عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ المظفر

 

 

 

عقيدتنا في الجور والظلم

 

من أكبر ما كان يعظمه الأئمة عليهم السلام على الانسان من الذنوب العدوان على الغير والظلم للناس، وذلك اتباعا لما جاء في القرآن الكريم من تهويل الظلم واستنكاره، مثل قوله تعالى: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ".

وقد جاء في كلام أمير المؤمنين عليه السلام ما يبلغ الغاية في بشاعة الظلم والتنفير منه، كقوله وهو الصادق المصدق من كلامه في نهج البلاغة برقم 219: "والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت".

وهذا غاية ما يمكن أن يتصوره الانسان في التعفف عن الظلم والحذر من الجور واستنكار عمله. أنه لا يظلم نملة في قشرة شعيرة وإن أعطي الأقاليم السبعة.

فكيف حال من يلغ في دماء المسلمين وينهب أموال الناس ويستهين في أعراضهم وكراماتهم؟ كيف يكون قياسه إلى فعل أمير المؤمنين؟ وكيف تكون منزلته من فقهه صلوات الله عليه؟ إن هذا هو الأدب الإلهي الرفيع الذي يتطلبه الدين من البشر.

 نعم! إن الظلم من أعظم ما حرم الله تعالى، فلذا أخذ من أحاديث آل البيت وأدعيتهم المقام الأول في ذمة وتنفير أتباعهم عنه. وهذه سياستهم عليهم السلام، وعليها سلوكهم حتى مع من يعتدى عليهم ويجترئ على مقامهم.

وقصة الإمام الحسن عليه السلام معروفة في حلمه عن الشامي الذي اجترأ عليه وشتمه، فلاطفه الإمام وعطف عليه، حتى أشعره بسوء فعلته.

وقد قرأت آنفا في دعاء سيد الساجدين من الأدب الرفيع في العفو عن المعتدين وطلب المغفرة لهم. وهو غاية ما يبلغه السمو النفسي والانسانية الكاملة، وإن كان الاعتداء على الظالم بمثل ما اعتدى جائزا في الشريعة وكذا الدعاء عليه جائز مباح، ولكن الجواز شيء، والعفو الذي هو من مكارم الأخلاق شئ آخر، بل عند الأئمة أن المبالغة في الدعاء على الظالم قد تعد ظلما، قال الصادق عليه السلام "إن العبد ليكون مظلوما فما يزال يدعو حتى يكون ظالما" أي حتى يكون ظالما في دعائه على الظالم بسبب كثرة تكراره.

يا سبحان الله! أيكون الدعاء على الظالم إذا تجاوز الحد ظلما؟
إذن ما حال من يبتدئ بالظلم والجور، ويعتدي على الناس، أو ينهش أعراضهم، أو ينهب أموالهم أو يشي عليهم عند الظالمين، أو يخدعهم فيورطهم في المهلكات أو ينبزهم ويؤذيهم، أو يتجسس عليهم؟ ما حال مثال هؤلاء في فقه آل البيت عليهم السلام؟ إن أمثال هؤلاء أبعد الناس عن الله تعالى، وأشدهم إثما وعقابا، وأقبحهم أعمالا وأخلاقا.

 

 39 - عقيدتنا في التعاون مع الظالمين

ومن عظم خطر الظلم وسوء مغبته أن نهى الله تعالى عن معاونة الظالمين والركون إليهم "وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ".

هذا هو أدب القرآن الكريم وهو أدب آل البيت عليهم السلام. وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين، والاتصال بهم ومشاركتهم في أي عمل كان ومعاونتهم، ولو بشق تمرة.

ولا شك أن أعظم ما مني به الإسلام والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور، والتغاضي عن مساوئهم، والتعامل معهم، فضلا عن ممالاتهم ومناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم، وما جر الويلات على الجامعة الإسلامية إلا ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحق، حتى ضعف الدين بمرور الأيام، فتلاشت قوته. ووصل إلى ما عليه اليوم، فعاد غريبا.

