موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي

 

في الأعواض

كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد - العلامة الحلي - ص 452-461

 

 

قال: والعوض نفع مستحق خال عن تعظيم وإجلال.

أقول: لما ذكر حسن الألم المبتدأ مع تعقبه بالعوض الزائد وجب عليه البحث عن العوض وأحكامه وبدأ بتحديده، فالنفع جنس للمتفضل به وللمستحق وقيد المستحق فصل يميزه عن النفع المتفضل به وقيد الخلو عن التعظيم والاجلال يخرج به الثواب.

قال: ويستحق عليه تعالى بإنزال الآلام وتفويت المنافع لمصلحة الغير وإنزال الغموم سواء استندت إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن لا ما تستند إلى فعل العبد وأمر عباده بالمضار أو إباحته وتمكين غير العاقل.

أقول: هذه الوجوه التي يستحق بها العوض على الله تعالى: الأول: إنزال الآلام بالعبد كالمرض وغيره، وقد سبق بيان وجوب العوض به (1) من حيث اشتماله على الظلم لو لم يجب العوض.

الثاني: تفويت المنافع إذا كانت منه تعالى لمصلحة الغير، لأنه لا فرق بين تفويت المنافع وإنزال المضار، فلو أمات الله تعالى ابنا لزيد وكان في معلومه تعالى أنه لو عاش لانتفع به زيد لاستحق عليه تعالى العوض عما فاته من منافع ولده، ولو كان في معلومه تعالى عدم انتفاعه به لأنه يموت قبل الانتفاع به لم يستحق به عوضا لعدم تفويته المنفعة منه تعالى. وكذلك لو أهلك ماله استحق العوض بذلك سواء شعر بهلاك ماله أو لم يشعر، لأن تفويت المنفعة كإنزال الألم ولو آلمه ولم يشعر به لاستحق العوض، فكذا إذا فوت عليه منفعة لم يشعر بها، وعندي في هذا الوجه نظر.

الثالث: إنزال الغموم بأن يفعل الله تعالى أسباب الغم، لأن الغم يجري مجرى الضرر في العقل سواء كان الغم علما ضروريا بنزول مصيبة أو وصول ألم، أو كان ظنا بأن يغتم عند أمارة لوصول مضرة أو فوات منفعة، أو كان علما مكتسبا لأن الله

تعالى هو الناصب للدليل والباعث على النظر فيه وكذا هو الناصب لأمارة الظن فلما كان سبب الغم منه تعالى كان العوض عليه، وأما الغم الحاصل من العبد نفسه من غير سبب منه تعالى نحو أن يبحث العبد فيعتقد جهلا نزول ضرر به أو فوات منفعة فإنه لا عوض فيه عليه تعالى، ولو فعل به تعالى فعلا لو شعر به لاغتم نحو أن يهلك له مالا وهو لا يشعر به إلى أن يموت فإنه لا يستحق العوض عليه تعالى لأنه إذا لم يشعر به لم يغتم به.

الرابع: أمر الله تعالى عباده بإيلام الحيوان أو أباحه سواء كان الأمر للايجاب كالذبح في الهدي والكفارة والنذر أو للندب كالضحايا، فإن العوض في ذلك كله على الله تعالى لاستلزام الأمر والإباحة الحسن والألم أنما يحسن إذا اشتمل على المنافع العظيمة البالغة في العظم حدا يحسن الألم لأجله.

الخامس: تمكين غير العاقل مثل سباع الوحش وسباع الطير والهوام، وقد اختلف أهل العدل هنا على أربعة أقوال: فذهب بعضهم إلى أن العوض على الله تعالى مطلقا ويعزى هذا القول إلى أبي علي الجبائي. وقال آخرون: إن العوض على فاعل الألم وهو قول يحكي عن أبي علي أيضا (1). وقال آخرون: لا عوض هنا على الله تعالى ولا على الحيوان. وقال قاضي القضاة: إن كان الحيوان ملجأ إلى الإيلام كان العوض عليه تعالى وإن لم يكن ملجأ كان العوض على الحيوان نفسه.

احتج الأولون بأنه تعالى مكنه وجعل فيه ميلا شديدا إلى الإيلام مع إمكان عدم الميل ولم يجعل له عقلا يميز به حسن الألم من قبحه ولم يزجره بشئ من أسباب الزجر مع إمكان ذلك كله، فكان ذلك بمنزلة الإغراء فلولا تكفله تعالى بالعوض لقبح منه ذلك.

