عقائد الشيعة الإمامية \ الشريف المرتضى

 

 

جمل العلم والعمل

رسائل المرتضى ج3

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله ومستحقه، وصلى الله على سيد الأنبياء محمد وعترته الأبرار الأخيار، صلاة لا انقطاع لمددها ولا انتهاء لعددها، وسلم وكرم. أما بعد: فقد أجبت إلى ما سألنيه الأستاد - أدام الله تأييده - من إملاء مختصر محيط (1) بما يجب اعتقاده من جميع أصول الدين، ثم ما يجب عمله من الشرعيات التي لا ينكاد (2) المكلف من وجوبها عليه، لعموم (3) البلوى بها، ولم أخل شيئا " مما يجب اعتقاده من إشارة إلى دليله وجهة عمله، (4) على صغر الحجم وشدة الاختصار.

1) في متن شرح الجمل للقاضي ابن البراج: يحيط.

2) في (ش) لا يكاد ينفك المكلف.

3) في (ش) من عموم.

4) في (ش) علمه.

 

ولن يستغني عن هذا الكتاب مبتد تعليما " وتبصرة، ومنته تنبيها " وتذكرة. ومن الله استمد المعونة والتوفيق، وما المرجو لهما إلا فضله وما المعلق بهما إلا حبله، وهو حسبي ونعم الوكيل.

 

 

 

باب ما يجب اعتقاده في أبواب التوحيد

الأجسام محدثة، لأنها لم تسبق الحوادث، فلها حكمها في الحدوث. ولا بد لها من محدث كالصياغة والكتابة، ولا بد من كونه قادرا "، لتعذر الفعل على من لم يكن قادرا " ويتيسر على من كان كذلك. ولا بد من كون محدثها عالما "، وهذا الضرب من التعلق لا يصلح إلا من الموجود كونه قديما "، لانتهاء الحوادث إليه. ويجب كونه حيا "، وإلا لم يصح كونه قادرا " عالما " فضلا عن وجوبه. ويجب أن يكون مدركا " إذ أوجد المدركات، لاقتضاء كونه حيا ". ووجب كونه سميعا " بصيرا "، لأنه يجب أن يدرك المدركات إذا وجدت، وهذه فائدة قولنا سميع بصير ومن صفاته. وإن كانتا عن علة كونه مريدا " وكارها "، لأنه تعالى قد أمر وأخبر ونهى، ولا يكون الأمر والخبر أمرا " ولا خبرا " إلا بإرادة، والنهي لا يكون نهيا " إلا بكراهة، ولا يجوز أن يستحق هاتين الصفتين لنفسه، لوجوب كونه مريدا " كارها " للشئ الواحد على الوجه الواحد، ولا لعلة قديمة لما سنبطل به الصفات القديمة ولا لعلة محدثة في غير حي لافتقاره الإرادة إلى نية، ولا لعلة موجودة في حي لوجوب رجوع حكمها إلى ذلك، فلم يبق إلا لأن توجد لا في محل.

