عقائد الشيعة الإمامية \ الشريف المرتضى

ترجمة حياة الشريف المرتضى قدس سره

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد خاتم المرسلين وعلى الأئمة المعصومين، وبارك على آله ومن تبعهم على دينه إلى يوم الدين.

وأما بعد..

فإن الله أنعم على ذرية آدم بالبصيرة يهتدون بها إلى الحق لمن أراده، وهيأ لهم أسباب الهداية بعد كل ميل عنها، فبعث فيهم رسله أنوارا تسطع في سمائهم كلما حلت بهم ظلمة، وبث بينهم رسالاته سلسبيلا دائما كلما أصابهم قحط من العلم ينهلون منها ما شاؤوا بركة ورحمة ومغفرة منه إنه هو الغفور الرحيم. ثم ختم ذلك بخاتم رسله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبكتابه الكريم ليتم به نعمته على خلقه، وجعل فيهم ذرية محمد آل بيته المعصومين مصابيح الهدى ومفاتيح الخلاص يهدون بدين جدهم من ضل، ويقيلون بسنته من عثر أو زل، واختار بفضل حكمته ورعايته ممن سار على دربهم من العلماء والمؤمنين نخبة صالحة تتواصل باستمرار من السلف إلى الخلف، تنفض غبار التآمر عن هذا الدين الحنيف ليظل مصانا مشرقا إلى يوم القيامة بإذنه تعالى إنه هو السميع المجيب.

من هنا كانت الحاجة ملحة أن نلجأ دائما إلى المعين الذي لا ينضب

لنرفد منه سواقينا الجافة، أعني إلى صدر الاسلام وعصور نهضته، وما نحياه اليوم ومنذ مئات السنين من ظلمات دامسة أريد لديننا فيها الهلاك والدثور.

فبالرغم من الاعتداءات السافرة على تراثنا وخزائن علومنا وتعمد إحراقها وإغراقها من جحافل الغزاة وتتار الماضي والحاضر، إلا أنه يظل سناها وهاجا يبهر الأبصار والألباب.

ويحضرني هنا هذا البيت الذي يقول:


قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم


فإنكار البعض لتاريخنا لا يعني طمسه وزواله.

فكلما توغلنا في الماضي استوقفتنا أطواد شامخة لعلماء ومفكرين أجلاء حفروا في الذاكرة أسطرا لا يمكن أن تمحى. فكانت معلقات ذهبية تباهت بها أجيالنا وتوارثتها عبر العصور حتى يومنا هذا.

ولو أردنا أن نسترسل في تعداد كنوزنا تلك لما وسعنا ذلك، لما تحويه من قلائد نفيسة. وحسبنا أن نختار منها علما عالما أديبا شاعرا يغني بمفرده فقر مكتبات عصرنا الحاضر، ويزين صدرها فيكون بمثابة واسطة العقد لها، عنيت به علم الهدى ذي المجدين الشريف المرتضى علي بن الحسين.

لماذا؟ وكيف؟ نترك للقلم والقرطاس مجال التعريف به.

اسمه ونسبه: -

هو السيد الشريف أبو القاسم علي بن طاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. لقب بالمرتضى ذي المجدين

علم الهدى. كان أوحد أهل زمانه علما وكلاما وحديثا وشعرا فكانت بذلك مثالا للثقافة الكاملة.

أما والده فيكنى بأبي أحمد ويلقب ب " الطاهر، الأجل، ذو المناقب، الأوحد ". كان نقيب الطالبيين وعالمهم وزعيمهم، جمع إلى رياسة الدين زعامة الدنيا لعلو همته وسماحة نفسه وعظيم هيبته وجليل بركته. وكان قوي المنة شديد العصبة يتلاعب بالدول، ويتجرأ على الأمور.

وأما والدته فهي فاطمة بنت الحسن الملقب بالناصر الصغير نقيب العلويين في بغداد وعالمهم وزاهدهم وشاعرهم.

