موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي

 

في حسن التكليف وبيان ماهيته ووجه حسنه

كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد - العلامة الحلي - ص 437-444

 

 

قال صاحب تجريد الاعتقاد: "والتكليف حسن لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه".

أقول: التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقة، وحده إرادة من تجب طاعته

على جهة الابتداء ما فيه مشقة بشرط الإعلام ويدخل تحت واجب الطاعة الواجب تعالى والنبي عليه السلام والإمام والسيد والوالد والمنعم ويخرج البواقي.

وشرطنا الابتداء لأن إرادة هؤلاء أنما تكون تكليفا إذا لم يسبقه غيره إلى إرادة ما أراده، ولهذا لا يسمى الوالد مكلفا بأمر الصلاة ولده لسبق إرادة الله تعالى لها منه.

والمشقة لا بد من اعتبارها ليتحقق المحدود، إذ التكليف مأخوذ من الكلفة.

وشرطنا الإعلام لأن المكلف إذا لم يعلم إرادة المكلف بالفعل لم يكن مكلفا.

إذا عرفت هذا فنقول: التكليف حسن لأن الله تعالى فعله والله تعالى لا يفعل القبيح، ووجه حسنه اشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه وهي التعريض لمنافع عظيمة لا تحصل بدون التكليف، لأن التكليف إن لم يكن لغرض كان عبثا وهو محال، وإن كان لغرض فإن كان عائدا إليه تعالى لزم المحال، وإن كان إلى غيره فإن كان إلى غير المكلف كان قبيحا، وإن كان إلى المكلف فإن كان حصوله ممكنا بدون التكليف لزم العبث، وإن لم يمكن فإن كان لنفع انتقض بتكليف من علم الله كفره وإن كان للتعريض فهو المطلوب.

إذا عرفت هذا فنقول: الغرض من التكليف هو التعريض لمنفعة عظيمة لأنه تعريض للثواب، وللثواب منافع عظيمة خالصة دائمة واصلة مع التعظيم والمدح، ولا شك أن التعظيم أنما يحسن للمستحق له، ولهذا يقبح منا تعظيم الأطفال والأرذال كتعظيم العلماء، وإنما يستحق التعظيم بواسطة الأفعال الحسنة وهي الطاعات، ومعنى قولنا: إن التكليف تعريض للثواب، أن المكلف جعل المكلف على الصفات التي تمكنه الوصول إلى الثواب وبعثه على ما به يصل إليه وعلم أنه سيوصله إليه إذا فعل ما كلفه.

 

قال: "بخلاف الجرح ثم التداوي، والمعاوضات والشكر باطل".

أقول: هذه إيرادات على ما اختاره المصنف: الأول: أن التكليف للنفع يتنزل منزلة من جرح غيره ثم داراه طلبا للدواء وكما أن ذلك قبيح فكذا التكليف.

الثاني: أن التكليف طلبا للنفع يتنزل منزلة المعاوضات كالبيوع والإجارات وغيرها، ولا شك أن المعاوضات تفتقر إلى رضا المتعاوضين حتى أن من عاوض بغير إذن صاحبه فعل قبيحا والتكليف عندكم لا يشترط فيه رضا المكلف.

الثالث: لم لا يجوز أن يكون التكليف شكرا للنعم السابقة؟

والجواب عن الأول بالفرق من وجهين: أحدهما: أن الجرح مضرة والتكليف نفسه ليس بمضرة وإنما المشقة في الأفعال التي يتناولها التكليف. الثاني: أن الجرح والتداوي إنزال مضرة لا غرض فيه إلا التخلص من تلك المضرة بخلاف التكليف.

وعن الثاني أن المراضاة تعتبر في المعاوضات لاختلاف أغراض الناس في التعامل جنسا ووصفا، أما إذا لم يكن هناك معاوضة وبلغ النفع حدا يكون غاية ما يطلبه العقلاء لم يختلف العقلاء في اختيار المشقة بسببه حتى أن العقلاء يسفهون الممتنع منه.

وعن الثالث أن الشكر لا يشترط فيه المشقة، والله تعالى قادر على إزالة صفة المشقة عن هذه الأفعال، فلو كان التكليف شكرا لزم العبث في صفة المشقة ولأن طلب الفعل الشاق شكرا يخرج النعمة عن كونها نعمة.

قال: "ولأن النوع محتاج إلى التعاضد المستلزم للسنة النافع استعمالها في الرياضة وإدامة النظر في الأمور العالية، وتذكر الإنذارات المستلزمة لإقامة العدل مع زيادة الأجر والثواب".

