عقائد الشيعة الإمامية / أبو صلاح الحلبي

 

 

إمامة الإمام الثاني عشر عليه السلام

 

في إثبات إمامة الحجة بن الحسن ووجه الحكمة في غيبته

تقريب المعارف - أبو الصلاح الحلبي - ص 413 - 456

ما قدمناه من الأدلة على إمامة الأئمة صلوات الله عليهم برهان واضح على إمامة الحجة بن الحسن عليه السلام، ومغن عن تكلف كلام يختصها، غير أنا نستظهر في الحجة على ذلك بحسب قوة الشبهة في هذه المسألة على المستضعف، وإن كان برهان صحتها واضحا. والكلام فيها ينقسم إلى قسمين: أحدهما: إثبات إمامة الحجة بن الحسن عليه السلام منذ قبض أبيه وإلى أن يظهر منتصرا لدين الله من أعدائه. والثاني: بيان وجه الحكمة في غيبته وتعذر معرفة شخصه ومكانه، وإسقاط ما يعتريها من الشبه. فأما الدلالة على إمامته وثبوت الحجة بوجوده، فمن جهة العقل والسمع.

 

برهان العقل على إمامته

فأما برهان العقل، فعلمنا به وجوب الرئاسة وعصمة الرئيس وفضله على الرعية في الظاهر والباطن، وكونه أعلمهم بما هو رئيس فيه، وكل من قال بذلك قال بإمامة الحجة بن الحسن عليه السلام، وكونه الرئيس ذا الصفات الواجبة، دون سائر الخلق، من وفاة أبيه وإلى أن يظهر للانتقام من الظالمين. ولأن اعتبار هذه الأصول العقلية يقضي بوجود حجة في الأوقات المذكورة دون من عداه، لأن الأمة في كل عصر أشرنا إليه بين: ناف للإمامة، ومثبت لها معترف بانتفاء الصفات الواجبة للإمام عمن أثبت إمامته، ومثبت لإمامة الحجة بن الحسن عليه السلام. ولا شبهة في فساد قول من نفى الإمامة، لقيام الدلالة على وجوبها، وقول من أثبتها مع تعري الإمام من الصفات الواجبة للإمام لوجوبها له وفساد إمامة من انتفت عنه وحصول العلم بكون الحق في الملة الإسلامية، فصح بذلك القول بوجود الحجة عليه السلام، إذ لو بطل كغيره من أقوال المسلمين لاقتضى ذلك فساد مدلول الأدلة أو خروج الحق عن الملة الإسلامية، وكلا الأمرين فاسد، فصح ما قلناه، وقد سلف لنا استنادها بين الطريقتين إلى أحكام العقول دون السمع، فأغنى عن تكراره هاهنا.

 

برهان السمع على إمامته

وأما أدلة السمع على إمامته، فعلى ضروب: منها: أن كل من أثبت إمامة أبيه وأجداده إلى علي عليه السلام قال بإمامته في الأحوال التي ذكرناها، وقد دللنا على إمامتهم، فلحق الفرع بالأصل، والمنة لله. ولأنا نعلم وكل مخالط لآل محمد عليهم السلام وسامع لحديثهم تدينهم بإمامة الحجة الثاني عشر عليه السلام، ونصهم على كونه المهدي المستثير لله ولهم من الظالمين، وقد علمنا عصمتهم بالأدلة، فوجبت القطع على إمامة الاثني عشر صلوات الله عليهم خاصة، فما له وجبت إمامة الأول من الآيات والأخبار له وجبت إمامة الثاني عشر صلوات الله عليه، إذ لا فرق بين الأمرين. ومنها: النص على إمامة الحجة عليه السلام، وهو على ضروب ثلاثة: أحدها: النص من رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام على عدد الأئمة عليهم السلام وأنهم اثنا عشر، ولا شبهة على متأمل في أن النص على هذا العدد المخصوص نص على إمامة الحجة عليه السلام، كما هو نص على إمامة آبائه من الحسن بن علي بن محمد بن عين الرضا، إلى علي بن أبي طالب عليهم السلام، إذ لا أحد قال بهذا العدد المخصوص وقصر الإمامة عليه دون ما نقص منه وزاد عليه إلا خص به أمير المؤمنين والحجة بن الحسن ومن بينهما من الأئمة عليهم السلام. وهذا الضرب من النص وارد من طريقي الخاصة والعامة.

 

نص رسول الله على عدد الأئمة من بعده من طريق العامة

فمما روته العامة فيه: عن الشعبي، عن مسروق، قال: كنا عند ابن مسعود، فقال له رجل: أحدثكم نبيكم كم يكون بعده من الخلفاء؟ فقال له عبد الله بن مسعود: نعم، وما سألني عنها أحد قبلك، وإنك لأحدث القوم سنا، سمعته عليه الصلاة والسلام يقول: يكون بعدي من الخلفاء عدة نقباء موسى عليه السلام: اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش. ورووا عن ابن مسعود من طرق أخر. وزاد في بعضها مسروق قال: كنا جلوسا إلى عبد الله يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وآله كم يملك أمر هذه الأمة من خليفة من بعده؟ فقال له عبد الله: ما سألني أحد منذ قدمت العراق عن هذا، سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: اثنا عشر، عدة نقباء بني إسرائيل. ورووا عن عبد الله بن أبي أمية مولى بني مجاشع، عن يزيد الرقاشي، عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لن يزال هذا الدين قائما إلى اثني عشر من قريش، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها، وساق الحديث. ورووا عن زياد بن خثيمة، عن الأسود بن سعيد الهمداني قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، فقالوا له: ثم يكون ماذا؟ فقال: ثم يكون الهرج. ورووا عن الشعبي، عن جابر بن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا يزال أهل هذا الدين ينصرون على من ناواهم إلى اثني عشر خليفة، فجعل الناس يقومون ويقعدون، وتكلم بكلمة لم أفهمها، فقلت لأبي أو لأخي: أي شئ قال؟ فقال: كلهم من قريش. ورووا عن سماك بن حرب، وزياد بن علاقة، وحصين بن عبد الرحمن، وعبد الملك بن عمير، وأبي خالد الوالبي، عن جابر بن سمرة، مثله. ورووا عن يونس بن أبي يعفور، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يخطب وعمي جالس بين يدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يزال أمر أمتي صالحا حتى يمر اثنا عشر خليفة كلهم من قريش. ورووا عن ربيعة بن سيف قال: كنا عند شقيق الأصبحي فقال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يكون خلفي اثنا عشر خليفة. ورووا عن حماد بن سلمة، عن أبي الطفيل قال: قال لي عبد الله بن عمر: يا أبا لطفيل أعدد اثني عشر خليفة بعد النبي صلى الله عليه وآله، ثم يكون النقف والنفاق. في أمثال لهذه الأحاديث من طريق العامة.

 

