عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ المظفر

 

 

 

 

الفصل الرابع ما أدب به آل البيت شيعتهم

 

تمهيد:

إن الأئمة من آل البيت عليهم السلام علموا من ذي قبل أن دولتهم لن تعود إليهم في حياتهم، وأنهم وشيعتهم سيبقون تحت سلطان غيرهم ممن يرى ضرورة مكافحتهم بجميع وسائل العنف والشدة.

فكان من الطبيعي - من جهة - أن يتخذوا التكتم " التقية " دينا وديدنا لهم ولأتباعهم، ما دامت التقية تحقن من دمائهم ولا تسئ إلى الآخرين ولا إلى الدين، ليستطيعوا البقاء في هذا الخضم العجاج بالفتن والثائر على آل البيت بالإحن.

وكان من اللازم بمقتضى إمامتهم - من جهة أخرى - أن ينصرفوا إلى تلقين أتباعهم أحكام الشريعة الإسلامية، وإلى توجيههم توجيها دينيا صالحا، وإلي أن يسلكوا بهم مسلكا اجتماعيا مفيدا، ليكونوا مثال المسلم الصحيح (العادل).

وطريقة آل البيت في التعليم لا تحيط بها هذه الرسالة، وكتب الحديث الضخمة متكلفة بما نشروه من تلك المعارف الدينية، غير أنه لا بأس أن نشير هنا إلى بعض ما يشبه أن يدخل في باب العقائد فيما يتعلق بتأديبهم لشيعتهم، بالآداب التي تسلك بهم المسلك الاجتماعي المفيد، وتقربهم زلفى إلى الله تعالى، وتطهر صدورهم من درن الآثام والرذائل، وتجعل منهم عدولا صادقين. وقد تقدم الكلام في (التقية) التي هي من تلك الآداب المفيدة اجتماعيا لهم، ونحن ذاكرون هنا بعض ما يعن لنا من هذه الآداب.

 

 34 - عقيدتنا في الدعاء

قال النبي صلى الله عليه وآله: "الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض"، وكذلك هو، أصبح من خصائص الشيعة التي امتازوا بها، وقد ألفوا في فضله وآدابه وفي الأدعية المأثورة عن آل البيت ما يبلغ عشرات الكتب من مطولة ومختصرة.

وقد أودع في هذه الكتب ما كان يهدف إليه النبي وآل بيته صلى الله عليهم وسلم من الحث على الدعاء والترغيب فيه. حتى جاء عنهم "أفضل العبادة الدعاء" و "أحب الأعمال إلى الله عز وجل في الأرض الدعاء" بل ورد عنهم "إن الدعاء يرد القضاء والبلاء"، و "أنه شفاء من كل داء".

وقد ورد أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان رجلا دعّاءً، أي كثير الدعاء. وكذلك ينبغي أن يكون وهو سيد الموحدين وإمام الآلهيين.

وقد جاءت أدعيته كخطبه آية من آيات البلاغة العربية كدعاء كميل بن زياد المشهور، وقد تضمنت من المعارف الإلهية والتوجيهات الدينية ما يصلح أن تكون منهجا رفيعا للمسلم الصحيح.
وفي الحقيقة إن الأدعية الواردة عن النبي وآل بيته عليهم الصلاة والسلام خير منهج للمسلم - إذا تدبرها - تبعث في نفسه قوة الإيمان، والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحق، وتعرفه، سر العبادة، ولذة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه، وتلقنه ما يجب على الانسان أن يعلمه لدينه وما يقربه إلى الله تعالى زلفى. ويبعده عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة.

وبالاختصار أن هذه الأدعية قد أودعت فيها خلاصة المعارف الدينية من الناحية الخلقية والتهذيبية للنفوس، ومن ناحية العقيدة الإسلامية، بل هي من أهم مصادر الآراء الفلسفية والمباحث العلمية في الإلهيات والأخلاقيات.

