عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني

 

نظرة في أحاديث العهد

هذه سلسلة روايات أصفق على وضعها دجالون تتراوح أسانيدها بين أموي و شامي وبصري، وبين عثماني متحامل على سيد العترة، وبين أناس آخرين من ضعيف إلى كذاب إلى متروك إلى ساقط .

 على أن متونها أكثر عللا من أسانيدها فإن الخضوع لصحتها يستدعي الوقيعة في الصحابة كلهم لأن المنصوص عليه في غير واحد منها: إن الذين أجلبوا على عثمان وأرادوا خلعه أناس منافقون، وفي بعضها: فإن عثمان يومئذ وأصحابه على الحق، وعليكم بالأمين وأصحابه .

 وقد علمت أن المتجمهرين عليه هم الصحابة كلهم المهاجرون منهم والأنصار ما خلا ثلاثة: زيد بن ثابت، حسان بن ثابت، أسيد الساعدي . أو: هم وكعب بن مالك .

 وأناس من زعانفة الأمويين، وأين هذا من الاعتقاد بعدالتهم جمعاء كما عند القوم ؟ ومن الخضوع لجلالة كثيرين منهم الذين علمت منهم نواياهم الصالحة، وأعمالهم البارة، والنصوص النبوية الصادرة فيهم، وثناء الله تعالى عليهم في كتابه الكريم كما عند الأمة أجمع ؟ .

 ثم إن عثمان وإن كان يتظاهر بامتثال الأمر الموجود في الروايات وغيرها بالصبر وعدم القتال غير أن عمله كان مباينا لذلك لمكاتبته إلى الأوساط الإسلامية يستجلب منها الجيوش لمقاتلة أهل المدينة، ويرى قتالهم قتال الأحزاب يوم بدر، و ينص على أن القوم قد كفروا، فلو اتصلت به كتائب الأمداد يومئذ لألقحها حربا زبونا وفتنة عمياء، وإنما كان ينكص عن النضال لإعواز الناصر لإصفاق الصحابة عليه عدا أولئك الثلاثة وما كانوا يغنون عنه شيئا، ولا سيما حسان بن ثابت الذي لم يكن يجسر أن يأخذ سلب القتيل الذي قتلته امرأة (1) .

 على أنه لم يتقاعد عن المقاتلة أيضا بمن كان معه من حثالة بني أمية فقد بذلوا كل ما حووه من بسالة وشجاعة، غير أن القضاء الحاتم أخزاهم وحال بينهم وبين النجاح إلى أن لجأوا إلى أم حبيبة فجعلتهم في كندوج ثم خرجوا من المدينة هاربين .

 ثم هب أن عائشة كانت نسيت ما روته حين ألبت الجماهير على عثمان وأمرت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع الجزء الثاني من كتابنا هذا ص 64 ط 2 .

 

/ صفحة 273 /

بقتله وسمته نعثلا كافرا فهل بقية الرواة وهم: عبد الله بن عمر وأبو هريرة ومرة البهزي وعبد الله بن حوالة وأبو سهلة وأنس أصفقوا معها على النسيان ؟ أو أنهم ما كانوا يروونها يومئذ ثم اقتضت الظروف أن يرووها ؟ أو أنها اختلقت بعدهم على ألسنتهم ؟ ولو كان لهذه الكلمات المعزوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - من قوله: عليكم بالأمين وأصحابه، وقوله: اتبعوا هذا وأصحابه، وقوله: إتبع هذا الرجل فإنه يومئذ ومن اتبعه على الحق - مقيلا من الصحة لا ستدعى أن يفيضها على الصحابة كلهم لأن قضيتها أن تلك الفتنة الموعود بها من الفتن المضلة، وإن عثمان عندئذ في جانب الحق، وما كان رسول صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يشح على أمته بالارشاد إلى ما فيه هدايتهم و صلاحهم الديني، وهو مقيض لذلك ومبعوث لأجله، فلماذا لم يروها غير هؤلاء ؟ و لا عرفها غيرهم ولو بوساطتهم ؟ وكان إلقائها عليهم مسارة لا يطلع عليها أحد ؟ ولماذا ترك هؤلاء الاحتجاج بها يوم الدار ؟ وفي القوم وهم الأكثرون من إن يسمع بها لا يتباطأ عن الخضوع للأمر النبوي المطاع، أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ؟ إن هذا إلا اختلاق .

نظرة في مناقب عثمان

الواردة في الصحاح والمسانيد

إلى هنا سبرنا صحيفة من حياة عثمان ولا أدري أهي بيضاء أم غيرها ؟ ! لكن الباحث الممعن فيها يوقفه التنقيب على نفسياته ومقداره، والغاية من هذا الاسهاب أن نجعل نتيجة هذا الخوض والبحث مقياسا في أمره نرد إليه كل ما يؤثر في حقه فإن ساوى المقياس أثبتناه، وإن طاله أو قصر عنه عرفنا أنه من الغلو في الفضائل .

 وما سردنا إلى هنا من دعارة في الخلق، وعرامة في الطباع، وعرارة في الشكيمة وشرة في الغرائز، وفظاظة في الأعمال، وتعسف في الحكم، واتباع للشهوات، وميل عن الحق، ودناءة في النفس، وسقطة في الرأي، وسرف في القول، إلى الكثير المتوفر من أمثال هذه مما لا تحمد فعليته ولا عقباه، لا يدع الباحث أن يخضع لشئ مما قيل أو تقول فيه من الفضل قويت أسانيده أو وهنت .

 

/ صفحة 274 /

كما أن آراء الصحابة الأولين التي زففناها إلى مناظرك في هذا الجزء من صفحة 69 - 168 لا تدع مجالا للبحث عن صحة تلكم المفتعلات فضلا عن إثباتها، وأنك تجد في مرسليها أو مسنديها لفائف من زبانية الميول والأهواء من بصري أو شامي أنهوا أسانيدهم في الغالب إلى موالي عثمان أو إلى رجال بيته الساقط، وذلك مما يعطي أنها من صنايع معاوية للخليفة المقتول الذي اتخذ أمره سلما إلى ما كان يبتغيه من المرتقى، وكان معاوية يهب القناطير المقنطرة لوضع الأحاديث في فضائل أبناء بيته الشجرة المنعوتة في القرآن، من بني أمية عامة، ومن آل أبي العاص خاصة، أضف إلى ذلك ما يكتنف أغلب تلك المتون من الموهنات التي لا يقاومها أي تمحل في تصحيحها، وإليك نبذة من تلكم الموضوعات:

1 - أخرج مسلم وأحمد من طريق عقيل الأموي عن الليث العثماني عن يحيى ابن سعيد الأموي عن سعيد بن العاص ابن عم عثمان عن عائشة وعثمان قالا: إن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس وقال لعائشة: إجمعي عليك ثيابك . فقضيت إليه حاجتي .

 ثم انصرف، فقالت عائشة: يا رسول الله ؟ ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عثمان رجل حيي (1) وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته (2) .

 2 - أخرج مسلم غيره من طريق عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه وساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلس وسويت ثيابك ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) حيي كغني: ذو حياء . وفي شرح مسلم: أي كثير الحياء .

 (2) صحيح مسلم 7: 117، مسند أحمد 1: 71 و ج 6: 155، 167 .

 

/ صفحة 275 /

فقال: ألا أستحيي من رجل تستحي منه الملائكة (1) .

 وأخرج البخاري في مناقب عثمان حديثا وقال في ذيله: زاد عاصم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في مكان فيه ماء قد كشف عن ركبتيه أو ركبته فلما دخل عثمان غطاها .

 قال ابن حجر في فتح الباري 7: 43: قال ابن التين: أنكر الداودي هذه الرواية وقال: هذه الرواية ليست من هذا الحديث بل دخل لرواتها حديث في حديث، وإنما ذلك الحديث: إن أبا بكر أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته قد انكشف فخذه فجلس أبو بكر ثم دخل عمر ثم دخل عثمان فغطاها . الحديث .

 قال الأميني: الحياء هو انقباض النفس عما لا يلائم خطة الشرف من الناحية الدينية أو الانسانية، وأصله فطري للانسان، وكماله اكتسابي يتأتى بالإيمان، فهو يتدرج في الرقي بتدرج الإيمان والمعرفة، فتنتهي إلى ملكة راسخة تأبى لصاحبهما التورط في المخازي كلها، فيكون بها الانسان محدودا في أفعاله وتروكه وشهواته وميوله وتنبسط تلكم الحدود على الأعضاء والجوارح وعلى النفس والعقل، فلا يسع أيا منها الخروج عن حده، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى (2) فكل عمل خارج عن حدود الدين والانسانية مناف للحياء، وهو الرادع الوحيد عن الفحشاء والمنكر، وعن كل ما يلوث ذيل الانسانية والعفة والإيمان من صغيرة أو كبيرة، ومن لم يستح فله أن يفعل ما يشاء، وجاء في النبوي على المحدث به وآله السلام: إذا لم تستح فاصنع - فافعل - ما شئت (3) .

