عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني

 

-42-

كل أفقه من عمر حتى العجائز

 

لما رجع عمر بن الخطاب من الشام إلى المدينة إنفرد عن الناس ليعرف أخبارهم فمر بعجوز في خبائها فقصدها فقالت: يا هذا ما فعل عمر ؟ قال: هوذا قد أقبل من الشام قالت: لا جزاه الله عني خيرا، قال: ويحك ولم ؟ قالت: لأنه والله ما نالني من عطائه منذ ولي إلى يومنا هذا دينار ولا درهم، فقال: ويحك وما يدري عمر حالك وأنت في هذا الموضع ؟ فقالت: سبحان الله ما ظننت أن أحدا يلي على الناس ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها، قال: فأقبل عمر وهو يبكي ويقول: واعمراه واخصوماه كل واحد أفقه منك يا عمر . الحديث .

 وفي لفظ: كل واحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر ! .

 الرياض النضرة 2 ص 57، الفتوحات الإسلامية 2 ص 408، نور الأبصار ص 65 .

 قال الأميني: نحن ندرس من هذه القصة إن فكرة إحاطة علم الإمام بالأشياء كلها أو جلها فضلا عن الشرائع والأحكام فكرة بسيطة عامة يشترك في لزومها الرجال والنساء، فهي غريزة لا تعزب عن أي ابن أنثى وقد فقدها الخليفة واعترف بأن كل واحد أفقه منه .

 

-43-

إستشارة الخليفة في متسابين

أخرج البيهقي في السنن الكبرى 8 ص 252: إن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما على الآخر: والله ما أرى أبي بزان ولا أمي بزانية . فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل: مدح أباه وأمه . وقال آخرون . قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن تجلده الحد . فجلده عمر الحد ثمانين .

 وذكره النيسابوري في تفسيره في سورة النور عند قوله تعالى: الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة .

 

 

/ صفحة 145 /

قال الأميني: أنا لا أدري لأي المصيبتين أنحب ؟ أبقصور الخليفة عن حكم المسألة ؟ أم بقصر المعلمين له عن حقيقته ؟ وكل يفوه برأي ضئيل، والأفظع جري العمل على ما قالوه .

 أما الحد فليس إلا بالقذف البين والنفي البين وهو المستفاد من قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات (1) وعلى هذا كان عمل الصحابة والتابعين لهم بإحسان كما قال القاسم بن محمد: ما كنا نرى الجلد إلا في القذف البين والنفي البين (2) وأما قول - ليس أبي بزان - فنناقش أولا في كونه تعريضا إذ لعله يريد طهارة منبته التي تزعه عن النزول إلى الدنايا من بذاؤة في القول، أو خسة في الطبع، أو حزازة في العمل، فمن الممكن أنه لا يريد إلا هذا فحسب، وهو الذي فهمه فريق من الصحابة فقالوا: إنه مدح أباه .

 وإن لم يجدوا لما أبدوه أذنا واعية وعلى فرض كونه تعريضا فإنما يوجب الحد إذا كانت دلالته مقطوعا بها، أو أن يعترف المعرض بأنه لم يقصد إلا القذف، وإلا فالحدود تدرأ بالشبهات .

 ألا ترى سقوط الحكم عمن عرض بسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصرح كما في الصحاح .

 وإلى نفي الحد بالتعريض ذهب أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وزفر ومحمد بن شبرمة والثوري والحسن بن صالح وبين يديهم الحديث المذكور وما رواه الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: كان عمر يضرب الحد في التعريض (3) .

 قال أبو بكر الجصاص في " أحكام القرآن " 3 ص 330: ثم لما ثبت أن المراد بقوله: والذين يرمون المحصنات، هو الرمي بالزنا لم يجز له إيجاب الحد على غيره، إذ لا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس، وإنما طريقها الاتفاق أو التوقيف وذلك معدوم في التعريض، ومشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف وإنه قال اجتهادا ورأيا، وأيضا فإن التعريض بمنزلة الكناية المحتملة للمعاني وغير جائز إيجاب الحد بالاحتمال لوجهين: أحدهما أن القائل برئ الظهر من الجلد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) سورة النور آية 4 .