ولا يجوز أن يكون له في نفسه صفة زائدة على ما ذكرناه لأنه لا حكم لها) معقول من الصفات، ويفضي إلى الجهالات. ويجب أن يكون قادرا " فيما لم يزل، لأنه لو تجدد له ذلك لم يكن إلا لقدرة محدثة، ولا يمكن استناد أحداثها إلا إليه، فيؤدي إلى تعلق كونه قادرا " بكونه محدثا "، وكونه محدثا " إلى كونه قادرا "، وثبوت كونه قادرا " فيما لم يزد يقتضي أن يكون فيما لم يزل حيا " موجودا ". ويجب أن يكون عالما " فيما لم يزل، لأن تجدد كونه عالما " يقتضي أن يكون بحدوث علم، والعلم لا يقع إلا ممن هو عالم. ووجوب هذه الصفات له تدل على أنها نفسية، وادعاء وجوبها لمعان قديمة تبطل صفات النفس، ولأن الاشتراك في المقدم يوجب التماثل والمشاركة في سائر صفات النفس، ولا يجوز خروجه تعالى عن هذه الصفات لاستنادها إلى النفس. ويجب كونه تعالى غنيا " غير محتاج، لأن الحاجة تقتضي أن يكون ينتفع ويستضر، ويؤدي إلى كونه جسما ". ولا يجوز أن يقال لصفة الجواهر والأجسام والأعراض لقدمه وحدوثه هذه أجمع، ولأنه فاعل للأجسام، والجسم يتعذر عليه فعل الجسم. ولا يجوز عليه تعالى الرؤية، لأنه كان يجب مع ارتفاع الموانع وصحة أبصارنا أن نراه، وبمثل ذلك نعلم أنه لا يدرك بسائر الأجسام. ويجب أن يكون تعالى واحدا " لا ثاني له في القدم، لأن إثبات ثان يؤدي إلى إثبات ذاتين لا حكم لهما يزيد على حكم الذات الواحدة. ويؤدي أيضا " إلى تعذر الفعل على القادر من غير جهة منع معقول. وإذا بطل قديم ثان بطل قول الثنوية والنصارى والمجوس.

 

باب بيان ما يجب اعتقاده في أبواب العدل كلها وما يتصل بها سوى النبوة والامامة وسوى ذكر الآجال والأرزاق والأسعار

يجب أن يكون تعالى قادرا " على القبيح لأنه قادر لنفسه واحد حالا منافي كوننا قادرين، ولا يجوز أن يفعل القبيح لعلمه بقبحه ولأنه غني عنه. ولا يجري فيما ذكرناه مجرى الحسن، لأن الحسن قد يفعله لحسنه لا لحاجة إليه. ولا يجوز أن يريد تعالى القبيح، لأنه إذا أراده بإرادة محدثة كانت قبيحة، وهو تعالى لا يفعل شيئا " من القبائح تعالى عن ذلك وإن أراده لنفسه وجب أن يكون تعالى على صفة نقص، وصفات النقص كلها عنه منتفية. وهو تعالى متكلم، وبالسمع يعلم ذلك. وكلامه فعله، لأن هذه الاضافة تقتضي الفعلية كالضرب وسائر الأفعال. والأفعال الظاهرة من العباد التابعة لقصودهم وأحوالهم هم المحدثون لها دونه تعالى، لوجوب وقوعها بحسب أحوالهم، ولأن أحكامها راجعة إليهم من مدح أو ذم. وهذان الوجهان معتمدان أيضا " في الأفعال المتولدة، وقدرتنا لا تتعلق إلا بحدوث الأفعال لاتباع هذا التعلق صحة الحدوث نفيا " وإثباتا "، وهي متعلقة بالضدين، لتمكن كل قادر غير ممنوع من التنقل في الجهات، وهي متقدمة للفعل، لأنها ليست بعلة ولا موجبة وإنما يحتاج إليها ليكون الفعل محدثا " فإذا وجد استغنى عنها، وتكليف ما ليس بقادر في القبح كتكليف العاجز، وقد كلف الله تعالى من تكاملت فيه شروط التكليف من العقلاء. ووجه حسن التكليف: إنه تعريض لنفع عظيم لا يوصل إليه إلا به، والتعريض للشئ في حكم إيصاله. والنفع الذي أشرنا إليه هو الثواب، لأنه لا يحسن الابتداء به وإنما يحسن مستحقا، ولا يستحق إلا بالطاعات، ولحسن تكليف من علم الله تعالى أنه يكفر، لأن وجه الحسن ثابت فيه، وهو التعريض للثواب. وعلمه أن يكفر ليس بوجه قبح، لأنا نستحسن أن ندعوا إلى الدين في الحالة الواحدة جميع الكفار لو جمعوا لنا مع العلم بأن جميعهم لا يؤمن. ونعرض الطعام على من يغلب ظننا أنه لا يأكله، ونرشد إلى الطريق من نظن أنه لا يقبل، ويحسن ذلك منا مع غلبة الظن. وكان طريق حسنه أو قبحه المنافع والمضار قام الظن فيه مقام العلم. ولا بد من انقطاع التكليف، وإلا لانتقض الغرض من التعريض للثواب، والحي المكلف هو هذه الجملة المشاهدة، لأن الادراك يقع بكل عضو منها، ويبتدئ الفعل في أطرافها، ويخف عليها إذا حمل باليدين ما يثقل ويتعذر إذا حمل باليد الواحدة. وما يعلم الله تعالى أن المكلف يختار عنده الطاعة ويكون إلى اختيارها أقرب، ولولاه لم يكن من ذلك يجب أن يفعله، لأن التكليف يوجب ذلك، قياسا " إلى من دعي إلى طعام وغلب على ظنه أن من دعاه إليه لا يحضر ببعض الأفعال التي لا مشقة فيها، وهذا هو المسمى (لطفا "). ولا فرق في الوجوب بين اللطف والتمكين، وقبح منع أحدهما كقبح منع الآخر. والأصلح فيما يعود إلى الدنيا غير واجب، لأنه لو وجب لأدى إلى وجوب ما لا يتناهى، ولكان القديم تعالى غير منفك في حال من الأحوال بالواجب.