النص على عدد الأئمة من طريق الخاصة

ومن الشيعة ما تناصرت به روايتهم: عن أبي الجارود، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام، عن أبيه، عن جده عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني واثنا عشر من أهل بيتي - أولهم علي بن أبي طالب عليه السلام - أوتاد الأرض التي أمسكها الله بها أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من أهلي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا. وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أهل بيتي اثنا عشر نقيبا نجباء محدثون مفهمون وآخرهم القائم بالحق يملأها عدلا كما ملأت جورا. ورووا عن أبي بصير، عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل اختار من الأيام يوم الجمعة، ومن المشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، واختار من الناس الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار ( ني ) من الرسل، واختار مني عليا، واختار من علي الحسن والحسين، واختار من الحسين الأوصياء عليهم السلام، وهم تسعة من ولد الحسين، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، تاسعهم باطنهم وظاهرهم وهو قائمهم. ورووا عن سلمان قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وقد أجلس الحسين ابن علي عليهما السلام على فخذه وتفرس في وجهه: ثم قال: إمام ابن إمام أبو أئمة حجج تسع تاسعهم قائمهم أفضلهم أحلمهم أعلمهم. ورووا عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله عز وجل أرسل محمدا صلى الله عليه وآله إلى الجن والإنس عامه، وكان من بعده اثنا عشر وصيا، منهم من سبق، ومنهم من بقي، وكل وصي جرت به سنة ( و ) الأوصياء الذين بعد محمد صلى الله عليه وآله.... ورووا عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يقول: كنا عند معاوية والحسن والحسين عليهما السلام وابن عباس وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد، فذكر كلاما جرى بينه وبينه، وأنه قال: يا معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي بن أبي طالب أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابنه الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابني الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فعلي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم - وستدركه يا علي - ثم ابني محمد بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسم - وستدركه يا حسين - ثم تكمله اثني عشر إماما من ولد الحسين عليه السلام. قال عبد الله بن جعفر: فاستشهدت الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد، فشهدوا لي بذلك عند معاوية. قال سليم: وقد كنت سمعت ذلك من سلمان وأبي ذر وأسامة بن زيد، وروره عن رسول الله صلى الله عليه وآله. ومنه ما تناصرت به الرواية من حديث الخضر عليه السلام وسؤاله أمير المؤمنين عليه السلام عن المسائل، فأمر الحسن عليه السلام فإجابته عنها، فأجابه، فأظهر الخضر عليه السلام بحضرة الجماعة الاقرار لله سبحانه بالربوبية ولمحمد صلى الله عليه وآله بالنبوة ولأمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة والحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين عليه السلام ( و ) أنه الخضر عليه السلام. ورووا قصة اللوح الذي أهبطه الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله فيه أسماء الأئمة الاثني عشر. ورووا ذلك من عدة طرق عن جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه الله، قال: دخلت على فاطمة عليها السلام، وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها عليهم السلام، فعددت اثني عشر، أحدهم القائم بالحق، اثنان منهم محمد، وأربعة منهم علي. ورووا عن أبي بصير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام قال: قال أبي - يعني الباقر محمد بن علي عليهما السلام - لجابر بن عبد الله: إن لي إليك حاجة، متى يخف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟ فقال له جابر: أي الأوقات أحببت، فخلى به في بعض الأيام، فقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة عليها السلام وما أخبرتك به أن فيه مكتوبا؟ فقال جابر: أشهد بالله، وساق الحديث. ومما رو ( و ) ه حديث الاثني عشر صحيفة المختومة بإثني عشر خاتما، التي نزل بها جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله فيعمل بما فيها ( علي عليه السلام )، فإذا احتضر سلمها إلى الحسن عليه السلام، ففتح صحيفة وعمل بما فيها، ثم إلى الحسين عليه السلام، ثم واحدا بعد واحد إلى الثاني عشر عليهم السلام. ورووا عن أبي عبد الله عليه السلام من عدة طرق قال: إن الله عز وجل أنزل على عبده كتابا قبل وفاته وقال: يا محمد، هذه وصيتك إلى النخبة من أهلك، قال: وما النخبة يا جبرئيل؟ قال: علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب، فدفعه النبي صلى الله عليه وآله إلى علي عليه السلام، وأمره أن يفك خاتما منه ويعمل بما فيه، ففك أمير المؤمنين عليه السلام الخاتم وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسن وأمره أن يفك خاتما منه ويعمل بما فيه، ففك الحسن عليه السلام الخاتم ( وعمل بما فيه فما تعداه )، ثم دفعه إلى الحسين عليه السلام ففك خاتما فوجد فيه: أن اخرج بقوم إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك وأشر نفسك لله ففعل، ثم دفعه إلى علي بن الحسين عليهما السلام ففك خاتما فوجد فيه: أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي عليهما السلام ففك خاتما فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله فإنه لا سبيل لأحد عليك، ثم دفعه إلى ابنه جعفر عليه السلام ففك خاتما فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آبائك الصالحين ولا تخافن إلا الله وأنت في حرز وأمان ففعل، ثم دفعه إلى موسى عليه السلام، وكذلك يدفعه موسى عليه السلام إلى الذي بعده، ثم كذلك أبدا إلى قيام المهدي عليه السلام. ومما رووه عن أبي الطفيل قال: شهدت جنازة أبي بكر يوم مات، وشهدت عمر حين بويع، وعلي عليه السلام جالس ناحية، فأقبل غلام يهود في جميل عليه ثياب حسان - وهو من ولد هارون عليه السلام - حتى قام على رأس عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين أنت أعلم هذه الأمة بكتابهم وأمر نبتهم صلى الله عليه وآله؟ فطأطأ عمر رأسه، فأعاد عليه القول، فقال له عمر: ولم ذاك؟ فقال: إني جئت مرتادا لنفسي شاكا في ديني أريد الحجة وأطلب البرهان، فقال له عمر: دونك هذا الشاب - وأشار إلى أمير المؤمنين عليه السلام - قال الغلام: ومن هذا؟ قال عمر: هذا علي ين أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وأبو الحسن والحسين إلي رسول الله، وزوج فاطمة بنت رسول الله صلوات الله عليهم، وأعلم الناس بالكتاب والسنة. قال: فأقبل الغلام إلى علي عليه السلام فقال له: أنت كذلك؟ فقال له علي عليه السلام: نعم، قال الغلام: فإني أريد أن أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة، قال: فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام وقال: يا هاروني، ما منعك أن تقول سبعا؟ قال: لأني أريد أسألك عن ثلاث، فإن علمتهن سألتك عما بعدهن، وإن لم تعلمهن علمت أنه ليس فيكم عالم، قال أمير المؤمنين عليه السلام: أنا أسألك بالله الذي تعبده إن أنا أجبتك عن كل ما تسأل عنه لتدعن دينك ولتدخلن في ديني؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال له أمير المؤمنين عليه السلام: سل. فقال: أخبرني عن أول قطرة دم قطرت على وجه الأرض أي قطرة هي؟ وأول عين فاضت على وجه الأرض أي عين هي؟ وأول شئ اهتز على وجه الأرض أي شئ هو؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا هاروني، أما أنتم فتقولون: أول قطرة قطرت على وجه الأرض حيث قتل أحد ابني آدم عليه السلام صاحبه، وليس كذلك، ولكنه حيث طمثت حواء وذلك قبل أن تلد ابنيها. وأما أنتم فتقولون؟ أول عين فاضت على وجه الأرض العين إلي ببيت المقدس، وليس كذلك هو، ولكنها لعين الحياة التي وقف عليها موسى عليه السلام وفتاه ومعهما النون المالح، فسقط منه فيها فحي، وهذا الماء لا يصيب ميتا إلا حي. وأما أنتم فتقولون: أول شئ اهتز على وجه الأرض الشجرة التي كانت منها سفينة نوح عليه السلام، وليس كذلك هو، ولكنها النخلة التي أهبطت من الجنة، وهي العجوة، ومنها تفرع جميع ما ترى من أنواع النخل. فقال: صدقت والله الذي لا إله إلا هو إني لأجد هذا في كتب أبي هارون عليه السلام، كتابته بيده وإملاء عمي موسى عليه السلام. ثم قال: أخبرني عن الثلاث الأخر: عن أوصياء محمد صلى الله عليه وآله وكم أئمة عدل بعده؟ وعن منزله في الجنة؟ ومن يكون معه ساكنا في منزله؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا هاروني، إن لمحمد عليه السلام اثني عشر وصيا أئمة عدل، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم، وإنهم أرسب في الدين من الجبال الرواسي في الأرض. ومسكن محمد عليه السلام في جنة عدن التي ذكرها الله عز وجل وغرسها بيده. ومعه في مسكنه فيها الأئمة الاثنا عشر العدول. فقال: صدقت والله الذي لا إله إلا هو، إني لأجد ذلك في كتب أبي هارون عليه السلام، كتابته بيده وإملاء عمي موسى عليه السلام. فقال: أخبرني عن الواحد: كم يعيش وصي محمد عليه السلام من بعده؟ وهل يموت أو يقتل؟ قال: يا هاروني، يعيش بعده ثلاثين سنة، لا تزيد يوما ولا تنقص يوما، ثم يضرب ضربة هاهنا - ووضع يده على قرنه وأوما إلى لحيته - فتخضب هذه من هذه. قال: فصاح الهاروني وقطع كشنيره وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنك وصي رسوله صلى الله عليه وآله، ينبغي أن تفوق ولا تفاق وأن تعظم ولا تستضعف، وحسن إسلامه. ورووا عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السلام يقول: إن الله عز وجل خلق محمدا عليه السلام واثني عشر من أهل بيته من نور عظمته، فأقامهم أشباحا في ضياء نوره يعبدونه ويسبحونه ويقدسونه، وهم الأئمة من بعد محمد صلى الله عليه وآله. ورووا عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: من آل محمد صلوات الله عليه اثنا عشر إماما كلهم محدث، ورسول الله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما هما الوالدان. ورووا عن الحسن بن العباس بن الحريش، عن أبي جعفر محمد بن علي بن موسى عليهم السلام قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام قال لابن عباس: إن ليلة القدر في كل سنة، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، وكذلك ولاة الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، قال ابن عباس: من هم؟ قال: أنا وأحد عشر من صلبي محدثون. وبإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: آمنوا بليلة القدر، فإنها تكون بعدي لعلي بن أبي طالب وولده وهم أحد عشر من بعده عليهم السلام. ورووا عن أبي بصير، ( عن ) أبي جعفر عليه السلام قال: يكون تسعة أئمة بعد الحسين عليه السلام تاسعهم قائمهم. ورووا عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: الأئمة اثنا عشر إماما منهم الحسن والحسين، ثم الأئمة من ولد الحسين عليهم السلام. في أمثال لهذه الروايات الواردة من طريقي الخاصة والعامة. ومعلوم أن ورود الخبر متناصرا بنقل الدائن بضمنه والمخالف في معناه برهان صحته، إذ لا داعي للمحجوج به إلا الصدق الباعث على روايته. وإذا ثبت صدق نقلته اقتضى إمامة المذكورين فيه، لكونه نصا على عدد لم يشركهم فيه أحد حسب ما قدمناه.