 (2) السنن الكبرى للبيهقي 8 ص 252 .

 (3) السنن الكبرى 8 ص 252 .

 

 

/ صفحة 146 /

فلا نجلده بالشك والمحتمل مشكوك فيه، ألا ترى أن يزيد بن ركانة لما طلق امرأته البتة استحلفه النبي صلى الله عليه وسلم (فقال): ما أردت إلا واحدة فلم يلزمه الثلاث بالاحتمال، ولذلك قال الفقهاء في كنايات الطلاق: إنها لا تجعل طلاقا إلا بدلالة .

 والوجه الآخر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: إدرؤا الحدود بالشبهات .

 و أقل أحوال التعريض حين كان محتملا للقذف وغيره أن يكون شبهة في سقوطه .

 وأيضا قد فرق الله تعالى بين التعريض بالنكاح في العدة وبين التصريح فقال: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله إنكم ستذكرونهن ولكم لا تواعدوهن سرا .

 يعني نكاحا فجعل التعريض بمنزلة الاضمار في النفس فوجب أن يكون كذلك حكم التعريض بالقذف، والمعنى الجامع بينهما إن التعريض لما كان فيه احتمال كان في حكم الضمير لوجود الاحتمال فيه . ا ه‍ .

 م - هذه كلها كانت بمنتأى عن مبلغ الخليفة من العلم، غير أنه كان يستشير الناس كائنا من كان في كل مشكلة ثم يرى فيه رأيه وافق دين الله أم خالفه) .

 

-44-

رأي الخليفة في شجرة الرضوان

عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها بيعة الرضوان فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت .

 الطبقات الكبرى لابن سعد ص 607، سيرة عمر لابن الجوزي 107، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 122، السيرة الحلبية 3 ص 29، فتح الباري لابن حجر 7 ص 361 وقد صححه، إرشاد الساري 6 ص 337 وحكى تصحيح ابن حجر، شرح المواهب للزرقاني 2 ص 207، الدر المنثور 6 ص 73، عمدة القاري 8 ص 284 وقال: إسناد صحيح .

 م - وذكره ابن أبي الحديد في شرحه 1 ص 60 ولفظه: كان الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلون عندها فقال عمر: أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد ثم أمر بها فقطعت) .

 

 

 

/ صفحة 147 /

 

-45-

رأي الخليفة في آثار الأنبياء

 

عن معرور قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب رضوان الله عليه في حجة حجها قال: فقرأ بنا في الفجر: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ولايلاف قريش فلما انصرف فرأى الناس مسجدا فبادروه فقال: ما هذا ؟ قالوا: هذا مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له صلاة فليصل ومن لم تعرض له صلاة فليمض (1) .

 قال الأميني: ليت شعري ما المانع من تعظيم آثار الأنبياء وفي مقدمهم سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يكن خارجا عن حدود التوحيد كالسجود إلى تماثيلهم واتخاذها قبلة ؟ ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، ومتى هلكت الأمم باتخاذهم آثار أنبيائهم بيعا ؟ وأي مسجد تكون الصلاة فيه أزلف إلى الله سبحانه من مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وأي مكان أشرف من مكان حل به النبي الأعظم وبويع فيه بيعة الرضوان وحظي المؤمنون فيه برضى الله عنهم ؟ أولا يكسب ذلك كله المحل فضلا يزيد في زلفة المتعبدين بفنائه ؟ وما ذنب الشجرة المسكينة حتى اجتثت أصولها ؟ ولا من ثائر لها أو مدافع عنها .

