عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني

 

  اقرأ واضحك أو ابك

ذكر القوشچي المتوفى 879 في شرح التجريد في مبحث الإمامة أن عمر قال وهو على المنبر: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهن و أحرمهن وأعاقب عليهن: متعة النساء .

 ومتعة الحج .

 وحي على خير العمل .

 ثم اعتذر عنه بقوله: إن ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع . ا ه‍ـ .

 ما كنا نقدر أن ضليعا في العلم يقابل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بواحد من أمته ويجعل كلا منهما مجتهدا، وما ينطقه الرسول الأمين هو عين ما ثبت في اللوح المحفوظ وإن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، فأين هو عن الاجتهاد برد الفرع إلى الأصل، واستعمال الظنون في طريق الاستنباط ؟ وإن السائغ من المخالفة الاجتهادية هو ما إذا قابل المجتهد مجتهدا مثله لا من اجتهد تجاه النص المبين، وارتأى أمام تصريحات الشريعة من قول الشارع وعمله .

 ثم أي مستوى يقل سيد أولي الألباب وهذا الرجل في عرض واحد فهما و إدراكا حتى يقابل بين رأييهما ؟ وأي قيمة لآراء العالمين جميعا إذا خالفت ما جاء به المشرع الأقدس ؟ لكني أعذر القوشچي لالتزامه بدحض كل ما جاء به نصير الدين الطوسي لئلا يعزى إليه العجز والتواني في الحجاج، فلا بد أن يأتي بكل ما دب ودرج سواء كان حجة له أو وبالا عليه .

 

 

 

/ صفحة 239 /

م - وقال ابن القيم في زاد المعاد 1 ص 444: فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث وفيما ثبت عن عمر أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحج ؟ قيل: الناس في هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون (1) ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح (2) فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع ابن سبرة عن أبيه عن جده وقد تكلم فيه ابن معين ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلا من أصول الاسلام، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به، قالوا: ولو صح حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتى يروي إنهم فعلوها ويحتج بالآية .

 وأيضا ولو صح لم يقل عمر إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها، بل كان يقول: إنه صلى الله عليه وسلم حرمها ونهى عنها .

 قالوا: ولو صح لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقا .

 والطائفة الثانية رأت صحة حديث سبرة ولو لم يصح فقد صح حديث علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر رضي الله عنه فلما وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها وبالله التوفيق .

 قال الأميني: أني يتأتى الجمع بين أحاديث الباب المتضاربة من شتى النواحي بصحيحة مزعومة ؟ ومتى تصح ؟ وكيف يتم عزوها المختلق إلى أمير المؤمنين عليه السلام وبين يدي الأمة قوله الصحيح الثابت: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي (3) وقد صح عنه عليه السلام مذهبه إلى تحليل المتعة، كما إن أبناء بيته الرفيع ذهبوا إلى إباحتها سلفا وخلفا، ومن المتسالم عليه قول ابن عباس: لولا نهي عمر لما احتاج إلى الزنا إلا شفا (4)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) يأتي الكلام حول هذا الحديث وهذه السنة في هذا الجزء .

 (2) تحريم المتعة عام الفتح قول ابن عيينة وطائفة كما في زاد المعاد 1 ص 442 .

 (3) راجع ما مر صفحة 206، 207 من هذا الجزء .

 (4) مر حديثه في صفحة 206 .

 

 

/ صفحة 240 /

ومن الذي أخبر الأمة عن نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المتعة غير علي عليه السلام حتى ظهر في زمن عمر واشتهر ؟ ومهما كان الحظر عنه صلى الله عليه وآله وسلم مشهورا، وأول من جاء به وباح بالنهي عنها يقول: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب .

 وقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما .

 وقال: إن الله ورسوله قد أحلا لكم متعتين وإني محرمهما عليكم .

 وقال: ثلاث كن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا محرمهن: متعة الحج ومتعة النساء .

 فهل جابهه صحابي بالرد عليه في دعواه حلية المتعة في العهدين ؟ أو في نسبة تحريمها إلى نفسه ؟ وهل كان إجماع الصحابة على حلية المتعة عهد أبي بكر خلاف دين الله وسنة نبيه ؟ نعم الغريق يتشبث بكل حشيش) .

 لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (1) .

 

-70-

رأي الخليفة فيمن قال: إني مؤمن

عن مسند عمر رضي الله عنه عن سعيد بن يسار قال: بلغ عمر بن الخطاب أن رجلا بالشام يزعم أنه مؤمن فكتب إلى أميره: أن ابعثه إلي .

 فلما قدم قال: أنت الذي تزعم أنك مؤمن ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين .

 قال: ويحك ومم ذاك ؟ قال: أولم تكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافا: مشرك، ومنافق، ومؤمن ؟ فمن أيهم كنت ؟ فمد عمر يده إليه معرفة لما قال حتى أخذ بيده (2) .

 وعن قتادة قال عمر بن الخطاب: من قال إني عالم . فهو جاهل، ومن قال: إني مؤمن . فهو كافر . كنز العمال 1 ص 103 .

 قال الأميني: أنا لا أدري ما هذا المشكلة التي من جرائها جلب الرجل من الشام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) سورة النحل آية 16 .

 (2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وابن أبي شيبة في الإيمان كما في كنز العمال 1 ص 103، *

 

 

/ صفحة 241 /

وحوله آلاف من المؤمنين يقولون بمقالته، وهو يحسب أنه أميرهم ولم يسألهم عما سأل الشامي عنه ؟ ثم كيف انحلت تلك المشكلة بأبسط جواب ؟ أو لم يكن الخليفة يعلم ذلك من أن الانسان إذا لم يكن مشركا أو منافقا فهو مؤمن لا محالة ؟ أم أنه حسب أن المؤمن الواثق بإيمانه لا يجوز له أن يقول: أنا مؤمن .

 لأن ذلك القول كفر كما في حديث قتادة ؟ وذلك تعبدا بقول عمر .

 لكن الله سبحانه مدح أقواما في الذكر بأن قالوا آمنا مثل قوله تعالى: قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله (1) وقوله: ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول (2) وقوله: ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا (3) وقوله: يقولون آمنا واشهد بأننا مسلمون (4) وقوله: يقولون ربنا آمنا (5) وقوله: قالوا آمنا برب العالمين (6) والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا . ومنهم من قال: بلى .

 إذا خوطب بقول العلي العظيم: أولم تؤمن (7) ومنهم من قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (8) .

 ومن جلية الواضحات عدم الفرق بين قول القائل: آمنا بكذا أو نحن مؤمنون أو أنا مؤمن بكذا إذا وثق من نفسه بإيمان، ومن فرق بينها فهو مجازف لا محالة .

 ولعل الخليفة كان ناظرا إلى حراجة الموقف في الإيمان، وعزة خلوصة من خفيات صفات الشرك والنفاق حتى كان يسأل حذيفة عن نفسه، قال الغزالي في إحياء العلوم 1 ص 129: الأخبار والآثار تعرفك خطر الأمر بسبب دقائق النفاق والشرك الخفي وأنه لا يؤمن منه، حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة عن نفسه وأنه هل ذكر في المنافقين ؟ وهل هو منهم وهل عدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ؟ (9) .

م - وكان حذيفة صاحب السر المكنون في تمييز المنافقين، ولذلك كان عمر لا يصلي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) سورة آل عمران آية 52 .

 (2) سورة آل عمران آية 53 .

 (3) سورة آل عمران آية 193 .

 (4) سورة المائدة آية 111 .

 (5) سورة المائدة آية 83 .

 (6) سورة الأعراف آية 121 .

 (7) سورة البقرة آية 260 .

 (8) راجع الأعراف آية 143 .

 (9) وذكره الباقلاني في التمهيد ص 196، وابن أبي جمرة في بهجة النفوس 4 ص 48 .

 

 

/ صفحة 242 /

على ميت حتى يصلي عليه حذيفة يخشى أن يكون من المنافقين .

 كذا قاله ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب 1 ص 44) .

 

-71-

قدوم أسقف نجران على الخليفة

قدم أسقف نجران على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في صدر خلافته فقال: يا أمير المؤمنين إن أرضنا باردة شديدة المؤنة لا يحتمل الجيش وأنا ضامن لخراج أرضي أحمله إليك في كل عام كملا .