 وعلى هذا فكل من الفحش والبذاء والكذب والخيانة والغدر والمكر ونقض العهد التخلع والمجون وما يجري مجراها أضداد للحياء، وقد وقع التقابل بينها وبينه في لسان المشرع الأعظم منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) مسند أحمد 6: 62، صحيح مسلم 7: 116، مصابيح السنة 2: 273، الرياض النضرة 2: 88، تاريخ ابن كثير 7: 202 .

 (2) أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح، والمنذري في الترغيب والترهيب 3: 166 .

 (3) أخرجه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه .

 

/ صفحة 276 /

والبذاء من الجفاء والجفاء في النار (1) .

 وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الحياء والعي من الإيمان وهما يقربان من الجنة ويباعدان من النار، والفحش والبذاء من الشيطان وهما يقربان من النار ويباعدان من الجنة .

 أخرجه الطبراني كما في الترغيب والترهيب 3: 165 .

 وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عائشة ! لو كان الحياء رجلا كان رجلا صالحا، ولو كان الفحش رجلا كان رجل سوء .

 رواه الطبراني وأبو الشيخ كما في الترغيب والترهيب 3: 166 .

 وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما كان الفحش في شئ إلا شانه، وما كان الحياء في شئ إلا زانه أخرجه ابن ماجة في سننه 2: 546، والترمذي في الصحيح .

 وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الاسلام .

 أخرجه ابن ماجة كما في الترغيب والترهيب 2: 167 .

 وقال صلى الله عليه وآله وسلم: الحياء لا يأتي إلا بخير (2) وقال المناوي في شرحه في فيض القدير 3: 427: لأن من استحيا من الناس أن يروه يأتي بقبيح دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه أشد فلا يضيع فريضة، ولا يرتكب خطيئة، قال ابن عربي: الحياء أن لا يفعل الانسان ما يخجله إذا عرف منه أنه عرف منه أنه فعله، والمؤمن يعلم بأن الله يرى كل ما يفعله، فيلزمه الحياء منه لعلمه بذلك، وبأنه لا بد أن يقرره يوم القيامة على ما عمله فيخجل فيؤديه إلى ترك ما يخجل منه، وذلك هو الحياء فمن ثم لا يأتي إلا بخير .

 وقال: حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق الغير، وقال بعض الحكماء: من كسا (3) الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) قال المنذري في الترغيب والترهيب 3: 165: أخرجه أحمد ورجاله رجال الصحيح، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح .

 (2) أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة والمنذري .

 (3) لعل الصحيح: من كساه الحياء ثوبه .

 

/ صفحة 277 /

إذن هلم معي لنسبر حياة الخليفة - عثمان - علنا نجد فيها ما يصح للبرهنة على ثبوت هذه الملكة له إن لم يكفأنا الإياس منها بخفي حنين، فارجع البصر كرتين فيما سردناه من أفعال الخليفة وتروكه ومحاوراته وأقواله، ثم انظر هل تجد في شئ منها ما يدعم هذه الدعوى له فضلا عن أن يكون أحيأ الناس، أو أشد الأمة حياء، أو تستحيي منه الملائكة ؟ أيصلح شاهدا لذلك قوله لمولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام: والله ما أنت عندي أفضل من مروان ؟ هلا كان يعلم أن الله عد عليا في كتابه نفس النبي الأقدس وقد طهره بنص الذكر الحكيم، ومروان طريد ابن طريد، وزغ ابن وزغ، لعين ابن لعين ؟ راجع الجزء الثامن ص 260 ط 2 .

 أو اتهامه ذلك الإمام الطاهر سيد العترة بكتاب كتبه هو في قتل محمد بن أبي بكر وأصحابه وتعذيبهم وتنكيلهم، فينكر ما كتب ويقول له عليه السلام: اتهمك واتهم كاتبي مروان ؟ أو قوله للإمام عليه السلام: لئن بقيت لا أعدم طاغيا يتخذك سلما وعضدا ويعدك كهفا وملجأ ؟ أو قوله له عليه السلام لما كلمه في أمر عمار ونفيه إياه: أنت أحق بالنفي منه ؟ أو قوله لأصحابه مروان ومن كان على شاكلته يستشيرهم في أمر أبي ذر: أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ؟ وملأ مسامع الصحابة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أظلت الخضراء، وما أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر .

 إلى كلمات أخرى له صلى الله عليه وآله وسلم في الثناء عليه، راجع الجزء الثامن ص 312 ط 2 .

 أو قوله لعمار لما سمع منه - رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا -: يا عاض أير أبيه أتراني ندمت على تسييره ؟ وأمر فدفع في قفاه، وعمار كما عرفته في هذا الجزء ص 20 إلى 28 جلدة ما بين عيني رسول الله وأنفه، وهو الطيب المطيب، ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، اختلط الإيمان بلحمه ودمه، يدور مع الحق حيث دار، وقد جاء الثناء عليه في الذكر الحكيم .

 إذا كان حقا ما يدعيه عثمان لنفسه (1) من أنه لم يمس فرجه بيمينه منذ بايع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) يأتي حديثه بتمامه .

 

/ صفحة 278 /

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشريفا ليد النبي الكريمة ؟ فليت شعري لماذا طفق يلوك بلسانه اسم أير ياسر أبي عمار ؟ وطالما لهج بأحاديث النبوة به، ورتل كتاب الله ترتيلا، أما كان عليه أن يكف لسانه عن البذاءة كرامة للكتاب والسنة، كما ادعى كلاءة نفسه عن مس فرجه كرامة ليد النبوة ؟ إن لم يداحمنا هنالك من ينكر دعواه في اليد قياسا على ما شوهد منه في اللسان مرة بعد أخرى .

 أيصلح شاهدا لذلك قوله على صهوة المنبر بين ملأ المسلمين في ابن مسعود لما قدم المدينة: ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقئ ويسلح ؟ وابن مسعود أحد الذين أطراهم الكتاب العزيز، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هديا ودلا وسمتا . راجع ما مر في هذا الجزء ص 6 - 11 .

 أو قوله لعبد الرحمن بن عوف: إنك منافق (1) ؟ وهو أحد العشرة المبشرة فيما يحسبون .

 أو قوله لصعصعة بن صوحان: البجباج النفاج ؟ وهو ذلك السيد الخطيب الفصيح الدين كما مر في ص 42 من هذا الجزء .

 أو شتمه المغيرة بن الوليد المخزومي لما دافع عن عمار حينما ضربه عثمان حتى غشي عليه ؟ أو قوله في كتابه إلى معاوية: إن أهل المدينة قد كفروا ؟ أو قوله في كتاب آخر له: فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد ؟ وهو يريد الأنصار الذين آووا ونصروا، والمهاجرين الذين صدقوا واتبعوا، وهم الذين يحسب أتباع الخليفة أن كلهم عدول، ولم يكن بينهم متخلف عن النقمة عليه إلا ثلاثة أو أربعة حفظ التاريخ ترجمة حياتهم الموصومة .

 أو قوله في كتابه إلى الأشتر وأصحابه: إني قد سيرتكم إلى حمص، فإنكم لستم تألون الاسلام وأهله شرا .

 أو قوله المائن على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم ؟ يقول ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) السيرة الحلبية 2: 87، الصواعق ص 8 .

 

/ صفحة 279 /

بعد ما عهد على نفسه أن يعمل بالكتاب والسنة، وكتب بهذا كتابا وشهد عليه أمة من الصحابة بعد ما اعترف بهناته بين الملأ وأظهر الندامة منها وتاب عنها ولذلك كله رجع المصريون وغيرهم من الثائرين عليه إلى بلادهم، وكان يحنث عهده وينقض توبته بتلبيس أبالسته مروان ونظرائه، فهل يفعل مثل هذا من تردى بأبراد الحياء ؟ أو مقارفته ليلة وفاة أم كلثوم النبي الاقدس ؟ وكان ذلك ممقوتا جدا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنه ألمح إليه بقوله: هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة ؟ فمنعه بذلك عن دفن حبيبته، وألصق به هوان الأبد .

 أو تربعه على صهوة منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما استخلف ؟ وكان أبو بكر يجلس دون مقامه صلى الله عليه وآله وسلم بمرقاة ثم عمر دونه بمرقاة، وكان من حق عثمان الذي كان أشد حياء من صاحبيه أن لا يطأ ذلك المرتقى، وأن يتبع ولا أقل سيرة الشيخين في الحياء والأدب، لكنه ...

أو مخالفته الكتاب والسنة ؟ كما كتب المهاجرون الأولون وبقية الشورى إلى من بمصر من الصحابة والتابعين: أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها فإن كتاب الله قد بدل، وسنة رسوله قد غيرت (1) .

