الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى 

 

كان داود عليه السلام بما فعله راجعا إلى الله تعالى ومنقطعا إليه، قيل فيه إنه أناب، كما يقال في التائب الراجع إلى التوبة والندم إنه منيب.

فأما قوله تعالى: (فغفرنا له ذلك) فمعناه إنا قبلنا منه وكتبنا له الثواب عليه فأخرج الجزاء على وجه المجازات به، كما قال تعالى:

(يخادعون الله وهو خادعهم) (1) وقال عز وجل: (الله يستهزئ بهم) فأخرج الجزاء على لفظ المجازي عليه.

قال الشاعر:


ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ولما كان المقصود في الاستغفار والتوبة إنما هو القبول، قيل في جوابه فغفرنا لك أي فعلنا المقصود به. كذلك لما كان الاستغفار على طريق الخضوع والعبادة المقصود به القربة والثواب، قيل في جوابه غفرنا مكان قبلنا.

على أن من ذهب إلى أن داود عليه السلام فعل صغيرة، فلا بد من أن يحمل قوله تعالى (غفرنا) على غير إسقاط العقاب، لأن العقاب قد سقط بما هناك من الثواب الكثير من غير استغفار ولا توبة، ومن جوز على داود عليه السلام الصغيرة، يقول إن استغفاره (ع) كان لأحد أمور:

أحدها أن أوريا بن حنان لما أخرجه في بعض ثغوره قتل، وكان داود (ع) عالما بجمال زوجته فمالت نفسه إلى نكاحها بعده، فقل غمه بقتله لميل طبعه إلى نكاح زوجته، فعوتب على ذلك بنزول الملكين من حيث حمله ميل الطبع، على أن قل غمه بمؤمن قتل من أصحابه.

وثانيها: أنه روى أن امرأة خطبها أوريا بن حنان ليتزوجها، وبلغ

____________

(1) النساء 142.


الصفحة 131
داود (ع) جمالها فخطبها أيضا فزوجها أهلها بداود وقدموه على أوريا وغيره، فعوتب (ع) على الحرص على الدنيا، بأنه خطب امرأة قد خطبها غيره حتى قدم عليه.

وثالثها: أنه روي أن امرأة تقدمت مع زوجها إليه في مخاصمة بينهما من غير محاكمة لكن على سبيل الوساطة، وطال الكلام بينهما وتردد، فعرض داود (ع) للرجل بالنزول عن المرأة لا على سبيل الحكم لكن على سبيل التوسط والاستصلاح، كما يقول أحدنا لغيره: إذا كنت لا ترضى زوجتك هذه ولا تقوم بالواجب من نفقتها فانزل عنها. فقدر الرجل أن ذلك حكم منه لا تعريض، فنزل عنها وتزوجها داود (ع)، فأتاه الملكان ينبهانه على التقصير في ترك تبيين مراده للرجل، وأنه كان على سبيل العرض لا الحكم.

ورابعها: أن سبب ذلك أن داود (ع) كان متشاغلا بعبادته في محرابه، فأتاه رجل وامرأة يتحاكمان، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها فيحكم لها أو عليها، وذلك نظر مباح على هذا الوجه، فمالت نفسه إليها ميل الخلقة والطباع، ففصل بينهما وعاد إلى عبادته، فشغله الفكر في أمرها وتعلق القلب بها عن بعض نوافله التي كان وظفها على نفسه فعوتب.

وخامسها: أن المعصية منه إنما كانت بالعجلة في الحكم قبل التثبت، وقد كان يجب عليه لما سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها، ولا يقتضي عليه قبل المسألة. ومن أجاب بهذا الجواب قال: إن الفزع من دخولهما عليه في غير وقت العادة نساه التثبت والتحفظ.

وكل هذه الوجوه لا يجوز على الأنبياء (ع)، لأن فيها ما هو معصية، وقد بينا أن المعاصي لا تجوز عليهم، وفيها ما هو منفر، وإن لم يكن معصية، مثل أن يخطب امرأة قد خطبها رجل من أصحابه فتقدم عليه وتزوجها. ومثل التعريض بالنزول عن المرأة وهو لا يريد الحكم.