أقول: لما ذكر المصنف رحمه الله حسن التكليف على رأي المتكلمين شرع في طريق الاسلاميين من الفلاسفة فبدأ بذكر الحاجة إلى التكليف، ثم ذكر منافعه الدنيوية والأخروية، وتحقيقه أن نقول: إن الله خلق الانسان مدنيا بالطبع لا كغيره من الحيوانات، لا يمكن أن تبقى أشخاصه ولا تحصل لهم كمالاتهم إلا بالتعاضد والتعاون، لأن الأغذية والملبوسات أمور صناعية يحتاج كل منهم إلى صاحبه في عمل يستعيضه عن عمله له حتى يتم كمال ما يحتاج إليه واجتماعهم مع تباين شهواتهم وتغاير أمزجتهم واختلاف قواهم المقتضية للأفعال الصادرة عنهم مظنة التنازع والفساد ووقوع الفتن، فوجب وضع قانون وسنة عادلة يتعادلون بها فيما بينهم، ثم تلك السنة لو استند وضعها إليهم لزم المحذور فوجب استنادها إلى شخص متميز عنهم بكمال قواه واستحقاقه للانقياد إليه والطاعة له، وذلك أنما يكون بمعجزات تدل على أنها من عند الله تعالى، ثم من المعلوم تفاوت أشخاص الناس في قبول الخير والشر والرذائل والنقصان والفضائل بحسب اختلاف أمزجتهم وهيئات نفوسهم، فوجب أن يكون هذا الشارع مؤيدا لا يعجز عن أحكام شريعته في جمهور الناس، بعضهم بالبرهان وبعضهم بالوعظ وبعضهم بتأليف القلب وبعضهم بالزجر والقتال، ولما كان النبي لا يتفق في كل زمان وجب أن تبقى السنن المشروعة إلى وقت اضمحلالها واقتضاء الحكمة الإلهية تجديد غيرها، ففرضت عليهم العبادات المذكرة لصاحب الشرع وكررت عليهم حتى يستحكم التذكير بالتكرير، فيحصل لهم من تلقي الأوامر والنواهي الإلهية منافع ثلاث: إحداها: رياضة النفس باعتبار الإمساك عن الشهوات ومنعها عن القوة الغضبية المكدرة لصفاء القوة العقلية. الثانية: تعويد النفس النظر في الأمور الإلهية والمطالب العالية وأحوال المعاد والتفكر في ملكوت الله تعالى وكيفية صفاته وأسمائه وتحقق فيضان الموجودات عنه تعالى متسلسلة في الترتيب الذي اقتضته الحكمة الإلهية بالبراهين القطعية الخالية عن المغالطة.

والثالثة: تذكرهم ما وعدهم الشارع من الخير والشر الأخرويين بحيث ينحفظ النظام المقتضي للتعادل والترافد، ثم زاد الله تعالى لمستعملي الشرائع الأجر والثواب في الآخرة فهذه مصالح التكليف عند الأوائل.

 

قال: "وواجب لزجره عن القبائح".

أقول: هذا مذهب المعتزلة وأنكرت الأشاعرة ذلك، والدليل على وجوب التكليف أنه لو لم يكلف الله تعالى من كملت شرائط التكليف فيه لكان مغريا بالقبيح، والتالي باطل لقبحه فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن الله تعالى إذا أكمل عقل الانسان وجعل فيه ميلا إلى القبيح وشهوة له ونفورا عن الحسن فلو لم يقرر في عقله وجوب الواجب وقبح القبيح والمؤاخذة على الاخلال بالواجب وفعل القبيح لكان وقوع القبيح من المكلف دائما، وإلى هذا أشار بقوله: لزجره عن القبائح، أي لزجر التكليف عن القبائح.

 

قال: "وشرائط حسنه انتفاء المفسدة وتقدمه وإمكان متعلقه وثبوت صفة زائدة على حسنه وعلم المكلف بصفات الفعل وقدر المستحق وقدرته عليه وامتناع القبيح عليه وقدرة المكلف على الفعل وعلمه به أو إمكانه وإمكان الآلة".

أقول: لما ذكر أن التكليف حسن شرع في بيان ما يشترط في حسن التكليف، وقد ذكر أمورا لا يحسن التكليف بدونها منها ما يرجع إلى نفس التكليف، ومنها ما يرجع إلى متعلق التكليف أعني الفعل والمكلف والمكلف.

أما ما يرجع إلى التكليف فأمران: أحدهما: انتفاء المفسدة فيه بأن لا يكون مفسدة لنفس المكلف به في فعل آخر داخل في تكليفه أو مفسدة لمكلف آخر.

والثاني: أن يكون متقدما على الفعل قدرا يتمكن المكلف فيه من الاستدلال به فيفعل الفعل في الوقت الذي يجب إيقاعه فيه.