 وكتبوا إلى الصحابة في الثغور: إن دين محمد قد أفسده من خلفكم وترك، فهلموا فأقيموا دين محمد صلى الله عليه وسلم ورفعت عائشة نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تقول: تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل .

 وتقول: ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد .

 وتقول: عثمان قد أبلى سنة رسول الله .

 وتقول: اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا إنه قد كفر .

 إلى كلمات أخرى لها ولغيرها في مخالفة الرجل الكتاب والسنة .

 أو إعرابه عن تلكم الآراء الشاذة عن الكتاب والسنة في الصلاة والصلاة و الصدقات والأخماس والزكوات والحج والنكاح والحدود والديات بلهجة شديدة بمثل قوله: هذا رأي رأيته .

 وقوله: لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف أقوام هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم .

 فقال له علي إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه .

 وقال عمار: أشهد الله إن أنفي أول راغم من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع ما مر ص 162 من هذا الجزء .

 

/ صفحة 280 /

ذلك. أو قال: أنا والله أول من رغم أنفه من ذلك. راجع صفحة 15 من هذا الجزء .

 أو حثه الناس على الأخذ بتلكم الآراء المنتئية عن ناموس الإسلام المقدس حتى قال له أمير المؤمنين لما قال له عثمان: لا تراني أنهى الناس عن شئ وتفعله أنت ؟ لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس ؟ أو قال له: لم أكن لأدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك .

 وكاد أمير المؤمنين يقتل من جراء تلك الأحدوثة، مر حديثه في ج 6: 219 و ج 8: 130 ط 2 .

 وقد فتح بذلك باب الجرأة على الله والتقول عليه بمصراعيه فجاء بعده معاوية ومروان وأبناء أبيه الآخرون يلعبون بدين الله لعبة الصبيان بالدوامة (1) .

 أو إيواءه عبيد الله بن عمر لما قتل نفوسا أبرياء ولم يقتص منه ونقم عليه بذلك جل الصحابة - لو لم نقل كلهم - ممن يأبه به وبرأيه ؟ ! أو تعطيله الحد على الوليد بن عقبة لرحمه وقرابته منه وقد شرب الخمر وقاء في محراب المسجد الأعظم بالكوفة، حتى وقع التحاور والتحارش بين المسلمين، واحتدم الحوار والمكالمة وتضاربوا بالنعال ؟ مر في الجزء الثامن ص 120 - 125 .

 أو تسليطه بني أمية رجال العيث والفساد أبناء الشجرة الملعونة في القرآن على رقاب الناس ونواميس الاسلام المقدسة وتوطيده لهم الملك العضوض ؟ وتأسيسه بهم حكومة أموية غاشمة في الحواضر الإسلامية ؟ كما فصلنا القول فيه في الجزء الثامن ص 288 - 292 ط 2 .

 أورده إلى المدينة وإيواءه عمه وأبناؤه وكان قد طردهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزيها لتلك الأرض المقدسة من أولئك الأدناس الأرجاس ؟ .

 أو تفويضه الصالح العام إلى مروان المهتوك ؟ وتطوره في سياسة العباد بتقلباته ؟ كأن بيده مقاليد أمور الأمة حتى قال له مولانا أمير المؤمنين: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به ؟ وقال: ما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بإفساد دينك وخديعتك عن عقلك، وإني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) لعبة من خشب يلف الصبي عليها خيطا ثم ينقضه بسرعة فتدوم أي تدور على الأرض . و في اللغة الدارجة: مرصع . وشاخة .

 

/ صفحة 281 /

لأراه سيوردك ثم لا يصدرك .

 أو كتابه إلى ولاته في قتل صلحاء الأمة وحبسهم وتنكيلهم وتعذيبهم ؟ .

 أو تسييره عباد الله الصالحين من الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان من معتقل إلى معتقل، ونفيهم عن عقر دورهم من المدينة والبصرة والكوفة، وإيذائهم بكل ما يمكنه من ضرب ووقيعة وتنكيل ؟

مشردين نفوا عن عقر دارهم          كأنـــهم قد جنوا ما ليس يغتفر

حتى هلك في تسييره سيد غفار أبو ذر الصديق المصدق بعد ما تسلخ لحوم أفخاذه من الجهد في تسييره .

 هذه نبذ يسيرة قرأناها في صحيفة حياء الخليفة ليعطي الباحث الممعن فيها للنصفة حقها، فيصدق السائل في جوابه، فهل يجد في شئ منها دلالة على تلفع الرجل بشئ من أبراد الحياء ؟ أو يجدها أدلة واضحة على فقده لهاتيك الملكة الفاضلة ؟ ويجده مترديا بضد هذه الغريزة في كل تلكم الأحوال ؟ وعلى هذه فقس ما سواها .

 على أن أبا بكر كان أولى بالاستحياء منه إن صح ما مر في الجزء السابع ص 248 من رواية استحياء الله منه، وتكذيبه نبيه استحياء من أبي بكر (1) ؟ فكيف لم يهتش صلى الله عليه واله وسلم له ولم يبال به ويهتش لعثمان.

لنا كرة ثانية لرواية الحياء من ناحية أخرى فإن مختلق هذه الأفيكة أعشاه الحب المعمي والمصم حيث أراد إثبات فضيلة رابية للخليفة ذاهلا أو متذاهلا عن أن لازم ذلك سلب تلك الفضيلة عن نبي الاسلام صلى الله عليه وآله وسلم - والعياذ بالله - حيث نسب إليه صلى الله عليه وآله وسلم الكشف عن أفخاده بمنتدى من صحابته غير مكترث لحضورهم حتى إذا جاء الذي تستحي منه الملائكة فاستحى منه وسترها، ونحن نقول أولا: إن هذا الفعل مما لا يرتكبه عظماء الناس ورجالات الأمم وإنما تجئ بمثله الطبقات الواطئة من أذناب الأعراب، فنبي العظمة الذي يهزأ بالطود في وقاره، ويزري بالبحر في معارفه، وكان كما وصفه أبو سعيد الخدري، أشد حياء من العذراء في خدرها (2) وكان إذا كره شيئا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) من المخازي المفتعلة كما مر تفصيله .

 (2) أخرجه الشيخان البخاري في صحيحه باب صفة النبي ج 5: 203 ومسلم في صحيحه 7: 78

/ صفحة 282 /

عرفناه في وجهه .

 وقد أدبه الله تعالى فلم يدع فيه من شائنة وهذبه حتى استعظم خلقه الكريم بقوله تعالى: " إنك لعلى خلق عظيم " لا يستسيغ ذو لب مؤمن به وبفضله أن يعزو إليه مثل هذا التخلع الشائن .

 على أن الشريعة التي صدع بها جعلت الأفخاذ عورة وأمرت بسترها، أخرج أحمد إمام الحنابلة في مسنده 5: 290 بالإسناد عن محمد بن جحش ختن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر على معمر بفناء المسجد محتبيا كاشفا عن طرف فخذه فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: خمر فخذك يا معمر ! فإن الفخذ عورة .

 وفي لفظ بإسناد آخر من طريق ابن جحش قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معه على معمر وفخذاه مكشوفان فقال: يا معمر ! غط فخذيك فإن الفخذ عورة .

 وأخرجه البخاري بهذا الطريق وطريقي ابن عباس وجرهد في صحيحه باب ما يذكر في الفخذ 1: 138 ثم ذكر من طريقي أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسر عن فخذه فقال: حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط وأخرجه من طريق ابن جحش في تاريخه 1 " قسم " 1: 12: وأخرجه البيهقي في سننه 2: 228، والحاكم في المستدرك 4: 180 قال ابن حجر في الإصابة 3: 448 أخرجه أحمد والحاكم وصححه، وأخرجه ابن قانع من وجه آخر عن الأعرج عن معمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر به وهو كاشف عن فخذه . الحديث .

 وقال العسقلاني في فتح الباري 1: 380: رجاله رجال الصحيح غير أبي كثير فقد روى عنه جماعة لكن لم أجد فيه تصريحا بتعديل، وقد أخرج ابن قانع هذا الحديث من طريقه أيضا .

 ووقع لي حديث محمد بن جحش مسلسلا بالمحمدين من ابتدائه إلى انتهائه وقد أمليته في الأربعين المتباينة .

 وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 52 عن أحمد والطبراني في الكبير فقال: رجال أحمد ثقات .

 2 - عن علي رضي الله عنه مرفوعا: لا تبرز فخذك - فخذيك - ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت أخرجه البيهقي في سننه 2: 228 والحاكم في المستدرك 4 . 180

/ صفحة 283 /

والبزار كما في نيل الأوطار 2: 48 .

 3 - عن جرهد الأسلمي قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بردة وقد انكشفت فخذي وقال: غط فخذك فإن الفخذ عورة .

 أخرجه البخاري في صحيحه كما سمعت تعليقا، ورواه مالك في الموطأ وأبو داود وأحمد والترمذي وقال: حسن .