 قال: فضمنه إياه فكان يحمل المال ويقدم به في كل سنة و يكتب له عمر البرائة بذلك فقدم الأسقف ذات مرة ومعه جماعة وكان شيخا جميلا مهيبا فدعاه عمر إلى الله وإلى رسوله وكتابه وذكر له أشياء من فضل الاسلام وما تصير إليه المسلمون من النعيم والكرامة فقال له الأسقف: يا عمر ! أتقرؤن في كتابكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض فأين يكون النار ؟ فسكت عمر وقال لعلي: أجبه أنت: فقال له علي: أنا أجيبك يا أسقف أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟ فقال الأسقف: ما كنت أرى أن أحدا ليجيبني عن هذه المسألة .

 من هذا الفتى يا عمر ؟ فقال: علي بن أبي طالب ختن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمه وهو أبو الحسن والحسين .

 فقال الأسقف: فأخبرني يا عمر ! عن بقعة من الأرض طلع فيها الشمس مرة واحدة ثم لم تطلع قبلها ولا بعدها ؟ قال عمر: سل الفتى .

 فسأله فقال: أنا أجيبك هو البحر حيث انفلق لبني إسرائيل ووقعت فيه الشمس مرة واحدة لم تقع قبلها ولا بعدها.

 فقال الأسقف: أخبرني عن شئ في أيدي الناس شبه بثمار الجنة .

 قال عمر: سل الفتى .

 فسأله فقال علي أنا أجيبك هو القرآن يجتمع عليه أهل الدنيا فيأخذون منه حاجتهم فلا ينقص منه شئ فكذلك ثمار الجنة .

 فقال الأسقف: صدقت قال: أخبرني هل للسموات من قفل ؟ فقال علي: قفل السموات الشرك بالله فقال الأسقف: وما مفتاح ذلك القفل ؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله لا يحجبها شئ دون العرش .

 فقال: صدقت .

 فقال: أخبرني عن أول دم وقع على وجه الأرض ؟ فقال علي: أما نحن فلا نقول كما يقولون دم الخشاف ولكن أول دم وقع على وجه الأرض مشيمة حواء حيث ولدت هابيل بن آدم .

 قال: صدقت وبقيت مسألة واحدة أخبرني أين الله ؟ فغضب عمر فقال علي: أنا أجيبك وسل عنا شئت كنا

 

 

/ صفحة 243 /

عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه ملك فسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أين أرسلت ؟ فقال: من السماء السابعة من عند ربي، ثم أتاه آخر فسأله فقال: أرسلت من الأرض السابعة من عند ربي، فجاء ثالث من الشرق، ورابع من المغرب فسألهما فأجابا كذلك فالله عز وجل هيهنا وهيهنا في السماء إله وفي الأرض إله .

 أخرجه الحافظ العاصمي في زين الفتى في شرح سورة هل أتى .

 

-72-

جلد صائم قعد على شراب

أخرج أحمد - إمام الحنابلة - في الأشربة عن عمرو بن عبد الله بن طلحة الخزاعي إن عمر بن الخطاب أتي بقوم أخذوا على شراب فيهم رجل صائم فجلدهم وجلده معهم قالوا: إنه صائم، قال لم جلس معهم ؟ .

 (1) هل علم الخليفة الوجه في جلوس الرجل معهم في منتدى الشرب وهو صائم لا يشاركهم في العمل ؟ فلعل الضرورة ألجأته إلى ذلك فما كان يسعه مفارقتهم خشية بوادرهم، أو ضرر آخر يستقبله إن فارقهم، أو أن قصد ردعهم عن المنكر حدى الصائم المسكين إلى مصاحبتهم، والملاينة معهم في بدء الأمر، وإذا احتمل شئ من هذه فإن الحدود تدرأ بالشبهات .

 وهب إنه لم يحتمل شيئا منها فإن غاية ما هنالك أن تعزر الرجل تأديبا وقد عرفت في ص 175 حد التعزير، وإنه لا يتجاوز العشرة أسواطا، فكيف ساوى بينه و بينهم في الجلد ؟ .

 

-73-

رأي الخليفة في مسك بيت المال

أتي عمر مرة بمسك فأمر أن يقسم بين المسلمين ثم سد أنفه فقيل له في ذلك، فقال: وهل ينتفع منه إلا بريحه ؟ ودخل يوما على زوجته فوجد معها ريح مسك فقال: ما هذا ؟ قالت: إني بعت من مسك في بيت مال المسلمين ووزنت بيدي فلما وزنت مسحت إصبعي في متاعي هذا فقال: ناوليني متاعك فأخذه فصب عليه الماء فلم يذهب فجعل يدلكه في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) كنز العمال 3 ص 101، منتخب الكنز هامش مسند أحمد 2 ص 427 .

 

 

 

/ صفحة 244 /

التراب ويصب عليه الماء حتى ذهب ريحه (1) .

هكذا فليكن الفقيه البارع، وهل كان الخليفة يضرب ستارا أمام مصابيح المسلمين حتى لا يستضيئ بضوءها ؟ أو يضرب سدا على مهب الصبا متى حملت شدا من حقول المسلمين ؟ إلى أمثال هذه من الانتفاعات القهرية التي لا دخل لرضاء المالك فيها ؟ أنا لا أدري .

 

-74-

اجتهاد الخليفة في صلاة الميت

عن أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا وخمسا وستا أو قال أربعا فجمع عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر كل رجل بما رأى فجمعهم عمر رضي الله عنه على أربع تكبيرات كأطول الصلاة .

 وعن سعيد بن المسيب يحدث عن عمر رضي الله عنه قال: كان التكبير أربعا وخمسا فجمع عمر الناس على أربع التكبير على الجنازة(2) .

وقال ابن حزم في " المحلى " احتج من منع أكثر من أربع بخبر رويناه من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال جمع عمر بن الخطاب الناس فاستشارهم بالتكبير على الجنازة فقالوا: كبر النبي صلى الله عليه وسلم سبعا وخمسا وأربعا فجمعهم عمر على أربع تكبيرات . ا ه‍ .

وأخرج الطحاوي عن إبراهيم قال قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مختلفون في التكبير على الجنازة لا تشاء أن تسمع رجلا يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر سبعا .

 وآخر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر خمسا .

 وآخر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر أربعا .

 إلا سمعته فاختلفوا في ذلك فكانوا على ذلك حتى قبض أبو بكر رضي الله عنه فلما ولي عمر رضي الله عنه ورأى اختلاف الناس في ذلك شق عليه جدا فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تختلفون على الناس يختلفون من بعدكم، ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفتوحات الإسلامية 2 ص 414 .

(2) سنن البيهقي 4 ص 37، فتح الباري 3 ص 157 وقال في الحديث الثاني: إسناد صحيح وفي الحديث الأول. إسناد حسن، إرشاد الساري 2 ص 417 .

 

 

/ صفحة 245 /

فانظروا أمرا تجتمعون عليه فكأنما أيقظهم فقالوا: نعم ما رأيت يا أمير المؤمنين ! فأشر علينا .

 فقال عمر رضي الله عنه: بل أشيروا علي فإنما أنا بشر مثلكم، فتراجعوا الأمر بينهم فاجمعوا أمرهم على أن يجعلوا التكبير على الجنائز مثل التكبير في الأضحى والفطر أربع تكبيرات فأجمع أمرهم على ذلك . (عمدة القاري 4 ص 129) وقال العسكري في أولياته، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 93، والقرماني في تاريخه - هامش الكامل - 1 ص 203: إن عمر أول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات .

 قال الأميني: الذي ثبت من السنة وعمل الصحابة اختلاف العدد في التكبير على الجنازة المحمول على مراتب الفضل في الميت أو الصلاة نفسها، وذلك يكشف عن إجزاء كل من تلك الأعداد، فاختيار الواحد منها والجمع عليه والمنع عن البقية كما يمنع عن البدع رأي غير مدعوم بشاهد، واجتهاد تجاه السنة والعمل .

 ومن الواضح الجلي بعد تلاوة ما وقع من المفاوضة بين الخليفة والصحابة إنه لم يكن هناك نسخ وإنما ذكر كل منهم ما شاهده على العهد النبوي، فدعوى النسخ وتأخر التكبير بالأربع عن هاتيك الأعداد زور من القول، ولذلك لم يحتج به أحد ممن يعبأ بحجاجه، وإنما حصروا الدليل على تعيين عمر ومنعه بعد تزييف ما قيل من دليل المنع كما سمعت من ابن حزم، وهو كما ترى رأي يخص بقائله لا تقاوم السنة الثابتة وهي لا تترك بقول الرجال .

