينا المراد بلفظ النقص، فإن أردت بسؤالك عن تمكنهم من القيام بما كلفوه مع بيانه أن ذلك مقدور لهم وأنه حائل بينهم وبينه فهم كذلك، وإن أردت أن حالهم مع ثبوت هذا النقص وفقد الإمام كحالهم مع وجود الإمام في القرب من الصلاح، والبعد من الفساد وفي كل ما يرجع إلى إزالة العلة، فليس هم كذلك، لأنا قد دللنا على أن وجود الإمام لطف فيما عددناه فليس يجوز أن يكون حال المكلفين مع فقده مساوية لحالهم مع وجوده، وإن كانوا في الحالين قادرين على فعل ما كلفوا به، ومجانبة ما نهوا عنه، وهذا بخلاف ظنك أن وصفهم بالنقص بمنزلة وصفهم بأنهم أجسام ومحدثون لكن وصفهم بما ذكرته لا تأثير له فيما قصدناه ووصفهم بالنقص مؤثر على الوجه الذي فصلنا الكلام فيه.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: يصح منه تعالى رفع هذا النقص بغير إمام ورسول [ أم لا ] فإن قالوا: لا، فقد جعلوا للإمام من القدرة ما لم يجعلوه لله تعالى،... (1) " يقال له: ما أبين فساد هذا الكلام وأقبح صور المتعلق به لأنك ظننت أن النقص إذا لم يرتفع إلا بالإمام ولم يقم فيه مقامه غيره أن ذلك وصف له بالقدرة على ما لا يقدر الله تعالى عليه، وكيف تظن ذلك مع مذهبك المعروف في اللطف، وأنه غير ممتنع عندك أن يعلم الله تعالى أن شيئا يصلح المكلف عنه لا يقوم غيره من جميع الأشياء في مصلحة مقامه، فلو قال لك قائل في معرفة الله تعالى - وهي أحد الألطاف عندك - إذا قلت: أن غير المعرفة من جميع الأشياء لا يقوم في مصلحة المكلف مقام المعرفة من الحظ والقدر في صلاح المكلف، فقد جعلت للمعرفة ما لم تجعله لله تعالى، ما كان يكون جوابك؟ وما

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 57.


الصفحة 141
تظن إن قال قائل هذا لك يستحق عليك جوابا، بل يكون مكان جوابه التعجب من غفلته، وحمد الله على التنزيه عن منزلته؟ على أن من تعلق بلفظ النقص وأراد به ما فسرناه من ارتفاع العصمة وجواز فعل القبيح لا يجوز له أن يوجب الإمام ليرفع النقص لأنه معلوم أن وجوده ليس يدخلهم في العصمة، اللهم إلا أن يجعل وجوده رافعا لمقتضى النقص وهو فعل القبائح، ويكون قوله: " إنه يرتفع النقص " إشارة إلى مقتضاه فيصح الكلام والغرض، أو يريد بالنقص - في الأصل - فعل القبيح الذي هو غير مأمون مع فقد الرؤساء، ومعلوم أن وجودهم يرفعه أو يقلله فيصح على هذا الوجه القول: بأن وجوده يرفع النقص، وإن كان المعنى الأول أشبهه وأقرب.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: أتعلمون كون الإمام حجة باضطرار (1) أو باستدلال؟، فإن قالوا: باضطرار ونقصهم لا يؤثر في ذلك، قيل لهم: فجوزوا في سائر أمور الدين أن تعلموه باضطرار ولا يقدح النقص فيه، وإن قالوا باستدلال قيل لهم: فنقصهم يمنع من قيامهم بما كلفوه من الاستدلال على كونه حجة، فإن قالوا: نعم، لزمت الحاجة إلى إمام آخر، ثم الكلام فيه كالكلام في هذا الإمام، ويوجب ذلك إثبات أئمة لا أول لهم، مع أنهم لا يؤثرون كما لا يؤثر الواحد، فلا بد من القول أنه يمكنهم معرفة الحجة، والقيام بنصرته من غير حجة،.

قيل لهم: فجوزوا مثل ذلك في سائر ما كلفتموه وإن كان النقص قائما،... (2) ".