 وذكره القسطلاني في إرشاد الساري عن مالك والترمذي فقال: وصححه ابن حبان، وذكر الشوكاني في نيل الأوطار 2: 50 تصحيح ابن حبان إياه، وأخرجه البيهقي في سننه 2: 228 من طريقين، والحاكم في المستدرك 4: 180 4 - عن ابن عباس: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وفخذه خارجة .

 فقال: غط فخذيك، فإن فخذ الرجل من عورته .

 أخرجه البخاري تعليقا كما مر، ورواه الترمذي وأحمد في مسنده 1: 275، والبيهقي في سننه 2: 228 فقال: قال الشيخ: وهذه (1) أسانيد صحيحة يحتج بها، و أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 181 .

 5 - أخرج الدار قطني في سننه من طريق عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرو صبيانكم بالصلاة في سبع سنين واضربوهم عليها في عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع، وإذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة، فإن ما تحت السرة إلى الركبة من العورة .

 وأخرجه أحمد في مسنده 2: 187 ولفظه: فلا ينظرن إلى شئ من عورته فإنما أسفل من سرته إلى ركبتيه من عورته .

 وذكره الزيلعي في نصب الراية 1: 296 نقلا عن الدار قطني وأبي داود وأحمد والعقيلي فقال: وله طريق آخر عند ابن عدي في الكامل .

 وأخرجه البيهقي في سننه 2: 229 من أربعة طرق، وذكره القسطلاني في إرشاد الساري 1: 389 .

 6 - أخرج الدار قطني في سننه ص 85، والبيهقي في سننه 2: 229 من طريق أبي أيوب مرفوعا: ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل من السرة من العورة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) يعني أسانيد حديث ابن جحش وجرهد وابن عباس .

 

/ صفحة 284 /

وذكره الزيلعي في نصب الراية 1: 297 .

 هذه الأحاديث أخذها الأعلام أئمة الفقه والفتيا وذهبوا إلى أن الفخذ عورة وهو رأي أكثر العلماء كما قال النووي (1) والجمهور كما قاله القسطلاني والشوكاني (2) قال ابن رشد في بداية المجتهد 1: 111: ذهب مالك والشافعي إلى أن حد العورة من الرجل ما بين السرة إلى الركبة وكذلك قال أبو حنيفة .

 وقال قوم: العورة هما السوءتان فقط من الرجل، وسبب الخلاف في ذلك أثران متعارضان كلاهما ثابت، أحدهما حديث جرهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الفخذ عورة .

 والثاني: حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن فخذه وهو جالس مع أصحابه .

 ثم ذكر قول البخاري المذكور .

 وقال القسطلاني في إرشاد الساري 1: 389: قال الجمهور من التابعين وأبو حنيفة ومالك في أصح أقواله، والشافعي وأحمد في أصح روايتيه، وأبو يوسف ومحمد: الفخذ عورة .

 وذهب ابن أبي ذئب وداود وأحمد في إحدى روايتيه والاصطخري من الشافعية وابن حزم إلى أنه ليس بعورة .

 وفي الفقه على المذاهب الأربعة 1: 142: أما عورة الرجل خارج الصلاة فهي ما بين سرته وركبته فيحل النظر إلى ما عدا ذلك من بدنه مطلقا عند أمن الفتنة .

 وفيه: قال المالكية والشافعية: إن عورة الرجل خارج الصلاة تختلف باختلاف الناظر إليه فبالنسبة للمحارم والرجال هي ما بين سرته وركبته وبالنسبة للأجنبية منه هي جميع بدنه إلا أن المالكية استثنوا الوجه والأطراف وهي الرأس واليدان والرجلان فيجوز للأجنبية النظر إليها عند أمن التلذذ، وإلا منع خلافا للشافعية فإنهم قالوا: يحرم النظر إلى ذلك مطلقا .

 وقال الشوكاني في نيل الأوطار 2: 49 بعد ذكر حديث علي أمير المؤمنين المذكور مرفوعا والحديث يدل على أن الفخذ عورة وقد ذهب إلى ذاك العترة والشافعي وأبو خنيفة، قال النووي، ذهب أكثر العلماء إلى أن الفخذ عورة وعن أحمد ومالك في رواية: العورة القبل والدبر فقط " إلى أن قال: " والحق أن الفخذ من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فتح الباري 1: 382: نيل الأوطار 2: 49 .

(2) إرشاد الساري 1: 389، نيل الأوطار 2: 50 .

 

/ صفحة 285 /

العورة، وحديث علي هذا وإن كان غير منتهض على الاستقلال ففي الباب من الأحاديث ما يصلح للاحتجاج به على المطلوب . وقال بعد ذكر حديث جرهد: الحديث من أدلة القائلين بأن الفخذ عورة وهم الجمهور . ا ه‍ .

 هب أن النهي عن كشف الأفخاذ تنزيهي إلا أنه لا شك في أن سترها أدب من آداب الشريعة، ومن لوازم الوقار ومقارنات الأبهة: ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى برعاية هذا الأدب الذي صدع به هو، قال ابن رشد في تمهيدات المدونة الكبرى 1: 110: والذي أقول به إن ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الفخذ ليس باختلاف تعارض ومعناه أنه ليس بعورة يجب سترها فرضا كالقبل والدبر وأنه عورة يجب سترها في مكارم الأخلاق ومحاسنها، فلا ينبغي التهاون بذلك في المحافل والجماعات ولا عند ذوي الأقدار والهيئات، فعلى هذا تستعمل الآثار كلها واستعمالها كلها أولى من اطراح بعضها . ا ه‍ .

 فعلى كلا التقديرين نحاشي نبي العظمة والجلال أن يكشف عن فخذيه في الملأ غير مكترث للحضور - وهو أشد حياء من العذراء - ولا يأبه بهم حتى أن يأتي رضيع ثدي الحياء، وربيب بين القداسة وليد آل أمية، أشد الأمة حياء، وقد قتلته أفعاله النائية عن تلك الملكة الفاضلة .

 ولا يهولنك وجود الرواية في الصحيحين فإنهما كما قلنا عنهما علبتا السفاسف وعيبتا السقطات وفيهما من المخازي والمخاريق ما شوه سمعة التأليف، وفت في عضد علم الحديث، ولعلنا سوف ندعم ما ادعيناه بالبرهنة الصادقة إنشاء الله تعالى: وليتهما اقتصرا من الخزاية على رواية كشف الفخذ فحسب ولم يخرجا تعريه صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس، أخرج البخاري في صحيحه باب بنيان الكعبة ج 6: 13، ومسلم في صحيحه ج 1: 184 من طريق جابر بن عبد الله قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان حجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: إجعل إزارك على عاتقك يقيك من الحجارة .

 ففعل، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم قام فقال: إزاري إزاري فشد عليه إزاره .

 وفي لفظ لمسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه

/ صفحة 286 /

إزاره، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي ! لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة قال: فحله فجعله على منكبيه فسقط مغشيا عليه قال: فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانا .

 وفي قصة لابن هشام في السيرة 1: 197 قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي، يحدث عما كان يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال: لقد رأيتني في غلمان قريش تنقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ثم قال: شد عليك إزارك قال: فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي .

 هلموا معي أيها المسلمون جميعا نسائل هذين الرجلين - صاحبي الصحيحين - أهذا جزاء نبي العظمة على جهوده ؟ وحق شكره على إصلاحه ؟ أهذا من إكباره وتعظيمه ؟ أصحيح أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يمشي بين ملأ العمال عاريا قد نضا عنه ثيابه وألقى عنه إزاره، غير ساتر عن الحضور عورته ؟ وكان عمره صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ خمسا وثلاثين سنة كما قال ابن إسحاق (1) .

 هب أن رواة السوء أخرجوه لغاية مستهدفة لكن ما المبرر للرجلين أن يستصحاه ويثبتاه في صحيحهما كأثر ثابت ؟ أيحسبان أن هذا العمل الفاضح من مصاديق ما أثبتاه له صلى الله عليه وآله وسلم - وهو الصحيح الثابت - من أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أشد حياء من العذراء ؟ (2) وهل تجد في العذراء من يستبيح هذه الخلاعة ؟ لاها الله، لاها الله .

 أو يحسبان صاحب هذا المجون غير نبي الاسلام الذي نهى جرهدا .

 ومعمرا عن كشف فخذيهما لأنهما عورة ؟ أو ينهي صلى الله عليه وآله وسلم عن كشف الفخذ يوما ويكشف هو عما فوقها يوما آخر ؟ أو من الهين أن نعتقد أن الفخذ عورة لكن ما يعلوها من السوءة ليس بعورة ؟ .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع سيرة ابن هشام 1: 209، الروض الأنف 1: 127، عيون الأثر 1: 51، وما في فتح الباري 7: 5 نقلا عن ابن إسحاق أن عمره كان خمسا وعشرين سنة فغير صحيح والذي صح عنه خمس وثلثون .