الصفحة 132
فأما الاشتغال عن النوافل فلا يجوز أن يقع عليه عتاب، لأنه ليس بمعصية ولا هو أيضا منفر، فأما من زعم أنه عرض أوريا للقتل وقدمه أمام التابوت عمدا حتى يقتل، فقوله أوضح فسادا من أن يتشاغل برده.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: لا أوتي برجل يزعم أن داود عليه السلام تزوج بامرأة أوريا إلا جلدته حدين، حدا للنبوة وحدا للاسلام.

فأما أبو مسلم فإنه قال: لا يمتنع أن يكون الداخلان على داود (ع) كانا خصمين من البشر، وأن يكون ذكر النعاج محمولا على الحقيقة دون الكناية، وإنما ارتاع منهما لدخولهما من غير إذن وعلى غير مجرى العادة، قال وليس في ظاهر التلاوة ما يقتضي أن يكونا ملكين. وهذا الجواب يستغنى معه عما تأولنا به. قولهما ودعوى أحدهما على صاحبه وذكر النعاج. والله تعالى أعلم بالصواب.


الصفحة 133

 

سليمان عليه السلام

 

تنـزيه سليمان عن المعصية:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق) (1) أوليس ظاهر هذه الآيات يدل على أن مشاهدة الخيل الهاه واشغله عن ذكر ربه، حتى روي أن الصلاة فاتته وقيل إنها صلاة العصر، ثم إنه عرقب الخيل وقطع سوقها وأعناقها غيظا عليها، وهذا كله فعل يقتضي ظاهره القبح.

(الجواب): قلنا أما ظاهر الآية فلا يدل على إضافة قبيح إلى النبي (ع) والرواية إذا كانت مخالفة لما تقتضيه الأدلة لا يلتفت إليها لو كانت قوية صحيحة ظاهرة، فكيف إذا كانت ضعيفة واهية؟ والذي يدل على ما ذكرناه على سبيل الجملة أن الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه وتعريفه والثناء عليه، فقال: نعم العبد إنه أواب، وليس يجوز أن يثني عليه بهذا الثناء ثم يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه، وأنه تلهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة والذي يقتضيه الظاهر أن حبه للخيل وشغفه بها

____________

(1) ص 30 - 33.


الصفحة 134
كان بإذن ربه وبأمره وتذكيره إياه لأن الله تعالى قد أمرنا بارتباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء، فلا ينكر أن يكون سليمان عليه السلام مأمورا بمثل ذلك. فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي، ليعلم من حضره أن اشتغاله بها واستعداده لها لم يكن لهوا ولا لعبا، وإنما أتبع فيه أمر الله تعالى وآثر طاعته.

وأما قوله: أحببت حب الخير ففيه وجهان.

أحدهما: أنه أراد أني أحببت حبا ثم أضاف الحب إلى الخير.

والوجه الآخر: أنه أراد أحببت اتخاذ الخير. فجعل قوله بدل اتخاذ الخير حب الخير.

فأما قوله تعالى: (ردوها علي) فهو للخيل لا محالة على مذهب سائر أهل التفسير.

فأما قوله تعالى: (حتى توارت بالحجاب)، فإن أبا مسلم محمد بن بحر وحده قال إنه عائد إلى الخيل دون الشمس، لأن الشمس لم يجر لها ذكر في القصة. وقد جرى للخيل ذكر فرده إليها أولى إذا كانت له محتملة، وهذا التأويل يبرئ النبي (ع) عن المعصية.

فأما من قال إن قوله تعالى (حتى توارت بالحجاب) كناية عن الشمس، فليس في ظاهر القرآن أيضا على هذا الوجه ما يدل على أن التواري كان سببا لفوت الصلاة، ولا يمتنع أن يكون ذلك على سبيل الغاية لعرض الخيل عليه ثم استعادته لها.

