الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

فإن قيل: فما وجه تسمية الغيب بأنه نفس؟.

قلنا: لا يمتنع أن يكون الوجه في ذلك أن نفس الانسان لما كانت خفية الموضع الذي يودعه سرها، أنزل ما يكتمه ويجهد في سره منزلتها فقيل فيه أنه نفس مبالغة في وصفه بالكتمان والخفاء. وإنما حسن أن يقول مخبرا عن نبيه (ع) (ولا أعلم ما في نفسك) من حيث تقدم قوله (تعلم ما في نفسي) ليزدوج الكلام. فلهذا لا يحسن ابتداء أن يقول أنا لا أعلم ما في نفس الله تعالى، وإن حسن على الوجه الأول. ولهذا نظائر في الكلام مشهورة.

 

حول تفويضه الأمر لله تعالى:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى حاكيا عن عيسى (ع):

(إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (1) وكيف يجوز هذا المعنى مع علمه (ع) بأنه تعالى لا يغفر للكفار؟.

(الجواب): قلنا: المعنى بهذا الكلام تفويض الأمر إلى مالكه وتسليمه إلى مديره، والتبري من أن يكون إليه شئ من أمور قومه. وعلى هذا يقول أحدنا إذا أراد أن يتبرأ من تدبير أمر من الأمور ويسلم منه ويفوض أمره إلى غيره، يقول: هذا الأمر لا مدخل لي فيه فإن شئت أن تفعله، وإن شئت أن تتركه، مع علمه وقطعه على أن أحد الأمرين لا بد أن يكون منه.

وإنما حسن منه ذلك لما أخرج كلامه مخرج التفويض والتسليم.

وقد روي عن الحسن أنه قال: معنى الآية إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم، وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم. فكأنه اشترط التوبة وإن لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام.

____________

(1) المائدة 118.


الصفحة 149
فإن قيل: فلم لم يقل وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم؟ فهو أليق في الكلام ومعناه من العزيز الحكيم؟.

قلنا: هذا سؤال من لم يعرف معنى الآية، لأن الكلام لم يخرج مخرج مسألة غفران، فيليق بما ذكر في السؤال. وإنما ورد على معنى تسليم الأمر إلى مالكه. فلو قيل فإنك أنت الغفور الرحيم، لأوهم الدعاء لهم بالمغفرة. ولم يقصد ذلك بالكلام. على أن قوله " العزيز الحكيم " أبلغ في المعنى وأشد استيفاء من " الغفور الرحيم " وذلك أن الغفران والرحمة قد يكونان حكمة وصوابا، ويكونا بخلاف ذلك. فهما بالاطلاق لا يدلان على الحكمة والحسن. والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على معنى الغفران والرحمة، وإذا كانا صوابين. ويزيد عليهما باستيفاء معان كثيرة، لأن العزيز هو المنيع القادر الذي لا يذل ولا يضام، وهذا المعنى لا يفهم من الغفور الرحيم البتة. وأما الحكيم فهو الذي يضع الأشياء مواضعها ويصيب بها أغراضها، ولا يفعل إلا الحسن الجميل. فالمغفرة والرحمة إذا أقضتهما الحكمة دخلتا في قوله العزيز الحكيم. وزاد معنى هذه اللفظة عليهما من حيث اقتضاء وصفه بالحكمة في سائر أفعاله، وإنما طعن بهذا الكلام من الملحدين من لا معرفة له بمعاني الكلام. وإلا فبين ما تضمنه القرآن من اللفظة وبين ما ذكروه فرق ظاهر في البلاغة واستيفاء المعاني والاشتمال عليها.


الصفحة 150

 

سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وآله

 

تنـزيه محمد (ع) عن الضلال:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى) (1) أوليس هذا يقتضي إطلاقه الضلال عن الدين؟ وذلك مما لا يجوز عندكم قبل النبوة ولا بعدها؟

(الجواب): قلنا في معنى هذه الآية أجوبة:

(أولها): أنه أراد: وجدك ضالا عن النبوة فهداك إليها، أو عن شريعة الاسلام التي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق، وبإرشاده صلى الله عليه وآله إلى ما ذكرناه أعظم النعم عليه. والكلام في الآية خارج مخرج الامتنان والتذكير بالنعم، وليس لأحد أن يقول إن الظاهر بخلاف ذلك، لأنه لا بد في الظاهر من تقدير محذوف يتعلق به الضلال، لأن الضلال هو الذهاب والانصراف فلا بد من أمر يكون منصرفا عنه. فمن ذهب إلى أنه أراد الذهاب عن الدين فلا بد له من أن يقدر هذه اللفظة ثم يحذفها ليتعلق بها لفظ الضلال، وليس هو بذلك أولى منا فيما قدرناه وحذفناه.

