موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي

 

في نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله

كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد - العلامة الحلي - ص 480-488

 

 

قال صاحب تجريد الاعتقاد: "وظهور معجزة القرآن وغيره مع اقتران دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله يدل على نبوته، والتحدي مع الامتناع وتوفر الدواعي يدل على الإعجاز، والمنقول معناه متواترا من المعجزات يعضده".

أقول: لما فرغ من البحث في النبوة مطلقا شرع في إثبات نبوة نبينا محمد عليه السلام، والدليل عليه أنه ظهرت المعجزة على يده وادعى النبوة فيكون صادقا، أما ظهور المعجزة على يده فلوجهين: الأول: أن القرآن معجز وقد ظهر على يده، أما إعجاز القرآن فلأنه تحدى به فصحاء العرب لقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)، والتحدي مع امتناعهم عن الإتيان بمثله مع توفر الدواعي عليه إظهارا لفضلهم وإبطالا لدعواه وسلامة من القتل يدل على عجزهم وعدم قدرتهم على المعارضة. وأما ظهوره على يده فبالتواتر.

الثاني: أنه نقل عنه معجزات كثيرة كنبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وآله حتى اكتفى الخلق الكثير من الماء القليل بعد رجوعه من غزاة تبوك.

وكعود ماء بئر الحديبية لما استقاه أصحابه بالكلية وتنشف البئر فدفع سهمه إلى البراء بن عازب فأمره بالنزول وغرزه في البئر فغرزه فكثر الماء في الحال حتى خيف على البراء بن عازب من الغرق.

ونقل عنه عليه السلام في بئر قوم شكوا إليه ذهاب مائها في الصيف فتفل فيها حتى انفجر الماء الزلال منها فبلغ أهل اليمامة ذلك فسألوا مسيلمة لما قل ماء بئرهم ذلك فتفل فيها فذهب الماء أجمع.

ولما نزل قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين قال لعلي عليه السلام: شق فخذ شاة وجئني بعس من لبن وادع لي من بني أبيك بني هاشم، ففعل علي عليه السلام ذلك ودعاهم وكانوا أربعين رجلا فأكلوا حتى شبعوا ما يري فيه إلا أثر أصابعهم وشربوا من العس حتى اكتفوا واللبن على حاله، فلما أراد أن يدعوهم إلى الاسلام قال أبو لهب: كاد أن يسحركم محمد، فقاموا قبل أن يدعوهم إلى الله تعالى، فقال

لعلي عليه السلام: افعل مثل ما فعلت، ففعل في اليوم الثاني كالأول فلما أراد أن يدعوهم عاد أبو لهب إلى كلامه، فقال لعلي عليه السلام: افعل مثل ما فعلت، ففعل مثله في اليوم الثالث فبايع عليا عليه السلام على الخلافة بعده ومتابعته.

وذبح له جابر بن عبد الله عناقا يوم الخندق وخبز له صاع شعير ثم دعاه عليه السلام فقال أنا وأصحابي، فقال: نعم، ثم جاء إلى امرأته وأخبرها بذلك فقالت له: أأنت قلت امض وأصحابك؟ فقال: لا بل هو لما قال أنا وأصحابي قلت نعم، فقالت: هو أعرف بما قال، فلما جاء عليه السلام قال: ما عندكم، قال جابر: ما عندنا إلا عناق في التنور وصاع من شعير خبزناه فقال له عليه السلام: أقعد أصحابي عشرة عشرة، ففعل فأكلوا كلهم.

وسبح الحصى في يده عليه السلام وشهد الذئب له بالرسالة: فإن أهبان بن أوس كان يرعى غنما له فجاء ذئب فأخذ شاة منها فسعى نحوه فقال له الذئب: أتعجب من أخذي شاة، هذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه، فجاء إلى النبي وأسلم وكان يدعي مكلم الذئب.

وتفل في عين علي عليه السلام لما رمدت فلم ترمد بعد ذلك أبدا، ودعا له بأن يصرف الله تعالى عنه الحر والبرد، فكان لباسه في الصيف والشتاء واحدا. وانشق له القمر. ودعا الشجرة فأجابته وجاءته تخد الأرض من غير جاذب ولا دافع ثم رجعت إلى مكانها. وكان يخطب عند الجذع فاتخذ له منبرا فانتقل إليه فحن الجذع إليه حنين الناقة إلى ولدها فالتزمه فسكن.

وأخبر بالغيوب في مواضع كثيرة كما أخبر بقتل الحسين عليه السلام وموضع الفتك به فقتل في ذلك الموضع. وأخبر بقتل ثابت بن قيس بن الشماس فقتل بعده عليه السلام.

وأخبر أصحابه بفتح مصر وأوصاهم بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما. وأخبرهم بادعاء مسيلمة النبوة باليمامة وادعاء العنسي النبوة بصنعاء وأنهما سيقتلان فقتل فيروز الديلمي العنسي قرب وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وقتل خالد بن الوليد مسيلمة.