واحتج الآخرون بقوله عليه السلام: إن الله تعالى ينتصف للجماء من القرناء.

واحتج النافون للعوض بقوله عليه السلام: جرح العجماء جبار.

واحتج القاضي بأن التمكين لا يقتضي انتقال العوض من الفاعل إلى الممكن وإلا لوجب عوض القتل على صانع السيف بخلاف الإلجاء المقتضي لاستناد الفعل في الحقيقة إلى الملجئ، ولهذا يحسن ذمه دون الملجأ، وبأن العوض لو كان عليه تعالى لما حسن منعها عن الأكل.

والجواب عن الأول أنه لا دلالة في الحديث على أنه تعالى ينتصف للجماء بأن ينقل أعواض القرناء إليها وهو يصدق بتعويض الله تعالى إياها كما أن السيد إذا غرم ما أتلفه عبده يقال: قد أنصف المظلوم من عبده، مع أنه يحتمل المجاز بتشبيه الظالم لتمكنه من الظلم بالقرناء والمظلوم بالجماء لضعفه.

وعن الثاني أن المراد انتفاء القصاص.

وعن الثالث بالفرق، فإن القاتل ممنوع من القتل وعنده اعتقاد عقلي يمنعه عن الأقدام عليه، فلهذا لم نقل بوجوب العوض على صانع السيف بخلاف السبع.

وعن الرابع أنه قد يحسن المنع عن الأكل إذا (1) كان لذلك المنع وجه حسن، كما أنه يحسن منا منع الصبيان عن شرب الخمر ومنع المعاقب عن العقاب.

قال: بخلاف الاحراق (2) عند الألقاء في النار والقتل عند شهادة الزور.

أقول: إذا طرحنا صبيا في النار فاحترق فإن الفاعل للألم هو الله تعالى والعوض علينا نحن، لأن فعل الألم واجب في الحكمة من حيث إجراء العادة والله تعالى قد منعنا من طرحه ونهانا عنه، فصار الطارح كأنه الموصل إليه الألم فلهذا كان العوض علينا دونه تعالى. وكذلك إذا شهد عند الأمام شاهدا زور بالقتل فإن العوض على الشهود وإن كان الله تعالى قد أوجب القتل والأمام تولاه وليس

عليهما عوض لأنهما أوجبا بشهادتهما على الإمام إيصال الألم إليه من جهة الشرع فصار كأنهما فعلاه. (لا يقال) هذا يوجب العوض (1) عليه تعالى لأنه هو الموجب على الإمام قتله. (لأنا نقول) قبول الشاهدين عادة شرعية يجب إجراؤها على قانونها كالعادات الحسيات، فكما وجب العوض على الملقي للطفل في النار قضاء لحق العادة الحسية كذلك وجب العوض هنا على الشاهدين قضاء لحق العادة الشرعية، والمناط هو الحكمة المقتضية لاستمرار العادات.

قال: والانتصاف عليه تعالى واجب عقلا وسمعا.

أقول: اختلف أهل العدل في ذلك، فذهب قوم منهم إلى أن الانتصاف للمظلوم من الظالم واجب على الله تعالى عقلا لأنه هو المدبر لعباده فنظره كنظر الوالد لولده، فكما يجب على الوالد الانتصاف كذلك يجب عليه تعالى قياسا للغائب على الشاهد. وقال آخرون منهم: إنه يجب سمعا لأن الوالد يجب عليه تدبير أولاده وتأديبهم أما الانتصاف بأخذ الأرش من الظالم ودفعه إلى المظلوم فلا نسلم وجوبه عقلا بل يحسن منا تركهم إلى أن تكمل عقولهم لينتصف بعضهم من بعض، والمصنف رحمه الله اختار وجوبه عقلا وسمعا أما من حيث العقل فلأن ترك الانتصاف منه تعالى يستدعي ضياع حق المظلوم لأنه تعالى مكن الظالم وخلى بينه وبين المظلوم مع قدرته تعالى على منعه ولم يمكن المظلوم من الانتصاف، فلولا تكلفه تعالى بالانتصاف لضاع حق المظلوم وذلك قبيح عقلا. وأما من حيث السمع فلورود القرآن بأنه تعالى يقضي بين عباده ولوصف المسلمين له تعالى بأنه الطالب أي الذي يطلب حق الغير من الغير.

قال: فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم من دون عوض في الحال يوازي ظلمه.