فأما أبو علي الجبائي وغيره، فإنه ذهب إلى أن الشمس لما توارت بالحجاب وغابت كان ذلك سببا لترك عبادة كان يتعبد بها بالعشي، وصلاة نافلة كان يصليها فنسيها شغلا بهذه الخيل وإعجابا بتقليبها، فقال هذا القول

الصفحة 135
على سبيل الاغتمام لما فاته من الطاعة، وهذا الوجه أيضا لا يقتضي إضافة قبيح إليه (ع) لأن ترك النافلة ليس بقبيح ولا معصية.

وأما قوله تعالى: فطفق مسحا بالسوق والأعناق فقد قيل فيه وجوه:

منها: أنه عرقبها ومسح أعناقها وسوقها بالسيف من حيث شغلته عن الطاعة، ولم يكن ذلك على سبيل العقوبة لها لكن حتى لا يتشاغل في المستقبل بها عن الطاعات، لأن للانسان أن يذبح فرسه لأكل لحمها، فكيف إذا انضاف إلى ذلك وجه آخر يحسنه. وقد قيل أنه يجوز أن يكون لما كانت الخيل أعز ما له عليه أراد أن يكفر عن تفريطه في النافلة فذبحها وتصدق بلحمها على المساكين. قالوا فلما رأى حسن الخيل راقته وأعجبته، أراد أن يقترب إلى الله تعالى بالمعجب له الرائق في عينه، ويشهد بصحة هذا المذهب قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) (1) فأما أبو مسلم فإنه ضعف هذا الوجه وقال: لم يجر للسيف ذكر فيضاف إليه المسح، ولا يسمى العرب الضرب بالسيف والقطع به مسحا، قال فإن ذهب ذاهب إلى قول الشاعر:


مدمن يجلو بأطراف الذرى دنس الأسوق بالعضب الأفل

فإن هذا الشاعر يعني أنه عرقب الإبل للأضياف فمسح بأسنمتها ما صار على سيفه من دنس عراقبها وهو الدم الذي أصابه منها، وليس في الآية ما يوجب ذلك ولا ما يقاربه، وليس الذي أنكره أبو مسلم بمنكر لأن أكثر أهل التأويل وفيهم من يشار إليه في اللغة، روى أن المسح ههنا هو القطع وفي الاستعمال المعروف: مسحه بالسيف إذا قطعه وبتره. والعرب تقول مسح علاوتها أي ضربها.

ومنها: أن يكون معنى مسحها هو أنه أمر يده عليها صيانة لها وإكراما

____________

(1) آل عمران 92.


الصفحة 136
لما رأى من حسنها. فمن عادة من عرضت عليه الخيل أن يمر يده على أعرافها وأعناقها وقوائمها.

ومنها: أن يكون معنى المسح ههنا هو الغسل، فإن العرب تسمي الغسل مسحا، فكأنه لما رأى حسنها أراد صيانتها وإكرامها فغسل قوائمها وأعناقها وكل هذا واضح.

 

تنـزيه سليمان عن الفتنة:

(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) (1) أوليس قد روي في تفسير هذه الآية أن جنيا كان اسمه صخرا تمثل على صورته وجلس على سريره، وأنه أخذ خاتمه الذي فيه النبوة فألقاه في البحر، فذهبت نبوته وأنكره قومه حتى عاد إليه من بطن السمكة.

(الجواب): قلنا: أما ما رواه الجهال في القصص في هذا الباب فليس مما يذهب على عاقل بطلانه، وأن مثله لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام، وأن النبوة لا تكون في خاتم ولا يسلبها النبي (ع) ولا ينزع عنه، وأن الله تعالى لا يمكن الجني من التمثيل بصورة النبي (ع) ولا غير ذلك مما افتروا به على النبي (ع). وإنما الكلام على ما يقتضيه ظاهر القرآن، وليس في الظاهر أكثر من أن جسدا القي على كرسيه على سبيل الفتنة له وهي الاختبار والامتحان، مثل قوله تعالى: (آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) (2) والكلام في ذلك الجسد ما هو إنما يرجع فيه إلى الرواية الصحيحة التي لا تقتضي إضافة قبيح إليه تعالى، وقد قيل في ذلك

____________

(1) ص 34.