 ويوهن ذلك الجمع والمنع صفح الصحابة عنهما، أخرج أحمد في مسنده 4 ص 370 عن عبد الأعلى قال: صليت خلف زيد بن أرقم على جنازة فكبر خمسا فقام إليه أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلي فأخذ بيده فقال: نسيت ؟ قال: لا ولكن صليت خلف أبي القاسم خليلي صلى الله عليه وسلم فكبر خمسا فلا أتركها أبدا .

 وروى البغوي من طريق أيوب بن النعمان أنه قال: شهدت جنازة سعد بن حبتة فكبر عليه زيد بن أرقم خمسا (الإصابة 2: 22) وأخرج الطحاوي عن يحيى بن عبد الله التيمي قال: صليت مع عيسى مولى حذيفة ابن اليمان على جنازة فكبر عليها خمسا ثم التفت إلينا فقال: ما وهمت ولا نسيت ولكني

 

 

/ صفحة 246 /

كبرت كما كبر مولاي وولي نعمتي - يعني حذيفة بن اليمان - صلى على جنازة فكبر عليها خمسا ثم التفت إلينا فقال: ما وهمت ولا نسيت ولكني كبرت كما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر خمسا . (عمدة القاري 4 ص 129) .

قال ابن القيم الجوزية في زاد المعاد (1): كان صلى الله عليه وسلم يأمر بإخلاص الدعاء الميت وكان يكبر أربع تكبيرات وصح عنه أنه كبر خمسا (2) وكان الصحابة بعده يكبرون أربعا وخمسا وستا فكبر زيد بن أرقم خمسا، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبرها ذكره مسلم (3) وكبر الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه على سهل بن حنيف ستا (4) وكان يكبر على أهل بدر ستا وعلى غيرهم من الصحابة خمسا وعلى سائر الناس أربعا، ذكره الدار قطني (5) وذكر سعيد بن منصور على الحكم عن ابن عيينة أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا، وهذه آثار صحيحة فلا موجب للمنع منها والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع مما زاد على الأربع بل فعله هو وأصحابه من بعده، و الذين منعوا من الزيادة على الأربع منهم من احتج بحديث ابن عباس: إن آخر جنازة صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم كبر أربعا قالوا: وهذا آخر الأمرين وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم هذا، وهذا الحديث قد قال الخلال في العلل: أخبرني حارث قال سأل الإمام أحمد عن حديث أبي المليح عن ميمون عن ابن عباس فذكر الحديث فقال أحمد: هذا كذب ليس له أصل إنما رواه محمد بن زيادة الطحان وكان يضع الحديث، واحتجوا بأن ميمون بن مهران روى عن ابن عباس: إن الملائكة لما صلت على آدم عليه الصلاة والسلام كبرت عليه أربعا وقالوا: تلك سنتكم يا بني آدم .

 وهذا الحديث قد قال فيه الأثرم: جرى ذكر محمد بن معاوية النيسابوري الذي كان بمكة فسمعت أبا عبد الله قال: رأيت أحاديثه موضوعة، فذكر منها عن أبي المليح عن ميمون بن مهران عن ابن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) ج 1 ص 145، وفي ط هامش شرح المواهب للزرقاني 2 ص 70 .

 (2) أخرجه ابن ماجة في سننه 1 ص 458 .

 (3) وأخرجه أبو داود في سننه 2 ص 67، وابن ماجة في سننه 1 ص 458، وأحمد في مسنده 4 ص 368، 371، والبيهقي في السنن الكبرى 4 ص 36، فتح الباري 3 ص 157 .

 (4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4 ص 36 .

 (5) وأخرجه البيهقي في السنن 4 ص 37، وذكره ابن حجر في فتح الباري 3 ص 157 نقلا عن ابن المنذر.

 

 

/ صفحة 247 /

عباس: إن الملائكة لما صلت على آدم فكبرت عليه أربعا .

 واستعظمه أبو عبد الله و قال: أبو المليح كان أصح حديثا وأتقى لله من أن يروي مثل هذا .

 واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث يحيى عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة لما صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالت هذه سنتكم يا بني آدم . وهذا لا يصح . وقد روي مرفوعا وموقوفا .

 وكان أصحاب معاذ يكبرون خمسا قال علقمة: قلت لعبد الله: إن ناسا من أصحاب معاذ قدموا من الشام فكبروا على الميت لهم خمسا . فقال عبد الله: ليس على الميت في التكبير وقت، كبر ما كبر الإمام فإذا انصرف الإمام فانصرف . هذا نص كلام ابن القيم وفيه فوائد .

 

-75-

الخليفة ومسائل ملك الروم

أخرج أحمد - إمام الحنابلة - في الفضائل قال: حدثنا عبد الله القواريري ثنا مؤمل عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب قال: كان عمر بن الخطاب يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن، قال ابن المسيب: ولهذا القول سبب وهو: أن ملك الروم كتب إلى عمر يسأله عن مسائل فعرضها على الصحابة فلم يجد عندهم جوابا فعرضها على أمير المؤمنين فأجاب عنها في أسرع وقت بأحسن جواب .

 (ذكر المسائل) قال ابن المسيب: كتب ملك الروم إلى عمر رضي الله عنه: من قيصر ملك بني الأصفر إلى عمر خليفة المؤمنين - المسلمين - أما بعد: فإني مسائلك عن مسائل فأخبرني عنها: ما شيئ لم يخلقه الله ؟ وما شيئ لم يعلمه الله ؟ وما شيئ ليس عند الله ؟ وما شيئ كله فم ؟ وما شيئ كله رجل ؟ وما شيئ كله عين ؟ وما شيئ كله جناح ؟ وعن رجل لا عشيرة له ؟ وعن أربعة لم تحمل بهم رحم ؟ وعن شيئ يتنفس وليس فيه روح ؟ وعن صوت الناقوس ماذا يقول ؟ وعن ظاعن ظعن مرة واحدة ؟ وعن شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ما مثلها في الدنيا ؟ وعن مكان لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة ؟ وعن شجرة نبتت من غير ماء ؟ وعن أهل الجنة فإنهم يأكلون ويشربون ولا يتغوطون ولا يبولون ما مثلهم في الدنيا ؟ وعن موايد الجنة فإن عليها القصاع في كل قصعة ألوان لا يخلط بعضها ببعض ما مثلها في الدنيا ؟ وعن جارية تخرج من تفاحة في

 

 

/ صفحة 248 /

الجنة ولا ينقص منها شيئ ؟ وعن جارية تكون في الدنيا لرجلين وهي في الآخرة لواحد ؟ وعن مفاتيح الجنة ما هي ؟ فقرأ علي عليه السلام الكتاب وكتب في الحال خلفه .

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد: فقد وقفت على كتابك أيها الملك وأنا أجيبك بعون الله وقوته وبركته وبركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . أما الشيئ الذي لم يخلقه الله تعالى: فالقرآن لأنه كلامه وصفته، وكذا كتب الله المنزلة والحق سبحانه قديم وكذا صفاته . وأما الذي لا يعلمه الله فقولكم: له ولد وصاحبة وشريك، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله لم يلد ولم يولد.

 وأما الذي ليس عند الله: فالظلم وما ربك بظلام للعبيد . وأما الذي كله فم: فالنار تأكل ما يلقى فيها . وأما الذي كله رجل: فالماء . وأما الذي كله عين . فالشمس . وأما الذي كله جناح: فالريح . وأما الذي لا عشيرة له: فآدم عليه السلام . وأما الذين لم يحمل بهم رحم: فعصى موسى، وكبش إبراهيم، وآدم، وحواء . وأما الذي يتنفس من غير روح فالصبح لقوله تعالى: والصبح إذا تنفس . وأما الناقوس: فإنه يقول طقا طقا، حقا حقا، مهلا مهلا .

 عدلا عدلا، صدقا صدقا، إن الدنيا قد غرتنا واستهوتنا، تمضي الدنيا قرنا قرنا، ما من يوم يمضي عنا إلا أوهى منا ركنا، إن الموتى قد أخبرنا إنا نرحل فاستوطنا .

 وأما الظاعن: فطور سيناء لما عصت بنو إسرائيل وكان بينه وبين الأرض المقدسة أيام فقلع الله منه قطعة وجعل لها جناحين من نور فنتقه عليهم فذلك قوله: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم .

 وقال لبني إسرائيل إن لم تؤمنوا وإلا أوقعته عليكم. فلما تابوا رده إلى مكانه .

 وأما المكان الذي لم تطلع على الشمس إلا مرة واحدة فأرض البحر لما فلقه الله لموسى على السلام وقام الماء أمثال الجبال ويبست الأرض بطلوع الشمس عليها ثم عاد ماء البحر إلى مكانه .