(وثانيها): أن يكون أراد الضلال عن المعيشة وطريق الكسب. يقال

____________

(1) الضحى 7.


الصفحة 151
للرجل الذي لا يهتدي طريق معيشته ووجه مكسبه: هو ضال لا يدري ما يصنع ولا أين يذهب. فامتن الله تعالى عليه بأن رزقه وأغناه وكفاه.

(وثالثها): أن يكون أراد ووجدك ضالا بين مكة والمدينة عند الهجرة فهداك وسلمك من أعدائك. وهذا الوجه قريب لولا أن السورة مكية وهي متقدمة للهجرة إلى المدينة، اللهم إلا أن يحمل قوله تعالى " ووجدك " على أنه سيجدك على مذهب العرب في حمل الماضي على معنى المستقبل فيكون له وجه.

(ورابعها): أن يكون أراد بقوله " ووجدك ضالا فهدى " أي مضلولا عنه في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك وأرشدهم إلى فضلك.

وهذا له نظير في الاستعمال. يقال: فلان ضال في قومه وبين أهله إذا كان مضلولا عنه.

(وخامسها): أنه روي في قراءة هذه الآية الرفع " ألم يجدك يتيم فآوى ووجدك ضال فهدى " على أن اليتيم وجده وكذلك الضال، وهذا الوجه ضعيف لأن القراءة غير معروفة، ولأن هذا الكلام يسمج ويفسد أكثر معانيه.

 

تنـزيه سيدنا محمد (ع) عن مدح آلهة قريش:

(مسألة): فإن قال فما معنى قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) (1) أوليس قد روي في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رأى تولي قومه عنه شق عليه ما هم عليه من المباعدة والمنافرة، وتمنى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبينهم، وتمكن حب ذلك في قلبه، فلما أنزل الله تعالى عليه (والنجم إذا

____________

(1) الحج 52.


الصفحة 152
هوى) (1) وتلاها عليهم، ألقى الشيطان على لسانه لما كان تمكن في نفسه من محبة مقاربتهم تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي، فلما سمعت قريش ذلك سرت به وأعجبهم ما زكى به آلهتهم، حتى انتهى إلى السجدة فسجد المؤمنون وسجد أيضا المشركون لما سمعوا من ذكر آلهتهم بما أعجبهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة فإنه كان شيخا كبيرا لا يستطيع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها ثم تفرق الناس من المسجد وقريش مسرورة بما سمعت. وأتى جبرائيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله معاتبا على ذلك، فحزن له حزنا شديدا. فأنزل الله تعالى عليه معزيا له ومسليا (وما أرسلنا من قبلك) الآية.

(الجواب): قلنا أما الآية فلا دلالة في ظاهرها على هذه الخرافة التي قصوها وليس يقتضي الظاهر إلا أحد أمرين، إما أن يريد بالتمني التلاوة كما قال حسان بن ثابت:


تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر

أو أريد بالتمني تمني القلب. فإن أراد التلاوة، كان المراد من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه حرفوا عليه وزادوا فيما يقوله ونقصوا، كما فعلت اليهود في الكذب على نبيهم، فأضاف ذلك إلى الشيطان لأنه يقع بوسوسته وغروره. ثم بين أن الله تعالى يزيل ذلك ويدحضه بظهور حجته وينسخه ويحسم مادة الشبهة به. وإنما خرجت الآية على هذا الوجه مخرج التسلية له صلى الله عليه وآله لما كذب المشركون عليه، وأضافوا إلى تلاوته مدح آلهتهم ما لم يكن فيها.

وأن كان المراد تمني القلب، فالوجه في الآية إن الشيطان متى تمنى النبي عليه السلام بقلبه بعض ما يتمناه من الأمور، يوسوس إليه بالباطل

____________

(1) النجم 1.


الصفحة 153
ويحدثه بالمعاصي ويغريه بها ويدعوه إليها. وأن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان وعصيانه وترك إسماع غروره.