(2) العنكبوت 1 - 3.


الصفحة 137
أشياء (منها): أن سليمان عليه السلام قال يوما في مجلسه وفيه جمع كثير:

" لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله " وكان له فيما روي عدد كثير من السراري، فأخرج كلامه على سبيل المحبة بهذا الحال، فنزهه الله تعالى عن الكلام الذي ظاهره الحرص على الدنيا والتثبت بها لئلا يقتدى به في ذلك، فلم تحمل من نسائه إلا امرأة واحدة فألقت ولدا ميتا، فحمل حتى وضع على كرسيه جسدا بلا روح تنبيها له على أنه ما كان يجب بأن يظهر منه ما ظهر، فاستغفر ربه وفزع إلى الصلاة والدعاء.

وهذا الوجه إذا صح ليس يقتضي معصية صغيرة على ما ظنه بعضهم حتى نسب الاستغفار والإنابة إلى ذلك، وذلك لأن محبة الدنيا على الوجه المباح ليس بذنب وإن كان غيره أولى منه، والاستغفار عقيب هذه الحال لا يدل على وقوع ذنب في الحال ولا قبلها، بل يكون محمولا على ما ذكرناه آنفا في قصة داود عليه السلام من الانقطاع إلى الله تعالى وطلب ثوابه.

فأما قول بعضهم: إن ذنبه من حيث لم يستثن بمشيئة الله تعالى لما قال: تلد كل امرأة واحدة منهن غلاما. وهذا غلط لأنه (ع) وإن لم يستثن ذلك لفظا قد استثناه ضميرا أو اعتقادا. إذ لو كان قاطعا مطلقا للقول لكان كاذبا أو مطلقا لما لا يأمن أن يكون كذبا، وذلك لا يجوز عند من جوز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام.

وأما قول بعضهم: إنه (ع) إنما عوتب واستغفر لأجل أن فريقين اختصما إليه، أحدهما من أهل جرادة امرأة له كان يحبها، فأحب أن يقع القضاء لأهلها فحكم بين الفريقين بالحق، وعوتب على محبة موافقة الحكم لأهل امرأته، فليس هذا أيضا بشئ لأن هذا المقدار الذي ذكروه ليس بذنب يقتضي عتابا إذا كان لم يرد القضاء بما يوافق امرأته على كل حال، بل مال طبعه إلى أن يكون الحق موافقا لقول فريقها، وأن يتفق أن يكون في جهتها

الصفحة 138
من غير أن يقتضي ذلك ميلا منه إلى الحكم أو عدولا عن الواجب.

(ومنها): أنه روي عن الجن لما ولد لسليمان عليه السلام ولد قالوا لنلقين من ولده مثل ما لقينا من أبيه، فلما ولد له غلام أشفق عليه منهم فاسترضعه في المزن وهو السحاب فلم يشعر إلا وقد وضع على كرسيه ميتا تنبيها له على أن الحذر لا ينقطع مع القدر.

(ومنها): أنهم ذكروا أنه كان لسليمان (ع) ولد شاب ذكي وكان يحبه حبا شديدا فأماته الله تعالى على بساطه فجأة بلا مرض اختبارا من الله تعالى لسليمان (ع) وابتلاء لصبره في إماتة ولده، وألقى جسده على كرسيه، وقيل إن الله جل ثنائه أماته في حجره وهو على كرسيه فوضعه من حجره عليه.

ومنها: ما ذكره أبو مسلم، فإنه قال جايز أن يكون الجسد المذكور هو جسد سليمان (ع)، وأن يكون ذلك لمرض امتحنه تعالى به.

وتلخيص الكلام:

" ولقد فتنا سليمان وألقينا منه على كرسيه جسدا " وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الانسان إذا كان ضعيفا " إنه لحم على وضم ".