 

نص أبيه عليه بالإمامة وشهادة المقطوع بصدقهم بإمامته

والضرب الثاني من النص، نص أبيه عليه بالإمامة، وشهادة المقطوع بصدقهم بإمامته. فأما النص من أبيه: فما روي من عدة طرق، عن محمد بن علي بن بلال قال: خرج إلي من أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام قبل مضيه بسنتين يخبرني بالخلف من بعده. ورووا عن عدة طرق، عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي محمد عليه السلام: جلالتك تمنعني. عن مسألتك، فتأذن إلي أن أسألك، فقال: سل، فقلت: يا سيدي هل لك ولد؟ قال: نعم، قلت: فإن حدث أمر فأين أسأل عنه؟ فقال: بالمدينة. ورووا من عدة طرق، عن أحمد بن محمد بن عبد الله قال: خرج من أبي محمد عليه السلام حين قتل الزبير ( ي ): هذا جزاء من اجترى على الله تعالى في أوليائه، يزعم أنه يقتلني وليس لي عقب، كيف رأى قدرة الله فيه؟ قال: ولد له ولد سماه باسم رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك في سنة ست وخمسين ومائتين. ورووا عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفر ( ي ) قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: الخلف من بعدي الحسن عليه السلام، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ فقلت: ولا جعلت فداك؟ قال: لأنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه، فقلت: كيف نذكره؟ فقال: قولوا الحجة من آل محمد عليهم السلام. ورووا عن عمرو الأهوازي قال: أراني أبو محمد عليه السلام ابنه عليه السلام، فقال: هذا صاحبكم بعدي. ورووا عن نصر بن علي العجلي، عن رجل من أهل فارس سماه قال: أتيت سر من رأى ولزمت باب أبي محمد عليه السلام، فدعاني، فدخلت عليه وسلمت، فقال: ما الذي أقدمك؟ قال: قلت: رغبة في خدمتك، قال: فقال لي: الزم الدار، قال: فكنت مع الخدم في الدار، ثم صرت أشتري لهم الحوائج من السوق، وكنت أدخل من غير إذن إذا كان في الدار رجال. قال: فدخلت عليه يوما وهو في دار الرجال، فسمعت حركة في البيت، فناداني: مكانك لا تبرح، فلم أجسر أن أدخل ولا أخرج، فخرجت علي جارية معها شئ مغطى، ثم ناداني: أدخل، فدخلت، فنادى الجارية، فرجعت فدخلت إليه، فقال لها: اكشفي عما معك، فكشفت عن غلام أبيض حسن الوجه، فكشف أبو محمد عليه السلام عن بطنه، فإذا شعر نابت من لبته إلى سرته أخضر ليس بأسود، فقال: هذا صاحبكم، ثم أمرها فحملته، فما رأيته بعد ذلك حتى مضى أبو محمد عليه السلام. في أمثال لهذه النصوص. وأما شهادة المقطوع بصدقهم، فعلوم للأكل سامع لأخبار الشيعة تعديل أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام جماعة من أصحابه، وجعلهم سفراء بينه وبين أوليائهم، والأمناء على قبض الأخماس والأنفال، وشهادته بإيمانهم وصدقهم فيما يؤدونه عنه إلى شيعته. وأن هذه الجماعة شهدت بمولد الحجة بن الحسن عليه السلام، وأخبرت بالنص عليه من أبيه عليهما السلام، وقطعت بإمامته، وكونه الحجة المأمول للانتصار من الظالمين. فكان ذلك منهم نائبا مناب نص أبيه عليه السلام لو كان مفقودا، إذ لا فرق في ثبوت الحكم بين أن ينص عليه حجة معلوم العصمة لكونه نبيا أو إماما، وبين أن ينص عليه منصوص على صدقه بقول في أو إمام. والجماعة المذكورة: أبو هاشم داود بن قاسم الجعفري، ومحمد بن علي بن بلال، وأبو عمرو عثمان بن سعيد السمان، وابنه أبو جعفر محمد بن عثمان رضي الله عنهم، وعمرو الأهوازي، وأحمد بن إسحاق، وأبو محمد الوجنائي، وإبراهيم بن مهزيار، ومحمد ابن إبراهيم.

 

نص آبائه عليه بغيبته وصفتها

وأما الضرب الثالث من النص، فهو ما ورد عن آبائه صلوات الله عليهم من النبي وأمير المؤمنين إلى ابنه الحسن بن علي عليهم السلام: بغيبة الحجة قبل وجوده، وصفتها قبل مولده، ووقوع ذلك مطابقا للخبر، من غير أن ينخرم منه شئ. وهذا الضرب من النص دال على إمامته، وكونه المهدي المأمول إهلاك الظالمين، لثبوت النص بغيبته القصرى والطولى المختصة به، ومطابقتها للخبر عنها. فمن ذلك ما رواه الحسن بن محبوب، عن إبراهيم الخارقي، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: كان أبو جعفر عليه السلام يقول: لقائم آل محمد عليه السلام غيبتان: واحدة طويلة، والأخرى قصيرة، قال: فقال لي: نعم يا أبا بصير إحداهما أطول من الأخرى، ثم لا يكون ذلك - يعني ظهوره - حتى يختلف ولد فلان وتضيق الحلقة، ويظهر السفياني، ويشتد البلاء، ويشمل الناس موت وقتل يلجأون فيه إلى حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وآله. وروي عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: يفسد الناس ثم يصلحها الله بعد أمن ولدي، خامل الذكر، لا أقول خاملا في حسنه ولا موضعه، ولكن في حداثة سنه، ويكون ابتداء أمره باليمن. ورووا عن الأصبغ بن نباتة قال: أتيت أمير المؤمنين عليه السلام فوجدته ينكت في الأرض، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما لي أراك مفكرا تنكت في الأرض، أرغبة منك فيها؟ قال: والله ما رغبت في الدنيا قط، ولكني في مولود يكون من ظهري الحادي عشر بعدي، وهو المهدي الذي يملأها عدلا وقسطا كما ملأت جورا وظلما، يكون له حيرة وغيبة تضل بها أقوام، ويهتدي بها آخرون، قلت: يا أمير المؤمنين: إن هذا لكائن؟ قال: نعم كما إنه مختوم. ورووا عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن للغلام غيبة قبل أن يقوم، قلت: ولم؟ قال: يخاف، وأوما بيده إلى بطنه، ثم قال: يا زرارة وهو المنتظر، وهو الذي يشك الناس في ولادته، فنهم من يقول: مات أبوه ولا خلف له، ومنهم من يقول: مات أبوه وهو حمل، ومنهم من يقول: هو غائب قد ولد قبل موت أبيه بسنتين، وهو المنتظر عليه السلام، غير أن الله يحب أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون. ورووا عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أقرب ما يكون العبد من الله سبحانه أرضى ما يكون عنه، وأرضى ما يكون عنه إذا افتقد حجة الله سبحانه فلم يظهر له ولم يعلم مكانه وهو في ذلك يعلم أنه لم تبطل حجة الله تعالى وبيناته، فعندها توقعوا الفرج، وقد علم أن أولياءه لا يرتابون، ولو علم أنهم يرتابون ما غيبه عنهم طرفة عين، ولا تكون الغيبة إلا على رؤوس شرار الناس. ورووا عن حنان بن سدير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن في القائم سنة من يوسف عليهما السلام، قلت: كأنك تذكر حيرة أو غيبة؟ قال: وما تنكر ذلك من هذه الأمة أشباه الخنازير، إن إخوة يوسف كانوا أسباطا أولاد أنبياء، فتاجروا يوسف وبايعوه، فدخلوا عليه وهم إخوته فلم يعرفوه حتى قال لهم: أنا يوسف، فما تنكر هذه الأمة الملعونة أن يكون الله تعالى يريد أن يستر حجته في وقت من الأوقات، لقد كان يوسف إليه ملك مصر، وكان بينه وبين أبيه مسيرة ثمانية عشر يوما، فلو أراد الله أن يعلمه مكانه لقدر على ذلك، والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة تسعة أيام من بدوهم إلى مصر، فما تنكر هذه الأمة الملعونة أن يفعل الله لحجته عليه السلام ما فعل بيوسف عليه السلام، فيكون يمشي في أسواقهم ويطأ بسطهم وهم لا يعرفونه حتى يأذن الله سبحانه أن يعرفهم نفسه كما أذن ليوسف عليه السلام، فقالوا له: أنت يوسف؟ قال: أنا يوسف. ورووا عن فرات بن أحنف رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال: ذكر القائم من ولده فقال: ليغيبن حتى يقول الجاهل مالله في آل محمد عليه السلام حاجة. ورووا عن المفضل قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أما والله ليغيبن القائم عنكم سنينا من دهركم حتى يقال: مات أو قتل بأي واد سلك، ولتدمعن عليه عيون المؤمنين، ولتمحصن ولتكفأن كما تكفأ السفن في أمواج البحر. ورووا عن الأصبغ قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: صاحب هذا الأمر الشريد الطريد الفريد الوحيد. ورووا عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: في صاحب الأمر أربع سنن من أربعة أنبياء: سنة من موسى، وسنة من عيسى، وسنة من يوسف، وسنة من محمد صلى الله عليه وآله وعلى جميع أنبياء الله ورسله، فأما موسى عليه السلام فخائف يترقب، وأما عيسى عليه السلام فيقال: مات ولم يمت، وأما يوسف عليه السلام فالغيبة عن أهله بحيث لا يعرفونه، وأما محمد رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف. ورووا عن علي بن أبي حمزة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بد ( ل‍ ) صاحب هذا الأمر من غيبة، ولا بد له في غيبته من عزلة، ونعم المنزل طيبة. ورووا عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: للقائم غيبتان: إحداهما قصيرة، والأخرى طويلة، الأولى يعلم مكانه خاصة لأوليائه. ورووا عن أيوب بن نوح قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إني أرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يسوقه الله إليك بغير سيف، فقد بويع لك وضربت الدراهم باسمك، فقال: ما منا أحد اختلفت إليه الكتب وأشير إليه بالأصابع وسئل عن المسائل وحملت إليه الأموال إلا اغتيل أو مات على فراشه، حتى يبعث الله لهذا الأمر غلاما منا خفي المولد والمنشأ غير خفي في نسبه. ورووا عن عبد الله بن عطاء، ( عن أبي جعفر ) قال: قلت له: إن شيعتك بالعراق كثيرة فوالله ما في أهل بيتك مثلك، فكيف لا تخرج؟ فقال: يا عبد لله بن عطاء، قد أخذت تفرش أذنيك للنوكى، أي والله ما أنا بصاحبكم، قلت له: فمن صاحبنا؟ قال: انظروا من عمى على الناس أمر ولادته فذلك صاحبكم، إنه ليس منا أحد يشار إليه بالأصابع ويمضغ بالألسن إلا مات غيظا أو رغم أنفه. ورووا عن يمان التمار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسك فيها بدينه كخارط القتاد بيده، ثم قال: هكذا بيده، فأيك يمسك شوك القتاد بيده؟ ثم قال: إن لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتق الله عبد وليتمسك بدينه. ورووا عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: يفقد الناس إمامهم، يشهد الموسم يراهم ولا يرونه. ورووا عن عبد الله بن عطاء، عن أبي جعفر عليه السلام قال: والله لا ينوه باسم رجل منا فيكون صاحب هذا الأمر حتى يأتي الله سبحانه به من حيث لا يعلم الناس. ورووا عن علي بن مهزيار قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن الفرج؟ فقال: إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمين فتوقعوا الفرج. ورووا عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري قال: سمعت أبا الحسن العسكري عليه السلام يقول: الخلف من بعدي الحسن عليه السلام، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟، فقلت: ولم؟ قال: لأنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه. في أمثال لهذه الروايات الدالة على تخصص للإمامة بعد الحسن عليه السلام وإلى الآن بالحجة بن الحسن عليهما السلام.