ولو استطاع الناس - وما كلهم بمستطيعين - أن يهتدوا بهذا الهدى الذي تثيره هذه الأدعية في مضامينها العالية، لما كنت تجد من هذه المفاسد المثقلة بها الأرض أثرا، ولحلقت هذه النفوس المكبلة بالشرور في سماء الحق حرة طليقة ولكن أنى للبشر أن يصغي إلى كلمة المصلحين والدعاة إلى الحق، وقد كشف عنهم قوله تعالى: "إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ" "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ".

نعم إن ركيزة السوء في الانسان اغتراره بنفسه وتجاهله لمساوئه ومغالطته لنفسه في أنه يحسن صنعا فيما اتخذ من عمل: فيظلم ويتعدى ويكذب ويراوغ ويطاوع شهواته ما شاء له هواه، ومع ذلك يخادع نفسه أنه لم يفعل إلا ما ينبغي أن يفعل، أو يغض بصره متعمدا عن قبيح ما يصنع ويستصغر خطيئته في عينه.

وهذه الأدعية المأثورة التي تستمد من منبع الوحي تجاهد أن تحمل الانسان على الاختلاء بنفسه والتجرد إلى الله تعالى، لتلقنه الاعتراف بالخطأ وأنه المذنب الذي يجب عليه الانقطاع إلى الله تعالى لطلب التوبة والمغفرة، ولتلمسه مواقع الغرور والاجترام في نفسه، ومثل أن يقول الداعي من دعاء كميل بن زياد:

" إلهي ومولاي! أجريت علي حكما اتبعت فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوي، فغرني بما أهوى، وأسعده على ذلك القضاء، فتجاوزت بما جرى علي من ذلك بعض حدودك، وخالفت بعض أوامرك ".

ولا شك أن مثل هذا الاعتراف في الخلوة أسهل على الانسان من الاعتراف علانية مع الناس، وإن كان من أشق أحوال النفس أيضا. وإن كان بينه وبين نفسه في خلواته ولو تم ذلك للانسان فله شأن كبير في تخفيف غلواء نفسه الشريرة وترويضها على طلب الخير.

ومن يريد تهذيب نفسه لا بد أن يصنع لها هذه الخلوة والتفكير فيها بحرية لمحاسبتها، وخير طريق لهذه الخلوة والمحاسبة أن يواظب على قراءة هذه الأدعية المأثورة التي تصل بمضامينها إلى أغوار النفس، مثل أن يقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي - رضوان الله تعالى عليه: " أي رب! جللني بسترك، واعف عن توبيخي بكرم وجهك! " فتأمل كلمة " جللني.. " فإن فيها ما يثير في النفس رغبتها في كتم ما تنطوي عليه من المساوئ، ليتنبه الانسان إلى هذه الدخيلة فيها ويستدرجه إلى أن يعترف بذلك حين يقرأ بعد ذلك: " فلو اطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته ".

وهذا الاعتراف بدخيلة النفس وانتباهه إلى الحرص على كتمان ما عنده من المساوئ يستثيران الرغبة في طلب العفو والمغفرة من الله تعالى لئلا يفتضح عند الناس لو أراد الله أن يعاقبه في الدنيا أو الآخرة على افعاله، فيلتذ الانسان ساعتئذ بمناجاة السر

، وينقطع إلى الله تعالى ويحمده أنه حلم عنه وعفا عنه بعد المقدرة فلم يفضحه، إذ يقول في الدعاء بعد ما تقدم: "فلك الحمد على حلمك بعد علمك وعلى عفوك بعد قدرتك" ثم يوحي الدعاء إلى النفس سبيل الاعتذار عما فرط منها على أساس ذلك

الحلم والعفو منه تعالى، لئلا تنقطع الصلة بين العبد وربه، ولتلقين العبد أن عصيانه ليس لنكران الله واستهانة بأوامره إذ يقول، "ويحملني ويجرئني على معصيتك حلمك عني، ويدعوني إلى قلة الحياء سترك علي. ويسرعني إلى التوثب على محارمك معرفتي بسعة رحمتك وعظيم عفوك".