وقد ورد في كتاب بحر العلوم حول نسب الشريف المرتضى ما يلي:

" أما النسب فهو أقصر الشرفاء نسبا، وأعلاهم حسبا، وأكرمهم أما وأبا، وبينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام عشر وسائط من جهة الأم والأب معا، وبينه وبين الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام خمسة آباء كرام ".

ولادته ووفاته:

ولد السيف الشريف المرتضى في رجب سنة 355 هـ - 966 م في بغداد، وتوفي بها في الخامس والعشرين من ربيع الأول من سنة 436 هـ - 1044 م، وسنه يومئذ ثمانون سنة وثمانية أشهر، ودفن في داره أولا ثم نقل إلى جوار جده الحسين عليه السلام، حيث دفن في مشهده المقدس مع أبيه وأخيه وقبورهم ظاهرة مشهورة (1).

سماته الخلقية وصفاته الخلقية:

كان الشريف المرتضى رحمه الله ربع القامة نحيف الجسم أبيض اللون

____________

(1) جاء ذلك في ترجمة في كتاب رسائل الشريف المرتضى المجموعة الأولى - مطبعة سيد الشهداء - قم 1405 هـ في الصفحة 39.

حسن الصورة. اشتهر بالبذل والسخاء والاغضاء عن الحساد والأعداء، بالرغم مما وصمه به هؤلاء من البخل وقلة الإنفاق. وخير دليل على سخائه وبذله ما تعهد به مدرسته العلمية وتلامذته من إنفاق وبذل.

وله في ذم الحرص والطمع قصائد ومقطوعات في ديوانه تذكر منها هذه الأبيات:


لا در در الحرص والطمع

ومذلة تأتيك من نجع

وإذا انتفعت بما ذللت به

فلأنت حقا غير منتفع

ومصارع الأحياء كلهم

في الدهر بين الري والشبع

وإذا علمت بفرقتي جدتي

فعلام فيما فاتني جزعي


وكان رحمه الله ميالا إلى الزهد في الدنيا راغبا عنها ذاما لها، داعيا إلى الاعتبار فيها، سالكا سبيل أجداده الكرام، والصحابة العظام، من جعلها مجازا للآخرة، ومزادا لدار القرار.

ويختصر ذلك بهذه الأبيات من ديوانه:


لا تقربن عضيهة

إن العضائه مخزيات

واجعل صلاحك سرمدا

فالباقيات الصالحات

في هذه الدنيا ومن

فيها لنا أبدا عظات

إما صروف مقبلا

ت أو صروف مدبرات

والذل موت للفتى

والعز في الدنيا حياة

والذخر في الدارين إما

طاعة أو مأثرات


إلا أنه مع زهده في الدنيا وتقشفه فيها كان ذا مقام سياسي في الدولة خطير، وذلك بفضل ما أوتي من أصالة الرأي ووقارة العلم والمال، مع عز العشيرة وكثرة الرجال.

وكان رحمه الله مشغوفا بالعلم منصرفا إليه بين دراسة وتدريس، محبا

لتلامذته وملازميه. وقد اتخذ من داره الواسعة مدرسة عظيمة تضم طلاب الفقه والكلام والتفسير واللغة والشعر والعلوم كالفلك والحساب وغيره، حتى سميت دار العلم، وكان له فيها مجلس للمناظرات.

والملفت للنظر حسب ما روى المحققون أن مدرسته كانت جامعة إنسانية، اجتمع فيها كثير من طلاب العلم من مختلف المذاهب والملل دون تفريق بين ملة وملة ومذهب ومذهب.

وهذا يدل على رحابة صدره وسعة أفقه وعمق نظرته الانسانية وترفعه عن العصبية والطائفية والمذهبية التي كان يعتبرها نابعة من الجهل وضيق الأفق.

كما أنه - قدس الله سره - شغف بجمع الكتب وولع باقتنائها، ويكفي ما ذكر أن خزانته ضمت ثمانين ألف مجلد من مصنفاته ومحفوظاته ومقروءاته على ما حصره وأحصاه صديقه وتلميذه أبو القاسم التنوخي.