 وأما الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مائة عام: فشجرة طوبى وهي سدرة المنتهى في السماء السابعة إليها ينتهي أعمال بني آدم وهي من أشجار الجنة ليس في الجنة قصر ولا بيت إلا وفيه غصن من أغصانها، ومثلها في الدنيا الشمس أصلها واحد وضوئها في كل مكان .

 وأما الشجرة التي نبتت من غير ماء: فشجرة يونس وكان ذلك معجزة له لقوله تعالى: وأنبتنا عليه شجرة من يقطين . وأما غذاء أهل الجنة فمثلهم في الدنيا الجنين في بطن أمه فإنه يغتذي من

 

 

/ صفحة 249 /

سرتها ولا يبول ولا يتغوط .

 وأما الألوان في القصعة الواحدة: فمثله في الدنيا البيضة فيها لونان أبيض وأصفر ولا يختلطان .

 وأما الجارية التي تخرج من التفاحة: فمثلها في الدنيا الدودة تخرج من التفاحة ولا تتغير .

 وأما الجارية التي تكون بين اثنين: فالنخلة التي تكون في الدنيا لمؤمن مثلي ولكافر مثلك وهي لي في الآخرة دونك، لأنها في الجنة وأنت لا تدخلها، وأما مفاتيح الجنة: فلا إله إلا الله، محمد رسول الله .

 قال ابن المسيب .

 فلما قرأ قيصر الكتاب قال: ما خرج هذا الكلام إلا من بيت النبوة ثم سأل عن المجيب فقيل له: هذا الجواب ابن عم محمد صلى الله عليه وسلم فكتب إليه: سلام عليك .

 أما بعد: فقد وقفت على جوابك، وعلمت أنت من أهل بيت النبوة، و معدن الرسالة، وأنت موصوف بالشجاعة والعلم، وأوثر أن تكشف لي عن مذهبكم والروح التي ذكرها الله في كتابكم في قوله: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي فكتب إليه أمير المؤمنين: أما بعد فالروح نكتة لطيفة، ولمعة شريفة، من صنعة باريها وقدرة منشأها، وأخرجها من خزائن ملكه وأسكنها في ملكه فهي عنده لك سبب، وله عندك وديعة، فإذا أخذت مالك عنده أخذ ماله عندك، والسلام .

 زين الفتى في شرح سورة هل أتى للحافظ العاصمي، وتذكرة خواص الأمة لسبط ابن الجوزي الحنفي ص 87 .

 

-76-

موقف الخليفة في الأحكام

عن ابن أذينة العبدي قال: أتيت عمر فسألته من أين أعتمر ؟ قال إئت عليا فسله .

 فأتيته فسألته فقال لي علي: من حيث ابدأت - يعني ميقات أرضه - (1) قال: فأتيت عمر فذكرت له ذلك فقال: ما أجد لك إلا ما قال ابن أبي طالب . أخرجه ابن حزم في " المحلى " 7: 76 مسندا معنعنا . وذكره .

 أبو عمر وابن السمان في الموافقة كما في الرياض النضرة 2 ص 195، وذخائر العقبى ص 79، ذكره محب الدين الطبري في (اختصاص أمير المؤمنين بإحالة جمع من الصحابة عند سؤالهم عليه) وعد منهم معاوية وعائشة وعمر فأخرج من طريق أحمد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) قال ابن حزم في المحلى: هكذا في الحديث نفسه .

 

 

/ صفحة 250 /

في حديث: كان عمر إذا أشكل عليه شئ أخذه منه، ثم ذكر جملة من مراجعات عمر إليه سلام الله عليه، فأين أعلمية عمر المزعومة لموسى الوشيعة أو لغيره من أعلام القوم ؟

 

-77-

رأي الخليفة في المناسك

أخرج مالك - إمام المالكية - عن عبد الله بن عمر: إن عمر بن الخطاب خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف في البيت وفي حديثه الآخر: أن عمر بن الخطاب قال: من رمى الجمرة ثم حلق أو قصر ونحر هديا إن كان معه فقد حل له ما حرم إلا النساء والطيب حتى يطوف بالبيت .

 وفي لفظ أبي عمر: عن سالم بن عمر عن أبيه قال عمر: إذا رميتم الجمرة سبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شئ إلا الطيب والنساء .

 قال سالم: وقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت .

 قال سالم: فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع (1) .

 قال صاحب (إزالة الخفاء) بعد ذكر الحديثين الأولين: قلت ترك الفقهاء قوله (والطيب) لما صح عندهم من حديث عائشة وغيرها: أن النبي صلى الله عليه وسلم تطيب قبل طواف الافاضة .

 قال الأميني: واها لأمة يعلمهم المناسك من لا يعلم ما به يحل للمحرم ما حرم عليه، ومرحبا بخليفة ترك الفقهاء قوله مهما وجدوه خلاف السنة النبوية، وقد ثبتت بحديث عايشة وغيرها أخرجه أئمة الصحاح والمسانيد كالبخاري في صحيحه 4 ص 58، ومسلم في صحيحه 1 ص 330، والترمذي في صحيحه 1 ص 173، وأبو داود في سننه 1 ص 275، والدارمي في سننه 2 ص 32، وابن ماجة في سننه 2 ص 217، والنسائي في سننه 5 ص 137، والبيهقي في سننه 5 ص 205 أضف إليها جل جوامع الحديث و الكتب الفقهية لولا كلها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) موطأ مالك 1 ص 285، صحيح الترمذي 1 ص 173، سنن البيهقي 5 ص 204، جامع بيان العلم 2 ص 197، وفي مختصره ص 226، الاجابة للزركشي ص 88 .

 

 

/ صفحة 251 /

م وأخرج البيهقي مثل حديث عايشة عن ابن عباس وذكره الزركشي في " الاجابة " ص 89) .

 

-78*

إجتهاد الخليفة في الخمر وآياتها

1 - قال الزمخشري في ربيع الأبرار في باب اللهو واللذات والقصف واللعب (1) و شهاب الدين الأبشيهي في " المستطرف " 2 ص 291: قد أنزل الله تعالى في الخمر ثلاث آيات: الأولى قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس .

 الآية (2) فكان من المسلمين من شارب ومن تارك إلى أن شرب رجل فدخل في الصلاة فهجر فنزل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون (3) فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها حتى شربها عمر رضي الله عنه فأخذ بلحى بعير وشج به رأس عبد الرحمن بن عوف ثم قعد ينوج على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر يقول:

وكـــــائن بالقلـــــيب قلــيب بدر * مـــــن الفتــيان والعرب الكرام

وكـــــائن بالقليـــــب قليــب بدر * من الشيزى المكلل بالسنام(4)

أيوعدني ابن كبشة أن سنحيى * وكيـــف حيــــاة أصداء وهام ؟

أيعجـــــز أن يــرد الموت عني * وينشــــرني إذا بليت عظامي ؟

ألا مـــــن مبلــغ الرحمن عني * بأنـــــي تــــارك شهر الصيام ؟

فقـــــل لله: يمنعـــــني شــرابي * وقـــــل لله: يمنعـــــني طعــامي

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان في يده فضربه به فقال: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (5) فقال عمر رضي الله عنه: إنتهينا انتهينا .

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وقفنا من الكتاب على عدة نسخ في مكتبات العراق وإيران .

(2) سورة البقرة 219 .

(3) سورة النساء 43 .

(4) هذا البيت لا يوجد في المستطرف .

(5) سورة المائدة آية 91 .

 

 

/ صفحة 252 /

ورواه الطبري في تفسيره 2 ص 203 بتغيير في أبياته غير أن فيه مكان عمر في الموضع الأول (رجل) .

2 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: أللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في البقرة: يسألونك عن الخمر والميسر .

 قال فدعي عمر فقرأت عليه فقال: أللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى .

 فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران .

 فدعي عمر فقرأت عليه فقال: أللهم بين لنا بيانا شافيا .

 فنزلت: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر و الميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون . قال عمر: إنتهينا، إنتهينا .

 أخرجه أبو داود في سننه 2 ص 128، وأحمد في المسند 2 ص 53، والنسائي في السنن 8 ص 287، والطبري في تاريخه 7 ص 22، والبيهقي في سننه 8 ص 285، والجصاص في أحكام القرآن 2 ص 245، والحاكم في المستدرك 2 ص 278، وصححه وأقره الذهبي في تلخيصه، والقرطبي في تفسيره 5 ص 200، وابن كثير في تفسيره 1 ص 255، 500، و ج 2 ص 92 نقلا عن أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه وعلي بن المديني وقال: قال علي بن المديني: إسناد صالح صحيح وذكر تصحيح الترمذي وقرره .