 (2) راجع ما مر في هذا الجزء صفحة 281 .

 

/ صفحة 287 /

هلم معي نعطف النظرة بين ما أثبته الصحيحان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين ما جاء به أحمد في مسنده 1: 74 عن الحسن البصري أنه ذكر عثمان وشدة حياءه فقال: إن كان ليكون في البيت والباب عليه مغلق فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء يمنعه الحياء أن يقيم صلبه (1) انظر إلى حياء نبي العصمة والقداسة، وحياء وليد الشجرة المنعوتة في القرآن، وشتان بينهما ؟ .

 أو ليس هذا النبي الأعظم هو الذي سأله معاوية بن حيدة فقال له: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إحفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك .

 قال: فإذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها .

 قال: فإذا كان أحدنا خاليا ؟ قال فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه (2) .

 لقد أغرق صلى الله عليه وآله وسلم نزعا في ستر العورة حتى أنه لم يرض بكشفها والمرأ خال حياء من الله تعالى، واستدل به من قال: إن التعري في الخلاء غير جائز مطلقا (3) لكن من عذيري من صاحبي الصحيحين حيث يحسبان أنه صلى الله عليه وآله وسلم كشفها بملأ من الأشهاد ؟ والله من فوقهم رقيب .

 وعلى فرضه - وهو فرض محال - فأين الحياء المربي على حياء العذراء ؟ وأين الحياء من الله ؟ غفرانك أللهم هذا بهتان عظيم .

 هل يحسب الشيخان أن ذلك الحياء فاجأه صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذه الوقايع أو الفظايع، وما كان غريزة فيه منذ صيغ في بوتقة القداسة ؟ إن كانا يزعمان ذلك ؟ فبئس ما زعما، وإن الحق الثابت أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان نبيا وآدم بين الروح والجسد (4) وقد اكتنفته الغرائز الكريمة كلها منذ ذلك العهد المتقادم، شرع سواء في ذلك وهو في عالم الأنوار: أو: في عالم الأجنة، وفي أدوار كونه رضيعا وطفلا ويافعا وغلاما وكهلا وشيخا، صلى الله عليه وآله وسلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة 1: 117، والمحب الطبري في الرياض 2: 88 .

(2) قال ابن تيمية في المنتقى: رواه الخمسة إلا النسائي . نيل الأوطار 2: 47 .

(3) راجع نيل الأوطار 2: 47 .

(4) لهذا الحديث عدة ألفاظ من طريق ميسرة وأبي هريرة وابن سارية وابن عباس وأبي الجدعاء، وأخرجه ابن سعد، وأحمد بن حنبل، والبخاري في التاريخ، والبغوي، وابن السكن، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية والدلائل، وصححه الحاكم، والترمذي حسنه وصححه، وابن حبان في صحيحه، وابن عساكر، وابن قانع، والدارمي في السنن، راجع كشف الخفا للعجلوني 2: 129، والجامع الكبير كما في ترتيبه ج 6 .

 

/ صفحة 288 /

يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا .

 أو ليس مسلم هو الذي يروي من طريق المسور بن مخرمة أنه قال: أقبلت بحجر ثقيل أحمله وعلي إزار خفيف فانحل إزاري ومعي الحجر لم أستطع أن أمنعه حتى بلغت به إلى موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إرجع إلى إزارك فخذه ولا تمشوا عراة (1) .

 أفمن المستطاع أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم ينهى مسورا عن المشي عاريا ويزجره عن حمل الحجر كذلك ويرتكب هو ما نهى عنه ؟ إن هذا لشئ عجاب .

 وأعجب منه إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى أن المشرك إذا شاهد الناظر المحترم لم يكشف عن عورته فكيف هو بنفسه، جاء في السير في قصة الغار، أن رجلا كشف عن فرجه وجلس يبول فقال أبو بكر: قد رآنا يا رسول الله ! قال: لو رآنا لم يكشف عن فرجه . فتح الباري 7: 9 .

 وأعجب من الكل إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى لعورة الصغير حرمة كما جاء في صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك 3: 257 من طريق محمد بن عياض قال: رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغري وعلي خرقة وقد كشفت عورتي فقال: غطوا حرمة عورته فإن حرمة عورة الصغير كحرمة عورة الكبير، ولا ينظر الله إلى كاشف عورة .

 وأنى يصح حديث الشيخين إن صح ما مر عن ابن هشام ص 286 من قصة لعبه صلى الله عليه وآله وسلم مع الغلمان في صغره وقد حل إزاره وجعله على رقبته، إذ لكمه لاكم فأورعه، وهتف بقوله: شد عليك إزارك ؟ أبعد تلكم اللكمة وذلك الهتاف عاد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما نهي عنه لما كبر وبلغ مبلغ الرجال ؟ وكيف يتفق حديث الشيخين مع ما أخرجه البزار من طريق ابن عباس قال: كان صلى الله عليه وسلم يغتسل وراء الحجرات وما رأى أحد عورته قط . وقال: إسناده حسن (2) .

 وأبلغ من ذلك ما رواه القاضي عياض في الشفا 1: 91 عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) صحيح مسلم 1: 105: وفي ط مشكول 1: 174 .

 (2) راجع فتح الباري 6: 450، شرح المواهب للزرقاني 4: 284 .

 

/ صفحة 289 /

كوني أنت يا أم المؤمنين حكما عدلا بيننا وبين رواة السفاسف، واحكمي قسطا فيمن يعزو إلى بعلك المقدس مما يربي بنفسه عنه كل سافل ساقط، ويقولون: إن رجلا لم ير عورته قط أحد حتى حليلته، وأنت من اطلع الناس على خلواته وسرياته كان يحمل الحجر بين العمال عاريا وقد حل إزاره وجعله على منكبيه .

 أيهما صحيح عنك يا أم المؤمنين مما أسندوه إليك ؟ أحديثك هذا ؟ أم ما حدثت به - إن كنت حدثت به - من حديث عثمان مشفوعا بما ثبت عن بعلك صلى الله عليه وسلم من أن الفخذ عورة ؟ .

 وكأني بأم المؤمنين تقول: حسبك أيها السائل لقد منيت بالكذابة كما مني بها بعلي صلى الله عليه وآله وسلم قبلي، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولوا إلا كذبا .

 وسيعلم المبطلون غب ما فرطوا في جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غلوا في فضائل أناس آخرين، ونعم الحكم الله غدا والخصيم محمد صلى الله عليه وآله .

 ليت شعري هل كانت عائشة تعتقد باستقرار ملكة الحياء في عثمان في كل تلك المدة التي روت عن أولياتها حديث الفخذين، وطفقت في أخرياتها تثير الناس على عثمان وتقول فيه تلكم الكلم القارصة الفظة التي أسلفناها في الجزء صفحة 77 - 86 ولم تفتأ حتى أوردته حياض المنية، وهل كانت ترى استمرار حياء الملائكة منه طيلة ما بين الحدين ؟ ! أو أنها ترتأي انفصام عراه بتقطع حلقات ما أثبتت له من ملكة الحياء ؟ ولذلك قلبت عليه ظهر المجن، فإن كان الأول فما المبرر للهجاته الأخيرة ؟ وإن كان غيره ؟ فالحديث باطل أيضا لأن تبجيل عالم الملكوت لا يكون إلا على حقيقة مستوعبة لمدة حياة الانسان كلها، والتظاهر بالفضل المنصرم لا حقيقة له تكبرها الملائكة وتستحي من جهتها، هذا إن لم تعد أم المؤمنين علينا جوابها الأول مرة أخرى من أنها منيت بالكذابة كما أنه جوابها المطرد في كل ما يروى عنها من فضل عثمان وإن كلها من ولائد عهد معاوية المحشو بالأكاذيب والمفتريات طمعا في رضائخه .

 3 - أخرج الطبراني من حديث أبي معشر البراء البصري عن إبراهيم بن عمر بن أبان بن عثمان عن أبيه عمر بن أبان عن أبيه أبان بن عثمان بن عفان قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعائشة وراءه إذ استأذن أبو بكر فدخل، ثم استأذن

/ صفحة 290 /

عمر فدخل، ثم استأذن سعد بن مالك فدخل، ثم استأذن عثمان بن عفان فدخل و رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث كاشفا عن ركبته فرد ثوبه على ركبته حين استأذن عثمان و قال لامرأته: استأخري فتحدثوا ساعة ثم خرجوا فقالت عائشة: يا نبي الله دخل أبي وأصحابه فلم تصلح ثوبك على ركبتك ولم تؤخرني عنك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ؟ والذي نفسي بيده إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله، ولو دخل وأنت قريب مني لم يتحدث، ولم يرفع رأسه حتى يخرج .

 ذكره ابن كثير في تاريخه 7: 203 فقال: هذا حديث غريب وفي سنده ضعف .