عصره ومعاصروه وأصحابه:

عاش الشريف المرتضى في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجريين وهي فترة انكماش الدولة العباسية وضعفها ووهنها أيام سيطرة أمراء الإقليم على حكم أقاليمهم وتولي بني بويه شؤون السلطة في بغداد.

وكان له بفضل ما أوتي من شرف العلم والنسب وما تحلى به من غزارة العلم وقوة الشخصية وعزة النفس ووفارة المال وجميل الخصال وسمو الرتبة وجليل المكانة أصدقاء كثر جلهم من أهل العلم والأدب والفضل والشرف، ويكفي أن نذكر بعض أساتذته وتلامذته ممن كانت لهم المراكز والرتب العلمية والدينية والدنيوية، إضافة إلى صلاته الوثيقة بالخلفاء والملوك والوزراء والأمراء والقادة، لنتبين المكانة العالية التي كان يتمتع بها رحمه الله. ونذكر على سبيل المثال:

من أساتذته ومشايخه:

- الشيخ المفيد العالم المتكلم المشهور، اشتهر بكثرة علمه. وهو محمد بن محمد بن عبد السلام العكبري البغدادي المكنى بأبي عبد الله وابن المعلم.

- ابن نباتة: الشاعر المشهور وهو أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد بن نباتة السعدي.

- المرزباني: وهو أبو عبد الله محمد بن عمران بن موسى بن عبيد الله المعروف بالمرزباني. كان راوية للأخبار والآداب والشعر.

- ابن جنيقا: وهو أبو القاسم بن عبد الله بن عثمان بن يحيى الدقاق المعروف بابن جنيقا. كان قاضيا محدثا ثقة مأمونا حسن الخلق.

- أبو عبد الله القمي: وهو الحسين بن علي بن الحسين بن بابويه، أخو الشيخ الصدوق، كان جليل القدر عظيم الشأن في الحديث. وقد وثقه أصحاب التراجم، وأخباره مشهورة في كتبهم.

من تلامذته:

- الطوسي: وهو أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، الفقيه الأصولي والمحدث الشهير.

- أبو يعلى الديلمي " سالار ": وهو محمد بن حمزة أو ابن عبد العزيز الطبرستاني. وكان ينوب عن أستاذه المرتضى في التدريس، وهو فقيه متكلم.

- أبو الصلاح الحلبي: وهو الشيخ تقي الدين بن النجم الحلبي خليفة المرتضى في البلاد الحلبية ومن كبار علماء الإمامية.

- ابن البراج: وهو أبو القاسم القاضي السعيد عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج.

- أبو الفتح الكراجكي: وهو الشيخ الإمام العلامة أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي، عالم، فاضل، متكلم، فقيه، محدث، ثقة جليل القدر.

- عماد الدين ذو الفقار: وهو السيد الإمام عماد الدين ذو الفقار محمد بن معبد بن الحسن بن أبي جعفر الملقب بحميدان، أمير اليمامة بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن يوسف بن الأخيضر بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. كان فقيها عالما متكلما ورعا.

- الدوريستي: هو أبو عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباسي الرازي الدوريستي. من أكابر علماء الإمامية اشتهر في جميع الفنون.

من الخلفاء:

الطائع لأمر الله، والقادر، وابنه القائم بأمر الله وأبو العباس محمد بن القائم بأمر الله.

من الملوك:

بهاء الدولة البويهي وأبناؤه شرف الدولة، وسلطان الدولة، وركن الدين جلال الدولة، وأبو كاليجار المرزبان.

من الوزراء:

أبو غالب محمد بن خلف، وأبو علي الرخجي: وأبو علي الحسن بن حمد، وأبو سعيد بن عبد الرحيم، وأبو الفتح، وأبو الفرج محمد بن

جعفر بن فسانجس، وأبو طالب محمد بن أيوب بن سليمان البغدادي، وأبو منصور بهرام بن مافنة.