وأما الأحاديث المروية في هذا الباب فلا يلتفت إليها من حيث تضمنت ما قد نزهت العقول الرسل عليهم السلام عنه. هذا لو لم يكن في أنفسها مطعونة ضعيفة عند أصحاب الحديث بما يستغني عن ذكره. وكيف يجيز ذلك على النبي صلى الله عليه وآله من يسمع الله تعالى يقول: (كذلك لنثبت به فؤادك (1) يعني القرآن. وقوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) (2). وقوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى) (3). على أن من يجيز السهو على الأنبياء عليهم السلام يجب أن لا يجيز ما تضمنته هذه الرواية المنكرة لما فيها من غاية التنفير عن النبي صلى الله عليه وآله لأن الله تعالى قد جنب نبيه من الأمور الخارجة عن باب المعاصي، كالغلظة والفظاظة وقول الشعر وغير ذلك مما هو دون مدح الأصنام المعبودة دون الله تعالى. على أنه لا يخلو صلى الله عليه وآله وحوشي مما قذف به من أن يكون تعمد ما حكوه، وفعله قاصدا أو فعله ساهيا ولا حاجة بنا إلى إبطال القصد في هذا الباب والعمد لظهوره، وإن كان فعله ساهيا فالساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقها، ثم لمعنى ما تقدمها من الكلام. لأنا نعلم ضرورة أن من كان ساهيا لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها وفي معنى البيت الذي تقدمه وعلى الوجه الذي يقتضيه فائدته، وهو مع ذلك يظن أنه من القصيدة التي ينشدها. وهذا ظاهر في بطلان هذه الدعوى على النبي صلى الله عليه وآله على أن الموحى إليه من الله النازل بالوحي وتلاوة القرآن

____________

(1) الفرقان 22.

(2) الحاقة 44 - 46.

(3) الأعلى 6.


الصفحة 154
جبرائيل (ع)، وكيف يجوز السهو عليه. على أن بعض أهل العلم قد قال يمكن أن يكون وجه التباس الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما تلا هذه السورة في ناد غاص بأهله وكان أكثر الحاضرين من قريش المشركين، فانتهى إلى قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) (1) وعلم في قرب مكانه منه من قريش أنه سيورد بعدها ما يسوأهم به فيهن، قال كالمعارض له والراد عليه: (تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجي) فظن كثير ممن حضر أن ذلك من قوله صلى الله عليه وآله. واشتبه عليهم الأمر لأنهم كانوا يلغطون عند قراءته صلى الله عليه وآله، ويكثر كلامهم وضجاجهم طلبا لتغليطه وإخفاء قراءته.

ويمكن أن يكون هذا أيضا في الصلاة، لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته عند الكعبة، ويسمعون قراءته ويلغون فيها. وقيل أيضا أنه صلى الله عليه وآله كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات وأتى بكلام على سبيل الحجاج لهم، فلما تلا أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى قال تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى على سبيل الإنكار عليهم، وأن الأمر بخلاف ما ظنوه من ذلك. وليس يمتنع إن يكون هذا في الصلاة لأن الكلام في الصلاة حينئذ كان مباحا. وإنما نسخ من بعد، وقيل إن المراد بالغرانيق الملائكة. وقد جاء مثل ذلك في بعض الحديث فتوهم المشركون أنه يريد آلهتهم. وقيل إن ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة فتلاه الرسول صلى الله عليه وآله، فلما ظن المشركون أن المراد به آلهتهم نسخت تلاوته.

وكل هذا يطابق ما ذكرناه من تأويل قوله: (إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) لأن بغرور الشيطان ووسوسته أضيف إلى تلاوته صلى الله عليه وآله ما لم يرده بها. وكل هذا واضح بحمد الله تعالى.

____________

(1) النجم 19.


الصفحة 155

 

تنـزيه سيدنا محمد عن معاتبة الله له:

(مسألة): فإن قيل فما تأويل قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه) (1) أوليس هذا عتابا له صلى الله عليه وآله من حيث اضمر ما كان ينبغي ان يظهره وراقب من لا يجب ان يراقبه فما الوجه في ذلك؟.