 وأوعز الذهبي إليه في الميزان 2: 250 فقال: قال البخاري: في حديث عمر بن أبان نظر .

 قال الأميني: هذه الرواية لدة ما أسلفناه من مسلم وأحمد مشفوعا بتفنيده و إبطاله ونزيدك هاهنا: إن البراء أبا معشر البصري ضعفه ابن معين، وقال أبو داود: ليس بذاك (1) وفيها إبراهيم بن عمر بصري أموي حفيد الممدوح قال أبو حاتم: ضعيف الحديث .

 وقال ابن أبي حاتم: ترك أبو زرعة حديثه فلم يقرأه علينا .

 وقال ابن حبان: لا يحتج بخبره إذا انفرد (2) وقال ابن عدي: حدثنا أبو يعلى عن المقدمي عن أبي معشر عن إبراهيم بن عمر بن أبان بأحاديث كلها غير محفوظة منها: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسر إلى عثمان أنه يقتل ظلما (3) .

 4 - أخرج الطبراني من طريق أبي مروان محمد بن عثمان الأموي العثماني عن أبيه عثمان بن خالد حفيد عثمان بن عفان عن مالك عن أبي الزناد (مولى بنت عثمان) عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عثمان حيي تستحي منه الملائكة (4) قال الأميني: في الاسناد أبو مروان محمد قال صالح الأسدي: يروي عن أبيه المناكير، وقال ابن حبان: يخطئ ويخالف (5) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) تهذيب التهذيب 11: 430 .

 (2) ميزان الاعتدال 1: 24، لسان الميزان 1: 86 .

 (3) لسان الميزان 4: 282 .

 (4) تاريخ ابن كثير 7: 203 .

 (5) تهذيب التهذيب 9: 336 .

 

/ صفحة 291 /

وفيه عثمان بن خالد قال البخاري: عنده مناكير . وقال النسائي: ليس بثقة . و قال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم . وقال أبو أحمد: منكر الحديث: وقال ابن عدي: أحاديثه كلها غير محفوظة . وقال الساجي: عنده مناكير غير معروفة . وقال الحاكم وأبو نعيم: حدث عن مالك وغيره بأحاديث موضوعة (1) وقال ابن حبان: يروي المقلوبات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به (2)، وقال السندي في شرح سنن ابن ماجة 1: 53 في حديث يأتي: إسناده ضعيف فيه عثمان بن خالد وهو ضعيف باتفاقهم .

 وقد فصلنا القول قبيل هذا في حياء الرجل بما لا مزيد عليه وبذلك تعلم أن الحديث باطل وإن صح إسناده فكيف به وإسناده أوهن من متنه .

 5 - أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء 1: 56 من طريق هشيم أبي نصر التمار عن الكوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشد أمتي حياء عثمان بن عفان .

 قال الأميني: تغمرني الحيرة في حياء أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومبلغها منه بعد أن كان عثمان أشدها حياء وبين يديك أفعاله وتروكه، فعلى الأمة العفا إن صدقت الأحلام .

 نعم: هذا لا يكون، ونبي العظمة لا يسرف في القول، ولا يجازف في الاطراء، والإسناد باطل لا يعول عليه لمكان كوثر بن حكيم قال أبو زرعة: ضعيف . وقال يحيى بن معين: ليس بشئ . وقال أحمد بن حنبل: أحاديثه بواطيل ليس بشئ . وقال الدار قطني وغيره: مجهول . وقال أبو طالب: سألت أحمد عنه فقال: ليس هو من عيالنا، وكان أحمد إذ لم يروعن رجل قال: ليس هو من عيالنا متروك الحديث وقال: ضعيف منكر الحديث . وقال الجوزجاني: لا يحل كتابة حديثه عندي لأنه متروك . وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظة . وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ضعيف الحديث . قلت: هو متروك ؟ قال: لا، ولا أعلم له حديثا مستقيما وهو ليس بشئ . وقال ابن أبي شيبة: منكر الحديث . وقال أبو الفتح والساجي: ضعيف . وقال البرقاني والدار قطني: متروك الحديث . وذكره العقيلي والدولابي وابن الجارود وابن شاهين في الضعفاء . ميزان الاعتدال 2: 359،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) روايته هذه عن مالك من تلكم الموضوعات .

 (2) تهذيب التهذيب 7: 114 .

 

/ صفحة 292 /

لسان الميزان 4: 491 .

 6 - أخرج أبو نعيم في الحلية 1: 56 من طريق زكريا بن يحيى المقري (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عثمان أحيا أمتي وأكرمها .

 قال الأميني: ما خطر أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن كان أحياها وأكرمها قتيل الصحابة العدول إثر هناته وموبقاته، وليد الشجرة الملعونة في القرآن، وليد أبي العاص وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم في ولده قوله: إذا بلغوا ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، ودينه دخلا .

 وقد كان بلاغهم ثلاثين يوم عثمان وهو أحدهم ورأسهم، وأسلفنا في ذلك قول أبي ذر الناظر إليه وإليهم من كثب. فهل يثمر الشوك العنب ؟ لاها الله .

 أيحسب الباحث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسر بهذه المنقبة الرابية إلى ابن عمر فحسب من بين الصحابة ؟ أم أعلن بها في ملأ من أصحابه وكان في الآذان وقر ؟ أم سمعوها ونسوها من يومهم الأول ؟ أم حفظوها ونبذوها وراء ظهورهم يوم تركوا جثمان أحيا الأمة وأكرمها منبوذا ثلاثة أيام في مزبلة من غير دفن ؟ ثم دفنها عدة أناس ليلا وما أمكنهم تغسيله وتكفينه وتجهيزه والصلاة عليه، دفن في مقبرة اليهود بعد ما رجم سريره وكسر ضلع من أضلاعه، وعفي قبره خوفا عليه من النبش .

 على أن الاسناد لا يصح لمكان زكريا بن يحيى وهو ضعيف وشيخه يخطئ في الاسناد والمتن وقد أخطأ في أحاديث كثيرة، وغرائب حديثه وما ينفرد به كثير .

 راجع تاريخ الخطيب البغدادي وميزان الاعتدال ولسانه .

 7 - أخرج ابن عساكر في ترجمة عثمان من طريق أبي هريرة مرفوعا: الحياء من الإيمان وأحيى أمتي عثمان .

 ضعفه السيوطي في الجامع الصغير وأقره المناوي راجع فيض القدير 3: 429 .

(لفت نظر) : يعطينا سبر التاريخ والحديث خبرا بأن السيرة المطردة لرجال الوضع والاختلاق في شنشنة التقول والافتعال في الفضائل هي العناية الخاصة بالملكات التي كان يفقدها الممدوح رأسا .

 والمبالغة والاكثار في كل غريزة ثبت خلافها مما علم من تاريخ حياة الرجل ومن سيرته الثابتة المشهورة، فنجدهم يبالغون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في النسخة: المنقري .

 

/ صفحة 293 /

في شجاعة أبي بكر بما لا مزيد عليه حتى حسبوه أشجع الصحابة، وقد شهد مشاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلها وما سل فيها سيفا، ولا نزل في معترك قتال، ولا تقدم لبراز أي مجالد، وما رئي قط مناضلا، وما شوهد يوما في ميادين الحراب منازلا، فأكثروا القول فيها وجاؤا بأحاديث خرافة في شجاعته رجاء أن يثبت له منها شئ تجاه تلك الدراية الثابتة بالمحسوس المشاهد (1) .

 ويبالغون في زهده وتقواه وجعلوا كبده مشويا من خوف الله والدخان يتصاعد من فمه إلى السماء مهما تنفس، ولم يثبت له ميز في العبادة ولم يرو عنه الاكثار من الصوم والصلاة ومن كل ما يقربه إلى الله زلفى (2) .

 ويبالغون في علم عمر وجعلوه أعلم الصحابة في يومه على الإطلاق وأفقههم في دين الله، وحابوه تسعة أعشار العلم، راجحا علمه علم أهل الأرض، علم أحياء العرب في كفة الميزان، وجاؤا فيه بكثير لدة هذه الخرافات (3) والرجل قد ألهاه الصفق بالأسواق عن علم الكتاب والسنة، وكل الناس أفقه منه حتى ربات الحجال أخذا بقوله وهو الصادق المصدق فيه (4) .

 ويبالغون في إنكاره الباطل وبغضه الغناء ونكيره الشديد عليه، وقد ثبت من شكيمته أنه كان يتعاطاه ويجوزه (5) .

 ولما وجدوا أن التاريخ الصحيح وما ثبت من سيرة عثمان ينفي عنه ملكة الحياء ويمثله للمجتمع بما يضادها، نسجوا له النسج المبرم، وأتوا بالمخازي ووضعت يد الافتعال فيها ما سمعت من الأفائك، حتى جعلوه أشد أمة محمد حياء وأحياها و أكرمها، حييا تستحي منه الملائكة .