 

ظهور معجزاته على أيدي سفرائه

ومما يدل على إمامته ظهور الأعلام على أيدي سفرائه: فمن ذلك ما رووه عن محمد بن إبراهيم بن مهزيار قال: شككت بعد مضي أبي محمد عليه السلام، فاجتمع عند أبي مال جزيل، فحمله وركب في السفينة، فخرجت معه مشيعا، فوعك وعكا شديدا، فقال: يا بني ردني فهو الموت، وقال لي: اتق الله في هذا المال وأوصى إلي ومات، فقلت في نفسي: لم يكن أبي ليوصي بشئ غير صحيح، أحمل هذا المال إلى العراق فأكتري دارا على الشط، فلا أخبر أحدا بشئ، فإن وضح لي شئ كوضوحه أيام أبي محمد عليه السلام أنفذته، وإلا أنفقته، فقدمت العراق، واكتريت دارا على الشط، وبقيت أياما، فإذا أنا برقعة مع رسول فيها: يا محمد معك كذا وكذا، حتى نص جميع ما معي مما لم أحط به علماء، فسلمت المال إلى الرسول وبقيت أياما لا يرفع بي رأس، فاغتممت، فخرج إلي: قد أقمناك مكان أبيك، فأحمد الله. ورروا عن أبي عبد الله الشيباني قال: أوصلت أشياء للمرزباني، وكان فيها سوار ذهب، فقبلت ورد علي السوار، فأمرت بكسره فكسر، فإذا في وسطه مثاقيل حديد ونحاس وصفر، وأخرجت ذلك منه، وأنفذت الذهب فقبل. ورووا عن علي بن محمد قال: أوصل رجل من أهل السواد مالا فرد عليه، وقيل له: أخرج حن بني عمك منه، وهو أربعمائة درهم، وكان الرجل في يده ضيعة لولد عمه فيها شركة قد حبسها عليهم، فنظر، فإذا لولد عمه في ذلك المال أربعمائة درهم، فأخرجها وأنفذ الباقي فقبل. ورووا عن القاسم بن العلاء قال: ولد لي عدة بنين، فكنت أكتب وأسأل الدعاء، فلا يكتب إلي بشئ، فاتوا كلهم، فلما ولد لي الحسن ابني كتبت أسال الدعاء فأجبت، فبقي والحمد لله. ورووا عن علي بن الحسين اليماني قال: كنت ببغداد، فاتفقت قافلة اليمانيين، فأردت الخروج معهم، فكتبت ألتمس الإذن في ذلك، فخرج: لا تخرج معهم، فليس لك في الخروج معهم خيرة، وأقم بالكوفة، قال: فأقمت، وخرجت القافلة، فخرج عليهم حنظلة فاجتاحتهم. قال: وكتبت أستأذن في ركوب الماء، فلم يؤذن لي، فسألت عن المراكب التي خرجت في تلك السنة في البحر، فما سلم منها مركب، خرج عليها قوم يقال لهم البوارح فقطعوا عليها. ورووا عن الحسن بن الفضل بن يزيد الهمداني قال: كتب أبي بخطه كتابا فورد جوابه، ثم كتب بخطي فورد جوابه، ثم كتب بخط رجل جليل من فقهاء أصحابنا فلم يرد جوابه، فنظرت فإذا العلة في ذلك أن الرجل تحول بين ذلك قرمطيا. ورووا عن الحسن بن الفضل قال: وردت العراق وزرت طوس، وعزمت أن لا أخرج إلا عن بينة من أمري ونجاح من حوائجي، ولو احتجت أن أقيم بها حتى أتصدق، قال: وفي خلال ذلك يضيق صدري بالمقام، وأخاف أن يفوتني الحج، قال: فجئت يوما إلى محمد بن أحمد أتقاضاه، فقال لي: صر إلى مسجد كذا وكذا فإنه يلقاك رجل، قال: فصرت إليه، فدخل علي رجل، فلما نظر إلي ضحك وقال: لا تغتم فإنك ستحج في هذه السنة وتنصرف إلى أهلك وولدك سالما، فاطمأنت نفسي وسكن قلبي، فقلت: أرى مصداق ذلك إن شاء الله. قال ثم وردت العسكر فخرجت إلي صرة فيها دنانير وثوب، فاغتممت وقلت في نفسي: جزائي عند القوم هذا، واستعملت الجهل فرددتها وكتبت رقعة، ثم ندمت بعد ذلك ندامة شديدة وقلت في نفسي: كفرت بردي على مولاي عليه السلام، ثم كتبت رقعة أخرى أعتذر من فعلي وأبوء بالإثم وأستغفر من ذلك وأنفذتها، وقمت أتطهر للصلاة وأنا في ذلك أفكر في نفسي وأقول: إن ردت علي الدنانير لم أحلل صرارها ولم أحدث فيها حدثا حتى أحملها إلى أبي فإنه أعلم مني فيعمل فيها بما يشاء، فخرج إلي الرسول الذي حمل إلي الصرة وقيل له: أسأت إذ لم تعلم الرجل أنا ربما فعلنا ذلك بموالينا من غير مسألة ليتبركوا به، وخرج إلي: أخطات في ردك برنا، فإذا استغفرت الله فالله يغفر لك، فأما إذا كانت عزيمتك وعقد نيتك ألا تحدث فيها حدثا ولا تنفقها في طريقك فقد صرفناها عنك، فأما الثوب فلا بد منه لتحرم فيه. قال: وكتبت في معنيين وأردت أن أكتب في الثالث فامتنعت منه مخافة أن يكره ذلك، فورد جواب المعنيين والثالث الذي طويت مفسرا والحمد لله. ورووا عن الحسن بن عبد الحميد قال: شككت في أمر حاجز بن يزيد، فجمعت شيئا ثم صرت إلى العسكر، فخرج إلي: ليس فينا شك ولا في من يقوم مقامنا بأمرنا قادرين، فاردد ما معك إلى حاجز بن يزيد. ورووا عن بدر غلام أحمد بن الحسن قال: وردت الجبل وأنا لا أقول بالإمامة، أحبهم جملة، إلى أن مات يزيد بن عبد الله فأوصى في علته أن يعطي الشهري السمند وسيفه ومنطقته إلى مولاه، فخفت إن أنا لم أدفع الشهري إلى إذكوتكين نالني منه استخفاف، فقومت الدابة والسيف والمنطقة بسبع مائة دينار في نفسي ولم أطلع عليه أحدا، فإذا الكتاب قد ورد علي من العراق: أن وجه السبع مائة دينار التي لنا قبلك من ثمن الشهري والسيف والمنطقة. ورووا عن أبي محمد الحسن بن عيسى العريضي قال: لما مضى أبو محمد عليه السلام ورد رجل من مصر بمال إلى مكة للناحية، فاختلف عليه، فقال بعض الناس: إن أبا محمد عليه السلام مضى من غير ولد والخلف من بعده جعفر، وقال بعضهم: مضى أبو محمد عليه السلام عن ولد هو خلفه، فبعث رجلا يكنى أبا طالب، فورد العسكر ومعه كتاب، فصار إلى جعفر، فسأله عن برهان، فقال: لا يتهيأ في هذا الوقت، فصار إلى الباب وأنفذ الكتاب إلى أصحابنا، فخرج إليه: آجرك الله في صاحبك فقد مات، وأوصى بالمال الذي كان معه إلى ثقة ليعمل فيه بما يحب، وأجيب عن كتابه. ورووا عن الحسن بن خفيف، عن أبيه قال: بعث حرم إلى المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وآله ومعهم خادمان، فكتب إلى خفيف أن أخرج معهم، فلما وصلوا إلى الكوفة شرب أحد الخادمين مسكرا، فاخرجوا من الكوفة حتى ورد كتاب من العسكر: برد الخادم الذي شرب المسكر وعزله عن الخدمة. ورووا عن محمد بن شاذان النيسابوري قال: اجتمع عندي خمسمائة درهم ينقص منه عشرون درهما، فأنفت أن أبعث بها ناقصة، فوزنت من عندي عشرين درهما وبعثت بها إلى الأسدي ولم أكتب مالي فيها، فورد: وصلت خمسمائة درهم، لك منها عشرون درهما. ورووا عن الحسن بن محمد الأشعري قال: كان يرد إلي كتاب أبي محمد عليه السلام في الاجراء على الجنيد قاتل فارس وأبي الحسن، فلما مضى أبو محمد عليه السلام ورد استيناف من الصاحب عليه السلام بالاجراء على أبي الحسن وصاحبيه، ولا يرد في أمر الجنيد شئ، فاغتممت لذلك، فورد نعي الجنيد بعد ذلك، فإذا قطع جاريه إنما كان لوفاته. ورووا عن عيسى بن نصر قال: كتب علي بن زياد الصيمري يسأل كفنا، فكتب إليه: إنك تحتاج إليه في سنة ثمانين، وبعث إليه الكفن قبل موته ( بأيام ). ورووا عن محمد بن هارون بن عمران الهمداني قال: كان للناحية علي خمسمائة دينار، فضقت بها ذرعا، ثم قلت في نفسي: لي حوانيت اشتريتها بخمسمائة دينار وثلاثين دينارا قد جعلتها للناحية بخمسمائة، ولا والله ما نطقت بذلك، فكتب إلي محمد بن جعفر: إقبض الحوانيت من محد بن هارون بخمسمائة دينار التي لنا عنده. ورووا أن قوما وشوا إلى عبيد الله بن سليمان الوزير بوكلاء النواحي وقالوا: الأموال تجبى إليهم وسموا له جميعهم، فهم بالقبض عليهم، فخرج الأمر من السلطان: اطلبوا أين هذا الرجل فإن هذا أمر غليظ، فقال عبيد الله بن سليمان: نقبض على من ذكر أنه من الوكلاء، فقيل له: لا ولكن دسوا إليهم قوما لا يعرفون بالأموال فمن قبض منهم شيئا قبض عليه، فلم يشعر الوكلاء بشئ حتى خرج إليهم: ألا تأخذوا من أحد شيئا، وأن يمتنعوا من ذلك ويتجاهلوا بالأمر، وهم لا يعلمون ما السبب في ذلك، فاندس لمحمد ابن أحمد رجل لا يعرفه وخلا به، فقال: معي مال أريد أن أصله، فقال له محمد: غلطت أنا لا أعرف من هذا شيئا، فلم يزل يتلطف به ومحمد يتجاهل عليه، وبثوا الجواسيس، فامتنع الوكلاء كلهم لما كان تقدم إليهم، ولم يظفر بأحد منهم، وظهرت بعد ذلك الحيلة عليهم وأنها لم تتم. ورووا عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد قال: خرج النهي عن زيارة مقابر قريش والحائر على ساكنيها السلام، ولم يعرف السبب، فلما كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطاني وقال له: إلق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لا يزورون مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أن يتفقد كل من زار فيقبض عليهم. في أمثال لهذه الروايات، إيراد جميعها يخرج عن الغرض، وفي بعض ما ذكرناه كفاية.