من النقباء:

والده الشريف أبو أحمد الموسوي، وخاله الشريف أحمد بن الحسن الناصر، وأخوه الشريف أبو الحسن محمد الرضي، والشريف أبو علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، وأبو الحسن الزينبي، وأبو الحسين بن الشبيه العلوي.

من الأمراء:

أبو الغنائم محمد بن مزيد، وأبو علي أستاذ هرمز، وأبو منصور بويه بن بهاء الدولة، وأبو شجاع بكران بن بلفوارس، وعنبر الملكي، وعقيل غريب بن مقفى.

من العلماء والقضاة والأدباء:

الشيخ أبو الحسن عبد الواحد بن عبد العزيز الشاهد، وسعد الأئمة أبو القاسم وابنه معتمد الحضرة أبو محمد، وأبو الحسين لبن الحاجب، وأبو إسحاق الصابي، وابن شجاع الصوفي، وأبو الحسين الأقساسي العلوي، وأبو الحسين البتي أحمد بن علي الكاتب، والقاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأبو الحسن السمسمي، والشاعر أبو بكر محمد بن عمر العنبري.

قيل في الشريف المرتضى الكثير في تعداد مزاياه وفضائله ومراتبه، ومما قيل فيه:

- في مرآة الجنان: " إمام أئمة العراق بين الاختلاف والافتراق، إليه فزع علماؤنا، وأخذ عنه عظماؤنا، صاحب مدارسها وجامع شاردها وآنسها،

ممن سارت أخباره وعرفت بها أشعاره، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره، وتواليفه في أصول الدين، وتصانيفه في أحكام المسلمين مما يشهد أنه فرع تلك الأصول، ومن أهل ذلك البيت الجليل ".

- في جامع الأصول قال ابن الأثير:

" إن مروج المائة الرابعة بقول فقهاء الشافعية هو أبو حامد أحمد بن طاهر الأسفرايني، وبقول علماء الحنفية أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي، وباعتقاد المالكية أبو محمد عبد الوهاب بن نصر، وبرواية الحنبلية هو أبو عبد الله الحسين ابن علي بن حامد، وبرواية علماء الإمامية هو الشريف المرتضى الموسوي ".

- في تتمة يتيمة الدهر قال الثعالبي:

" قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والكرم، وله شعر في نهاية الحسن ".

تصانيفه:

وقد بلغت تصانيفه ورسائله ومؤلفاته مئة وسبعة عشر مصنفا كما ورد في كتابه (رسائل الشريف المرتضى - المجموعة الأولى) المطبوعة في قم سنة 1405 هـ. لاحظ الصفحات من 33 إلى 39.

وهكذا نجد الشريف المرتضى طيب الله ثراه، قد مخر عباب هذا البحر الزاخر المتلاطم الأمواج الدينية منها والأدبية والفكرية والسياسية والاجتماعية، فكان كالمارد تحدى العواصف والأعاصير ممتشقا ذهنا وقادا وقلبا كبيرا، وعلما غزيزا، وعزيمة لا تلين.

فكان بحق علما في حياته، وقدوة بعد مماته.


ت في 20 / 9 / 1988 م
9 / صفر / 1409 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله ومستحقه، وصلى الله على خيرته من خلقه، على عباده محمد وآله الأبرار الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

سألت أحسن الله توفيقك، إملاء كتاب في تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام عن الذنوب والقبائح كلها، ما سمي منها كبيرة أو صغيرة والرد على من خالف في ذلك، على اختلافهم وضروب مذاهبهم وأنا أجيب إلى ما سألت على ضيق الوقت، وتشعب الفكر، وأبتدئ بذكر الخلاف في هذا الباب، ثم بالدلالة على مذهب الصحيح من جملة ما أذكره من المذاهب، ثم بتأويل ما تعلق به المخالف من الآيات والأخبار، التي اشتبه عليه وجهها، وظن أنها تقتضي وقوع كبيرة أو صغيرة من الأنبياء والأئمة عليهم السلام، ومن الله تعالى أستمد المعونة والتوفيق، وإياه أسأل التأييد والتسديد.