 فحياء عثمان كشجاعة أبي بكر وعلم عمر سالبة بانتفاء موضوعاتها، وهي فيهم تضاهي أمانة معاوية وعلمه الواردين فيما يعزى إليه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: كاد أن يبعث معاوية نبيا من كثرة علمه وائتمانه على كلام ربي . وقوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع ما أسلفناه في الجزء السابع ص 200 - 215 ط 2 .

 (2) راجع ما أسلفناه في الجزء السابع ص 219 - 222 ط 2 .

 (3) راجع ما مر في الجزء السادس ص 82، 331، والجزء الثامن ص 62، 63 ط 2 .

 (4) راجع ما أسلفناه في الجزء السادس من " نوادر الأثر في علم عمر " .

 (5) راجع ما مر في الجزء الثامن ص 64 - 81، 86، 94 - 96 ط 2 .

 

/ صفحة 294 /

الأمناء سبعة: اللوح والقلم وإسرافيل وميكائيل وجبريل ومحمد ومعاوية (1) .

 ويعرب عن أمانة معاوية ومبلغه من هذه الملكة الفاضلة ما رواه أبو بكر الهذلي قال: إن أبا الأسود الدؤلي كان يحدث معاوية يوما فتحرك فضرط فقال لمعاوية: استرها علي .

 فقال: نعم .

 فلما خرج حدث بها معاوية عمرو بن العاص ومروان بن الحكم، فلما غدا عليه أبو الأسود قال عمرو: ما فعلت ضرطتك يا أبا الأسود بالأمس ؟ قال: ذهبت كما تذهب الريح مقبلة ومدبرة من شيخ ألان الدهر أعصابه ولحمه عن إمساكها، وكل أجوف ضروط .

 ثم أقبل على معاوية فقال: إن امرء ضعفت أمانته و مروأته عن كتمان ضرطة لحقيق بأن لا يؤمن على أمور المسلمين .

 الأغاني 11: 113، حياة الحيوان للدميري 1: 351 . محاضرات الراغب 2: 125 .

 8 - أخرج الحاكم في المستدرك 3: 102 من طريق الدارمي عن سعيد بن عبد الله الجرجسي عن محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن عمرو بن أبان بن عثمان (الممدوح) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر .

 فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله، وأما ما ذكر من نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .

 قال الحاكم: قال الدارمي: سمعت يحيى بن معين يقول: محمد بن حرب يسند هذا الحديث والناس يحدثون به عن الزهري مرسلا إنما هو عمرو بن أبان ولم يكن لأبان ابن عثمان ابن يقال له عمرو .

 قال الأميني: ألا تعجب من رؤيا رئاها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وحدث بها في ملأ الصحابة ولم يسمعها منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا جابر بن عبد الله وهو لم يرتب عليها أي أثر عملي، ولم يروها عنه إلا حفيد عثمان عمرو بن أبان الذي لم يكن له وجود، أو اختلف في أنه كان أو لم يكن ؟ نعم: ينبغي حقا أن يكون مستدرك الصحيحين أمثال هذه التافهات .

 9 - أخرج ابن ماجة في سننه 1: 53 عن أبي مروان محمد بن عثمان الأموي العثماني عن أبيه عثمان بن خالد حفيد عثمان بن عفان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع الجزء الخامس من الغدير ص 308 ط 2 .

 

/ صفحة 295 /

أبيه (مولى عائشة بنت عثمان) عن الأعرج عن أبي هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان بن عفان .

 رجال الاسناد: 1 - أبو مروان مر الايعاز إليه ص 290 .

 2 - عثمان بن خالد، أسلفنا في هذا الجزء ص 291 كلمات الحفاظ فيه وأنه ليس بثقة، وأحاديثه كلها غير محفوظة، وحدث بأحاديث موضوعة لا يجوز الاحتجاج به .

 ورواه الترمذي من طريق طلحة بن عبيد الله وقال: غريب ليس إسناده بالقوي وهو منقطع .

 3 - عبد الرحمن بن أبي الزناد، قال يحيى بن معين: ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث ليس بشئ .

 وقال ابن صالح وغيره عن ابن معين: ضعيف . وقال الدوري عن ابن معين: لا يحتج بحديثه . وقال صالح بن أحمد عن أبيه: مضطرب الحديث . وعن ابن المديني: كان عند أصحابنا ضعيفا . وقال النسائي: لا يحتج بحديثه . وقال ابن سعد: كان كثير الحديث وكان يضعف لروايته عن أبيه . (تهذيب التهذيب 6: 171) وبعد ذلك كله فإني أستغرب هذه الرفاقة وإن الرجل بماذا اختص بها وحصل عليها من دون الصحابة المقدمين ذوي الفضائل والمآثر، وفي مقدمهم صنوه صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه وهو نفسه في الذكر الحكيم، وأخوه المخصوص به في حديث المواخاة المعربة عن المجانسة بينهما في النفسيات، وهو الذاب الوحيد عنه في حروبه ومغازيه، ومثله الأعلى في العصمة والقداسة بصريح آية التطهير، وباب مدينة علمه في الحديث المتواتر .

 فبماذا اختص عثمان بهذه الرفاقة دون علي أمير المؤمنين ؟ ألمشاكلته مع صاحب الرسالة العظمى في النسب أو الحسب في العلم والتقوى والملكات الفاضلة ؟ أو لاتباعه ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم من كتاب أو سنة ؟ وأنت متى استشففت ما تلوناه في هذا الكتاب من موارد الخليفة ومصادره، وأخذه ورده، وأفعاله وتروكه، تعلم مبوأه من كل هاتيك الفضائل وتجد من المستحيل ما أثبتته له هذه الرواية الواهية بإسنادها الساقط، تعالى نبي العظمة عن ذلك علوا كبيرا .

 

/ صفحة 296 /

ولست أدري لماذا رد الله دعاء نبيه الأعظم في أبي بكر الوارد فيما أخرجه ابن عدي من طريق الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أللهم إنك جعلت أبا بكر رفيقي في الغار فاجعله رفيقي في الجنة (1) نعم: هذا كحديث ابن ماجة هما سواسية في البطلان، في إسناده محمد بن الوليد القلانسي البغدادي .

 كذاب يضع الحديث كما مر في سلسلة الكذابين ج 5: 265 ط 2، ومصعب بن سعيد يحدث عن الثقات بالمناكير ويصحف، وكان مدلسا لا يدري ما يقول وستوافيك ترجمته، وعيسى بن يونس مجهول لا يعرف .

 10 - أخرج الحاكم في المستدرك 3: 97 من طريق عبيد الله بن عمرو القواريري البصري عن القاسم بن الحكم بن أوس الأنصاري عن أبي عبادة الزرقي عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز فقال: أنشدك الله يا طلحة ! أتذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكان كذا وكذا وليس معه من أصحابه غيري وغيرك فقال لك: يا طلحة ! إنه ليس من نبي إلا وله رفيق من أمته معه في الجنة وإن عثمان رفيقي ومعي في الجنة ؟ فقال طلحة: أللهم نعم . قال: ثم انصرف طلحة .

 وفي لفظ أحمد في مسنده 1: 74 بالإسناد نفسه عن أسلم قال: شهدت عثمان رضي الله عنه حوصر في موضع الجنائز ولو القي حجر لم يقع إلا على رأس رجل فرأيت عثمان رضي الله عنه أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل عليه السلام فقال: أيها الناس أفيكم طلحة ؟ فسكتوا .

 ثم قال: أيها الناس أفيكم طلحة ؟ فسكتوا .

 ثم قال: يا أيها الناس أفيكم طلحة ؟ فقام طلحة بن عبيد الله فقال له عثمان رضي الله عنه: ألا أراك ههنا ما كنت أرى أنك تكون في جماعة تسمع ندائي آخر ثلاث مرات ثم لا تجيبني أنشدك الله يا طلحة ! تذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع كذا كذا ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك ؟ قال: نعم .

 فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا طلحة ! إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق من أمته معه في الجنة، وإن عثمان ابن عفان رضي الله عنه هذا يعنيني رفيقي معي في الجنة ؟ قال: طلحة: أللهم نعم .

 ثم انصرف .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) لسان الميزان 5: 418 .

 

/ صفحة 297 /

صححه الحاكم وعقبه الذهبي فقال: قلت قاسم هذا قال البخاري: لا يصح حديثه .

 وقال أبو حاتم: مجهول .

 وذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب 8: 312 وحكى عن البخاري وأبي حاتم ما ذكره الذهبي .

 وفي الاسناد عبيد الله القواريري روى عنه البخاري خمسة أحاديث فحسب، و مسلم أربعين حديثا (1) وقد سمع منه أحمد بن يحيى مائة ألف حديث (2) فما حكم ذلك الحوش الحائش مما جاء به القواريري بعد ما لم يأخذ البخاري ومسلم منه إلا عدة أحاديث وضربا عن كل ذلك صفحا ؟ ومن المستبعد جدا عدم وقوفهما عليها .