(الجواب): قلنا: وجه هذه الآية معروف وهو ان الله تعالى لما أراد نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم نكاح زوجة الدعي، والدعي هو الذي كان أحدهم يجتبيه ويربيه ويضيفه إلى نفسه على طريق البنوة، وكان من عادتهم ان يحرموا على أنفسهم نكاح أزواج أدعيائهم كما يحرمون نكاح أزواج أبنائهم، فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله ان زيد بن حارثة وهو دعي رسول الله صلى الله عليه وآله سيأتيه مطلقا زوجته، وأمره ان يتزوجها بعد فراق زيد لها ليكون ذلك ناسخا لسنة الجاهلية التي تقدم ذكرها، فلما حضر زيد مخاصما زوجته عازما على طلاقها، أشفق الرسول من أن يمسك عن وعظه وتذكيره لا سيما وقد كان يتصرف على امره وتدبيره، فرجف المنافقون به إذا تزوج المرأة يقذفونه بما قد نزهه الله تعالى عنه فقال له (امسك عليك زوجك) تبرؤا مما ذكرناه وتنزها، واخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعد طلاقه لها لينتهي إلى امر الله تعالى فيها. ويشهد بصحة هذا التأويل قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان امر الله مفعولا) (2) فدل على أن العلة في أمره في نكاحها ما ذكرناه من نسخ السنة المتقدمة.

____________

(1) الأحزاب 37.

(2) الأحزاب 37.


الصفحة 156
فإن قيل العتاب باق على كل حال لأنه قد كان ينبغي ان يظهر ما أظهره ويخشى الله ولا يخشى الناس.

قلنا: أكثر ما في الآية إذا سلمنا نهاية الاقتراح فيها ان يكون صلى الله عليه وآله فعل ما غيره أولى منه، وليس ان يكون صلى الله عليه وآله بترك الأولى عاصيا. وليس يمتنع على هذا الوجه ان يكون صبره على قذف المنافقين اهانته بقولهم أفضل وأكثر ثوابا، فيكون ابداء ما في نفسه أولى من اخفائه على أنه ليس في ظاهر الآية ما يقتضي العتاب، ولا ترك الأولى. وأما اخباره بأنه (اخفى ما الله مبديه) فلا شئ فيه من الشبهة، وانما هو خير محض. وأما قوله (وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه) ففيه أدنى شبهة، وإن كان الظاهر لا يقتضي عند التحقيق ترك الأفضل، لأنه اخبر أنه يخشى الناس وان الله أحق بالخشية، ولم يخبر انك لم تفعل إلا حق وعدلت إلى الأدون، ولو كان في الظاهر بعض الشبهة لوجب ان نتركه ونعدل عنه للقاطع من الأدلة. وقد قيل إن زيد بن حارثة لما خاصم زوجته زينب بنت جحش وهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وأشرف على طلاقها اضمر رسول الله صلى الله عليه وآله انه ان طلقها زيد تزوجها من حيث كانت ابنة عمته. وكان يجب ضمها إلى نفسه كما يجب أحدنا ضم قراباته إليه، حتى لا ينالهم بؤس ولا ضرر. فأخبر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله والناس بما كان يضمره من ايثار ضمها إلى نفسه ليكون ظاهر الأنبياء صلى الله عليه وآله وباطنهم سواء. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصار يوم فتح مكة وقد جاء عثمان بعبد الله بن أبي سرح وسأله ان يرضى عنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قبل ذلك قد هدر دمه فأمر بقتله، فلما رأى عثمان استحي من رده ونكس طويلا ليقتله بعض المؤمنين فلم يفعل المؤمنون ذلك انتظارا منهم لامر رسول الله صلى الله عليه وآله مجددا، فقال للأنصار: أما كان فيكم رجل يقوم إليه فيقتله؟ فقال له عباد بن بشر: يا رسول الله صلى الله عليه وآله ان عيني ما زالت في عينك انتظارا ان تومئ إلي فاقتله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله:


الصفحة 157
الأنبياء صلى الله عليه وآله لا يكون لهم خائنة أعين. وهذا الوجه يقارب الأول في المعنى.

فان قيل: فما المانع مما وردت به الرواية من أن رسول الله صلى الله عليه وآله رأى في بعض الأحوال زينب بنت جحش فهواها فلما ان حضر زيد لطلاقها اخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعده وهواه لها، أوليس الشهوة عندكم التي قد تكون عشقا على بعض الوجوه من فعل الله تعالى وأن العباد يقدرون عليها؟

وعلى هذا الوجه يمكنكم انكار ما تضمنه السؤال.