كما يقولون: " إنه جسد بلا روح " تغليظا للعلة ومبالغة في فرط الضعف.

(ثم أناب) أي رجع إلى حال الصحة واستشهد على الاختصار والحذف في الآية بقوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة إن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) (1) ولو أتي بالكلام على شرحه لقول الذين كفروا منهم أي من المجادلين. كما قال تعالى: (محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء

____________

(1) الأنعام 25.


الصفحة 139
بينهم) إلى قوله: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (1) وقال الأعشى في معنى الاختصار والحذف:


وكأن السموط علقها السلك بعطفي جيداء أم غزال

ولو أتي بالشرح لقال علقها السلك منها.

وقال كعب بن زهير:


زالوا فما زال انعكاس ولا كشف عند اللقاء ولا ميل معازيل

وإنما أراد فما زال منهم انعكاس ولا كشف وشواهد هذا المعنى كثيرة.

 

تنـزيه سليمان عن الشح وعدم القناعة:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قول سليمان عليه السلام: (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) (2) أوليس ظاهر هذا القول منه (ع) يقتضي الشح والظن والمنافة لأنه لم يقنع بمسألة الملك حتى أضاف إلى ذلك أن يمنع غيره منه؟.

(الجواب) قلنا: قد ثبت أن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون إلا ما يؤذن لهم في مسألته، لا سيما إذا كانت المسألة ظاهرة يعرفها قومهم. وجايز أن يكون الله تعالى أعلم سليمان (ع) أنه إن سأل ملكا لا يكون لغيره كان أصلح له في الدين والاستكثار من الطاعات، وأعلمه أن غيره لو سأل ذلك لم يجب إليه من حيث لا صلاح له فيه. ولو أن أحدنا صرح في دعائه بهذا الشرط حتى يقول اللهم اجعلني أيسر أهل زماني وارزقني مالا يساويني فيه غيري إذا علمت أن ذلك أصلح لي وأنه أدعى إلى ما تريده مني، لكان هذا

____________

(1) الفتح 29.

(2) ص 35.


الصفحة 140
الدعاء منه حسنا جميلا وهو غير منسوب به إلى بخل ولا شح. وليس يمتنع أن يسأل النبي هذه المسألة من غير إذن إذا لم يكن شرط ذلك بحضرة قومه، بعد أن يكون هذا الشرط مرادا فيها، وإن لم يكن منطوقا به، وعلى هذا الجواب اعتمد أبو علي الجبائي.

ووجه آخر: وهو أن يكون عليه السلام إنما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته ليتبين بها عن غيره ممن ليس نبيا. وقوله " لا ينبغي لأحد من بعدي " أراد به لا ينبغي لأحد غيري ممن أتى مبعوث إليه، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين (ع). ونظير ذلك أنك تقول للرجل أنا أطيعك ثم لا أطيع أحدا بعدك، تريد ولا أطيع أحدا سواك. ولا تريد بلفظة بعد المستقبل، وهذا وجه قريب.

وقد ذكر أيضا في هذه الآية ومما لا يذكر فيها مما يحتمله الكلام أن يكون (ع) إنما سأل ملك الآخرة وثواب الجنة التي لا يناله المستحق إلا بعد انقطاع التكليف وزوال المحنة، فمعنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يستحقه بعد وصولي إليه أحد من حيث لا يصح أن يعمل ما يستحق به لانقطاع التكليف. ويقوي هذا الجواب قوله " رب اغفر لي " وهو من أحكام الآخرة. وليس لأحد أن يقول إن ظاهر الكلام بخلاف ما تأولتم، لأن لفظة بعدي لا يفهم منها بعد وصولي إلى الثواب. وذلك أن الظاهر غير مانع من التأويل الذي ذكرناه، ولا مناف له. لأنه لا بد من أن تعلق لفظة بعدي بشئ من أحواله المتعلقة به، وإذا علقناها بوصوله إلى الملك كان ذلك في الفايدة ومطابقة الكلام كغيره مما يذكر في هذا الباب. ألا ترى أنا إذا حملنا لفظة بعدي على نبوتي أو بعد مسألتي أو ملكي، كان ذلك كله في حصول الفايدة به، يجري مجرى أن تحملها إلى بعد وصولي إلى الملك. فإن ذلك مما يقال فيه أيضا بعدي. ألا ترى أن القائل يقول دخلت الدار بعدي ووصلت إلى كذا وكذا بعدي، وإنما يريد بعد دخولي وبعد وصولي وهذا واضح بحمد الله.