وأصبح المسلمون أو ما يسمون أنفسم بالمسلمين، وما لهم من دون الله أولياء ثم لا ينصرون حتى على أضعف أعدائهم وأرذل المجترئين عليم، كاليهود الأذلاء، فضلا عن الصليبيين الأقوياء.

لقد جاهد الأئمة عليهم السلام في أبعاد من يتصل بهم عن التعاون مع الظالمين، وشددوا على أوليائهم في مسايرة أهل الظلم والجور وممالاتهم ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا الباب، ومن ذلك ما كتبه الإمام زين العابدين عليه السلام إلى محمد بن مسلم الزهري بعد أن حذره عن إعانة الظلمة على ظلمهم: "أوليس بدعائهم إياك حين دعوك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم، وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلما إلى ضلالتهم، داعيا إلى غيهم، سالكا سبيلهم. يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم. فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك. فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسئول...". ما أعظم كلمة "وحاسبها حساب رجل مسؤول"، فإن الانسان حينما يغلبه هواه يستهين في أغوار مكنون سره بكرامة نفسه، بمعنى أنه لا يجده مسئولا عن أعماله، ويستحقر ما يأتي به من أفعال، ويتخيل أنه ليس بذلك الذي يحسب له الحساب على ما يرتكبه ويقترفه إن هذا من أسرار النفس الانسانية الأمارة، فأراد الإمام أن ينبه الزهري على هذا السر النفساني في دخيلته الكامنة، لئلا يغلب عليه الوهم فيفرط في مسئوليته عن نفسه.

وأبلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة الظالمين حديث صفوان الجمال مع الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وقد كان من شيعته ورواة حديثه الموثقين قال حسب رواية الكشي في رجاله بترجمة صفوان: "دخلت عليه. فقال لي: يا صفوان كل شيء منك حسن جميل، خلا شيئا واحدا قلت: جعلت فداك! أي شيء؟ قال: أكراك جمالك من هذا الرجل -يعني هارون-. قلت: والله ما أكريته أشرا ولا بطرا، ولا للصيد، ولا للهو، ولكن أكريته لهذا الطريق -يعني طريق مكة- ولا أتولاه بنفسي ولكن أبعث معه غلماني. قال: يا صفوان أيقع كراك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك. قال: أتحب بقاهم حتى يخرج كراك؟ قلت: نعم. قال: فمن أحب بقاهم فهو منهم، ومن كان منهم فهو كان ورد النار. قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها. فإذا كان نفس حب حياة الظالمين وبقائهم بهذه المنزلة، فكيف بمن يستعينون به على الظلم أو يؤيدهم في الجور، وكيف حال من يدخل في زمرتهم أو يعمل بأعمالهم أو يواكب قافلتهم أو يأتمر بأمرهم.

 

 40 - عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة

إذا كان معاونة الظالمين ولو بشق تمرة بل حب بقائهم، من أشد ما حذر عنه الأئمة عليهم السلام، فما حال الاشتراك معهم في الحكم والدخول في وظائفهم وولاياتهم، بل ما حال من يكون من جملة المؤسسين لدولتهم، أو من كان من أركان سلطانهم والمنغمسين في تشييد حكمهم (وذلك أن ولاية الجائر دروس الحق كله، وإحياء الباطل كله، وإظهار الظلم والجور والفساد) كما جاء في حديث تحف العقول عن الصادق عليه السلام. غير أنه ورد عنهم عليهم السلام جواز ولاية الجائر إذا كان فيها صيانة العدل وإقامة حدود الله، والاحسان إلى المؤمنين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (إن لله في أبواب الظلمة من نور الله به البرهان ومكن له في البلاد، فيدفع بهم عن أوليائه ويصلح بهم أمور المسلمين... أولئك هم المؤمنون حقا. أولئك منار الله في أرضه أولئك نور الله في رعيته...) كما جاء في الحديث عن الإمام موسى ابن جعفر عليه السلام.

وفي هذا الباب أحاديث كثيرة توضح النهج الذي ينبغي أن يجري عليه الولاة والموظفين، مثل ما في رسالة الصادق عليه السلام إلى عبد الله النجاشي أمير الأهواز. راجع الوسائل (1) كتاب البيع الباب 78.