 

إثبات تواتر هذه الأخبار

وليس لأحد أن يقول: جميع ما ذكرتموه من أخبار النصوص والمعجزات أخبار آحاد، وهي مع ذلك مختصة بنقلكم، وما هذه حاله لا يلزم الحجة به. لأن هذا القدح دعوى مجردة، ومن تأمل حال ناقلي هذه الأخبار علمهم متواترين بها على الوجه الذي تواتروا به من نقل النص الجلي، وقد بينا صحة الطريقة فيه، فلنعتمد هاهنا عند الحاجة، ومساو لنقل معجزات النبي صلى الله عليه وآله، ومن لم يتأمل ذلك وأعرض عنه لبعض الصوارف فالحجة لازمة له، ولا عذر له في جهله بما يقتضيه، شكه من تحصيل العلم به لو نظر على الوجه الذي يجب عليه. وإذا ثبت تواترها، لم يقدح فيه اختصاص نقلها بالفرقة الإمامة دون غيرها، لأن المراعى في صحة النقل وقوعه على وجه لا يجوز على ناقليه الكذب، سواء كانوا أبرارا أو فجارا متدينين بما نقلوه أو مخالفين فيه، وهذا الطعن....

 

الحكمة في غيبته

وأما الكلام في القسم الثاني، وهو بيان الحكمة في غيبة الحجة وسقوط الشبهة بها، فعلى الجملة والتفصيل. أما الجملة، فإذا تقررت إمامة صاحب الزمان عليه السلام بالأدلة العقلية والسمعية، واقتضى كونه المعصوم فيما قال وفعل الموثق فيما يأتي.... وجب القطع على حسن ذلك، وسقوط التبعة عنه، وإسناده إلى وجه حكي له حسنت الغيبة، ولم يجز لمكلف علم ذلك أن يشك في إمامته لغيبة أو يرتاب بوجوده لتعذر تميزه ومكانه، لأن حصول ذلك عن عذر لا ينافي وجود الغائب ولا يقدح في إمامته الثابتين بالأدلة، كما لا يقدح إيلام الانمال وذبح البهائم وخلق المؤذيات في حكمة القديم سبحانه الثابتة بالبرهان، وكذلك خوف النبي صلى الله عليه وآله في حال واستتاره في أخرى ومهادنته في أخرى، وتباين ما أتى به من العبادات والأحكام لا ينافي نبوته ولا يقدح في حجته الثابتين بالأدلة. وإن كان غير عالم بوجود الحجة وإمامته فلا سؤال له في غيبته، إذ الكلام فيها وهل هي حسنة أم قبيحة فرع لوجوده وثبوت حجته، ففرضنا مع هذا الجاهل بإمامة الحجة إيضاح الأدلة على إمامته وفرضه أن ينظر فيها، فإن يفعل يعلم من ذلك ما علمناه ويسقط عنه شبهة الفرع لثبوت الأصل، وإن لا يفعل يكن محجوبا في الأصل والفرع. وهذا القدر من الجملة كاف في سقوط جميع ما يتعلقون به من الشبه في إمامة الحجة عليه السلام، وغيبته عن رعيته، واستمرارها، وعدم اللطف بالظهور، وارتفاع الحفظ والتبليغ للشريعة معها، وانتفاء الإرشاد والتنبيه والقيام بما يلزم الإمام من الأمر والنهي، وإقامة الحدود والجهاد، وقبض الحقوق، وطول عمر الحجة. لأن ذلك أجمع لشئ بقبيح في جنسه، وإنما يقبح لوقوعه على وجه مخصوص ويحسن لآخر، وإذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يعلم ثبوت وجه الحسن في جميعه وبين أن يعلم استناده إلى معصوم لا يجوز عليه فعل القبيح، كعلمنا ذلك في جميع، تأثيرات الأنبياء عليهم السلام، إذ تقدير فرق بين الأمرين متعذر، وهذا أحس لمادة الشغب وأبعد من الشبه.

 

من أسباب الغيبة الخوف وعدم الناصر

وأما التفصيل، فإن حسن غيبة الخائف من الضرر القوي الظن بكون الغيبة مؤمنة له منه، فمعلوم ضرورة وجوبها عليه فضلا ( عن ) حسنها، لكونها محرزا من ضرر، وأما ثبوت ذلك في غيبة الصاحب عليه السلام فمختص به عليه السلام لكل ذي ظن لخوف، ويحرز منه لا يفتات عليه فيه. على أنا إذا كنا وكل مخالط متأمل بقدم وجوده أو تأخره نعلم نص النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمة من ذريتهما عليهم السلام: على إمامة الثاني عشر وكونه المزيل لجميع الدول والممالك الجامع للخلق على الإيمان بالقهر والاضطرار، علمنا توفر دواعي كل ذي سلطان وتابع له إلى طلبه وتتبع آثاره وقتل المتهم بنصرته، لما نجدهم عليه من حب الرئاسة وإيثارها على الآخرة وقلة الفكر في العاقبة، وتأييدها بقطع الأرحام وهجر الأحباب وبذل الأنفس والأموال وقتل الأبرار وتعظيم الفجار. وارتفع الريب عنا بوجوب استتاره ما استمر هذا الخوف إلى أن يعلم بشاهد الحال أو بغير ذلك وجود أنصار يتمكن بمثلهم من تأدية الفرض من جهاد الكفار، أو توبة المتغلبين من ذوي السلطان، فحينئذ يظهر منتصرا للحق كظهور كل من الأنبياء وخلفاء الله في الأرض عليهم السلام بعد الخوف والاضطرار. وليس لأحد أن يقول: فما بال الموجودين من شيعته الذين قد ملأوا الأرض لم ينصروه على أعدائه؟ وما باله هو عليه السلام لم يظهر منتصرا بهم؟ ففي بعضهم نصرة. لأنه ليس كل متدين بإمامته عليه السلام يصلح للحرب وينهض نعت القتال ويقوى على مجالدة الأقران، ولا كل مقتدر على ذلك يوثق منه بنصرة الحق وبذل النفس والأموال والحميم وهجر طيب العيش في اتباعه وإيثاره على هذه الأمور مع ما فيه من عظيم الكلفة. وكيف يظن ذلك من يعلم ضرورة كون أكثر شيعته ذوي مهن وضعف عن الانتصار من أضعف الظالمين ومن لا يثبت الجمع الكثير منهم كواحد من أتباع المتغلبين، ومن يظن به النصرة من نفسه من شيعة الحجة عليه السلام - لكونه ممارسا لآلات الحرب مخالطا لأصحاب الدول - هو تبع للضلال وباذل نفسه في نصرة الفجار ومعونتهم على مظالم العباد، ومن يرجى معونته بماله من ذوي اليسار منهم معلوم كونهم أو معظمهم مانعا لما يجب للحجة عليه في ماله من حقوق الخمس والأنفال التي لو أخرجوها لأوشك ظهور الحجة عليه السلام، لتمكن بها من الانتصار. ولا عذر لأحد ممن ذكرناه، لتمكن كل منهم من النظر في الأدلة الموصلة إلى العلم بالحجة، وما يجب له عليه، وبذل الجهد من نفسه، وتأدية الواجب عليه، وإخلاص النية لنصرته، وتمرين العامي نفسه على ما معه يستطيع النصرة من معاناة آلات الحرب ورياضة في عادتها. فلو فعل المكلفون أو أكثرهم أو من يصح به الانتقام من الباقين ما يجب عليه مما ذكرناه لظهر الحجة عليه السلام وغلب كلمة الحق. ولما لم يفعلوا ما يستطيعونه من تكليفهم، ثبت تقصير كل منهم، وكونه مستحقا للوزر، وإخلاله بالواجب عليه، وتأثيره في غيبة الحجة عليه السلام كتأثير العدو المعلن. وإذا لحق أكثر الأولياء بحكم الأعداء في تسبيب الغيبة، سقط الاعتراض بكثرتهم. وحصول الغيبة للخوف الذي بيناه لا يمنع من العلم بإمامة الغائب عليه السلام وثبوت وجوده، لوقوف ذلك على الأدلة التي سلمت دون الغيبة والظهور الذين لا تعلق لهما بثبوت حجة ولا انتفائها كسائر المعلومات بالأدلة.