أقول: هذا تفريع علي وجوب الانتصاف وهو أنه هل يجوز تمكين الله (1) تعالى من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي ظلمه فمنع منه المصنف رحمة الله وقد اختلف أهل العدل هنا، فقال أبو هاشم والكعبي: إنه يجوز، لكنهما اختلفا فقال الكعبي: يجوز أن يخرج من الدنيا ولا عوض له يوازي ظلمه، وقال: إن الله تعالى يتفضل عليه بالعوض المستحق عليه ويدفعه إلى المظلوم. وقال أبو هاشم: لا يجوز بل يجب التبقية لأن الانتصاف واجب والتفضل ليس بواجب فلا يجوز تعليق الواجب بالجائز. قال السيد المرتضى: إن التبقية تفضل أيضا فلا يجوز تعليق الانتصاف بها، فلهذا وجب العوض في الحال واختاره المصنف رحمه الله لما ذكرناه.

قال: فإن كان المظلوم من أهل الجنة فرق الله تعالى (2) أعواضه على الأوقات أو تفضل عليه بمثلها وإن كان من أهل العقاب أسقط بها جزءا من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف بأن يفرق الناقص على الأوقات.

أقول: لما بين وجوب الانتصاف ذكر كيفية إيصال العوض إلى مستحقه.

(واعلم) أن المستحق للعوض إما أن يكون مستحقا للجنة أو للنار فإن كان مستحقا للجنة فإن قلنا: إن العوض دائم فلا بحث، وإن قلنا: إنه منقطع توجه الإشكال بأن يقال: لو أوصل العوض إليه ثم انقطع عنه حصل له الألم بانقطاعه.

والجواب من وجهين: الأول: أنه يوصل إليه عوضه متفرقا على الأوقات بحيث لا يبين له انقطاعه فلا يحصل له الألم. الثاني: أن يتفضل الله تعالى عليه بعد انقطاعه بمثله دائما فلا يحصل الألم، وإن كان مستحقا للعقاب جعل الله تعالى عوضه جزءا من عقابه بمعنى أنه يسقط من عقابه بإزاء ما يستحقه من الأعواض،

إذ لا فرق في العقل بين إيصال النفع ودفع الضرر في الإيثار، فإذا خفف عقابه وكانت آلامه عظيمة علم أن آلامه بعد إسقاط ذلك القدر من العقاب أشد ولا يظهر له أنه كان في راحة، أو نقول: إنه تعالى ينقص من آلامه ما يستحقه من أعواضه متفرقا على الأوقات بحيث لا يظهر له الخفة من قبل.

قال: ولا يجب دوامه لحسن الزائد بما يختار معه الألم وإن كان منقطعا ولا يجب حصوله في الدنيا لاحتمال مصلحة التأخير، والألم على القطع ممنوع مع أنه غير محل النزاع.

أقول: لما ذكر وجوب العوض شرع في بيان أحكامه، وقد اختلف الشيخان هنا فقال أبو علي الجبائي: إنه يجب دوامه. وقال أبو هاشم: لا يجب، واختاره المصنف رحمه الله، والدليل عليه أن العوض أنما حسن لاشتماله على النفع الزائد على الألم أضعافا يختار معه المولم ألمه، ومثل هذا يتحقق في المنقطع فكان وجه الحسن فيه ثابتا فلا تجب إدامته.

وقد احتج أبو علي بوجهين أشار المصنف إلى الجواب عنهما: الأول: أنه لو كان العوض منقطعا لوجب إيصاله في الدنيا، لأن تأخير الواجب بعد وجوبه وانتفاء الموانع منع للواجب، وإنما قلنا بانتفاء الموانع لأن المانع هو الدوام مع انقطاع الحياة المانع من دوامه. (والجواب) لا نسلم أن المانع من تقدمه في الدنيا إنما هو انقطاع الحياة لجواز أن يكون في تأخيره مصلحة خفية.

الثاني: لو كان العوض منقطعا لزم دوامه والتالي لا يجامع المقدم، بيان الملازمة أنه بانقطاعه يتألم صاحب العوض والألم يستلزم العوض فيلزم من انقطاعه دوامه.

والجواب من وجهين: الأول: يجوز انقطاعه من غير أن يشعر صاحبه بانقطاعه إما لإيصاله إليه على التدريج في الأوقات بحيث لا يشعر بانتفائه لكثرة غيره من منافعه، أو بأن يجعله ساهيا ثم يقطعه فلا يتألم حينئذ. الثاني: أنه غير

محل النزاع لأن البحث في العوض المستحق على الألم هل يجب إدامته، وليس البحث في استلزام الألم الحاصل بالانقطاع لعوض آخر وهكذا دائما.