وأما ما يرجع إلى الفعل فأمران: أحدهما: إمكان وجوده. والثاني: كون الفعل قد اشتمل على صفة زائدة على حسنه بأن يكون واجبا أو مندوبا، وإن كان التكليف ترك فعل فإما أن يكون الفعل قبيحا أو يكون الإخلال به أولى من فعله.

وأما ما يرجع إلى المكلف فأن يكون عالما بصفات الفعل لئلا يكلف إيجاد القبيح وترك الواجب، وأن يكون عالما بقدر ما يستحق على الفعل من الثواب لئلا يخل ببعضه، وأن يكون القبيح ممتنعا عليه لئلا يخل بالواجب فلا يوصل الثواب إلى مستحقه.

وأما ما يرجع إلى المكلف فأن يكون قادرا على الفعل وأن يكون عالما به أو متمكنا من العلم به وإمكان الآلة أو حصولها إن كان الفعل ذا آلة.

 

قال: "ومتعلقه إما علم إما عقلي أو سمعي وإما ظن وإما عمل".

أقول: متعلق التكليف قد يكون علما وقد يكون عملا، أما العلم فقد يكون عقليا محضا نحو العلم بوجود الله تعالى وكونه قادرا عالما إلى غير ذلك من المسائل التي  يتوقف السمع عليها، وقد يكون سمعيا نحو التكاليف السمعية.

وأما الظن فنحو كثير من الأمور الشرعية كظن القبلة وغيرها. وأما العمل فقد يكون عقليا كرد الوديعة وشكر المنعم وبر الوالدين وقبح الظلم والكذب وحسن التفضل والعفو، وقد يكون سمعيا كالصلاة وغيرها، وهذه الأفعال تنقسم إلى الواجب والمندوب والحرام والمكروه.

 

قال: وهو منقطع للاجماع ولإيصال الثواب.

أقول: يريد أن التكليف منقطع، ويدل عليه الاجماع والمعقول، أما الاجماع فظاهر إذ الاتفاق بين المسلمين وغيرهم واقع على أن التكليف منقطع، وأما

المعقول فنقول: لو كان التكليف دائما لم يمكن إيصال الثواب إلى المطيع، والتالي باطل قطعا فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن التكليف مشروط بالمشقة، والثواب مشروط بخلوصه عن الأكدار والمشاق، والجمع بينهما محال ولا بد من تراخ بين التكليف والثواب وإلا لزم الالجاء.

 

قال: "وعلة حسنه عامة".

أقول: لما بين أولا حسن التكليف مطلقا شرع في بيان حسنه في حق الكافر، والدليل عليه أن العلة في حسن التكليف وهي التعريض للثواب عامة في حق المؤمن والكافر فكان التكليف حسنا فيهما وهو ظاهر.

 

قال: "وضرر الكافر من اختياره".

أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر، وتقريره أن تكليف الكافر ضرر محض لا مصلحة فيه فلا يكون حسنا، بيان المقدمة الأولى أن التكليف نوع مشقة في العاجل وحصل العقاب بتركه وهو ضرر عظيم فانتفت المصلحة فيه إذ لا ثواب له فكان قبيحا قطعا.

والجواب: أن التكليف نفسه ليس بضرر ولا يستلزم من حيث هو تكليف ضررا وإلا لكان تكليف المؤمن كذلك، بل الضرر أنما نشأ من سوء اختيار الكافر لنفسه.

 

قال: "وهو مفسدة لا من حيث التكليف بخلاف ما شرطناه".

أقول: الذي يخطر لنا في تحليل هذا الكلام أنه جواب عن سؤال مقدر أيضا وهو أن يقال: إنكم شرطتم في التكليف أن لا يكون مفسدة للمكلف ولا لغيره، وهذا التكليف يستلزم الضرر بالمكلف فيكون قبيحا، كما أن تكليف زيد لو استلزم مفسدة راجعة إلى عمرو كان قبيحا.

والجواب: أن الضرر هنا مفسدة لا من حيث التكليف بل من حيث اختيار المكلف على ما تقدم بخلاف ما شرطناه أعني انتفاء المفسدة اللازمة للتكليف.

 

قال: "والفائدة ثابتة".

أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر، وتقريره أن تكليف الكافر لا فائدة فيه، لأن الفائدة من التكليف هي الثواب ولا ثواب له فلا فائدة في تكليفه فكان عبثا.

والجواب لا نسلم أن الفائدة هي الثواب بل التعريض له وهو حاصل في حقه كالمؤمن.

 

 

 

 

العودة لصفحة العلامة الحلي