بيان الخلاف في نزاهة الأنبياء عن الذنوب:

اختلف الناس في الأنبياء عليهم السلام. فقالت الشيعة الإمامية، لا يجوز عليهم شئ من المعاصي والذنوب كبيرا كان أو صغيرا، لا قبل النبوة ولا بعدها، ويقولون في الأئمة مثل ذلك، وجوز أصحاب الحديث

والحشوية (1) على الأنبياء الكبائر قبل النبوة، ومنهم من جوزها في حال النبوة سوى الكذب فيما يتعلق بأداء الشريعة، ومنهم من جوزها كذلك في حال النبوة بشرط الاستسرار دون الاعلان، ومنهم من جوزها على الأحوال كلها، ومنعت المعتزلة (2). من وقوع الكبائر والصغائر المستخفة من الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة وفي حالها، وجوزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغاير، ثم اختلفوا فمنهم من جوز على النبي صلى الله عليه وسلم الإقدام على المعصية الصغيرة على سبيل العمد، ومنهم من منع من ذلك وقال إنهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوبا، بل على سبيل التأويل.

وحكي عن النظام (3)، وجعفر بن مبشر (4)، وجماعة ممن تبعهما، أن ذنوبهم لا تكون إلا على سبيل السهو والغفلة، وأنهم مؤاخذون بذلك، وإن كان موضوعا من أممهم لقوة معرفتهم وعلو مرتبتهم. وجوزوا كلهم ومن قدمنا ذكره من الحشوية وأصحاب الحديث على الأئمة الكبائر والصغائر، إلا أنهم يقولون إن بوقوع الكبيرة من الإمام تفسد إمامته ويجب عزله والاستبدال به.

____________

(1) الحشوية: هم المحدثون القائلون بنفي التأويل.

(2) المعتزلة: هم جماعة من المسلمين اعتمدوا على المنطق والقياس في مناقشة القضايا الكلامية.

أهم تعاليمهم:

1 - إن مقترف الكبيرة ليس بالكافر ولا بالمؤمن بل في منزلة بين المنزلتين.

2 - حرية الاختيار، أي أن الانسان ذو إرادة حرة وليس مجبرا على إتيان أعماله.

3 - خلق القرآن.

كما ناقشوا قضايا التوحيد والعدل والصفات الإلهية.

أشهر المعتزلة: واصل بن العطاء وعمرو بن عبيد، وهما انفصلا عن الحسن البصري.

(3) النظام: هو إبراهيم بن سيار (توفي 231 هـ) تلميذ أبي الهذيل العلاف. متكلم معتزلي، نشأ في البصرة وأقام في بغداد حيث توفي. وهو معلم الجاحظ. عارض آراء الفقهاء وانتقد الجبرية والمرجئة. وإليه تنسب النظامية، وهي إحدى فرق المعتزلة.

(4) جعفر بن مبشر: وهو أحد المعتزلة أيضا.

واعلم أن الخلاف بيننا وبين المعتزلة. في تجويزهم الصغاير على الأنبياء صلوات الله عليهم يكاد يسقط عند التحقيق لأنهم إنما يجوزون من الذنوب ما لا يستقر له استحقاق عقاب، وإنما يكون حظه نقص الثواب على اختلافهم أيضا في ذلك، لأن أبا علي الجبائي (1) يقول: إن الصغيرة يسقط عقابها بغير موازنة، فكأنهم معترفون بأنه لا يقع منهم ما يستحقون به الذم والعقاب. وهذه موافقة للشيعة في المعنى، لأن الشيعة إنما تنفي عن الأنبياء عليهم السلام جميع المعاصي من حيث كان كل شئ منها يستحق به فاعله الذم والعقاب، لأن الاحباط باطل عندهم، وإذا بطل الاحباط فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب، وإذا كان استحقاق الذم والعقاب منفيا عن الأنبياء عليهم السلام وجب أن تنتفي عنهم ساير الذنوب، ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلقا بالاحباط، فإذا بطل الاحباط فلا بد من الاتفاق على أن شيئا من المعاصي لا يقع من الأنبياء (ع) من حيث يلزمهم استحقاق الذم والعقاب، لكنه يجوز أن نتكلم في هذه المسألة على سبيل التقدير ونفرض أن الأمر في الصغائر والكبائر على ما تقوله المعتزلة، ومتى فرضنا ذلك لم نجوز أيضا عليهم الصغائر لما سنذكره ونبينه إنشاء الله تعالى.