قلنا: لم ننكر ما وردت به هذه الرواية الخبيثة من جهة أن فعل الشهوة يتعلق بفعل العباد وأنها معصية قبيحة، بل من جهة أن عشق الأنبياء عليهم السلام لمن ليس يحل لهم من النساء منفر عنهم وحاط من مرتبتهم ومنزلتهم، وهذا مما لا شبهة فيه، وليس كل شئ يجب ان يجتنبه الأنبياء صلى الله عليه وآله مقصورا على افعالهم. الا ترى ان الله تعالى قد جنبهم الفظاظة والغلظة والعجلة، وكل ذلك ليس من فعلهم، وأوجبنا أيضا ان يجتنبوا الأمراض المنفرة والخلق المشينة كالجذام والبرص وتفاوت الصور واضطرابها، وكل ذلك ليس من مقدورهم ولا فعلهم. وكيف يذهب على عاقل ان عشق الرجل زوجة غيره منفر عنه معدود في جملة معائبه ومثالبه، ونحن نعلم أنه لو عرف بهذه الحال بعض الامناء والشهود لكان ذلك قادحا في عدالته وخافضا في منزلته، وما يؤثر في منزلة أحدنا أولى من أن يؤثر في منازل من طهره الله وعصمه وأكمله وأعلى منزلته. وهذا بين لمن تدبره.

 

تنـزيه سيدنا محمد عن معاتبته في الاسرى:

(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) (1). وقوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم

____________

(1) الأنفال 67.


الصفحة 158
عذاب عظيم) (1) أوليس هذا يقتضي عتابه على استبقاء الأسارى وأخذ عرض الدنيا عوض عن قتلهم؟.

(الجواب): قلنا ليس في ظاهر الآية ما يدل على أنه صلى الله عليه وآله عوتب في شأن الأسارى، بل لو قيل إن الظاهر يقتضي توجه الآية إلى غيره لكان أولى، لان قوله تعالى: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة)، وقوله تعالى:

(ولولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، لا شك أنه لغيره، فيجب ان يكون المعاتب سواه. والقصة في هذا الباب معروفة والرواية بها متظافرة، لان الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله بأن يأمر أصحابه بأن يثخنوا في قتل أعدائهم بقوله تعالى: (فاضروا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) (2) وبلغ النبي صلى الله عليه وآله ذلك إلى أصحابه فخالفوه، وأسروا يوم بدر جماعة من المشركين طمعا في الفداء، فأنكر الله تعالى ذلك عليهم وبين ان الذي أمر به سواه.

فإن قيل: فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله خارجا عن العتاب فما معنى قوله تعالى: (ما كان لنبي ان يكون له اسرى)؟

قلنا: الوجه في ذلك لان الأصحاب انما اسروهم ليكونوا في يده صلى الله عليه وآله. فهم اسراؤه على الحقيقة ومضافون إليه، وإن كان لم يأمرهم بأسرهم بل أمر بخلافه.

فان قيل: أفما شاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وقت الأسر فكيف لم ينههم عنه؟.

قلنا: ليس يجب ان يكون عليه السلام مشاهدا لحال الأسر، لأنه كان

____________

(1) الأنفال 68.

(2) الأنفال 12.


الصفحة 159
على ما وردت به الرواية يوم بدر جالسا في العريش، ولما تباعد أصحابه عنه أسروا من أسروه من المشركين بغير علمه صلى الله عليه وآله فإن قيل: فما بال النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر بقتل الأسارى لما صاروا في يده وإن كان خارجا من المعصية وموجب العتاب، أوليس لما استشار أصحابه فأشار عليه أبو بكر باستبقائهم وعمر باستيصالهم رجع إلى رأي أبي بكر، حتى روي أن العتاب كان من اجل ذلك؟.

قلنا: أما الوجه في أنه عليه السلام لم يقتلهم فظاهر، لأنه غير ممتنع ان تكن المصلحة في قتلهم وهم محاربون، وأن يكون القتل أولى من الأسر، فإذا أسروا تغيرت المصلحة وكان استبقاؤهم أولى، والنبي صلى الله عليه وآله لم يعمل برأي أبي بكر إلا بعد ان وافق ذلك ما نزل به الوحي عليه. وإذا كان القرآن لا يدل بظاهر ولا فحوى على وقوع معصية منه صلى الله عليه وآله في هذا الباب فالرواية الشاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها.