قال: ولا يجب إشعار صاحبه بإيصاله عوضا.

أقول: هذا حكم آخر للعوض يفارق به الثواب وهو أنه لا يجب إشعار مستحقه بتوفيته عوضا له بخلاف الثواب، إذ يجب في الثواب مقارنة التعظيم ولا فائدة فيه إلا مع العلم به، أما هنا فلأنه منافع وملاذ وقد ينتفع ويلتذ من لا يعلم ذلك، فما يجب إيصاله إلى المثاب في الآخرة من الأعواض يجب أن يكون عالما به من حيث إنه مثاب لا من حيث إنه معوض، وحينئذ أمكن أن يوفيه الله تعالى في الدنيا على بعض المعوضين غير المكلفين وأن ينتصف لبعضهم من بعض في الدنيا فلا تجب إعادتهم في الآخرة.

قال: ولا يتعين منافعه.

أقول: هذا حكم ثالث للعوض وهو أنه لا يتعين منافعه، بمعنى أنه لا يجب إيصاله في منفعة معينة دون أخرى بل يصلح توفيته بكل ما يحصل فيه شهوة المعوض، وهذا بخلاف الثواب لأنه يجب أن يكون من جنس ما ألفه المكلف من ملاذه كالأكل والشرب واللبس والمنكح لأنه رغب به في تحمل المشاق، بخلاف العوض فإنا قد بينا أنه يصح إيصاله إليه وإن لم يعلم أنه عوض عما وصل إليه من الألم فصح إيصاله إليه بكل منفعة.

قال: ولا يصح إسقاطه.

أقول: هذا حكم آخر للعوض وهو أنه لا يصح إسقاطه ولا هبته ممن وجب عليه في الدنيا ولا في الآخرة سواء كان العوض عليه تعالى أو علينا، هذا قول أبي هاشم وقاضي القضاة. وجزم أبو الحسين بصحة إسقاط العوض علينا إذا استحل الظالم من المظلوم وجعله في حل بخلاف العوض عليه تعالى فإنه لا يسقط لأن إسقاطه عنه تعالى عبث لعدم انتفاعه به.

واحتج القاضي بأن مستحق العوض لا يقدر على استيفائه ولا على المطالبة به. ولا يعرف مقداره ولا صفته فصار كالصبي المولى عليه لا يصح له إسقاط حقه عن غريمه.

والوجه عندي (1) جواز ذلك لأنه حقه وفي هبته نفع للموهوب، ويمكن نقل هذا الحق إليه فكان جائزا. والحمل على الصبي غير تام لأن الشرع منع الصبي من التصرف في ماله لمصلحة شرعية حتى أنا لولا الشرع لجوزنا من الصبي المميز إذا علم دينه، وأن هبته (2) إحسان إلى الغير وآثر هذا الإحسان لانتفاء الضرر عنه مع اشتماله على الاختيار في الهبة لأنه كالبالغ لكن الشرع فرق بينهما، وعلى هذا لو كان العوض مستحقا عليه تعالى أمكن هبته مستحقة لغيره من العباد لما ذكرنا من أنه حقه، وفي هبته انتفاع الموهوب وإمكان نقل هذا الحق، أما الثواب المستحق عليه تعالى فلا يصح منا هبته لغيرنا لأنه مستحق بالمدح فلا يصح نقله إلى من لا يستحقه.

قال: والعوض عليه تعالى يجب تزايده إلى حد الرضا عند كل عاقل وعلينا يجب مساواته.

أقول: هذا حكم آخر للعوض وهو أنه إما أن يكون علينا أو عليه تعالى، أما العوض الواجب عليه تعالى فإنه يجب أن يكون زائدا عن الألم الحاصل بفعله أو بأمره أو بإباحته أو بتمكينه لغير العاقل زيادة تنتهي إلى حد الرضا من كل عاقل بذلك العوض في مقابلة ذلك الألم لو فعل به، لأنه لولا ذلك لزم الظلم، أما مع مثل هذا العوض فإنه يصير كأنه لم يفعل، وأما العوض علينا فإنه يجب مساواته لما

فعله من الألم أو فوته من المنفعة، لأن الزائد على ما يستحق عليه من الضمان يكون ظلما، ولا يخرج ما فعلناه بالضمان عن كونه ظلما قبيحا فلا يلزم أن يبلغ الحد الذي شرطناه في الآلام الصادرة منه تعالى.

 

 

 

العودة لصفحة العلامة الحلي