وأخبر عليا عليه السلام بخبر ذي الثدية وسيأتي. ودعا على عتبة بن أبي لهب لما تلا عليه السلام والنجم فقال عتبة: كفرت برب النجم، بتسليط كلب الله عليه فخرج عتبة إلى الشام فخرج الأسد فارتعدت فرائصه فقال له أصحابه: من أي شئ ترتعد، فقال: إن محمدا دعا علي فوالله ما أظلت السماء على ذي لهجة أصدق من محمد فأحاط القوم بأنفسهم ومتاعهم عليه فجاء الأسد فلحس رؤوسهم واحدا واحدا حتى إنتهى إليه فضغمه ضغمة ففزع منه ومات. وأخبر بموت النجاشي وقتل زيد ابن حارثة بموته فأخبر عليه السلام بقتله في المدينة، وأن جعفرا أخذ الراية ثم قال: قتل جعفر، ثم توقف وقفة ثم قال: وأخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم قال: وقتل عبد الله ابن رواحة، وقام عليه السلام إلى بيت جعفر واستخرج ولده ودمعت عيناه ونعى جعفرا إلى أهله ثم ظهر الأمر كما أخبر عليه السلام. وقال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، فقتله أصحاب معاوية ولاشتهار هذا الخبر لم يتمكن معاوية من دفعه واحتال على العوام، فقال: قتله من جاء به، فعارضه ابن عباس وقال: لم يقتل الكفار إذن حمزة وإنما قتله رسول الله لأنه هو الذي جاء به إليهم حتى قتلوه. وقال لعلي عليه السلام: ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين، فالناكثون طلحة وزبير لأنهما بايعاه ونكثا، والقاسطون هم الظالمون وهم معاوية وأصحابه لأنهم ظلمة بغاة، والمارقون هم الخارجون عن الملة وهم الخوارج. وهذه المعجزات بعض ما نقل واقتصرنا على هذا القدر لكثرتها وبلوغ الغرض بهذه، وقد أوردنا معجزات أخرى منقولة في كتاب نهاية المرام.

 

قال: "وإعجاز القرآن قيل لفصاحته، وقيل لأسلوبه وفصاحته، وقيل للصرفة. والكل محتمل".

أقول: اختلف الناس هنا، فقال الجبائيان: إن سبب إعجاز القرآن فصاحته.

وقال الجويني: هو الفصاحة والأسلوب معا، وعنى بالأسلوب الفن والضرب.

وقال النظام والمرتضى: هو الصرفة، بمعنى أن الله تعالى صرف العرب ومنعهم عن المعارضة. واحتج الأولون بأن المنقول عن العرب أنهم كانوا يستعظمون فصاحته، ولهذا أراد النابغة الاسلام لما سمع القرآن وعرف فصاحته فرده أبو جهل وقال له: يحرم عليك الأطيبين، وأخبر الله تعالى عنهما بذلك بقوله: (انه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر) إلى آخر الآية، ولأن الصرفة لو كانت سببا في إعجازه لوجب أن يكون في غاية الركاكة، لأن الصرفة عن الركيك أبلغ في الإعجاز، والتالي باطل بالضرورة. واحتج السيد المرتضى بأن العرب كانوا قادرين على الألفاظ المفردة وعلى التركيب، وإنما منعوا عن الإتيان بمثله تعجيزا لهم عما كانوا قادرين عليه، وكل هذه الأقسام محتملة.

 

قال: "والنسخ تابع للمصالح".

أقول: هذا إشارة إلى الرد على اليهود حيث قالوا بدوام شرع موسى عليه السلام، قالوا: لأن النسخ باطل، إذ المنسوخ إن كان مصلحة قبح النهي عنه وإن كان مفسدة قبح الأمر به، وإذا بطل النسخ لزم القول بدوام شرع موسى عليه السلام. وتقرير الجواب أن نقول: الأحكام منوطة بالمصالح والمصالح تتغير بتغير الأوقات وتختلف باختلاف المكلفين فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به، ومفسدة لقوم في زمان آخر فينهى عنه.

 

قال: "وقد وقع حيث حرم على نوح بعض ما أحل لمن تقدمه وأوجب الختان بعد تأخيره وحرم الجمع بين الأختين وغير ذلك من الأحكام".

أقول: هذا تأكيد لأبطال قول اليهود المانعين من النسخ فإنه بين أولا جواز وقوعه، وهاهنا بين وقوعه في شرعهم وذلك في مواضع منها: أنه جاء في التوراة أن الله تعالى قال لآدم وحواء عليهما السلام: قد أبحت لكما كل ما دب على وجه الأرض فكانت له نفس حية، وورد فيها أنه قال لنوح عليه السلام: خذ معك من الحيوان الحلال كذا ومن الحيوان الحرام كذا فحرم على نوح عليه السلام بعض ما أباحه لآدم عليه السلام. ومنها:

أنه أباح نوحا عليه السلام تأخير الختان إلى وقت الكبر وحرمه على غيره من الأنبياء، وأباح إبراهيم عليه السلام تأخير ختان ولده إسماعيل عليه السلام إلى حال كبره وحرم على موسى عليه السلام تأخير الختان عن سبعة أيام. ومنها: أنه أباح آدم عليه السلام الجمع بين الأختين وحرمه على موسى عليه السلام.