 ويوجد في تيسير الوصول 1 ص 124، وتفسير الخازن 1 ص 513، وتفسير الرازي 3 ص 458، وفتح الباري 8 ص 225، والدر المنثور 1 ص 252 نقلا عن ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبي داود، والترمذي، والنسائي .

 وأبي يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، والبيهقي، والضياء المقدسي في المختارة .

3 - عن سعيد بن جبير: كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا فكانوا يشربونها أول الاسلام حتى نزلت: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثم كبير و منافع للناس .

 قالوا: نشربها للمنفعة لا للإثم فشربها رجل (1) فتقدم يصلي بهم فقرأ:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هو عبد الرحمن بن عوف في صلاة المغرب .

 أخرج حديثه الجصاص في أحكام القرآن 2 ص 245، والحاكم في المستدرك 4 ص 142 وقال في ج 2 ص 307: إن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره وقد برأه الله منها فإنه راوي هذا الحديث .

 

 

/ صفحة 253 /

قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون . فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . فقالوا: نشربها في غير حين الصلاة . فقال عمر: أللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا فنزلت: إنما يريد الشيطان . الآية . فقال عمر . إنتهينا . إنتهينا .تفسير القرطبي 5 ص 200 .

4 - عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر رضي الله عنه: أللهم بين لنا في الخمر . فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون . الآية .

 فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عمر فتلاها عليه فكأنها لم توافق من عمر الذي أراد فقال: أللهم بين لنا في الخمر فنزلت: ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس . الآية .

 فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمر فتلاها عليه فكأنها لم توافق من عمر الذي أراد فقال: أللهم بين لنا في الخمر فنزلت: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه .

 حتى انتهى إلى قوله: فهل أنتم منتهون .

 فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عمر فتلاها عليه فقال عمر: إنتهينا يا رب .

 أخرجه الحاكم في " المستدرك " 4 ص 143 وصححه هو والذهبي في تلخيصه، والترمذي في صحيحه 2 ص 176 من طريق عمرو بن شرحبيل، وذكره الآلوسي في " روح المعاني " 7 ص 15 طبع المنيرية .

 5 - وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس . شربها قوم لقوله: منافع للناس . وتركها قوم لقوله: إثم كبير . منهم عثمان بن مظعون (1) حتى نزلت الآية التي في النساء لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فتركها قوم وشربها قوم يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل حتى نزلت الآية التي في المائدة: إنما الخمر والميسر . الآية، قال عمر: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام ؟ بعدا وسحقا فتركها الناس .

 وأخرج الطبري عن سعيد بن جبير ما يقرب منه وفي آخره: حتى نزلت: إنما الخمر والميسر .

 الآية، فقال عمر: ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا افتراء على ذلك الصحابي العظيم وقد نص أئمة التاريخ والحديث على إنه ممن حرم على نفسه الخمر في الجاهلية وقال: لا أشرب شرابا يذهب عقلي، ويضحك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي .

 راجع الاستيعاب 2: 482، والدر المنثور 2: 315 .

 

 

/ صفحة 254 /

وأخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي حديثا فيه: ثم نزلت الرابعة التي في المائدة فقال عمر بن الخطاب: إنتهينا يا ربنا (1) .

 قال الأميني: لم نرم بسرد هذه الأحاديث إثبات شرب الخمر على الخليفة أيام الجاهلية إذ الاسلام يجب ما قبله، وليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين - سورة المائدة - بل الغاية المتوخاة إيقاف القارئ على مبلغ علم الخليفة بالكتاب، وحد عرفانه مغازي آيات الله وإنه لم يكن يعرف الحظر من قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير .

 وقد نزل بيانا للنهي عنها، وعرفته الصحابة منه وقالت عائشة: لما نزلت سورة البقرة نزل فيها تحريم الخمر فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك (2) ولا يكون بيان شاف في مقام الإعراب عن الخطر والحظر أولى منها ولا سيما بملاحظة أمثال قوله تعالى: إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي .

 من الآيات الواردة في الإثم فقد حرمت بكل صراحة الإثم الذي هتفت الآية الأولى بوجوده في الخمر، والإثم: الذنب، والآثم والأثيم الفاجر .

 وقد يطلق على نفس الخمرة كقول الشاعر:

نشرب الإثم بالصواع جهارا * وترى المـسك بيننا مستعارا

وقول الآخر:

شربــت الإثـم حتى ضل عقلي * كذاك الإثم تذهب بالعقول (3)

وليست منافع الخمر إلا أثمانها قبيل تحريمها وما يصلون إليه بشربها من اللذة وقد نص على هذا كما في تفسير الطبري 2 ص 202 .

 وقال الجصاص في أحكام القرآن 1 ص 380: هذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر، لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافية مغنية، وذلك لقوله: " قل فيهما إثم كبير " والإثم كله محرم بقوله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم .

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) الدر المنثور 2 ص 315، 317، 318 .

 (2) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 8 ص 358، وحكاه عنه السيوطي في الدر المنثور 1 ص 252 .

 (3) لسان العرب 14 ص 272، تاج العروس 8 ص 179 .

 

 

/ صفحة 255 /

فأخبر أن الإثم محرم ولم يقتصر على إخباره بأن فيها إثما حتى وصفه بأنه كبير تأكيدا لحظرها . وقوله: منافع للناس . لا دلالة فيه على إباحتها لأن المراد منافع الدنيا . وإن في سائر المحرمات منافع لمرتكبيها في دنياهم إلا أن تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحق بارتكابها، فذكره لمنافعها غير دال على إباحتها لا سيما وقد أكد حظرها مع ذكر منافعها بقوله في سياق الآية " وإثمهما أكبر من نفعهما " يعني إن ما يستحق بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي ينبغي منهما .

 فإن قيل: ليس في قوله تعالى " فيهما إثم كبير " دلالة على تحريم القليل منها لأن مراد الآية ما يلحق من المآثم بالسكر وترك الصلاة والمواثبة والقتال فإذا حصل المأثم بهذه الأمور فقد وفينا ظاهر الآية مقتضاها من التحريم ولا دلالة فيه على تحريم القليل منها .

 قيل له: معلوم إن في مضمون قوله: فيهما إثم كبير .

 ضمير شربها لأن جسم الخمر هو فعل الله تعالى ولا مأثم فيها وإنما المأثم مستحق بأفعالنا فيها، فإذا كان الشرب مضمرا كان تقديره في شربها وفعل الميسر إثم كبير فيتناول ذلك شرب القليل منها والكثير كما لو حرمت الخمر لكان معقولا إن المراد به شربها والانتفاع بها فيقتضي ذلك تحريم قليلها كثيرها . ا ه‍ .

 فهذه كلها عزبت عن الخليفة وكان يتطلب البيان الشافي بعد هذه الآية وآية النساء بقوله: أللهم بين لنا بيانا شافيا . وما انتهى عنها إلا بعد لأي من عمر الدهر بعد نزول قوله تعالى: فهل أنتم منتهون .

 قال القرطبي في تفسيره 6 ص 292: لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زايد على معنى انتهوا قال: انتهينا .

 وقال ابن جزي الكلبي في تفسيره 1 ص 187: فيه توقيف يتضمن الزجر والوعيد و لذلك قال عمر لما نزلت: إنتهينا إنتهينا .

 وقال الزمخشري في الكشاف 1 ص 433: من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون ؟ أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا ؟.

 وقال البيضاوي في تفسيره 1 ص 357: في قوله (فهل أنتم منتهون) إيذانا بأن الأمر

 

 

/ صفحة 256 /

في المنع والتحذير بلغ الغاية وإن الأعذار قد انقطعت .

 وما كان ذلك التأويل من الخليفة وطلب البيان بعد البيان، وعدم الانتهاء قبل الزجر والوعيد إلا لحبه لها وكونه أشرب الناس في الجاهلية كما ينم عنه قوله فيما أخرجه ابن هشام في سيرته 1 ص 368: كنت للاسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة (1) عند دور عمر بن عبد بن عمران المخزومي فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدا فقلت: لو أني جئت فلانا الخمار وكان بمكة يبيع الخمر لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها .

 الحديث .

 وفيما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10 ص 214 عن عبد الله بن عمر من قول والده في أيام خلافته: إني كنت لأشرب الناس لها في الجاهلية وانها ليست كالزنا (2) .