 

كيفية الجمع بين فقد اللطف بعدم ظهوره وثبوت التكليف

وأما فقد اللطف بظهوره متصرفا ورهبة لرعيته مع ثبوت التكليف الذي وجوده مرهوبا لطف فيه مع عدمه، فإن اختصاص هذا اللطف بفعل المكلف لتمكنه من إزاحة علة نفسه بمعرفة الحجة المدلول على وجوده وثبوت إمامته وفرض طاعته وما في ذلك من الصلاح وقدرته على الانقياد وحسن تكليفه ما تمكين الإمام وإرهابه أهل البغي لطف فيه، وإن كانا مرتفعين بغيبته الحاصلة عن جناية المكلف عن نفسه، فالتبعة عليه دون مكلفه سبحانه ودون الحجة الملطوف له بوجوده. وتكليفه لازم له وإن فقد لطفه بالرئاسة، لوقوف المصلحة في ذلك على إيثاره معرفة الإمام والانقياد له باختياره دون إلجائه، كسائر المتعلقة بفعل الملطوف له من المعارف العقلية والعبادات الشرعية المعلوم حسن تكليف ما هي لطف فيه من الضروريات، وإن انتفى العلم والعمل بها من الملطوف له بها، لكونه قادرا على الأمرين وفاقدا للاستصلاح بهما بسوء نظره لنفسه وقبيح اختياره.

 

العلة في عدم منع الله من يريد الحجة بسوء

وليس لأحد أن يقول: ألا أيد الله سبحانه الحجة الملطوف بسلطانه للخلق، أو منع منه ( من ) يريده بالسوء ليتم الصلاح ويحسن التكليف؟. لأن هذا وإن كان مقدورا له تعالى، و ( لكن ) المصلحة في غيره، لوقوفها على اختيار المكلف دون إلجائه، كسائر المعارف العقلية والتكاليف الشرعية المتعلق كونها مصلحة بفعل المكلف دون مكلفه سبحانه، وتكليفه الضروري ثابت وإن فقد لطفه، لتعلق فقدانه به دون القديم سبحانه. فكما أن سؤال من قال: هلا فعل الله العلم الضروري بجملة المعارف للكفار واضطر الكل إلى فعل الشرعيات وترك قبائحها لتتم المصلحة ويحسن تكليفهم ما هذه المعارف والشرايع لطف فيه ساقط، فكذلك سؤال من قال: هلا جبر الله تعالى الرعية على طاعة الرئيس ومنعهم من ظلمه، إذ كان العذر في الموضعين واحدا.

 

إمكان ظهوره لأوليائه في زمن الغيبة

وليس لأحد أن يقول: فهب تكليف أعدائه مع غيبته عليه السلام لازم، لتقصيرهم عن الواجب من تمكينه، فما بال أوليائه العارفين به المتدينين بطاعته يمنعون لطفهم بظهوره لهم بجناية غيرهم، ويلزمهم تكليف ما ظهور الإمام لطف فيه مع غيبته بجريرة سواهم، ومقتضى الألطاف عندكم بخلاف هذا. لأنا لا نقطع على غيبة الإمام عليه السلام عن جميعهم، بل يجوز ظهوره لكثير منهم، ومن لم يظهر له منهم فهو عالما بوجوده ومتدين بفرض طاعته وخائف من سطوته، لتجويزه ظهوره له ولكل مكلف في حال منتصرا منه إن أتى جناية أو من غيره من الجناة، فغيبته عنده على هذا التقدير كظهوره في كونه مزجورا معها، بل حاله مع الغيبة أبلغ في الزجر، من حيث كانت حال الظهور تقتضي اختصاص الحجة لمكان معلوم وخلوه مما عداه، وفي حال الغيبة لا مكلف من شيعته إلا ويجوز اختصاص الإمام بما يليه من الأمكنة ولا يأمن ظهوره فيها، وإذا كانت هذه حال أوليائه عليه السلام في زمان الغيبة حسن تكليفهم ما وجود الإمام لطف فيه وإن كان غائبا، لحصول صلاحهم فيها بالظهور.

 

حفظ الشريعة في حال الغيبة

وأما حفظه صلوات الله عليه الشريعة وتبليغها في حال الغيبة، فإنها لم تحصل له إلا بعد تبليغ آبائه جميع الشريعة إلى الخلق وإبانتهم عن أحكامها وإيداع شيعتهم من ذلك ما يزاح به علة كل مكلف وحفظهم عليهم السلام عليهم في حال وجودهم، وحفظه هو عليه السلام بعد فقدهم بكونه من وراء الناقلين وأحد المجمعين من شيعته وشيعة آبائه عليهم السلام، فقام والحال هذه إجماع العلماء من شيعته وتواترهم بالأحكام عن آبائه عليهم السلام، مع كونه حافظا من ورائهم مقام مشافهة الحجة، ورجب على كل مكلف العمل بالشريعة الرجوع إلى علماء شيعته والناقلين عن آبائه عليهم السلام، لكونه أمنا من الخطأ فيما أجمعوا عليه، لكون الحجة المأمون واحدا من المجمعين وفيما تواتروا به عن الصادقين من آبائه عليهم السلام، لصحة الحكم المعلوم بالتواتر إسناده إلى المعصوم في تبليغه المأمون في أدائه وقطع على بلوغه جملة ما تعبد به من الشريعة، لوجود الحجة المعصوم المنصوب لتبليغ الملة وبيان ما لا يعلم إلا من جهته وإمساكه عن النكير فيما أجمعوا عليه وفقد فتياه بخلاف له أو زيادة فيه. فن أراد الشريعة في حال الغيبة فالطريق إليها ما ذكرناه والحجة به قائمة، ولا معضل ولا مشكل إلا وعند العلماء من شيعته منه تواتر ولهم على الصحيح منه برهان، من طلب ذلك ظفر به ظفر العلماء من شيعته، ومن عدل عنه ورغب عن الحجة مع لزومها له بتخويف شيعته، ووضوح الحق على جملة الشريعة وقيام البرهان على جميعها، فالتبعة عليه لتقصيره عما وضح برهان لزومه له والمحنة بينهم وبين منكر ذلك. وقد استوفينا ما يتعلق بهذا الفصل في كتاب العمدة ومسألتي الشافية والكافية، وأوضحنا عن ثبوت الحجة به، وأسقطنا ما يتعلق به من الشبه، فذكرها هاهنا يخرج عن الغرض، ومريده يجده هناك مستوفى.