الصفحة 141

 

يونس عليه السلام

 

تنـزيه يونس عليه السلام عن الظلم:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) (1) وما معنى غضبه وعلى من كان غضبه وكيف ظن أن الله تعالى لا يقدر عليه؟ وذلك مما لا يظنه مثله؟ وكيف اعترف بأنه من الظالمين والظلم قبيح؟.

(الجواب): قلنا أما من يونس عليه السلام خرج مغاضبا لربه من حيث لم ينزل بقومه العذاب، فقد خرج في الافتراء على الأنبياء عليهم السلام وسوء الظن بهم عن الحد، وليس يجوز أن يغاضب ربه إلا من كان معاديا له وجاهل بأن الحكمة في سائر أفعاله، وهذا لا يليق باتباع الأنبياء (ع) من المؤمنين فضلا عمن عصمه الله تعالى ورفع درجته، أقبح من ذلك ظن الجهال وإضافتهم إليه عليه السلام أنه ظن أن ربه لا يقدر عليه من جهة القدرة التي يصح بها الفعل. ويكاد يخرج عندنا من ظن بالأنبياء عليهم السلام مثل ذلك عن باب التمييز والتكليف. وإنما كان غضبه (ع)

____________

(1) الأنبياء 87.


الصفحة 142
على قومه لبقائهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من إقلاعهم وتوبتهم، فخرج من بينهم خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم بينهم.

وأما قوله تعالى: (فظن أن لن نقدر عليه)، فمعناه أن لا نضيق عليه المسلك ونشدد عليه المحنة والتكليف، لأن ذلك مما يجوز أن يظنه النبي، ولا شبهة في أن قول القائل قدرت وقدرت بالتخفيف والتشديد معناه التضييق.

قال الله تعالى: (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله) (1).

وقال تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) (2). أي يوسع ويضيق.

وقال تعالى: (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه) (3) أي ضيق، والتضييق الذي قدره الله عليه هو ما لحقه من الحصول في بطن الحوت وما ناله في ذلك من المشقة الشديدة إلى أن نجاه الله تعالى منها.

وأما قوله تعالى: (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) (4) فهو على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخشوع له والخضوع بين يديه، لأنه لما دعاه لكشف ما امتحنه به وسأله أن ينجيه من الظلمات التي هي ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل، فعل ما يفعله الخاضع الخاشع من الانقطاع والاعتراف بالتقصير، وليس لأحد أن يقول كيف يعترف بأنه كان من الظالمين ولم يقع منه ظلم، وهل هذا إلا الكذب بعينه؟ وليس يجوز أن يكذب النبي (ع) في حال خضوع ولا غيره،

____________

(1) الطلاق 7.

(2) الرعد 26.

(3) الفجر 16.

(4) الأنبياء 87.


الصفحة 143
وذلك أنه يمكن أن يريد بقوله إني كنت من الظالمين، أي من الجنس الذي يقع منهم الظلم، فيكون صدقا، وإن ورد على سبيل الخضوع والخشوع لأن جنس البشر لا يمتنع منه وقوع الظلم.

فإن قيل: فأي فايدة في أن يضيف نفسه إلى الجنس الذي يقع منهم الظلم إذا كان الظلم منتفيا عنه في نفسه؟.