 ومن هنا خص الخليفة بالدعوة وقراءة النبي الأعظم عليه الآيات النازلة في الخمر وكان ممن يأولها ولم ينتهي عنها إلى أن نزل الزجر والوعيد بآية المائدة وهي آخر سورة نزلت من القرآن (3) ومنها ما نزل في حجة الوداع (4) وفي الدر المنثور 2 ص 252 عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: نزلت سورة المائدة على رسول الله في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته .

 ويروى: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: يا أيها الناس إن سورة المائدة آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها (تفسير القرطبي 6 ص 31) .

 وبعد هذه كلها لم يكن الخليفة يعلم أن شرب الخمر من أعظم الكبائر كما تعرب عنه صحيحة الحاكم عن سالم بن عبد الله قال: إن أبا بكر وعمر وناسا جلسوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم فارسلوني إلى عبد الله بن * (هامش) (1) الحزورة: كانت سوقا من أسواق مكة وهي الآن جزء المسجد(2) .

وراجع سيرة عمر لابن الجوزي ص 98، كنز العمال 3 ص 107، منتخب الكنز بهامش مسند أحمد 2 ص 428، الخلفاء الراشدون لعبد الوهاب النجار ص 238 (3) .

مستدرك الحاكم 2 ص 311، جامع الترمذي 2 ص 178، الدر المنثور 2 ص 252، نقلا عن أحمد، والترمذي، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي، وسعيد بن منصور، وابن المنذري (4) .

تفسير القرطبي 6 ص 30، وإرشاد الساري 7 ص 95 .

 

 

/ صفحة 257 /

عمر وأسأله فأخبرني إن أعظم الكبائر شرب الخمر فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذلك ووثبوا جميعا حتى أتوه في داره فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن ملكا من ملكوك بني إسرائيل أخذ رجلا فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفسا أو يزني أو يأكل لحم خنزير أو يقتلوه فاختار الخمر وإنه لما شربه لم يمتنع من شيئ أراده منه .

 مستدرك الحاكم 4 ص 147، الترغيب والترهيب 3 ص 105، الدر المنثور 2 ص 323 .

 ولاعتياده بها منذ مدة غير قصيرة إلى نزول آية المائدة في حجة الوداع طفق يشرب النبيذ الشديد بعد نزول ذلك الوعيد، وبعد قوله: انتهينا انتهينا .

 وكان يقول: إنا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا فمن رابه من شرابه شئ فليمزجه بالماء (1) .

 وقال: إني رجل معجار البطن أو مسعار البطن وأشرب هذا النبيذ الشديد فيسهل بطني . أخرجه ابن أبي شيبة كما في كنز العمال 3 ص 109 . وقال: لا يقطع لحوم هذه الإبل في بطوننا إلا النبيذ الشديد . (جامع مسانيد أبي حنيفة 2 ص 190، 215) .

م - وكان يشرب النبيذ الشديد إلى آخر نفس لفظه قال عمرو بن ميمون: شهدت عمر حين طعن أتي بنبيذ شديد فشربه . طب 6 ص 156) .

 وكان حدة شرابه وشدته بحيث لو شرب غيره منه لسكر وكان يقيم عليه الحد غير أن الخليفة كان لم يتأثر منه لاعتياده أو كان يكسره ويشربه قال الشعبي: شرب أعرابي من أداوة عمر فأغشي فحده عمر: ثم قال: وإنما: حده للسكر لا للشرب (العقد الفريد 3 ص 416) وفي لفظ الجصاص في أحكام القرآن 2 ص 565: إن أعرابيا شرب من شراب عمر فجلده عمر الحد فقال الأعرابي: إنما شربت من شرابك .

 فدعا عمر شرابه فكسره بالماء ثم شرب منه وقال: من رابه شرابه شئ فليكسره بالماء ثم قال الجصاص: ورواه إبراهيم النخعي عن عمر نحوه وقال فيه: إنه شرب منه بعد ما ضرب الأعرابي .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) السنن الكبرى 8 ص 299، محاضرات الراغب 1 ص 319، كنز العمال 2 ص 109 نقلا عن ابن أبي شيبة.

 

 

/ صفحة 258 /

وفي جامع مسانيد أبي حنيفة 2 ص 192 قال: هكذا فاكسروه بالماء إذا غلبكم شيطانه .

 وكان يحب الشراب الشديد .

 وعن ابن جريج: إن رجلا عب في شراب نبذ لعمر بن الخطاب بطريق المدينة فسكر فتركه عمر حتى أفاق فحده ثم أوجعه عمر بالماء فشرب منه (1) .

 وعن أبي رافع: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إذا خشيتم من نبيذ شدته فاكسروه بالماء .

 أخرجه النسائي في سننه 8 ص 326 وعده مما احتج به من أباح شرب المسكر .

 م - وأخرج القاضي أبو يوسف في كتاب الآثار 226 من طريق أبي حنيفة عن إبراهيم أبي عمران الكوفي التابعي قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ رجلا سكرانا فأراد أن يجعل له مخرجا فأبى إلا ذهاب عقل، فقال: احبسوه فإذا صحا (2) فاضربوه ثم أخذ فضل إداوته فذاقه فقال: اوه هذا عمل بالرجال العمل ثم صب فيه ماء فكسره فشرب وسقى أصحابه وقال: هكذا اصنعوا بشرابكم إذا غلبكم شيطانه) .

 ومن العجيب حد من شرب من أداوة عمر فسكر لأنه إن كان لا يعلم أن ما في الأداوة مسكر وشرب فلا حد عليه كما أخرجه أبو عمر في " العلم " 2 ص 86 ومر ص 174 عن الخليفة نفسه من قوله: ما الحد إلا من علمه .

 وإن كان ذلك فإن له في شرابه إسوتا بالخليفة، والفرق بينهما بأنه أسكره ولم يكن يسكر الخليفة لاعتياده به تافه، فكأن المدار عند الخليفة في حلية الأشربة والحد عليها على الاسكار وعدمه بالاضافة إلى شخص كل شارب وينبأ عنه قوله: الخمر ما خامر العقل (3) والحد و الحرمة مطلقان لكل مسكر وإن قورنت صفة الاسكار بمانع من خصوصيات الأمزجة أو لقلة في الشرب فالصفة صلتها بالمشروب فحسب لا الشارب ويدل على ذلك أحاديث جمة صحيحة تدل على أن القليل الذي لا يسكر مما يسكر كثيرة حرام مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره .

 أخرجه الدارمي في سننه 2 ص 113، والنسائي في سننه 8 ص 301، والبيهقي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) حاشية سنن البيهقي لابن التركماني 8 ص 306، كنز العمال 3 ص 310 .

 (2) صحا السكران صحوا: زال سكره .

 (3) أخرجه الخمسة من أئمة الصحاح الست كما في تيسير الوصول 2 ص 174 .

 

 

/ صفحة 259 /

في سننه 8 ص 296 .

 وقوله صلى الله عليه وآله وسلم من طريق جابر . وابن عمر . وابن عمرو: ما أسكر كثيرة فقليله حرام .

 أخرجه أبو داود في سننه 2 ص 129، وأحمد في مسنده 2 ص 167، ج 3 ص 343 . والترمذي في صحيحه 1 ص 342، وابن ماجة في سننه 2 ص 332، والنسائي في سننه 8 ص 300، والبيهقي في سننه 8 ص 296، والبغوي في مصابيح السنة 2 ص 67، والخطيب في تاريخ بغداد 3 ص 327 .

 وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق (1) فملء الكف منه حرام وفي لفظ آخر: ما أسكر منه الفرق فالحسوة منه حرام .

 أخرجه أبو داود في سننه 2 ص 130، والترمذي في صحيحه 1 ص 342، والبيهقي في سننه 8 ص 296، والبغوي في مصابيح السنة 2 ص 67، والخطيب البغدادي في تاريخه 6 ص 229، وابن الأثير في جامع الأصول كما في التيسير 2 ص 173 .

 وعن سعد: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره .

 أخرجه النسائي في سننه 8 ص 301 .

 وقال السندي في شرح سنن النسائي: أي ما يحصل السكر بشرب كثيرة فهو حرام قليله وكثيره وإن كان قليله غير مسكر وبه أخذ الجمهور وعليه الاعتماد عند علمائنا الحنفية والاعتماد على القول بأن المحرم هو الشربة المسكرة وما كان قبلها فحلال قد رده المحقوق كما رده المصنف رحمه الله تعالى .

 وفي تفسير الطبري 2 ص 104 عن قتادة: جاء تحريم الخمر في آية سورة المائدة، قليلها وكثيرها ما أسكر منها وما لم يسكر .

 وأخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور 2 ص 316 .