وقد يفعل الله الألم في البالغين والأطفال والبهائم. ووجه حسن ذلك في الدنيا: لأنه يتضمن اعتبارا " يخرج به من أن يكون عبثا " أو عوضا " يخرج به من أن يكون ظلما ". فأما المفعول منه في الآخرة فوجه حسن فعله الاستحقاق فقط. ولا يجوز أن يحسن الألم للعوض فقط، لأنه يؤدي إلى حسن إيلام الغير بالضرب، لا لشئ إلا لإيصال النفع واستيجار من ينقل الماء من نهر إلى نهر آخر، لا لغرض بل للعوض. ولا اعتبار في حسنه للتراضي، لأن التراضي إنما يعتبر فيما يشتبه من المنافع، فأما ما لا يشبهه في اختيار العقلاء لمثله إذا عرفوه لبلوغه أقصى المبالغ فلا اعتبار فيه بالتراضي. ولا يجوز أن يفعل الله تعالى الألم لدفع الضرر من غير عوض عليه، كما يفعل أحدنا بغيره. والوجه فيه أن الألم إنما يحسن لدفع الضرر في الموضع الذي لا يندفع إلا به، والقديم تعالى قادر على دفع كل ضرر عن المكلف من غير أن يؤلمه، والعوض هو النفع المستحق العاري من تعظيم وإجلال. والعوض منقطع، لأنه جار مجرى المثامنة والأرش، فلو كان دائما " لكان العلم بدوامه شرطا " في حسنه، فكان لا يحسن من أحدنا تحمل الألم لعوض كما لا يحسن تحمل ذلك من غير عوض وأما فعل من الألم بأمره تعالى، والعوض على غيره بالتعويض له. نحو من عرض طفلا للبرد الشديد فتألم بذلك، فالعوض هاهنا على المعوض للألم على فاعل الألم، وصار ذلك الألم كأنه من فعل المعوض. والأولى أن يكون من فعل الألم على وجه الظلم منا لغيرنا في الحال مستحقا " من العوض المبلغ الذي لم يستحق فعله عليه.