 أو ليس ذلك توهينا للمحل ولمشرفه ؟ م - أيسوغ أدب الدين للخليفة قوله: أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى ؟ والذين كانوا يرون حرمة تكلم الآثار ويعظمونها ويصلون عندها إنما هم حملة علم الدين من الصحابة العدول، مراجع الخليفة في الأحكام والشرايع، كان يعول عليهم حيثما أعيته المسائل قائلا: كل الناس أفقه منك يا عمر) .

 هذه أسؤلة جمة عزب عن الخليفة العلم بالجواب عنها، أو أنها لم تدر في خلده، أو أنه متأول فيها جمعاء وأنت ترى ...

 ومن الصحابة التي كانت تتبرك بتلك الأماكن وتصلي فيها عبد الله بن عمر، قال موسى بن عقبة (2): رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) سيرة عمر لابن الجوزي ص 107، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 122 وفيه بدل معرور المغيرة بن سويد، فتح الباري 1 ص 450 .

 (2) صحيح البخاري كتاب الصلاة باب: المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم .

 

/ صفحة 148 /

ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة .

 وعن نافع عن ابن عمر أنه كان يصلي في تلك الأمكنة .

 فالمراجع إلى الصحاح والسنن يجد كثيرا من لدة هذه يعلم بها أن رأي الخليفة إنما يخص به ولا يتبع ولم يتبع لن يتبع .

 

-46-

الخليفة وقوم من أحبار اليهود

لما ولي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة أتاه قوم من أحبار اليهود فقالوا: يا عمر أنت ولي الأمر بعد محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه وإنا نريد أن نسألك عن خصال إن أخبرتنا بها علمنا أن الاسلام حق وأن محمدا كان نبيا، وإن لم تخبرنا به علمنا أن الاسلام باطل وأن محمدا لم يكن نبيا، فقال: سلوا عما بدا لكم، قالوا: أخبرنا عن أقفال السموات ما هي ؟ وأخبرنا عن مفاتيح السموات ما هي ؟ وأخبرنا عن قبر سار بصاحبه ما هو ؟ وأخبرنا عمن أنذر قومه لا هو من الجن ولا هو من الإنس ؟ وأخبرنا عن خمسة أشياء مشوا على وجه الأرض ولم يخلقوا في الأرحام ؟ وأخبرنا ما يقول الدراج في صياحه ؟ وما يقول الديك في صراخه ؟ وما يقول الفرس في صهيله ؟ وما يقول الضفدع في نقيقه ؟ وما يقول الحمار في نهيقه ؟ وما يقول القنبر في صفيره ؟ قال: فنكس عمر رأسه في الأرض ثم قال: لا عيب بعمر إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وأن يسئل عما لا يعلم .

 فوثبت اليهود وقالوا: نشهد أن محمدا لم يكن نبيا وأن الاسلام باطل، فوثب سلمان الفارسي وقال لليهود: قفوا قليلا ثم توجه نحو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حتى دخل عليه فقال: يا أبا الحسن ! أغث الاسلام .

 فقال: وما ذاك ؟ فأخبره الخبر فأقبل يرفل في بردة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه عمر وثب قائما فاعتنقه وقال: يا أبا الحسن ! أنت لكل معضلة وشدة تدعى فدعا علي كرم الله وجهه اليهود فقال: سلوا عما بدا لكم فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمني ألف باب من العلم فتشعب لي من كل باب ألف باب، فسألوه عنها فقال علي كرم الله وجهه: إن لي عليكم شريطة إذا أخبرتكم كما في توراتكم دخلتم في ديننا وآمنتم .

 فقالوا: نعم . فقال: سلوا عن خصلة خصلة . قالوا:

 

 

/ صفحة 149 /

أخبرنا عن أقفال السموات ما هي ؟ قال .

 أقفال السموات الشرك بالله لأن العبد والأمة إذا كانا مشركين لم يرتفع لهما عمل .

 قالوا: فأخبرنا عن مفاتيح السموات ما هي ؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله .

 فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويقولون: صدق الفتى، قالوا: فأخبرنا عن قبر سار بصاحبه ؟ فقال ذلك الحوت الذي التقم يونس بن متى فسار به في البحار السبع .

 فقالوا: أخبرنا عمن أنذر قومه لا هو من الجن ولا هو من الإنس ؟ قال: هي نملة سليمان بن داود قالت: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون .

 قالوا: فأخبرنا عن خمسة مشوا على الأرض ولم يخلقوا في الأرحام ؟ قال: ذلكم: آدم، وحواء . وناقة صالح . وكبش إبراهيم . وعصى موسى .

 قالوا: فأخبرنا ما يقول الدراج في صياحه ؟ قال: يقول: الرحمن على العرش استوى .

 قالوا: فأخبرنا ما يقول: الديك في صراخه ؟ قال: يقول: اذكروا الله يا غافلين .

 قالوا: أخبرنا ما يقول الفرس في صهيله ؟ قال: يقول إذا مشى المؤمنون إلى الكافرين إلى الجهاد: اللهم انصر عبادك المؤمنين على الكافرين .

 قالوا: فأخبرنا ما يقول الحمار في نهيقه ؟ قال: يقول لعن الله العشار وينهق في أعين الشياطين .

 قالوا: فأخبرنا ما يقول الضفدع في نقيقه ؟ قال: يقول سبحان ربي المعبود المسبح في لجج البحار .

 قالوا: فأخبرنا ما يقول القنبر في صفيره ؟ قال: يقول: أللهم العن مبغضي محمد وآل محمد .

 وكان اليهود ثلاثة نفر قال اثنان منهم: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله .

 ووثب الحبر الثالث فقال: يا علي لقد وقع في قلوب أصحابي ما وقع من الإيمان و التصديق وقد بقي خصلة واحدة أسألك عنها فقال: سل عما بدا لك، فقال: أخبرني عن قوم في أول الزمان ماتوا ثلثمائة وتسع سنين ثم أحياهم الله فما كان من قصتهم ؟ قال علي رضي الله عنه: يا يهودي هؤلاء أصحاب وقد أنزل الله على نبينا قرآنا فيه قصتهم وإن شئت قرأت عليك قصتهم ؟ فقال اليهودي: ما أكثر ما قد سمعنا قراءتكم إن كنت عالما فأخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم، وأسماء مدينتهم، واسم ملكهم، واسم كلبهم، واسم جبلهم، واسم كهفهم وقصتهم من أولها إلى آخرها، فاحتبى علي ببردة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أخا العرب حدثني حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان بأرض رومية مدينة يقال لها " أفسوس " ويقال هي " طرسوس " وكان اسمها في الجاهلية " أفسوس " فلما جاء الاسلام

 

 

/ صفحة 150 /

سموها " طرطوس " قال: وكان لهم ملك صالح فمات ملكهم وانتشر أمرهم فسمع به ملك من ملوك فارس يقال له: دقيانوس .

 وكان جبارا كافرا فأقبل في عساكر حتى دخل أفسوس فاتخذها دار ملكه وبنى فيها قصرا .

 فوثب اليهودي وقال: إن كنت عالما فصف لي ذلك القصر ومجالسه .

 فقال: يا أخا اليهودي ابتنى فيها قصرا من الرخام طوله فرسخ وعرضه فرسخ واتخذ فيه أربعة آلاف اسطوانة من الذهب وألف قنديل من الذهب لها سلاسل من اللجين تسرج في كل ليلة بالأدهان الطيبة واتخذ لشرقي المجلس مائة وثمانين قوة، ولغربيه كذلك، و كانت الشمس من حين تطلع إلى حين تغيب تدور في المجلس كيفما دارت، واتخذ فيه سريرا من الذهب طوله ثمانون ذراعا في عرض أربعين ذراعا مرصعا بالجواهر، ونصب على يمين السرير ثمانين كرسيا من الذهب فأجلس عليها بطارقته، واتخذ أيضا ثمانين كرسيا من الذهب عن يساره فأجلس عليها هراقلته، ثم جلس هو على السرير ووضع التاج على رأسه .