 أخرج أبو حنيفة (2) بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: حرمت الخمر لعينها القليل منها والكثير، والمسكر من كل شراب .

 م - ورواه الخطيب في تاريخه 3 ص 190 عن ابن عباس ولفظه، حرمت الخمرة بعينها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفرق بفتح الراء وسكونها: إناء يسع ستة عشر رطلا . والحسوة: الجرعة من الماء.

(2) جامع مسانيد أبي حنيفة 2 ص 183 .

 

 

/ صفحة 260 /

قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب) .

 وإنما أحل عمر الطلاء حين طبخ وذهب ثلثاه ولما قدم الشام شكوا له وباء الأرض إلى أن قالوا: هل لك أن تجعل لك من هذا الشراب شيئا لا يسكر ؟ قال: نعم فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث فأمرهم عمر أن يشربوه وكتب إلى عماله أن يرزقوا الناس الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه (1) .

 وقال محمود بن لبيد الأنصاري: إن عمر بن الخطاب حين قدم الشام شكا إليه أهل الشام وباء الأرض وثقلها .

 وقالوا: لا يصلحنا إلا هذا الشراب فقال عمر: اشربوا هذا العسل .

 قالوا: لا يصلحنا العسل .

 فقال رجل من أهل الأرض: هل لك أن نجعل لك من هذا الشراب شيئا لا يسكر ؟ قال: نعم .

 فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث فأتوا به عمر فأدخل فيه عمر إصبعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط، فقال: هذا الطلاء هذا مثل طلاء الإبل فأمرهم عمر أن يشربوه، فقال له عبادة بن الصامت: أحللتها والله، فقال عمر: كلا والله: أللهم ! إني لا أحل لهم شيئا حرمته عليهم، ولا أحرم عليهم شيئا أحللته لهم .

 أخرجه إمام المالكية مالك في الموطأ 2 ص 180 في جامع تحريم الخمر .

 فحج أبو مسلم الخولاني فدخل على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت تسأله عن الشام وعن بردها فجعل يخبرها فقالت: كيف تصبرون على بردها ؟ فقال: يا أم المؤمنين إنهم يشربون شرابا لهم يقال له: الطلاء .

 فقالت: صدق الله وبلغ حبي سمعت حبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أناسا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها (2) .

م - وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن القوم سيفتنون بعدي بأموالهم، ويمنون بدينهم على ربهم و يتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة، والأهواء الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع .

 نهج البلاغة 2: 65) .

 وسئل ابن عباس عن الطلاء فقال: وما طلاؤكم هذا إذ سألتموني ؟ فبينوا لي الذي تسألوني عنه .

 قالوا: هو العنب يعصر ثم يطبخ ثم يجعل في الدنان .

 قال: وما الدنان ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) سنن البيهقي 8 ص 300، 301، سنن النسائي 8 ص 329، سنن سعيد بن منصور كما في كنز العمال 3 ص 109، 110، تيسير الوصول 2 ص 178، جامع مسانيد أبي حنيفة 2 ص 191 .

 (2) وفي لفظ أبي نعيم: ستشرب أمتي من بعدي الخمر يسمونها بغير اسمها يكون عونهم على شربها أمراءهم .

 الإصابة 3 ص 546 .

 

 

/ صفحة 261 /

قالوا: ادنان مقيرة . قال: مزفته ؟ قالوا: نعم . قال: أيسكر ؟ قالوا: إذا اكثر منه أسكر قال: فكل مسكر حرام .

 وقبل هذه كلها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجتنب كل مسكر ينش (3) قليله وكثيره .

 أخرجه النسائي في سننه 8 ص 324، وحكاه عنه ابن الديبع في تيسير الوصول 2 ص 172 .

 هذه آراء من شتى النواحي في باب الأشربة تخص بالخليفة لا تساعده فيها البرهنة الشرعية من الكتاب والسنة بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون .

 

-79-

جهل الخليفة بالغسل من الجنابة

عن رفاعة بن رافع قال: بينا أنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ! هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة - في الذي يجامع ولا ينزل - فقال عمر: على به .

 فجاء زيد فلما رآه عمر قال: أي عدو نفسه قد بلغت إنك تفتي الناس برأيك فقال: يا أمير المؤمنين ! بالله ما فعلت لكني سمعت من أعمامي حديثا فحدثت به من أبي أيوب ومن أبي بن كعب ومن رفاعة بن رافع فأقبل عمر على رفاعة بن رافع فقال: وقد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم من المرأة فأكسل لم يغتسل ؟ فقال: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأتنا فيه تحريم ولم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نهي .

 قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك ؟ قال: لا أدري .

 فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار فجمعوا له فشاورهم فأشار الناس أن لا غسل في ذلك إلا ما كان من معاذ وعلي رضي الله عنهما فإنهما قالا: إذا جاوز الختان فقد وجب الغسل .

 فقال عمر رضي الله عنه: هذا وأنتم أصحاب بد وقد اختلفتم فمن بعدكم أشد اختلافا .

 قال فقال علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ! إنه ليس أحد أعلم بهذا ممن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه فأرسل إلى حفصة فقالت: لا علم لي بهذا فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان فقد وجب الغسل، فقال عمر رضي الله عنه: لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربا .

 وفي لفظ: لا يبلغني إن أحدا فعله ولا يغتسل إلا أنهكته عقوبة .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (3) ينش: أي يغلي .

 

 

/ صفحة 262 /

أخرجه أحمد إمام الحنابلة في مسنده 5 ص 15، وابن أبي شيبة في مصنفه وأبو جعفر الطحاوي في معاني الآثار، وحكاه عن الأخير العيني في عمدة القاري 2 ص 72، وذكره القاضي أبو المجالس في - المعتصر من المختصر من مشكل الآثار - 1 ص 51، و أخرجه الهيثمي من طريق أحمد والطبراني في الكبير وقال: رجال أحمد كلهم ثقات .

 راجع مجمع الزوائد 1 ص 266، والاجابة للزركشي ص 84 .

 هذه الرواية تنم عن عدم معرفة أولئك الصحابة الذين شاورهم الخليفة بالحكم - وفي مقدمهم هو نفسه - ما خلا أمير المؤمنين ومعاذ وعائشة، وشتان بين عدم معرفة الخليفة بمثل هذا الحكم الذي يلزم المكلف عرفانه قبل كثير من الواجبات، وبين عدم معرفة غيره لأن به القدرة والأسرة في الأحكام دون غيره .

 

-80-

الخليفة وتوسيعه المسجدين

أخرج عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال . كان العباس بن عبد المطلب دار إلى جنب مسجد المدينة فقال عمر: بعنيها وأراد أن يدخلها في المسجد فأبى العباس أن يبيعها إياه فقال عمر: فهبها لي فأبى فقال عمر: فوسعها أنت في المسجد . فقال عمر .

 لا بد لك من إهداهن فأبى قال: فخذ بيني وبينك رجلا فأخذ أبي بن كعب فاختصما إليه فقال أبي لعمر: ما أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيه فقال له: أرأيت قضائك هذا في كتاب الله و حديثه، أم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال أبي: بل سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 قال عمر: وما ذاك ! قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس جعل كلما بنى حائطا أصبح منهدما فأوصى ابنه إليه أن لا تبني في حق رجل حتى ترضيه .

 فتركه عمر رضي الله عنه فوسعها العباس بعد ذلك في المسجد .

 صورة أخرى:

أخرج ابن سعد عن سالم أبي النضر رضي الله عنه قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه ضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دور العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين فقال عمر رضي الله عنه للعباس: يا أبا الفضل .

 إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم وقد ابتعت ما حوله من المنازل فوسع به على المسلمين

 

 

/ صفحة 263 /

في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين، فأما حجرات أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها .

 وإما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم .

 فقال العباس رضي الله عنه: ما كنت لأفعل .

 فقال عمر رضي الله عنه: إختر مني إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من مال المسلمين .

 وإما أن أحطك حيث من المدينة و ابنيها لك من بيت مال المسلمين .

 وإما أن تصدق بها على المسلمين فيوسع بها في مسجدهم فقال: لا، ولا واحدة منها .

 فقال عمر رضي الله عنه: اجعل بيني وبينك من شئت فقال أبي بن كعب رضي الله عنه فانطلقا إلى أبي فقصا عليه القصة فقال أبي رضي الله عنه: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالا: حدثنا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله أوحى إلى داود: ابن لي بيتا أذكر فيه فخط له هذه الخطة خطة بيت المقدس فإذا بربعها زاوية بيت رجل من بني إسرائيل فسأل داود أن يبيعه إياه فأبى فحدث داود نفسه أن يأخذه منه فأوحى الله إليه: أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه فأردت أن تدخل في بيتي الغصب وليس من شأني الغصب وإن عقوبتك أن لا تبنيه .