قلنا: الفايدة في ذلك التطامن لله تعالى والتخاضع ونفي التكبر والتجبر، لأن من كان مجتهدا في رغبة إلى مالك قدير، فلا بد من أن يتطأطأ، ويجتهد في الخضوع بين يديه، ومن أكبر الخضوع أن يضيف نفسه إلى القبيل الذي يخطئون ويصيبون كما يقول الانسان، إذا أراد أن يكسر نفسه وينفي عنها دواعي الكبر والخيلاء: إنما أنا من البشر ولست من الملائكة، وأنا ممن يخطئ ويصيب. وهو لا يريد إضافة الخطأ إلى نفسه في الحال، بل يكون الفايدة ما ذكرناها.

ووجه آخر: وهو إنا قد بينا في قصة آدم عليه السلام لما تأولنا قوله تعالى: (ربنا ظلمنا أنفسنا) أن المراد بذلك أنا نقصناها الثواب وبخسناها حظها منه، لأن الظلم في أصل اللغة هو النقص والثلم، ومن ترك المندوب إليه. وهو لو فعله لاستحق الثواب، يجوز أن يقال إنه ظلم نفسه من حيث نقصها ذلك الثواب، وليس يمتنع أن يكون يونس عليه السلام أراد هذا المعنى لأنه لا محالة قد ترك كثيرا من المندوب، فإن استيفاء جميع الندب يتعذر، وهذا أولي مما ذكره من جوز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام، لأنهم يدعون أن خروجه كان بغير إذن من الله تعالى له. فكان قبيحا صغيرا، وليس ذلك بواجب على ما ظنوه، لأن ظاهر القرآن لا يقتضيه. وإنما أوقعهم في هذه الشبهة قوله (إني كنت من الظالمين). وقد بينا وجه ذلك وأنه ليس بواجب أن يكون خبرا عن المعصية، وليس لهم أن يقولوا كيف يسمى من ترك النفل بأنه ظالم؟ وذلك أنا قد بينا وجه هذه التسمية في اللغة وإن كان

الصفحة 144
إطلاق اللفظة في العرف لا يقتضيه. وعلى من سأل عن ذلك مثله إذا قيل له كيف يسمي كل من قبل معصية بأنه ظالم؟ وإنما الظلم المعروف هو الضرر المحض الموصل إلى الغير؟ فإذا قالوا إن في المعصية معنى الظلم وإن لم يكن ضررا يوصل إلى الغير من حيث نقصت ثواب فاعلها.

قلنا: وهذا المعنى يصح في الندب، على أن يجري ما يستحق من الثواب مجرى المستحق، وبعد فإن أبا علي الجبائي وكل من وافقه في الامتناع من القول بالموازنة في الاحباط لا يمكنه أن يجيب بهذا الجواب، فعلى أي وجه يا ليت شعري يجعل معصية يونس (ع) ظلما. وليس فيها من معنى الظلم شئ.

وأما قوله تعالى: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت) (1) فليس على ما ظنه الجهال من أنه (ع) ثقل عليه أعباء النبوة لضيق خلقه. فقذفها، وإنما الصحيح أن يونس لم يقو على الصبر على تلك المحنة التي ابتلاه الله تعالى بها وعرضه لنزولها به لغاية الثواب فشكى إلى الله تعالى منها وسأله الفرج والخلاص، ولو صبر لكان أفضل. فأراد الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله أفضل المنازل وأعلاها.

____________

(1) القلم 48.


الصفحة 145

 

عيسى عليه السلام

 

تنـزيه عيسى (ع) عن ادعائه الألوهية:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) (1) وليس يخلو من أن يكون عيسى عليه السلام ممن قال ذلك، أو يجوز أن يقوله. وهذا خلاف ما تذهبون إليه في الأنبياء عليهم السلام. أو يكون ممن لم يقل ذلك ولا يجوز أن يقوله فلا معنى لاستفهامه تعالى منه وتقريره، ثم أي معنى في قوله ولا أعلم ما في نفسك؟ وهذه اللفظة لا تكاد تستعمل في الله تعالى.