 فوثب اليهودي وقال: يا علي إن كنت عالما فأخبرني مم كان تاجه ؟ قال: يا أخا اليهود كان تاجه من الذهب السبيك له تسعة أركان على كل ركن لؤلؤة تضئ كما يضئ المصباح في الليلة الظلماء، واتخذ خمسين غلاما من أبناء البطارقة فمنطقهم بمناطق الديباج الأحمر، وسرولهم بسراويل القز الأخضر، وتوجهم ودملجهم وخلخلهم وأعطاهم عمد الذهب وأقامهم على رأسه، واصطنع ستة غلمان من أولاد العلماء وجعلهم وزرائه، فما يقطع أمرا دونهم وأقام منهم ثلاثة عن يمينه، وثلاثة عن شماله .

 فوثب اليهودي وقال: يا علي إن كنت صادقا فأخبرني ما كانت أسماء الستة ؟ فقال علي كرم الله وجهه: حدثني حبيبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن الذين كانوا عن يمينه أسمائهم: (تمليخا، ومكسلمينا، ومحسلمينا) وأما الذين كانوا عن يساره (فمرطليوس، وكشطوس، و سادنيوس)، وكان يستشيرهم في جميع أموره، وكان إذا جلس كل يوم في صحن داره واجتمع الناس عنده دخل من باب الدار ثلاثة غلمة في يد أحدهم جام من الذهب مملوء من المسك، وفي يد الثاني جام من فضة مملوء من ماء الورد، وعلى يد الثالث طائر فيصيح به فيطير الطائر حتى يقع في جام ماء الورد فيتمرغ فيه فينشف ما فيه بريشه وجناحيه، ثم يصيح به الثاني فيطير فيقع في جام المسك فيتمرغ فيه فينشف ما فيه بريشه وجناحيه، فيصيح

 

 

/ صفحة 151 /

به الثالث فيطير فيقع على تاج الملك فينفض ريشه وجناحيه على رأس الملك بما فيه من المسك وماء الورد، فمكث الملك في ملكه ثلاثين سنة من غير أن يصيبه صداع ولا وجع ولا حمى ولا لعاب ولا بصاق ولا مخاط، فلما رأى ذلك من نفسه عتا وطغى وتجبر واستعصى وادعى الربوبية من دون الله تعالى ودعا إليه وجوه قومه فكل من أجابه أعطاه وحباه وكساه وخلع عليه، ومن لم يجبه ويتابعه قتله، فأجابوه بأجمعهم فأقاموا في ملكه زمانا يعبدونه من دون الله تعالى، فبينما هو ذات يوم جالس في عيد له على سريره والتاج على رأسه إذ أتى بعض بطارقته فأخبره أن عساكر الفرس قد غشيته يريدون قتله فاغتم لذلك غما شديدا حتى سقط التاج عن رأسه وسقط هو عن سريره، فنظر أحد فتيته الثلاثة الذين كانوا عن يمينه إلى ذلك وكان عاقلا يقال له: تمليخا .

 فتفكر وتذكر في نفسه وقال: لو كان دقيانوس هذا إلها كما يزعم لما حزن ولما كان ينام ولما كان يبول و يتغوط، وليس هذه الأفعال من صفات الإله، وكانت الفتية الستة يكونون كل يوم عند واحد منهم وكان ذلك اليوم نوبة " تمليخا " فاجتمعوا عنده فأكلوا وشربوا ولم يأكل تمليخا ولم يشرب فقالوا: يا تمليخا ! مالك لا تأكل ولا تشرب ؟ فقال: يا إخواني قد وقع في قلبي شئ منعني عن الطعام والشراب والمنام .