وعلى أمثال هذا النمط تنهج الأدعية في مناجاة السر لتهذيب النفس وترويضها على الطاعات وترك المعاصي. ولا تسمح الرسالة هذه بتكثير النماذج من هذا النوع. وما أكثرها.

ويعجبني أن أورد بعض النماذج من الأدعية الواردة بأسلوب الاحتجاج مع الله تعالى لطلب العفو والمغفرة، مثل ما تقرأ في دعاء كميل بن زياد: "وليت شعري يا سيدي ومولاي! أتسلط النار على وجوه خرت لعظمتك ساجدة، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة، وعلى قلوب اعترفت بإلهيتك محققة، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة وأشارت باستغفارك مذعنة، ما هكذا الظن بك ولا أخبرنا بفضلك".

كرر قراءة هذه الفقرات، وتأمل في لطف هذا الاحتجاج وبلاغته وسحر بيانه، فهو في الوقت الذي يوحي للنفس الاعتراف بتقصيرها وعبوديتها، يلقنها عدم اليأس من رحمة الله تعالى وكرمه، ثم يكلم النفس بابن عم الكلام ومن طرف خفي لتلقينها

واجباتها العليا، إذ يفرض فيها أنها قد قامت بهذه الواجبات كاملة، ثم يعلمها أن الانسان بعمل هذه الواجبات يستحق التفضل من الله بالمغفرة، وهذا ما يشوق المرء إلى أن يرجع إلى نفسه فيعمل ما يجب أن يعمله إن كان لم يؤد تلك الواجبات.

ثم تقرأ أسلوبا آخر من الاحتجاج من نفس الدعاء، "فهبني يا إلهي وسيدي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك! وهبني يا إلهي صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك".

وهذا تلقين للنفس بضرورة الالتذاذ بقرب الله تعالى ومشاهدة كرامته وقدرته، حبا له وشوقا إلى ما عنده، وبأن هذا الالتذاذ ينبغي أن يبلغ من الدرجة على وجه يكون تأثير تركه على النفس أعظم من العذاب وحر النار، فلو فرض أن الانسان تمكن من أن يصبر على حر النار فإنه لا يتمكن من الصبر على هذا الترك، كما تفهمنا هذه الفقرات أن هذا الحب والالتذاذ بالقرب من المحبوب المعبود خير شفيع للمذنب عند الله لأن يعفو ويصفح عنه. ولا يخفى لطف هذا النوع من التعجب والتملق إلى الكريم الحليم قابل التوب وغافر الذنب.

ولا بأس في أن نختم بحثنا هذا بإيراد دعاء مختصر جامع لمكارم الخلاق ولما ينبغي لكل عضو من الانسان وكل صنف منه أن يكون عليه من الصفات المحمودة: "اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية، وصدق النية وعرفان الحرمة".
"وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهر بطوننا من الحرام والشبهة، واكفف أيدينا عن الظلم والسرقة، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة".
"وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالإتباع والموعظة".
"وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتانا بالرأفة والرحمة".
"وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة".
"وعلى الغزاة بالنصر والغلبة، وعلى الأسراء بالخلاص والراحة، وعلى الأمراء بالعدل والشفقة، وعلى الرعية بالإنصاف وحسن السيرة".

"وبارك للحجاج والزوار في الزاد والنفقة، واقض ما أوجبت عليهم من الحج والعمرة".

"بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين".

وإني لموص إخواني القراء ألا تفوتهم الاستفادة من تلاوة هذه الأدعية، بشرط التدبر في معانيها ومراميها وإحضار القلب والاقبال والتوجه إلى الله بخشوع وخضوع، وقراءتها كأنها من إنشائه للتعبير بها عن نفسه، مع اتباع الآداب التي ذكرت لها من طريقة آل البيت، فإن قراءتها بلا توجه من القلب صرف لقلقة في اللسان، لا تزيد الانسان معرفة.

ولا تقربه زلفى، ولا تكشف له مكروبا، ولا يستجاب معه له دعاء. (إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة) (1).
 

 

* هامش *

 

 

(1) باب الاقبال على الدعاء من كتاب الدعاء من أصول الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام. (*)