(الجواب): قلنا: إن قوله تعالى (أأنت قلت للناس) ليس باستفهام على الحقيقة وإن كان خارجا مخرج الاستفهام، والمراد به تقريع من ادعى ذلك عليه من النصارى وتوبيخهم وتأنيبهم وتكذيبهم، وهذا يجري مجرى قول أحدنا لغيره أفعلت كذا وكذا؟ وهو يعلم أنه لم يفعله ويكون مراده تقريع من ادعى ذلك عليه، وليقع الإنكار والجحود ممن خوطب بذلك فيبكت من ادعاه عليه.

____________

(1) المائدة 116.


الصفحة 146
وفيه وجه آخر: وهو أنه تعالى. أراد بهذا القول تعريف عيسى عليه السلام أن قوما قد اعتقدوا فيه وفي أمه أنهما إلهان، لأنه ممكن أن يكون عيسى (ع) لم يعرف ذلك إلا في تلك الحال. ونظيره في التعارف أن يرسل الرجل رسولا إلى قوم فيبلغ الرسول رسالته ويفارق القوم فيخالفونه بعده ويبدلون ما أتى به وهو لا يعلم، ويعلم المرسل له ذلك، فإذا أحب أن يعلمه مخالفة القوم له جاز أن يقول له أأنت أمرتهم بكذا وكذا على سبيل الإخبار له بما صنعوا.

 

بيان معنى النفس في اللغة:

فأما قوله (ع): تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، فإن لفظة النفس تنقسم في اللغة إلى معان مختلفة.

فالنفس نفس الانسان أو غيره من الحيوان، وهي التي إذا فقدها خرج عن كونه حياء. ومنه قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) (1) والنفس أيضا ذات الشئ الذي يخبر عنه كقولهم: فعل ذلك فلان نفسه، إذا تولى فعله. وأعطى كذا وكذا بنفسه. والنفس أيضا الآنفة، كقولهم: ليس لفلان نفس، أي لا أنفة له. والنفس أيضا الإرادة، يقولون نفس فلان في كذا وكذا أي إرادته.

قال الشاعر:


فنفسان نفس قالت ائت ابن بجدل تجد فرجا من كل غم تهابها
ونفس تقول اجهد بحال ولا تكن كخاضبة لم يغن شيئا خضابها

ومنه أن رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد لم أحجج قط إلا ولي نفسان،

____________

(1) آل عمران 185 والأنبياء 35 والعنكبوت 57.


الصفحة 147
فنفس تقول لي أحجج، ونفس تقول لي تزوج. فقال الحسن: إنما النفس واحدة، ولكن هم يقول أحجج، وهم يقول لك تزوج وأمره بالحج.

وقال الممزق العبدي:


ألا من لعين قد نآها حميمها وأرقها بعد المنام همومها
فباتت له نفسان شتى همومها فنفس تعزيها ونفس تلومها

والنفس أيضا العين التي تصيب الانسان، يقال أصابت فلانا نفس أي عين. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يرقي فيقول: " بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء هو فيك من عين عائن ونفس نافس وحسد حاسد ".

وقال ابن الأعرابي: النفوس التي تصيب الناس بالنفس. وذكر رجلا فقال: كان والله حسودا نفوسا كذوبا.

وقال عبد الله بن قيس في الرقيات:


يتقي أهلها النفوس عليها فعلى نحرها الرقي والتميم

والنفس أيضا من الدباغ مقدار الدبغة، يقال أعطني نفسا من الدباغ أي قدر ما أدبغ به مرة.

والنفس أيضا الغيب، يقول القائل: إني لا أعلم نفس فلان، أي غيبه. وهذا هو تأويل قوله: (وتعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك). أي تعلم غيبي وما عندي، ولا أعلم غيبك وما عندك.

وقيل إن النفس أيضا العقوبة، من قولهم: أحذرك نفسي أي عقوبتي.

وبعض المفسرين حمل قوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه) على هذا المعنى. كأنه قال: يحذركم الله عقوبته. روي ذلك عن ابن عباس والحسن. وآخرون قالوا: معنى الآية ويحذركم الله إياه.