تنزيه الأنبياء كافة عن الصغائر والكبائر:

(واعلم) أن جميع ما تنزه الأنبياء عليهم السلام عنه، ونمنع من وقوعه منهم من يستند إلى دلالة العلم المعجز إما بنفسه أو بواسطة، وتفسير هذه الجملة، أن العلم المعجز إذا كان واقعا موقع التصديق لمدعي النبوة والرسالة، وجاريا مجرى قوله تعالى له: صدقت في أنك رسولي ومؤد عني.

فلا بد من أن يكون هذا المعجز مانعا من كذبه على الله سبحانه في ما يؤديه عنه، لأنه تعالى لا يجوز أن يصدق الكذاب، لأن تصديق الكذاب قبيح،

____________

(1) الجبائي: هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي يكنى بأبي علي وهو من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، وإليه تنسب الطائفة الجبائية.

كما قلنا إن الكذب قبيح، فأما الكذب في غير ما يؤديه عن الله وسائر الكبائر فإنما دل المعجز على نفيها، من حيث كان دالا على وجوب اتباع الرسول وتصديقه فيما يؤديه، وقبوله منه، لأن الغرض في بعثة الأنبياء عليهم السلام، تصديقهم بالأعلام، المعجز هو أن يمتثل ما يأتون به، فما قدح في الامتثال والقبول وأثر فيهما، يجب أن يمنع المعجز منه، فلهذا قلنا: إنه يدل على نفي الكذب والكبائر عنهم في غير ما يؤدونه بواسطة، وفي الأول يدل بنفسه، فإن قيل: لم يبق إلا أن تدلوا على أن تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول والامتثال، قلنا: لا شبهة في أن من نجوز عليه كبائر المعاصي ولا نأمن منه الإقدام على الذنوب، لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئا من ذلك، وهذا هو معنى قولنا إن وقوع الكبائر منفر عن القبول، والمرجع فيما ينفر وما لا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه، وليس ذلك مما يستخرج بالأدلة والقياس، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه، وأنه من أقوى ما ينفر عن قبول القول، فإن حظ الكبائر في هذا الباب لم يزد على حد السخف والمجون والخلاعة ولم ينقص منه.

فإن قيل: أوليس قد جوز كثير من الناس على الأنبياء عليهم السلام الكبائر مع أنهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرايع، وهذا ينقض قولكم إن الكبائر منفرة.

قلنا: هذا سؤال من لا يفهم ما أوردناه، لأنا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق، وأن لا يقع امتثال الأمر جملة. وإنما أردنا ما فسرناه من أن سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه، وإنا مع تجويز الكبائر نكون أبعد من قبول القول. كما إنا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى قبول القول. وقد يقرب من الشئ ما لا يحصل الشئ عنده، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده، ألا ترى أن

عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجره وتبرمه منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول، ولا يخرجه من أن يكون منفرا، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ولا يخرجه من أن يكون مقربا، فدل على أن المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه، فإن قيل: فهذا يقتضي أن الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة، فمن أين أنها لا تقع منهم قبل النبوة، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم، ولم يبق وجه يقتضي التنفير.