 

حكم تنفيذ الأحكام وإرشاد الضال وحقوق الأموال في حال الغيبة

وأما تنفيذه صلى الله عليه وآله الأحكام وردع الجناة باليد العالية وإقامة الحدود وجهاد الأعداء، فساط ( عنه ) عليه السلام، لتقيه وقصور يده بإخافة الظالمين له وأعوانهم، ولا تبعة عليه في شئ من ذلك، لوقوف فرضه على التمكن منه باتفاق، بل التبعة فيه على مخيفه ومسبب ضعفه عن القيام بما جعل إليه تنفيذه مع التمكن منه، كسقوط ذلك عن كل نبي ووصي ومؤمن في حال الخوف والضعف عن القيام به، ولزوم التبعة للمانع من ذلك بإخافته، إذ كان ذلك أجمع من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتعلق فرضها بالتمكن منها وعدم المفسدة، دون الحجة عليه السلام الممنوع من ذلك بالخوف والاضطرار. وأما إرشاد الضال عن الحق إليه، فالأدلة على التكليف العقلي ثابتة، والتخويف من ترك النظر فيها حاصل، والبراهين على الحق من التكليف الشرعي قائمة، والتخويف من الاعراض ثابت ظاهر، وإن كان الحجة غائبا. فمن ضل عن تكليف عقلي أو شرعي والحال هذه أتى من قبل نفسه ولم يجب على الإمام إرشاده، لكونه قادرا على النظر في أدلة المعارف ومستطيعا لتأمل فتيا الشيعة وما يستند إليه من وجود الحجة المعصوم من ورائهم، وفرض النظر في ذلك مضيق عليه بالتخويف الشديد من تركه، فلو فعل كل مكلف ما يجب عليه منه لعلم ما يلزم من تكليفه عقلا وسمعا، ولما لم يفعل، فالحجة لازمة له، ولا عذر له في تقصيره عما يجب عليه علمه وعمله، وإن كان الإمام عليه السلام غائبا. وأما حقوق الأموال الواجب حملها إليه، ففرض قبضها وتصرفها في وجوهها موقوف على تمكنه صلوات الله عليه وآله من ذلك، و ( مع ) عدم التمكين له التبعة على مسبب هذا المنع، ولا تبعة عليه، كما لا تبعة على من قبله من آبائه عليهم الصلاة والسلام ومن قبلهم من أنبياء الله وحججه صلوات الله عليهم، وفرض مكلف ذلك إخراج ما تعين عليه فرضه من الزكوات والفطرة وشطر الخمس إلى من يستحقه، وهم معروفون منصوص على أعيانهم وصفاتهم في الكتاب والسنة المعلومة بنقل آبائه عليهم السلام، فإن جهل حالهم سأل علماء العصابة عنهم أو حمل ما يجب عليه من الحقوق إليهم فيضعوه في مستحقيه، وعزل ما يستحقه الإمام صلوات الله عليه من الخمس والأنفال من جملة المال، وأحرزه وانتظر به التمكن من إيصاله إليه أو إلى من يأذن له قبضه، والوصية به إن خاف الفوت قبل ذلك، كسائر الحقوق المتعذر معرفة مستحقها بعينه، فإن ضعف عن ذلك، حمله إلى المأمون من فقهاء الطائفة ليحكم فيه بما شرع له، وأي الأمرين فعل برأت ذمته مما وجب من حقوق الأموال.

 

رد من قال: لا حاجة إلى الحجة

وليس لأحد أن يقول: فإذا كان التكليف العقلي والسمعي ثابتا، والطريق إليهما واضحا في زمان الغيبة، فلا حاجة بالمكلفين فيها إلى الحجة، لصحة التكليف من دونه، وهذا ينقض قولكم بوجوب الحاجة إليه في كل حال. لأنا قد بينا قبح التكليف العقلي من دون الرئاسة، لكونها لطفا في فعل الواجب وترك القبيح، وقولنا الآن بإمكان العلم بالتكليف العقلي في حال الغيبة منفصل من حصول اللطف برئاسة الغائب بغير شبهة على متأمل، ولزوم التكليف به لعدوه ووليه في زمان الغيبة لا يقتضي القدح في وجوب وجوده، لأن تقدير عدمه يقتضي سقوط تكليفها أو ثبوته من دون اللطف، وكذلك قد بينا أن العلم بوصول المكلف إلى جملة التكليف الشرعي لا يمكن مع عدم الحجة المنصوص لحفظه وإن علم أحكاما كثيرة، لتجويزه بقاء أكثر ما كلفه من الشرعيات لم يصل إليه، فكيف يعترض علينا لقولنا بلزوم التكليفين في زمان الغيبة وإمكان العلم بهما، فيقال ذلك مقتض للاستغناء عن الإمام مع وقوف التكليفين على وجوده وإن كان غائبا عليه السلام لولا غفلة الخصم.

 

رد من قال: لا حاجة إلى ظهور الحجة

وليس لأحد أن يقول: فإذا كنتم معشر القائلين بإمامة الحجة بن الحسن عليهما السلام حال الغيبة عندكم كحال الظهور في إزاحة العلة في التكليفين عقلا وسمعا، بل قد رجحتم الغيبة في بعض المواضع على الظهور، فلا حاجة بكم خاصة إلى ظهوره، ولا وجه لتمنيكم ذلك ورغبتكم إلى الله تعالى فيه. لأنا وإن كانت علتا مزاحة في تكليفنا على ما وضح برهانه، فني ظهور الحجة على الوجه الذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وآله فوائد كثيرة، وتكاليف تتعين بظهوره ومنافع حاصلة بذلك ليس شئ منها حاصلا في حال الغيبة. لأنه عليه السلام يظهر لزوال دول الظالمين المخيفين لشيعته وذراري آبائه عليهم السلام، ورفع جورهم بعدله وإبطال أحكام أهل الضلال بحكم الله والسيرة بالملة الإسلامية التي لم يحكم بجملتها منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله. ومنها: الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر، وجهاد الكفار، مع سقوط ذلك أجمع عنا في حال الغيبة، وهذه أحكام تثبت، وحقوق تظهر، وقبائح ترتفع، وتكاليف تتعين بظهوره ليست حاصلة في حال غيبته. ومنها: زوال الخوف عن شيعته وذرية آبائه عليه السلام بظهور سلطانه، وارتفاع التقية بدولته، وسهولة التكليف الشرعي ببيانه، وسقوط كلفة النظر الشاق في الأدلة الموصلة إليه في حال غيبته. ومنها: براءة الذمم من الحقوق الواجبة له في الأموال المتعذر إيصالها إليه في زمان الغيبة. ومنها: ظهور الدعوة إلى جملة الحق في المعارف والشرائع بظهوره، والفتيا بذلك والعمل بها في جميع الأرض مع ارتفاع ذلك في حال الغيبة. وهذه فوائد عظيمة لها ورغبنا إلى الله تعالى في ظهوره لنفوز بها، ونكون من أنصاره عليها، فنحظى بثواب نصرته، ونسر بنفوذ حكم الله وظهور عدله عليه السلام.

 