والوجه في ذلك: أنه لو لم يكن لذلك مستحقا " لم يكن الانتصاف منه ممكنا " مع وجوب الانتصاف، بخلاف ما قال أبو هاشم، (1)، فإنه أجاز أن يكون ممن لا يخرج من الدنيا إلا وقد استحق ذلك، وقد كلف الله تعالى من أكمل عقله النظر في طريق معرفته. ثم وهذا الواجب أول الواجبات على العاقل، لأن جميعها عند السائل يجب تأخيره أو يجوز ذلك فيه. ووجه وجوب هذا النظر: وجوب المعرفة التي يؤدي إليها. ووجه وجوب المعرفة: أن العلم باستحقاق الثواب والعقاب الذي هو لطف في فعل الواجب العقلي لا يتم إلا بحصول هذه المعرفة، وما لا يتم الواجب إلا به واجب. والنظر هو الفكر، ويعلمه أحدنا من نفسه ضرورة، وإنما يجب على هذا النظر إذا خاف من تركه وإهماله، وإنما يخاف الضرر بالتخويف من العباد إذا كان ناشئا " بينهم، أو بأن يبتدئ في الفكر في أمارة الخوف من ترك النظر، أو بأن يخطر الله تعالى بباله ما يدعوه إلى النظر ويخوفه من الاهمال. والأولى في الخاطر أن يكون كاملا خفيا " يسميه وإن لم يميزه، والنظر في الدليل على الوجه الذي يدل سبب تولد العلم، لأنه يحدث بحسبه فجرى في أنه مولود

1) أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان الجبائي: رأس الفرقة البهشمية المعروفة، وكان هو وأبوه من رؤوساء المعتزلة، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال، ولهما آراء انفردا بها عن أصحابها، وانفرد هو وأبوه أيضا " كل واحد منهما عن الآخر بمسائل، ولد سنة 247 وتوفي سنة 321 ه‍ ودفن ببغداد. ميزان الاعتدال 2 / 618، وفيات الأعيان 2 / 356، الأعلام للزركلي 4 / 130، الكنى والألقاب 2 / 126، الملل والنحل 1 / 103 - 112.

 

مجرى الضرب والألم. والمستحق بالافعال: مدح، وثواب، وشكر، وذم، وعقاب، وعوض. فأما المدح فهو القول المنبئ عن عظم الممدوح، وأما الثواب فهو النفع المستحق المقارن للتعظيم والاجلال، وأما الشكر فهو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، وأما الذم فهو ما أنبأ عن ايضاع المذموم، وأما العقاب فهو الضرر المستحق المقارن للاستخفاف والاهانة، وأما العوض فهو النفع الحسن الخالي من تعظيم وتبجيل، ويستحق بفعل الواجب وما له صفة الندب وبالتحرز من القبيح، ويستحق الثواب بهذه الوجوه الثلاثة إذا اقترنت بها المشقة ويستحق الشكر المنعم والاحسان، فأما العبادة فهي ضرب من الشكر وغاية فيه، فلهذا لم نفردها بالذكر، فأما الذم فيستحق بفعل القبيح وبأن لا يفعل الواجب، وأما العقاب فيستحق بهذين الوجهين معا " بشرط أن يكون للفاعل اختيار ما استحق به ذلك على ما فيه مصلحته ومنفعته. وإنما قلنا إنه يستحق الذم على الاخلال بالواجب وإنه جهة في استحقاق الذم كالقبح لأن العقلاء يعقلون الذم بذلك كما يعقلونه بالقبيح، ولأنهم يذمونه إذا علموه غير فاعل للواجب عليه وإن لم يعلموا سواه، والمطيع منا يستحق بطاعته الثواب مضافا " إلى المدح، لأنه تعالى كلفه على وجه يشق، فلا بد من المنفعة، ولا تكون هذه المنفعة من جنس العوض، لأن العوض يحسن الابتداء بمثله، ويستحق أحدنا بفعل القبيح والاخلال بالواجب العقاب مضافا " إلى الذم، لأنه تعالى أوجب عليه الفعل وجعله شاقا "، والايجاب لا يحسن لمجرد النفع فلا بد من استحقاق ضرر على تركه، ولا دليل في العقل على دوام الثواب والعقاب وأنما المرجع في ذلك إلى السمع، والعقاب