قلنا: الطريقة في الأمرين واحدة، لأنا نعلم أن من يجوز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما، لا يكون حال الواعظ لنا الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارفا للكبائر مرتكبا لعظيم الذنوب، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا، وفي نفوسنا كحال من لم نعهد منه إلا النزاهة والطهارة، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور، ولهذا كثيرا ما يعير الناس. وخرج من استحقاق العقاب بها لا نسكن إلى قبول قوله، كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الأحوال ولا على وجه من الوجوه. ولهذا من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وإن وقعت التوبة منها، ويجعلون ذلك عيبا ونقصا وقادحا ومؤثرا. وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوة، وناقصا عن رتبته في باب التنفير، وجب أن لا يكون فيه شئ من التنفير، لأن الشيئين قد يشتركان في التنفير، وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه. ألا ترى أن كثير السخف والمجون والاستمرار عليهما والانهماك فيهما منفر لا محالة، وأن القليل من السخف الذي لا يقع إلا في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضا، وإن فارق الأول في قوة النفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب من الأول من أن يكون منفرا في نفسه.

فإن قيل: فمن أين قلتم إن الصغائر لا تجوز على الأنبياء في حال النبوة وقبلها؟

قلنا: الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمل، لأنا كما نعلم أن من يجوز كونه فاعلا لكبيرة متقدمة قد تاب منها واقلع عنها ولم يبق معه شئ من استحقاق عقابها وذمها، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك. وكذلك نعلم أن من يجوز عليه الصغائر من الأنبياء (ع) أن يكون مقدما على القبائح مرتكبا للمعاصي في حال نبوته أو قبلها، وإن وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوز عليه فعل شئ منها. فأما الاعتذار في تجويز الصغائر بأن العقاب والذم عنها ساقطان فليس بشئ، لأنه لا معتبر في باب التنفير بالذم والعقاب حتى يكون التنفير واقعا عليهما، ألا ترى أن كثيرا من المباحات منفر ولا ذم عليه ولا عقاب وكثيرا من الخلق والهيئات منفر وهو خارج عن باب الذم. على أن هذا القول يوجب على قائله تجويز الكبائر عليهم قبل البعثة، لأن التوبة والاقلاع قد أزالا الذم والعقاب اللذين يقف التنفير على هذا القول عليهما.

فإن قيل: كيف تنفر الصغاير وإنما حظها تقليل الثواب وتنقيصه؟ لأنها بكونها صغائر قد خرجت من اقتضاء الذم والعقاب، ومعلوم أن قلة الثواب غير منفرة. ألا ترون أن كثيرا من الأنبياء عليهم السلام قد يتركون كثيرا من النوافل مما لو فعلوه لاستحقوا كثيرا من الثواب، ولا يكون ذلك منفرا عنهم.

قلنا: إن الصغاير لم تكن منفرة من حيث قلة الثواب معها، بل إنما كانت كذلك من حيث كانت قبائح ومعاصي لله تعالى، وقد بينا أن الملجأ في باب المنفر إلى العادة والشاهد. وقد دللنا على أنهما يقتضيان بتنفير جميع الذنوب والقبائح على الوجه الذي بيناه.

وبعد: فإن الصغاير في هذا الباب بخلاف الامتناع من النوافل، لأنها تنقص ثوابا مستحقا ثابتا. وترك النوافل ليس كذلك. وفرق واضح في العادة بين الانحطاط عن رتبة ثبتت واستحقت، وبين قوتها. وإن لا تكون حاصلة جملة. ألا ترى أن من ولي ولاية جليلة وارتقى إلى رتبة عالية، يؤثر في حالة العزل عن تلك الولاية والهبوط عن تلك الرتبة، ولا يكون حاله هذه كحاله لو لم ينل تلك الولاية ولا ارتقى إلى تلك الرتبة. وهذا الكلام الذي ذكرناه يبطل قول من جوز على الأنبياء عليهم السلام الصغائر على اختلاف مذاهبهم في تجويز ذلك عليهم على سبيل العمد أو التأويل. إلا أن أبا علي الجبائي ومن وافقه في قوله إن ذنوب الأنبياء لا تكون عمدا، وإنما يقدمون عليها تأويلا، ويمثل لذلك بقصة آدم (ع)، فإنه نهي عن جنس الشجرة دون عينها فتأول فظن أن النهي يتناول العين، فلم يقدم على المعصية مع العلم بأنها معصية قد ناقض، فإنه إنما ذهب إلى هذا المذهب تنزيها للأنبياء عليهم السلام، واعتقادا أن تعمد المعصية مع العلم يوجب كبرها، فنزهه عن معصية وأضاف إليه معصيتين، لأنه مخطئ على مذهبه في الإعراض عن تأمل مقتضى النهي، وهل يتناول الجنس أو العين لأن ذلك واجب عليه ومخطئ في التناول من الشجرة، وهاتان معصيتان.