وبعد: فلسنا ندري من اي وجه تضاف المعصية إليه صلى الله عليه وآله في هذا الباب، لأنه لا يخلو من أن يكون أوحى إليه صلى الله عليه وآله في باب الأسارى بأن يقتلهم، أو لم يوح إليه فيه بشئ، ووكل ذلك إلى اجتهاده ومشورة أصحابه، فإن كان الأول فليس يجوز ان يخالف ما أوحي إليه، ولم يقل أحد أيضا في هذا الباب أنه صلى الله عليه وآله خالف النص في باب الأسارى، وإنما يدعى عليه انه فعل ما كان الصواب عند الله خلافه، وكيف يكون قتلهم منصوصا عليه بعد الأسر وهو يشاور فيه الأصحاب ويسمع فيه المختلف من الأقوال وليس لاحد ان يقول إذا جاز أن يشاور في قتلهم واستحيائهم، وعنده نص بالاستحياء، فهلا جاز ان يشاور وعنده نص في القتل، وذلك أنه لا يمتنع ان يكون أمر بالمشاورة قبل ان ينص له على أحد الامرين، ثم أمر بما وافق احدى المشورتين فاتبعه. وهذا لا يمكن المخالف ان يقول مثله، وإن كان لم يوح إليه في باب الأسارى شئ ووكل إلى اجتهاده ومشورة أصحابه، فما

الصفحة 160
باله يعاتب وقد فعل ما أداه إليه الاجتهاد والمشاورة، وأي لوم على من فعل الواجب ولم يخرج عنه، وهذا يدل على أن من أضاف إليه المعصية قد ضل عن وجه الصواب.

 

تنـزيه سيدنا محمد عن المعاتبة في امر المتخلفين:

(مسألة): فإن قيل فما وجه قوله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله لما استأذنه قوم في التخلف عن الخروج معه إلى الجهاد فأذن لهم:

(عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) (1) أوليس العفو لا يكون الا عن الذنب؟ وقوله (لم اذنت) ظاهر في العتاب لأنه من أخص ألفاظ العتاب؟.

(الجواب): قلنا أما قوله تعالى (عفا الله عنك) فليس يقتضي وقوع معصية ولا غفران عقاب، ولا يمتنع ان يكون المقصود به التعظيم والملاطفة في المخاطبة. لان أحدنا قد يقول لغيره إذا خاطبه: أرأيت رحمك الله وغفر الله لك. وهو لا يقصد إلى الاستصفاح له عن عقاب ذنوبه، بل ربما لم يخطر بباله ان له ذنبا. وانما الغرض الاجمالي في المخاطبة واستعمال ما قد صار في العادة علما على تعظيم المخاطب وتوقيره. وأما قوله تعالى: (لم أذنت لهم) فظاهره الاستفهام والمراد به التقريع واستخراج ذكر علة اذنه، وليس بواجب حمل ذلك على العتاب، لان أحدنا قد يقول لغيره، لم فعلت كذا وكذا. تارة معاتبا وأخرى مستفهما، وتارة مقررا. فليس هذه اللفظة خاصة للعتاب والانكار. وأكثر ما يقتضيه وغاية ما يمكن ان يدعى فيها أن تكون دالة على أنه صلى الله عليه وآله ترك الأولى والأفضل، وقد بينا ان ترك الأولى ليس بذنب، وإن كان الثواب ينقص معه. فإن الأنبياء عليهم السلام يجوز ان يتركوا كثيرا من النوافل. وقد يقول

____________

(1) التوبة 43.


الصفحة 161
أحدنا لغيره إذا ترك الندب: لم تركت الأفضل ولم عدلت عن الأولى؟ ولا يقتضي ذلك انكارا ولا قبيحا.

 

تنـزيه سيدنا محمد عن الوزر:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي انقض ظهرك) (1) أوليس هذا صريحا في وقوع المعاصي منه صلى الله عليه وآله؟.

(الجواب): قلنا أما الوزر في أصل اللغة فهو الثقل، وانما سميت الذنوب بأنها أوزارا لأنها تثقل كاسبها وحاملها.

فإذا كان أصل الوزر ما ذكرناه، فكل شئ اثقل الانسان وغمه وكده وجهده جاز ان يسمى وزرا، تشبيها بالوزر الذي هو الثقل الحقيقي. وليس يمتنع ان يكون الوزر في الآية انما أراد به غمه صلى الله عليه وآله وهمه بما كان عليه قومه من الشرك، وأنه كان هو وأصحابه بينهم مستضعفا مقهورا. فكل ذلك مما يتعب الفكر ويكد النفس. فلما أن أعلى الله كلمته ونشر دعوته وبسط يده خاطبه بهذا الخطاب تذكيرا له بمواقع النعمة عليه، ليقابله بالشكر والثناء والحمد.