يحسن التفضل بإسقاطه ويسقط بالعفو لأنه حق الله تعالى إليه قبضه واستيفاؤه، ويتعلق باستيفائه ضرر فأشبه الدين. ولا تحابط بين مجراه وقبول التوبة، وإسقاط العقاب عندها تفضل من الله تعالى، والوجه الذي ذكرناه من فقد التنافي. ومن جمع بين طاعة ومعصية اجتمع له استحقاق المدح والثواب بالطاعة والذم والعقاب بالمعصية، وفعل ذلك به على الوجه الذي يمكن. وعقاب الكفار مقطوع عليه بالاجماع، وعقاب فساق أهل الصلاة غير مقطوع عليه، لأن العقل يجيز العفو عنهم ولم يرد سمع قاطع بعقابهم. وما يدعي من آيات الوعيد وعمومها مقدوح فيه بأن العموم لا ينفرد بصيغة خاصة في اللغة، ولأن آيات الوعيد مشروطة بالثابت ومن زاد ثوابه عندهم، وما أوجب هذين الشرطين بوجب اشتراط من تفضل الله تعالى بالعفو عنه. وهذه الآيات أيضا " معارضة بعموم آيات أخرى، مثل قوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (1) (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) (2) و (إن الله يغفر الذنوب جميعا ").
(3) وشفاعة النبي صلى الله عليه وآله إنما هي في إسقاط عقاب العاصي لا في زيادة المنافع، لأن حقيقة الشفاعة تختص بذلك من جهة أنها لو اشتركت لكنا شافعين في النبي صلى الله عليه وآله إذا سألنا في زيادة درجاته ومنازله. وإذا بطل التحابط فلا بد فيمن كان مؤمنا " في باطنه من أن يوافي بالايمان، وإلا أدى إلى تعذر استيفاء حقه من الثواب.

1) سورة النساء: 48.

2) سورة الرعد: 6.

3) سورة الزمر: 53.

 

ونسمي من جمع بين الإيمان والفسق مؤمنا " بإيمانه فاسقا " بفسقه لأن الاشتقاق يوجب ذلك، ولو كان لفظ (مؤمن) منتقلا إلى استحقاق الثواب والتعظيم كما يدعي يوجب تسميته به، لأنه عندنا يستحق الثواب والتعظيم وإن استحق العقاب. والأمر بالمعروف ينقسم إلى واجب وندب، فما تعلق منه بالواجب كان واجبا " [ وما تعلق منه بالندب كان ندبا " ]. والنهي عن المنكر كله واجب عند الشرط، لأن المنكر لا ينقسم انقسام المعروف، وليس في العقل دليل على وجوب ذلك إلا إذا كان على سبيل دفع الضرر، وإنما المرجع في وجوبه إلى السمع. وشرائط إنكار المنكر: أن يعلمه منكرا "، ويجوز تأثير إنكاره، ويزول الخوف على النفس وما جرى مجراها، ولا يكون في إنكاره مفسدة.

 

 

 

باب ما يجب اعتقاده في النبوة

متى علم الله سبحانه أن لنا في بعض الأفعال مصالح وألطافا " أو فيها ما هو مفسدة في الدين والعقل لا يدل عليها وجب بعثة الرسول لتعريفه، ولا سبيل إلى تصديقه إلا بالمعجز. وصفة المعجز: أن يكون خارقا " للعادة، ومطابقا " لدعوى الرسول ومتعلقا " بها، وأن يكون متعذرا " في جنسه أو صفته المخصوصة على الخلق، ويكون من فعله تعالى أو جاريا " مجرى فعله تعالى، وإذا وقع موقع التصديق فلا بد من دلالته على المصدق وإلا كان قبيحا ". وقد دل الله تعالى على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وآله بالقرآن لأن ظهوره من جهته معلوم ضرورة، وتحديه العرب والعجم (1) معلوم أيضا " ضررة، وارتفاع معارضته أيضا " بقريب من الضرورة، فإن ذلك التعذر معلوم بأدنى نظر، لأنه لولا التعذر لعورض، ولولا أن التعذر خرق العادة توقف على أنه لا دلالة في تعذر معارضته. فأما أن يكون القرآن من فعله تعالى على سبيل التصديق له فيكون هو العلم المعجز، أو يكون تعالى صرف القوم عن معارضته فيكون الصرف هو العلم الدال على النبوة، وقد بينا في كتاب الصرف (2) الصحيح من ذلك وبسطناه. وكل من صدقه نبينا من الأنبياء المتقدمين فإنما علينا تصديق نبوته بخبره، ولولا ذلك لما كان إليه طريق العلم. ونسخ الشرائع جائز في العقول لاتباع الشريعة للمصلحة التي يجوز تغييرها وتبديلها. وشرع موسى عليه السلام غيره من الأنبياء منسوخ بشريعة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وصحة هذه النبوة دليلها يكذب من ادعى أن شرعه لا ينسخ.