وبعد: فإن تعمد المعصية ليس يجب أن يكون مقتضيا لكبرها لا محالة، لأنها لا يمتنع أن يكون مع التعمد لصاحبها من الخوف والوجل ما يوجب صغرها، ويمنع من كبرها. وليس له أن يقول إن النظر فيما كلفه من الامتناع من الجنس أو النوع لم يكن واجبا عليه، لأن ذلك إن لم يكن واجبا عليه فكيف يكون مكلفا، وكيف يكون تناوله معصية؟ ولا بد على هذا من أن يخطر الله تعالى بباله ما يقتضي وجوب النظر في ذلك عليه. وإذا وجب عليه النظر ولم يفعله فقد تعمد الاخلال بالواجب، ولا فرق في باب التنفير بين الإقدام على المعصية والاخلال بالواجب. فإذا جاز عنده أن يتعمد الاخلال

بالواجب ولا يكون منه كبيرا، جاز أن يتعمد منه نفس التناول ولا يكون منه كبيرا.

فأما ما حكيناه عن النظام وجعفر بن مبشر ومن وافقهما، من أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام تقع منهم على سبيل السهو والغفلة، وأنهم مع ذلك مؤاخذون بها، فليس بشئ، لأن السهو يزيل التكليف ويخرج الفعل من أن يكون ذنبا مؤاخذا به، ولهذا لا يصح مؤاخذة المجنون والنائم. وحصول السهو في أنه مؤثر في ارتفاع التكليف بمنزلة فقد القدرة والآلات والأدلة، فلو جاز أن يخالف حال الأنبياء في صحة تكليفهم مع السهو، جاز أن يخالف حالهم لحال أممهم في جواز التكليف مع فقد سائر ما ذكرناه وهذا واضح، فأما الطريق الذي به يعلم أن الأئمة عليهم السلام لا يجوز عليهم الكبائر في حال الإمامة، فهو أن الإمام إنما احتيج إليه لجهة معلومة، وهي أن يكون المكلفون عند وجوده أبعد من فعل القبيح وأقرب من فعل الواجب على ما دللنا عليه في غير موضع، فلو جازت عليه الكبائر لكانت علة الحاجة إليه ثابتة.

فيه. وموجبة وجود إمام يكون إماما له، والكلام في إمامته كالكلام فيه، وهذا يؤدي إلى وجود ما لا نهاية له من الأئمة وهو باطل أو الانتهاء إلى إمام معصوم وهو المطلوب.

ومما يدل أيضا على أن الكبائر لا تجوز عليهم، أن قولهم قد ثبت أنه حجة في الشرع كقول الأنبياء (ع)، بل يجوز أن ينتهي الحال إلى أن الحق لا يعرف إلا من جهتهم، ولا يكون الطريق إليه إلا من أقوالهم على ما بيناه في مواضع كثيرة، وإذا ثبت هذا جملة جروا مجرى الأنبياء (ع) فيما يجوز عليهم وما لا يجوز، فإذا كنا قد بينا أن الكبائر والصغائر لا يجوزان على الأنبياء (ع) قبل النبوة ولا بعدها، لما في ذلك من التنفير عن قبول أقوالهم، ولما في تنزيههم عن ذلك من السكون إليهم، فكذلك يجب أن يكون الأئمة

عليهم السلام منزهين عن الكبائر والصغائر قبل الإمامة وبعدها، لأن الحال واحدة.

وإذ قد قدمنا ما أردنا تقديمه في هذا الباب فنحن نبتدئ بذكر الكلام على ما تعلقوا به من جواز الكبائر على الأنبياء (ع) من الكتاب.