ويقوي هذا التأويل قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) وقوله عز وجل: (فإن مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا) والعسر بالشدائد والغموم أشبه، وكذلك اليسر بتفريج الكرب وإزالة الهموم والغموم أشبه.

فإن قيل: هذا التأويل يبطله ان هذه السورة مكية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وهو في الحال الذي ذكرتم انها تغمه من ضعف الكلمة وشدة الخوف من الاعداء، وقبل ان يعلي الله كلمة المسلمين على المشركين، فلا وجه لما ذكرتموه.

____________

(1) الشرح 1 - 3.


الصفحة 162
قلنا: عن هذا السؤال جوابان: أحدهما انه تعالى لما بشره بأنه يعلي دينه على الدين كله ويظهره عليه ويشفى صلى الله عليه وآله من أعدائه وغيظه، وغيظ المؤمنين به، كان بذلك وضعا عنه ثقل غمه بما كان يلحقه من قومه، ومطيبا لنفسه ومبدلا عسره يسرا، لأنه يثق بأن وعد الله تعالى حق ما يخلف، فامتن الله تعالى عليه بنعمة سبقت الامتنان وتقدمته.

والجواب الآخر: ان يكون اللفظ وإن كان ظاهره الماضي، فالمراد به الاستقبال. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والاستعمال. قال الله تعالى:

(ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) وقوله تعالى: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك)، إلى غير ذلك مما شهرته تغني عن ذكره.

تنزيه سيدنا محمد عن الذنب:

(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) (1) أوليس هذا صريحا في أن له صلى الله عليه وآله ذنوبا وان كانت مغفورة.

(الجواب): قلنا أما من نفى عنه صلى الله عليه وآله صغائر الذنوب مضافا إلى كبائرها، فله عن هذه الآية أجوبة نحن نذكرها ونبين صحيحها من سقيمها.

منها: انه أراد تعالى بإضافة الذنب إليه ذنب أبيه آدم عليه السلام.

وحسنت هذه الإضافة لاتصال القربى، وعفوه لذلك، من حيث اقسم آدم على الله تعالى به، فأبر قسمه، فهذا المتقدم. والذنب المتأخر هو ذنب شيعته وشيعة أخيه عليه السلام. وهذا الجواب يعترضه ان صاحبه نفى عن نبي ذنبا واضافه إلى آخر. والسؤال عليه فيمن اضافه إليه كالسؤال فيمن نفاه عنه.

____________

(1) الفتح 2.


الصفحة 163
ويمكن إذا أردنا نصرة هذا الجواب ان نجعل الذنوب كلها لامته صلى الله عليه وآله، ويكون ذكر التقدم والتأخر انما أراد به ما تقدم زمانه وما تأخر، كما يقول القائل مؤكدا: " قد غفرت لك ما قدمت وما أخرت وصفحت عن السالف والآنف من ذنوبك ". ولاضافه ذنوب أمته إليه وجه في الاستعمال معروف لان القائل قد يقول لمن حضره من بني تميم أو غيرهم من القبائل أنتم فعلتم كذا وكذا وقلتم فلانا وإن كان الحاضرون ما شهدوا ذلك ولا فعلوه وحسنت الإضافة للاتصال والتسبب ولا سبب اوكد مما بين الرسول صلى الله عليه وآله وأمته فقد يجوز توسعا وتجوزا ان تضاف ذنوبهم إليه (ومنها) انه سمى ترك الندب ذنبا وحسن ذلك لأنه صلى الله عليه وآله ممن لا يخالف الأوامر الا هذا الضرب من الخلاف ولعظم منزلته وقدره فجاز ان يسمي بالذنب منه ما إذا وقع من غيره لم يسم ذنبا وهذا الوجه يضعفه على بعد هذه التسمية انه لا يكون معنى لقوله انني اغفر ذنبك ولا وجه في معنى الغفران يليق بالعدول عن الندب (عن الذنب).