 وفيه: أبو عبادة الزرقي عيسى بن عبد الرحمن الأنصاري قال أبو زرعة: ليس بالقوي .

 وقال أبو حاتم: منكر الحديث ضعيف الحديث شبيه بالمتروك لا أعلمه روى عن الزهري حديثا صحيحا .

 وقال البخاري والنسائي: منكر الحديث . وقال ابن حبان: يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك . وقال العقيلي: مضطرب الحديث . وقال الأزدي: منكر الحديث مجهول . وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه .

 وقال ابن حبان أيضا: لا ينبغي أن يحتج بما انفرد به (3) .

 قال الأميني: ولا يكاد يصح انصراف طلحة مع إصراره الثابت في التشديد على عثمان إلى آخر نفس لفظه الرجل، ولم يقنعه الإجهاز عليه حتى أنه منعه عن الدفن في مقابر المسلمين، وجعل ناسا هناك أكمنهم كمينا ورموا حملة جنازته بالحجارة و صاحوا: نعثل نعثل .

 وقال طلحة: يدفن بدير " سلع " يعني مقابر اليهود، ولذلك قال مروان لما قتل طلحة لأبان بن عثمان: قد كفيتك بعض قتلة أبيك، ومروان كان شاهدا عليه من كثب (4) .

 ومن العجيب أن هذه المناشدة كانت في ذلك المحتشد الرحيب بمسمع من أولئك الجم الغفير وكان لو ألقي الحجر لم يقع إلا على رأس رجل لكنها لم تكفئ أحدا منهم، فهل كانوا معترفين بها معرضين عنها ؟ فأين العدالة المزعومة فيهم ؟ أو أنهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب 7: 41 .

 (2) تهذيب التهذيب 7: 41 .

 (3) تهذيب التهذيب 8: 218، لسان الميزان 4: 400 .

 (4) راجع ما مر في هذا الجزء ص 91 - 101 .

 

/ صفحة 298 /

عرفوا بطلانها وما صدقوا الرجلين في دعواهما فتركوها في مدحرة الإعراض ؟ أو لم تكن هنالك مناشدة قط ؟ وهو أقرب الوجوه إلى الحق .

 ولو فرضنا أنها أكفأت طلحة كما يحسبه مختلق هذه الرواية فإنه لم يكن إلا إكفاء وقتيا ثم راجع طلحة رشده فعرف أنها حجة داحضة فاستمر على ما ثار له، وثبت عنه من الثبات على عمله وتضييقه .

 هذه غاية ما يمكن أن يقال متى تجشمنا لوضع هذه المزعمة في بقعة الامكان، ومن المستصحب ذلك أو المتعذر، وقد أسلفنا أن الرفاقة المزعومة ليس من السهل تصديقها لعدم المجانسة بين الرفيقين قط ولو كان من جهة .

 والرفاقة كالأخوة والصحبة - المنبعثة ثلاثتها عن التجانس في الخلل والمزايا - تخص بعلي أمير المؤمنين عليه السلام كما جاء مرفوعا: يا علي أنت أخي وصاحبي ورفيقي في الجنة (2) وهذا التخصص تعاضده البرهنة الثابتة، ويؤيد بالاعتبار .

 11 - أخرج أبو يعلى وأبو نعيم وابن عساكر في تاريخه 7: 65، والحاكم في المستدرك 3: 97 من طريق شيبان بن فروخ عن طلحة بن زيد الدمشقي عن عبيدة (3) ابن حسان عن عطاء الكيخاراني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بينما نحن في بيت ابن حشفة في نفر من المهاجرين فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لينهض كل رجل منكم إلى كفؤه فنهض النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عثمان فاعتنقه وقال: أنت وليي في الدنيا والآخرة .

 صححه الحاكم وعقبه الذهبي في تلخيصه وقال: قلت: بل ضعيف فيه طلحة ابن زيد وهو واه عن عبيدة بن حسان شويخ مقل عن عطاء .

 وقال السيوطي في اللئالي 1: 317: موضوع، طلحة لا يحتج به، وعبيدة يروي الموضوعات عن الثقات . ا ه‍ .

 وذكره المحب الطبري في رياضه النضرة 2: 101، وابن كثير في تاريخه 7: 212 ساكتين عما في إسناده من الغمز شأنهما في فضائل من يحبانه ويواليانه، ولا يخفى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) تاريخ الخطيب 12: 268 .

 (2) في النسخة هاهنا وفيما يأتي: عبيد. والصحيح ما ذكرناه .

 

/ صفحة 299 /

عليهما قول أحمد: طلحة بن زيد ليس بذاك قد حدث بأحاديث مناكير . وقوله: ليس بشئ كان يضع الحديث لا يعجبني حديثه . وقول البخاري والنسائي: منكر الحديث . وقول النسائي أيضا: ليس بثقة متروك . وقول صالح بن محمد: لا يكتب حديثه . وقول ابن حبان: منكر الحديث لا يحل الاحتجاج بخبره . وقول الدارقطني والبرقاني: ضعيف . وقول أبي نعيم: حدث بالمناكير لا شئ . وقول الآجري عن أبي داود: يضع الحديث . ونسبة ابن المدايني إياه إلى وضع الحديث . وقول الساجي: منكر الحديث (1) .

كما لا يخفى على الرجلين رأي الحفاظ في عبيدة بن حسان قال أبو حاتم: منكر الحديث . وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات . وقال الدارقطني: ضعيف . لسان الميزان 4: 125 .

 والغرابة في هذه المماثلة والولاية المنبعثة عنها في الدنيا والآخرة، وهي ليست بأقل من الرفاقة التي أسلفنا القول فيها قبيل هذا، وإن من المؤسف جدا المقارنة بين رسول العظمة وبين من لم يقم الصحابة الأولون - العدول كلهم فيما يرتأون - له وزنا، ولا رأوا لحياته قيمة، ولا حسبوا لتسنمه عرش الخلافة مؤهلا، فلم يزل ممقوتا عندهم حتى كبت به بطنته، وأجهز عليه عمله، كما قاله مولانا أمير المؤمنين (2) ولم يفتأ الصحابة مصرين على مقته حتى أوردوه حياض المنية، ولم تبرح أعماله مؤكدة لعقائد الملأ الديني في همزه ولمزه حتى وقع من الأمر ما وقع .

 ولا يسع قط لعارف عرفان وجه المكافأة بين نبي العظمة وبين عثمان، فإنها إن كانت من ناحية النسب ؟ فأنى هي ؟ هذا من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وذلك من شجرة ملعونة في القرآن .

 وإن كانت من حيث الحسب ؟ ففرق بينهما فيه بعد المشرقين ولا حرج، هذا حسيب .

 وذلك مقشب الحسب ؟ وإن كانت من جهة الملكات الفاضلة والنفسيات الكريمة فالمشاكلة منتفية وهما طرفا نقيض، هذا ناصح الجيب، واري الزند (3) لعلى خلق عظيم، والآخر يحمل منها بين جنبيه ما عرفناك حديثه .

 ونحن إن أخذنا ما جاء به القوم من قضايا الملكات فالبون بينهما شاسع أيضا، فالنبي الأقدس مثلا عندهم كما مر كان يكشف في الملأ عن ركبتيه وعن فخذيه و عما هو بينهما وبين سرته ولم يكن يبالي .

 وعثمان إن كان ليكون في البيت والباب عليه مغلق، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه، كما مر في حديث الحسن ص 287 .

 وإن فرضت المشاكلة من جانب الأخذ بالدين والعمل بما فيه من أفعال أو تروك ؟ قالتباين بينهما ظاهر وأي تباين، ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون، ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا ؟ (1) هذا رسول التوحيد أسلم وجهه لله وهو محسن، يعبد ربه مخلصا له الدين تحت راية لا إله إلا الله، وقرط أذنه قوله تعالى: قل الله ثم ذرهم، وورد لسانه: وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت .

 وأما عثمان فهو أسير هوى مروان ومعاوية وسعيد ومن شاكلهم من أبناء بيته، يسير مع ميولهم وشهواتهم، حتى قال مولانا أمير المؤمنين: ما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك، وإن مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به (2) قدم ربه وقد خلط عملا صالحا وآخر سيئا، كسب سيئة وأحاطت به خطيئته .

 إيه إيه يا نبي العظمة أنزلك الدهر ثم أنزلك حتى جعلك كفو عثمان بعد ما اختارك ربك واصطفاك من بريته وجعلك لسان صدق نبيا، هذا جزاءك من أمتك جزاء سنمار، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) تاريخ ابن عساكر 7: 65، تهذيب التهذيب 4: 16، اللئالي المصنوعة 1: 81، 317 .

 (2) راجع ما أسلفناه في الجزء السابع 82 ط 2 .

 (3) رجل ناصح الجيب أي صادق أمين، نقي القلب لا غش فيه. ويقال: واري الزند. في المبالغة في الكرم والخصال المحمودة .