 

قال: "وخبرهم عن موسى عليه السلام بالتأبيد مختلق ومع تسليمه لا يدل على المراد قطعا".

أقول: إن جماعة اليهود جوزوا وقوع النسخ عقلا ومنعوا من نسخ شريعة موسى عليه السلام وتمسكوا بما روي عن موسى عليه السلام أنه قال: تمسكوا بالسبت أبدا، والتأبيد يدل على الدوام ودوام الشرع بالسبت ينفي القول بنبوة محمد صلى الله عليه وآله، والجواب من وجوه: الأول: أن هذا الحديث مختلق ونسب إلى ابن الراوندي.

الثاني: لو سلمنا نقله لكن اليهود انقطع تواترهم لأن بخت نصر استأصلهم وأفناهم حتى لم يبق منهم من يوثق بنقله. الثالث: أن لفظة التأبيد لا تدل على الدوام قطعا فإنها قد وردت في التوراة لغير الدوام، كما في العبد أنه يستخدم ست سنين ثم يعرض عليه العتق في السابعة فإن أبى العتق ثقبت أذنه واستخدم أبدا، وفي موضع آخر يستخدم خمسين سنة. وأمروا في البقرة التي كلفوا بذبحها أن يكون لهم ذلك سنة أبدا ثم انقطع تعبدهم بها. وفي التوراة قربوا إلي كل يوم خروفين خروف غدوة وخروف عشية بين المغارب قربانا دائما لاحقا بكم وانقطع تعبدهم به، وإذا كان التأبيد في هذه الصور لا يدل على الدوام انتفت دلالته هنا قطعا، أقصى ما في الباب أنه يدل ظاهرا لكن ظواهر الألفاظ قد تترك لوجود الأدلة المعارضة لها.

 

قال: "والسمع دل على عموم نبوته صلى الله عليه وآله".

أقول: ذهب قوم من النصارى إلى أن محمدا صلى الله عليه وآله مبعوث إلى العرب خاصة، والسمع يكذب قولهم هذا قال الله تعالى: (لأنذركم ومن بلغ) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) وسورة الجن تدل على بعثه عليه السلام إليهم، وقال عليه السلام: (بعثت إلى الأسود والأحمر). لا يقال: كيف يصح إرساله إلى من لا يفهم خطابه وقد قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)؟ لأنا نقول: لا استبعاد في ذلك بأن يترجم خطابه لمن لا يفهم لغته مترجم، وليس في الآية أنه تعالى ما أرسل رسولا إلا إلى من يفهم لسانه وإنما أخبر بأنه ما أرسله إلا بلسان قومه.

وجوز قاضي القضاة في يأجوج ومأجوج احتمالين: أحدهما: أن لا يكونوا مكلفين أصلا وإن كانوا مفسدين في الأرض كالبهائم المفسدة في الأرض.

والثاني: أن يكونوا مكلفين وقد بلغتهم دعوته عليه السلام بأن يقربوا من الأمكنة التي يسمعون فيها كلام من هو وراء السد. وجوز بعض الناس أن يكون في بعض البقاع من لم تبلغه دعوته عليه السلام فلا يكون مكلفا بشريعته.

وعندي أن المراد بذلك إن كان عدم تكليفهم مطلقا سواء بلغتهم بعد ذلك الدعوة أم لا فهو باطل قطعا لما بينا من عموم نبوته عليه السلام، وإن كان المراد أنهم غير مكلفين ما داموا غير عالمين فإذا بلغتهم الدعوة صاروا مكلفين بها فهو حق.

 

قال: "وهو أفضل من الملائكة وكذا غيره من الأنبياء عليهم السلام لوجود المضاد للقوة العقلية وقهره على الانقياد عليها".

أقول: اختلف الناس هنا، فذهب أكثر المسلمين إلى أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة عليهم السلام. وذهب آخرون منهم وجماعة الأوائل إلى أن الملائكة أفضل، واستدل الأولون بوجوه ذكر المصنف رحمه الله منها وجها للاكتفاء به وهو أن الأنبياء قد وجد فيهم القوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الجسمانية كالخيالية والوهمية وغيرهما وأكثر أحكام هذه القوى تضاد حكم القوة العقلية وتمانعها حتى أن أكثر الناس يلتجئ إلى قوة الشهوة والغضب والوهم ويترك مقتضى القوة العقلية، والأنبياء عليهم السلام يقهرون قوى طبائعهم ويفعلون بحسب مقتضى قواهم العقلية ويعرضون عن القوى الشهوانية وغيرها من القوى الجسمانية فتكون عباداتهم وأفعالهم أشق من عبادات الملائكة حيث خلوا عن هذه القوى، وإذا كانت عباداتهم أشق كانوا أفضل لقوله عليه السلام: أفضل الأعمال أحمزها. وهاهنا وجوه أخرى من الطرفين ذكرناها في كتاب نهاية المرام.

 

العودة لصفحة العلامة الحلي