مسألة طول الغيبة وطول عمر الحجة

وأما طول الغيبة وتراخي الزمان بها، فلثبوت الواجب لها، واستمراره من إخافة الظالمين، وإصرارهم على الظلم والعزم على استيصال الحجة، وإذا كان ماله وجبت الغيبة مستمرا حسن لذلك استمرارها، وكانت التبعة على موجب ذلك دون الحجة المضطر إليها. وأما طول العمر وبقاء الشباب مع كونه خلافا للعادات، فلا قدح به، لكونه مقدورا للقديم سبحانه وشائعا في حكمة، وإنما يفعل منه من طول وقصر وشيخوخة وتبقية شباب ما يقتضي المصلحة فعله، لكون ذلك موقوفا على مقدوره تعالى المعلوم حسن جميعه وتعلقه بمقدوره تعالى بغير شبهة على موحد. وإنما استبعد ذلك ملحد يضيف التأثيرات إلى الطبائع أو الكواكب، فأما من أثبت صانعا قادرا لنفسه فشبهته في ذلك ساقطة، ولم يبق إلا استبعاده في العادة مع المنع من خرق العادات لغير الأنبياء عليهم السلام، وكلا الأمرين ساقط: أما استبعاده في العادة، فالمعلوم خلافه. لإجماع الأمة على طول عمر نوح عليه السلام، وأنه عاش ألفا ومائتين، وقد نطق القرآن بنبوته في قومه داعيا ألف سنة إلا خمسين عاما، ولا شبهة في وجوده حيا قبل الدعوة وبعد الطوفان. وأجمع العلماء بالنقل على كون الخضر عليه السلام حيا باقيا إلى الآن، وهو على ما وردت الروايات به من ولد الثاني من ولد نوح عليه السلام، ويكفي كونه صاحبا لموسى بن عمران عليه السلام باقيا إلى الآن. وقد تواتر الخبر وأجمع أهل السيرة على طول عمر لقمان الحكيم عليه السلام، وأنه عاش عمر سبعة أنسر، وفيه يقول الأعشى، شعر: لنفسك أن تختار سبعة أنسر إذا ما مضى نسر خلوت إلى نسر فعمر حتى خال أن نسوره خلود وهل تبقى النفوس على الدهر وقال لأدناهن إذ حل ريشه هلكت وأهلكت ابن عاد وما تدري وإنما اختلفوا في عمر النسر، ففيهم من قال: ألف سنة، وفيهم من قال: خمس مائة سنة، وأقل ما روي: أن عمر السبعة الانسر الذي عاشه لقمان ألف وخمسون ومائة سنة. وقد تناصرت الروايات بطول عمر سلمان الفارسي رضي الله عنه، وأنه لقي من لقي المسيح عليه السلام، وعاش إلى خلافة عمر بن الخطاب. ونقل الكل من أصحاب الحديث أو من تثبت بنقله الحجة من الفرق المختلفة أخبار المعمرين ودونوا أشعارهم وأخبارهم. فمن ذلك: عمرو بن حممة الدوسي، عاش أربع مائة سنة حاكما على العرب، وهو ذو الحلم الذي يقول فيه الملتمس اليشكري، شعر: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وما علم الانسان إلا ليعلما وهو القائل: كبرت وطال العمر حتى كأنني سليم أفاع ليله غير مودع فما الموت أفناني ولكن تتابعت علي سنون من مصيف ومربع ثلاث مئين قد مررن كواملا وها أنا هذا أرتجي مر أربع ومنهم: الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد المذحجي، وكان من حكماء العرب وفصحائهم، وهو القائل، شعر: أكلت شبابي فأفنيته وأمضيت بعد دهور دهورا ثلاثة أهلين صاحبتهم فبادوا وأصبحت شيخا كبيرا عسير القيام قليل الطعام قد ترك الدهر خطوى قصيرا أبيت أرعى نجوم السما أقلب أمري بطونا ظهورا ومنهم: المستوغر، وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تميم بن مربن أد بن طلحة بن إلياس بن مضر. عاش ثلاث مائة، وأدرك أول الإسلام، وروي أنه مات قبل ظهور النبي صلى الله عليه وآله، وهو القائل، شعر: ولقد سئمت من الحياة وطولها وعمرت من عدد السنين مئينا مائة أتت من بعدها مائتان لي وازددت من عدد الشهور سنينا هل ما بقي إلا كما قد فاتنا يوم يكرو ليلة تحدوها ومنهم: دويد بن زيد بن نهد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة بن مالك ابن مرة بن مالك بن حمير. عاش أربع مائة سنة وستا وخمسين سنة، وهو القائل، شعر: اليوم يبنى لدويد بيته.......................... إلى قوله، شعر: لو كان للدهر بلى أبليته أو كان قرني واحدا كفيته ومن قوله، شعر: ألقى علي الدهر رجلا ويدا والدهر ما أصلح يوما أفسدا يفسد ما أصلحه اليوم غدا ومنهم: زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير، عاش مائتي سنة، وواقع مائتي وقعة، لا وكان سيدا مطاعا شريفا في قومه، ويقال: كانت فيه عشر خصال، لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه: كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم، وكاهنهم، وفارسهم، وله البيت فيهم، والعدد منهم. وله حكم ووصايا وأشعار مشهورة. فمن قوله، شعر: لقد عمرت حتى ما أبالي أحتفي في صباحي أو مسائي وحق لمن أتت مائتان عاما عليه أن يمل من الثواء ومنهم: ذو الإصبع العدواني، واحمه حرثان بن محرث بن الحارث بن ربيعة بن وهب بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان، وكان شاعرا فصيحا ومن حكماء العرب، عاش مائة سنة وسبعين سنة، وفي رواية أبي حاتم أنه عاش ثلاث مائة سنة، ومن حسن شعره: لا يبعدن عهد الشباب ولا لذاته ونباته النضر هزئت أثلية أن رأت هرمي وأن انحنى لتقادم ظهري أكاشر ذا الطعن المبين عنهم وأضحك حتى يبدو الناب أجمع وأهدنه بالقول هدنا ولو يرى سريرة ما أخفي لبات يفزع ومنهم: الربيع بن ضبع الفزاري، روي أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا ربيع أخبرني عما أدركت من العمر ورأيت من الخطوب الماضية؟ فقال: أنا الذي أقول، شعر: ها أنا ذا آمل الخلود وقد أدرك عقلي ومولدي حجرا فقال عبد الملك: قد رويت هذا من شعرك وأنا صبي، يا ربيع لقد طلبك جد غير عاثر ففصل لي عمرك، فقال عشت مائتي سنة في فترة عيسى عليه السلام وعشرين ومائة في الجاهلية وستين في الإسلام، وهو القائل، شعر: إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهدمه الشتاء وأما حين يذهب كل قر فسر بال خفيف أو رداء إذا عاش الفتى مائتين عاما فقد ذهب المسرة والفتاء ومنهم: عبد المسيح بن بقيلة، واسمه ثعلبة بن عمرو بن قيس بن حيان، عاش ثلاث مائة سنة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام فلم يسلم وكان نصرانيا، وبنى له قصرا بالحيرة، وعاش إلى خلافة عمر، ولما نزل خالد بن الوليد بالحيرة صالحه على مائة ألف درهم، فقال في ذلك، شعر: أبعد المنذرين أرى سوا ما تروح بالخورنق والسدير تحاماه فوارس كل قوم مخافة ضيغم على الزئير إلى قوله: نؤدي الخرج بعد خراج كسرى وخرج من قريظة والنضير كذاك الدهر دولته سجال فيوم من مساة أو سرور ومنهم: النابغة الجعدي، واسمه قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ويكنى أبا ليلى، وأدرك الإسلام فأسلم، وهو القائل، شعر: تذكرت والذكرى تهيج على الهوى ومن حاجة المحزون أن يتذكرا نداماي عند المنذر بن محرق أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرا كهول وفتيان كأن وجوههم دنانير مما شيف في أرض قيصرا وله أيضا: لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا ثلاثة أهلين أفنيتهم وكان الله هو المستاسا يعني: المستعاض، وله: ولقد شهدت عكاظ قبل محلها فيها وكنت أعد مفتيان والمنذر بن محرق في ملكه وشهدت يوم هجائن النعمان وعمرت حتى جاء أحمد بالهدى وقوارع تتلى من القرآن ومنهم: أكثم بن صيفي الأسدي، عاش ثلاث مائة سنة وثلاثين سنة، وأدرك النبي صلى الله عليه وآله وآمن به قبل أن يلقاه، وله أحاديث كثيرة وحكم، وهو القائل، شعر: وإن امرءا قد عاش تسعين حجة إلى مائة لم يسأم العيش جاهل مضت مائتان بعد عشر وفازها وذلك من عد الليالي قلائل ومنهم: صيفي بن رباح، عاش مائتي سنة وسبعين سنة، لا ينكر من عقله شئ، وهو في بعض الروايات ذو الحلم الذي يقول المتلمس اليشكري فيه البيت السالف. ومنهم: ضبيرة بن سعد بن سهم بن عمرو، عاش مائتي سنة وعشرين سنة ولم يشب، وأدرك الإسلام ولم يسلم، ومات أسود الشعر صحيح الأسنان، فرثاه ابن عمه قيس بن عدي فقال، شعر: من يأمن الحدثان بعد ضبيرة السهمي ماتا سبقت منيته المشيب فكان ميتته افتلاتا فتزودوا لا تهلكوا من دون أهلكم خفاتا ومنهم: شريح بن هاني بن نهيك بن دريد بن سلمة، أدرك الإسلام، وقتل في ولاية الحجاج، وهو القائل، شعر: قد عشت بين المشركين أعصرا ثمة أدركت النبي المنذرا وبعده صديقه وعمرا ( ويوم مهران ويوم تسترا ) والجمع من صفينهم والنهرا هيهات ما أطول هذا عمرا ومنهم: الحارث بن مضاض الجرهمي، عاش أربع مائة سنة، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وقتل يوم حنين، وهو القائل، شعر: حرب عوان ليتني فيها جدع......................... وإذا كان ما ذكرناه من أعمار هؤلاء معلوما لكل سامع للأخبار، وفيهم أنبياء صالحون وكفار معاندون وفساق معلنون، سقط دعوى خصومنا كون عمر الغائب خارقا العادة، لثبوت أضعاف ما انتهى إليه من المدة لأبرار وفجار. على أن خرق العادة على غير الأنبياء عليهم السلام إنما يمنع منه المعتزلة وإخوانها الخوارج إذا تكاملت فيه شروط المعجز، وطول عمر الحجة عليه السلام خارج عن قبيل الإعجاز بغير شبهة، لانفصاله من دعواه، بل هو مستحيل، لأن تأخر الدعوى ومضي العمر الخارق للعادة لا يؤثر شيئا، لوجوب تقدم الدعوى بخرق العادات المفعول للتصديق عقيبها، وتقدم الدعوى بطول العمر لا يجدي شيئا، لتعريها من برهان صحته، ولوقوعها على ما لم يحصل إلا بعد أزمان. اللهم إلا أن يجعل جاعل طول عمره عليه السلام مدة معلومة دلالة على صدقه بعد مضي الزمان الذي أخبر به، غير أن هذا المعجز من قبيل الإخبار بالغائبات دون طول العمر. أو يجعل جاعل ظهوره عليه السلام بعد طول المدة شابا قويا معجزا، فيصح ذلك، إلا أنه مختص بزمان ظهوره دون زمان غيبته. وبعد، فلو سلمنا أن طول عمر الغائب عليه السلام المدة التي بلغها أحد من ذكرناه من المعمرين وأضعافها خارقا للعادة على ما اقترح علينا، وأنه من قبيل الإعجاز، لم يقدح ذلك في شئ مما قدمناه، لجواز ظهور المعجز عندنا على الأبرار، فضلا عن الحجج والصالحين حسب ما دللنا عليه في ماضي كتابنا هذا وأوضحناه.

 

كيف يمكن معرفة الحجة عند ظهوره

فإن قيل: فهب أنكم تعلمون تخصيص حجة الإمامة في هذا الزمان بابن الحسن عليه السلام، فكيف لمن ظهر له من خاصته في زمان الغيبة بمعرفته ولجميع شيعته وغيرهم حين الظهور العام. قيل: لا بد في حال ظهوره الخاص والعام من معجز يقترن به ليعلم الخاص والعام من شيعته وغيرهم عند تأمله كونه الحجة بعينه، إذ كان النص المتقدم من الكتاب والسنة والاعتبار العقلي دلالة على إمامته وتخصيص الحجة على الجملة، ولا طريق لأحد من المكلفين منها إلى تعينه، وكذلك وجب ظهور المعجز مقترنا بظهوره عليه السلام.