____________

(1) العلم الضروري الذي يحصل للنفس بأدنى توجه بحيث لا يمكن دفعه.

(2) المغني 20 ق 1 / 57.


الصفحة 142
فيقال له: كلامك هذا مبني على موضعين:

أحدهما: توهمك علينا إيجاب الحاجة إلى الإمام لنعلم عند وجوده ما لا نعلمه عند فقده، فقد بينا كيف قولنا في هذا وفصلناه، وكشفنا عن غرض من أطلقه وإن التقييد واجب فيه، والذي يدل أنك أردت ما حكيناه قولك: " فجوزوا في سائر أمور الدين أن تعلموه باضطرار ولا يقدح النقص فيه " ولو علمنا سائر أمور الدين باضطرار - كما ألزمت - لكانت الحاجة إلى الإمام ثابتة في وجه كونه لطفا في مجانبة القبيح وفعل الواجب، وليس يصح الاستغناء عنه وإن علمنا سائر الدين (1) باضطرار، لأن الاخلال بما علمنا اضطرار متوقع منا عند فقد الإمام، ولا نمنع كوننا مضطرين إلى العلم بوجوب الفعل من الاخلال به وكوننا مضطرين إلى علم قبحه من الإقدام عليه، لأن أكثر من يقدم على الظلم وما جانسه من القبائح يقدم عليه مع العلم بقبحه.

والموضع الآخر: ظنك أن ما كان لطفا في بعض التكاليف يجب أن يكون لطفا في جميعها، وهذا مما قد كشفنا عنه وعن فساده فيما تقدم، ودللنا على أنه لا يمتنع في الألطاف الخصوص والعموم، والخصوص من وجه والعموم من وجه آخر، فليس يجب إذا كان الإمام لطفا في ارتفاع الظلم والبغي ولزوم الإنصاف والعدل أن يكون لطفا في كل تكليف حتى يكون لطفا في معرفة نفسه.

هم يقال له: أليس معرفة الثواب والعقاب على الوجه الذي وجبا عليه لطفا في جميع فعل الواجبات والامتناع من سائر المقبحات فلذلك

____________

(1) سائر الدين: أي جميعه.


الصفحة 143
أوجبتم المعرفة بالله من حيث لا يتم معرفة الثواب والعقاب إلا بها؟ فإذا قال: نعم، قيل له: أفتقول إن هذه المعرفة التي أشرنا إليها لطف في نفسها حتى يكون المكلف لا يصح إيجابها عليه إلا بعد أن تتقدم معرفته بالثواب والعقاب؟ فإن قال: نعم، ففساد ذلك ظاهر، وإن قال: لا، قيل له: إذا جاز أن يستغني بعض التكليف عن هذه المعرفة وكونها لطفا فيه، فألا جاز الاستغناء عنها في سائر التكاليف؟ فإن قال: المعرفة بالثواب والعقاب وإن لم تكن لطفا في نفسها - من حيث لم يصح ذلك فيها - فهناك ما يقوم مقامها وهو الظن بهما فلم يعر (1) المكلف من لطف في تكليفه المعرفة وإن لم يكن مماثلا للطفه في سائر التكاليف، قيل له: فاقنع عنا بمثل ما اقتنعنا به، فإنا نقول لك إن معرفة كل الأئمة يستحيل أن يكون اللطف فيها معرفة الإمام، لأنه لا بد في أول الأئمة من أن تكون معرفته واجبة وإن لم يتقدم للمكلف معرفته بإمام غيره، وإذا استحال ذلك جاز أن يقوم مقام المعرفة بالإمام في هذا التكليف غيرها، ولا يجب أن يعم هذا الوجه سائر المكلفين والتكاليف كما لا يجب أن يعم اللطف الحاصل للمكلف في استدلاله على معرفة الله تعالى ومعرفة ثوابه وعقابه بسائر التكاليف.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: قد علمنا أن الإمام لا يصح أن يغير حالهم في القدرة والآلة والعقل وسائر وجوه التمكين فلا بد من كونها خاصة (2)، وكذلك فالأدلة على ما كلفوه منصوبة مع فقد الحجة، فإذا صح ذلك فما الذي يمنع من أن يستدلوا بها فيعلموا ما كلفوه

____________

(1) من العري، والمراد أنه لا يخلو من اللطف.