ومنها: ان القول خرج مخرج التعظيم وحسن الخطاب كما قلناه في قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم). وهذا ليس بشئ لان العادة قد جرت فيما يخرج هذا المخرج من الألفاظ أن يجري مجرى الدعاء، مثل قولهم: غفر الله لك، وليغفر الله لك، وما أشبه ذلك. ولفظ الآية بخلاف هذا لان المغفرة جرت فيها مجرى الجزاء والغرض في الفتح. وقد كنا ذكرنا في هذه الآية وجها اخترناه وهو أشبه بالظاهر مما تقدم، وهو أن يكون المراد بقوله ما تقدم من ذنبك الذنوب إليك، لان الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا، ألا ترى أنهم يقولون: أعجبني ضرب زيد عمرا إذا أضافوه إلى الفاعل، وأعجبني ضرب زيد عمرا إذا أضافوه إلى المفعول. ومعنى المغفرة على هذا التأويل هي الإزالة والفسخ والنسخ لاحكام

الصفحة 164
أعدائه من المشركين عليه، وذنوبهم إليه في منعهم إياه عن مكة وصدهم له عن المسجد الحرام.

وهذا التأويل يطابق ظاهر الكلام حتى تكون المغفرة غرضا في الفتح ووجها له. وإلا فإذا أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) معنى معقول، لان المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح، إذ ليست غرضا فيه.

وأما قوله تعالى: (ما تقدم من ذنبك وما تأخر)، فلا يمتنع ان يريد به ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح لك ولقومك وما تأخر، وليس لاحد ان يقول إن سورة الفتح نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله بين مكة والمدينة وقد انصرف من الحديبية.

وقال قوم من المفسرين: ان الفتح أراد به فتح خيبر، لأنه كان تاليا لتلك الحال، وقال آخرون: بل أراد به أنا قضينا لك في الحديبية قضاء حسنا. فكيف يقولون ما لم يقله أحد من أن المراد بالآية فتح مكة، والسورة قد نزلت قبل ذلك بمدة طويلة، وذلك أن السورة وان كانت نزلت في الوقت الذي ذكر وهو قبل فتح مكة، فغير ممتنع ان يريد بقوله تعالى (انا فتحنا لك فتحا مبينا) فتح مكة. ويكون ذلك على طريق البشارة له والحكم بأنه سيدخل مكة وينصره الله على أهلها، ولهذا نظائر في القرآن، والكلام كثير.

ومما يقوي أن الفتح في السورة أراد به فتح مكة قوله تعالى:

(لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) (1) فالفتح القريب ههنا هو فتح خيبر. وأما حمل الفتح على القضاء الذي قضاه في الحديبية فهو خلاف الظاهر. ومقتضى الآية لان الفتح بالاطلاق الظاهر منه

____________

(1) الفتح 27.


الصفحة 165
الظفر والنصر. ويشهد بأن المراد بالآية ما ذكرناه قوله تعالى: (وينصرك الله نصرا عزيزا).

فإن قيل: ليس يعرف إضافة المصدر إلى المفعول إلا إذا كان المصدر متعديا بنفسه، مثل قولهم: أعجبني ضرب زيد عمرا. وإضافة مصدر غير متعد إلى مفعوله غير معروفة.

قلنا: هذا تحكم في اللسان وعلى أهله لأنهم في كتب العربية كلها أطلقوا ان المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول معا، ولم يستثنوا متعديا من غيره، ولو كان بينهما فرق لبينوه وفصلوه كما فعلوا في غيره وليس قلة الاستعمال معتبرة في هذا الباب لان الكلام إذا كان له أصل في العربية استعمل عليه، وإن كان قليل الاستعمال. وبعد فإن ذنبهم ههنا إليه انما هو صدهم له عن المسجد الحرام ومنعهم إياه عن دخوله، فمعنى الذنب متعد، وإذا كان معنى المصدر متعديا جاز أن يجري ما يتعدى بلفظه، فإن من عادتهم ان يحملوا الكلام تارة على معناه وأخرى على لفظه، ألا ترى إلى قول الشاعر:


جئني بمثل بني بدر لقومهم أو مثل اخوة منظور بن سيار

فاعمل الكلام على المعنى دون اللفظ، لأنه لو أعمله على اللفظ دون المعنى لقال: أو مثل: بالجر، لكنه لما كان معنى، جئني احضر، أو هات قوما مثلهم. حسن ان يقول أو مثل بالفتح، وقال الشاعر:


درست وغير آيهن مع البلى الا رواكد جمرهن هباء
ومشجج (1) اما سوار قذى له فبدا وغيب سارة المعزاء

فقال: ومشجج بالرفع اعمالا للمعنى، لأنه لما كان معنى قوله الا رواكد أنهن باقيات ثابتات عطف على ذلك المشجج بالرفع. ولو اجرى

____________

(1) مشجج - وتد.