 قال: يا رب فمن ولدي ؟ قال: من ولدك .

 قال: فأخذ عمر رضي الله عنه بمجامع ثياب أبي بن كعب وقال: جئتك بشئ فجئت بما هو أشد منه لتخرجن مما قلت فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله فيهم أبو ذر رضي الله عنه فقال أبي رضي الله عنه: إني نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حيث أمر الله تعالى داود أن يبنيه إلا ذكره فقال أبو ذر: أنا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال آخر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل أبيا فأقبل أبي على عمر رضي الله عنه فقال: يا عمر ! أتتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: يا أبا المنذر ! لا والله ما اتهمتك عليه ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا . الحديث .

 صورة ثالثة:

أخرج الحاكم بإسناده عن عمر بن الخطاب إنه قال للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نزد في المسجد، ودارك قريبة من المسجد فاعطناها نزدها في المسجد وأقطع لك أوسع منها . قال: لا أفعل . قال: إذا أغلبك عليها

 

 

/ صفحة 264 /

قال ليس ذاك لك فاجعل بيني وبينك من يقضي بالحق .

 قال: ومن هو ؟ قال: حذيفة بن اليمان .

 قال: فجاءوا إلى حذيفة فقصوا عليه فقال حذيفة: عندي في هذا خبر .

 قال: وما ذاك ؟ قال: إن داود النبي صلوات الله عليه أراد أن يزيد في بيت المقدس وقد كان بيت قريب من المسجد ليتيم فطلب إليه فأبى فأراد داود أن يأخذها منه فأوحى الله عز وجل إليه أن نزه البيوت عن الظلم لبيتي .

 قال: فتركه فقال له العباس: فبقي شئ ؟ قال: لا .

 قال: فدخل المسجد فإذا ميزاب للعباس شارع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليسيل ماء المطر منه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عمر بيده فقلع الميزاب فقال: هذا الميزاب لا يسيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

 فقال له العباس: والذي بعث محمدا بالحق إنه هو الذي وضع الميزاب في هذا المكان ونزعته أنت يا عمر ! فقال عمر: ضع رجليك على عنقي لترده إلى ما كان هذا . ففعل ذلك العباس .

 ثم قال العباس: قد أعطيتك الدار .

 تزيدها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزادها عمر في المسجد ثم قطع للعباس دارا أوسع منها بالزوراء . فقال الحاكم: وقد وجدت له شاهدا من حديث أهل الشام ...

 عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد أن يزيد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقعت منازعة على دار العباس بن عبد المطلب . الحديث .

 صورة رابعة:

عن عبد الله بن أبي بكر قال: كان للعباس بيت في قبلة المسجد وكثر الناس وضاق المسجد، فقال عمر للعباس: إنك في سعة فاعطني بيتك هذا أوسع به في المسجد فأبى العباس ذلك عليه فقال عمر: إني أثمنك وأرضيك .

 قال: لا أفعل لقد ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقي وأصلح ميزابه بيده فلا أفعل قال عمر: لآخذنه منك .

 فقال أحدهما لصاحبه: فاجعل بيني وبينك حكما فجعلا بينهما أبي بن كعب فأتياه فاستأذنا على الباب فحبسهما ساعة ثم أذن لهما وقال: إنما حبستكما إني كنت كما كانت الجارية تغسل رأسي فقص عليه عمر قصته ثم قص العباس قصته فقال: إن عندي علما مما اختلفتما فيه ولأقضين بينكما بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: إن داود لما أراد أن يبني بيت المقدس وكان بيت ليتيمين من بني إسرائيل في قبلة المسجد فأراد منهما البيع

 

 

/ صفحة 265 /

فأبيا عليه فقال: لآخذنه فأوحى الله عز وجل إلى داود: إن أغنى البيوت عن المظلمة بيتي وقد حرمت عليك بنيان بيت المقدس .

 قال: فسليمان ؟ فأعطاه سليمان فقال عمر لأبي: ومن لي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا ؟ فقال أبي لعمر: أتظن إني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن من بيتي .

 فخرج إلى الأنصار فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كذا وكذا فقال هذا: أنا .

 وقال هذا: أنا .

 حتى قال ذلك رجال فلما علم ذلك عمر قال: أما والله لو لم يكن غيرك لأجزت قولك ولكني أردت أن أستثبت .

 صورة خامسة:

أخرج البيهقي بإسناده عن أبي هريرة قال: لما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يزيد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعت زيادته على دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فأراد عمر رضي الله عنه أن يدخلها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعوضه منها فأبى وقال: قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفا فجعلا بينهما أبي بن كعب رضي الله عنهم فأتياه في منزله وكان يسمى سيد المسلمين فأمر لهما بوسادة فألقيت لهما فجلسا عليها بين يديه فذكر عمر ما أراد وذكر العباس قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبي: إن الله عز وجل أمر عبده ونبيه داود عليه السلام أن يبني له بيتا قال: أي رب وأين هذا البيت ؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا سيفه فرآه على صخرة وإذا ما هناك يومئذ إلا دار الغلام من بني إسرائيل فأتاه داود فقال: إني قد أمرت أن أبني هذا المكان بيتا لله عز وجل فقال له الفتى: الله أمرك أن تأخذها مني بغير رضاي ؟ قال: لا .

 فأوحى الله إلى داود عليه السلام إني قد جعلت في يدك خزائن الأرض فأرضه فأتاه داود فقال: إني قد أمرت برضاك فلك بها قنطار من ذهب .

 قال: قد قبلت يا داود وهي خير أم القنطار ؟ قال: بل هي خير .

 قال: فارضني، قال: فلك بها ثلاث قناطير .

 قال: فلم يزل يشدد على داود حتى رضي منه بتسع قناطير .

 قال العباس: أللهم لا آخذ لها ثوابا ويقد تصدقت بها على جماعة المسلمين .

 فقبلها عمر رضي الله عنه منه فأدخلها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 صورة سادسة:

عن ابن عباس قال: كانت للعباس دار إلى جنب المسجد في المدينة فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بعنيها أو هبها لي حتى أدخلها في المسجد فأبى فقال: إجعل بيني

 

 

/ صفحة 266 /

وبينك رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعلا بينهما أبي بن كعب فقضى للعباس على عمر فقال عمر: ما أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أجرأ علي منك .

 فقال أبي بن كعب أو أنصح لك مني ثم قال: يا أمير المؤمنين أما بلغك حديث داود أن الله عز وجل أمره ببناء بيت المقدس فأدخل فيه بيت امرأة بغير إذنها فلما بلغ حجز الرجال منعه الله بناءه قال داود: أي رب إن منعتني بناءه فاجعله في خلفي ؟ فقال العباس: أليس قد قضيت لي بها وصارت لي ؟ قال: بلى .

 قال: فإني أشهدك إني قد جعلتها لله .

 وقال البلاذري: لما استخلف عثمان بن عفان ابتاع منازل وسع المسجد بها، وأخذ منازل أقوام ووضع لهم الأثمان فضجوا به عند البيت فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم وليني لكم لقد فعل بكم عمر مثل هذا فأقررتم ورضيتم ثم أمر بهم إلى الحبس حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فخلى سبيلهم .

 وقال الطبري وغيره: في سنة 17 من الهجرة اعتمر عمر بن الخطاب وبنى المسجد الحرام ووسع فيه وأقام بمكة عشرين ليلة وهدم على أقوام من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها بعد .

 تاريخ الطبري 4 ص 206، فتوح البلدان للبلاذري ص 53، سنن البيهقي 6 ص 168، مستدرك الحاكم، الكامل لابن الأثير 2 ص 227، تذكرة الحفاظ للذهبي 1 ص 7، تاريخ ابن شحنة الحنفي هامش الكامل 7 ص 176، الدر المنثور 4 ص 159، وفاء الوفاء للسمهودي 1 ص 341 - 349 .

 قال الأميني: الأخذ بمجاميع هذه الروايات يعطينا درسا بأن الخليفة لم يكن عالما بالحكم عند توسيعه المسجدين حتى أنبأه به أبي بن كعب ووافق أبيا في روايته أبو ذر والرجل الآخر، لكنه عمل عند توسيعه المسجد الحرام بخلاف المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يعلم، وأعجب من هذا صنيعة عثمان وهي بعد ظهور تلك السنة النبوية والعلم بها .