1) في قوله تعالى (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " [ الاسراء / 88 ].

2) قال الشيخ آغا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة كتاب الصرفة الموسوم ب‍ (الموضح عن وجه إعجاز القرآن. قال النجاشي بعد تسميته كتاب الموضح عن وجه إعجاز القرآن: وهو الكتاب المعروف بالصرفة، وعبر السيد نفسه عن هذا الكتاب بالصرف في كتابه (جمل العلم والعمل)

 

 

 

باب ما يجب اعتقاده في الإمامة وما يتصل به

الإمامة في كل زمان لقرب الناس من الصلاح وبعدهم عن الفساد عند وجود الرؤساء المهيبين. وأوجب في الإمام عصمته، لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الحاجة إليه فيه، وهذا يتناهى من الرؤساء، والانتهاء إلى رئيس معصوم. وواجب أن يكون أفضل من رعيته وأعلم، لقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه فيه في العقول. فإذا وجبت عصمته وجب النص من الله تعالى عليه وبطل اختيار الإمامة، لأن العصمة لا طريق للأنام إلى العلم بمن هو عليها. فإذا تقرر وجوب العصمة فالإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لإجماع الأمة على نفي القطع على هذه الصفة في غيره عليه السلام ممن ادعى الإمامة في تلك الحال، وخبر الغدير (1) وخبر غزوة تبوك (2) يدلان على ما ذكرناه من النص عليه، وإنما عدل عن المطالبة والمنازعة وأظهر التسليم والانقياد للتقية، والخوف على النفس والإشفاق من فساد في الدين لا يتلافاه. (3)

 

1) مختصر حديث الغدير: إن النبي صلى الله عليه وآله حينما كان راجعا " من حجة الوداع وصل إلى موضع يقال له (غدير خم) فنزلت عليه قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) [ المائدة / 67 ] فجمع الرسول صحابته الذين كانوا معه - وكان عددهم مائة وعشرين ألف أو ثمانين ألفا " - فأخذ بيد علي عليه السلام ورفعه وخطب خطبه طويله وقال في جمله ما قال (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله.) - راجع تفاصيل هذا الحديث وطبقات الراوين له من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين إلى عصرنا الحاضر في كتاب الغدير ج 1.

2) تبوك موضع بين المدينة والشام، ولما أراد صلى الله عليه وآله الخروج إلى غزوة تبوك استخلف أمير المؤمنين عليه السلام في أهله وولده وأزواجه ومهاجره وقال له (يا علي إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك) وبقي علي عليه السلام في المدينة وخرج الرسول صلى الله عليه وآله إلى الغزوة، ولكن المنافقين أخذوا يرجفون بعلي، فلما بلغ أرجافهم به لحق بالنبي وقال له: يا رسول الله إن المنافقين يزعمون أنك استثقالا ومقتا ". فقال له النبي صلى الله عليه وآله: إرجع يا أخي إلى مكانك، فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وهذا الحديث يعرف بحديث المنزلة. أنظر مصادر هذا الحديث في كتاب المراجعات ص 139 - 142 والاستيعاب 3 / 1097.

3) قال عليه السلام في الكتاب الذي أرسله مع مالك الأشتر إلى أهل مصر: (أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمدا " صلى الله عليه وآله نذيرا " للعالمين ومهيمنا " على المرسلين، فلما مضى عليه السلام تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعى ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده عن أهل بيته ولا إنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا إنثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمد، فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلما " أو هدما " تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه [ نهج البلاغة 3 / 131 ].