(2) غ " حاصله ".


الصفحة 144
ويقوموا به مع فقد الإمام،؟ وهلا كان حالهم مع فقده كحالهم مع وجوده، إنما يستفيدون بالنظر في الأدلة وذلك ممكن مع عدمه،؟... (1) " فيقال له هذا توهم منك علينا إيجاب الإمامة ووجود الإمام في كل زمان ليعلم عند وجوده ما لا يصح أن يعلم عند فقده، وإن كانت الأدلة على المعلوم موجودة في الحالين، وقد تقدم أنا لا نذهب إلى ذلك ولا نعتمده، وبينا كيف القول فيه.

فأما قولك: " فما الذي يمنع من أن يستدلوا ويعلموا ويقوموا بما كلفوه؟ " فقد ذكرنا ما في العلم، فأما القيام بجميع ما كلفوه - فهو وإن كان مقدورا على ما ذكرت - فالإمام لطف في وقوعه على ما دللنا عليه، ومحال إذا كان لطفا يكون حالهم مع وجوده كحالهم مع فقده في القيام بما كلفوه من العبادات التي بينا أن وجود الإمام لطف في وقوعها وفقده داع إلى ارتفاعها.

ثم يقال له: هكذا يقول لك نافي اللطف قد عرفنا أن جميع الألطاف لا تغير حال المكلف في قدرة وآلة إلى سائر وجوه التمكين، لأن المكلف متمكن من الفعل مع عدم اللطف، كما أنه متمكن منه مع وجوده فالا جاز الاستغناء عن الألطاف والاقتصار بالمكلفين على قدرهم (2) وتمكنهم؟ وجميع ما يبطل به هذا القول يوجب مع القدرة والتمكن الحاجة إلى الإلطاف بمثله يبطل قولك.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: فيجب على زعمكم إذا لم يظهر

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 57.

(2) جمع قدرة.


الصفحة 145
الإمام حتى يزول النقص به، أن يكون الحال فيه كالحال ولا حجة في الزمان، لأن النقص لا يزول بوجود الإمام، وإنما يزول بما يظهر منه، ويعلم من قبله، وهذا يوجب عليهم في هذا الزمان وفي كثير من الأزمنة أن يكون المكلف معذورا، التكليف ساقطا... (1) " فيقال له: ليس يجب إذا لم يظهر الإمام ففات النفع به أن يكون الحال عند عدم ظهوره كالحال عند عدم عينه (2)، لأنه إذا لم يظهر لإخافة الظالمين لا ولأنهم أحوجوه إلى الغيبة والاستتار كانت الحجة في فوت المصلحة به عليهم، فكانوا هم المانعين أنفسهم من الانتفاع به، وإذا عدمت عين الإمام ففات المكلفين الانتفاع به كانت الحجة في ذلك على من فوتهم النفع به وهو القديم تعالى، وإذا وجب إزاحة علل المكلفين عليه تعالى علمنا أنه لا بد من أن يوجد إمام، ويأمر بطاعته، والانقياد له، سواء علم وقوع الطاعة من المكلفين أو علم أنهم يخيفونه ويلجئونه إلى الغيبة، وهذا بخلاف ما ظنه من كون المكلفين معذورين، أو سقوط التكليف عنهم.

فإن قال: إن كان المكلفون غير معذورين وقد أخافوا الإمام على دعواكم، وأحوجوه إلى السكوت بحيث لا ينتفعون به، ولا يصلون إلى مصالحهم من جهته فيجب أن يسقط عنهم التكليف الذي أمر الإمام به، ونهيه وتصرفه لطف فيه، لأنهم ما فعلوه، وقد منعوا من هذا اللطف، وجروا في هذا الوجه مجرى من قطع رجل نفسه في أن تكليفه بالصلاة قائما لا يلزمه ويجب سقوطه عنه، ولا يفرق في سقوط التكليف حال قطعه لرجل نفسه وقطع الله تعالى لها.

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 58.

(2) عين الشئ: نفسه والمراد عند عدم وجوده.