 فقالوا: وما هو يا تمليخا ؟ فقال: أطلت فكري في هذه السماء فقلت: من رفعها سقفا محفوظا بلا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها ؟ وما أجرى فيها شمسها وقمرها ؟ ومن زينها بالنجوم ؟ ثم أطلت فكري في هذه الأرض من سطحها على ظهر اليم الزاخر ومن حبسها وربطها بالجبال الرواسي لئلا تميد، ثم أطلت فكري في نفسي فقلت: من أخرجني جنينا من بطن أمي ؟ ومن غذاني ورباني ؟ إن لهذا صانعا ومدبرا سوى دقيانوس الملك، فانكبت الفتية على رجليه يقبلونهما وقالوا: يا تمليخا لقد وقع في قلوبنا ما وقع في قلبك، فأشر علينا .

 فقال: يا إخواني ما أجد لي ولكم حيلة إلا الهرب من هذا الجبار إلى ملك السماوات والأرض .

 فقال: الرأي ما رأيت فوثب تمليخا فابتاع تمرا بثلاثة دراهم وسرها في ردائه وركبوا خيولهم وخرجوا فلما ساروا قدر ثلاثة أميال من المدينة قال لهم تمليخا: يا إخوتاه قد ذهب عنا ملك الدنيا وزال عنا أمره، فانزلوا عن خيولكم وامشوا على أرجلكم لعل الله يجعل من أمركم فرجا ومخرجا .

 فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجلهم سبع فراسخ حتى

 

 

/ صفحة 152 /

صارت أرجلهم تقطر دما لأنهم لم يعتادوا المشي على أقدامهم فاستقبلهم رجل راع فقالوا: أيها الراعي أعندك شربة ماء أو لبن ؟ فقال: عندي ما تحبون ولكني أرى وجوهكم وجوه الملوك وما أظنكم إلا هرابا فأخبروني بقصتكم .

 فقالوا: يا هذا إنا دخلنا في دين لا يحل لنا الكذب أفينجينا الصدق ؟ قال: نعم .

 فأخبروه بقصتهم فانكب الراعي على أرجلهم يقبلهما ويقول: قد وقع في قلبي ما وقع في قلوبكم فقفوا إلي ههنا حتى أرد الأغنام إلى أربابها وأعود إليكم .

 فوقفوا له حتى ردها وأقبل يسعى فتبعه كلب له .

 فوثب اليهودي قائما وقال: يا علي إن كنت .

 عالما فأخبرني ما كان لون الكلب واسمه ؟ فقال: يا أخا اليهود حدثني حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم إن الكلب كان أبلق بسواد وكان اسمه " قطمير " قال: فلما نظر الفتية إلى الكلب قال بعضهم لبعض: إنا نخاف أن يفضحنا هذا الكلب بنبيحه فألحوا عليه طردا بالحجارة فلما نظر إليهم الكلب وقد ألحوا عليه بالحجارة والطرد أقعى على رجليه وتمطى وقال بلسان طلق ذلق: يا قوم لم تطردونني وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دعوني أحرسكم من عدوكم وأتقرب بذلك إلى الله سبحانه وتعالى .

 فتركوه ومضوا فصعد بهم الراعي جبلا وانحط بهم أعلى كهف .

 فوثب اليهودي وقال: يا علي ما إسم ذلك الجبل ؟ وما إسم الكهف ؟ قال أمير المؤمنين: يا أخا اليهود إسم الجبل " نا جلوس " وإسم الكهف " الوصيد " وقيل: خيرم قال: وإذا بفناء الكهف أشجار مثمرة وعين غزيرة، فأكلوا من الثمار وشربوا من الماء وجنهم الليل فآووا إلى الكهف وربض الكلب على باب الكهف ومد يديه عليه، وأمر الله ملك الموت بقبض أرواحهم، ووكل الله تعالى بكل رجل منهم ملكين يقلبانه من ذات اليمين إلى ذات الشمال، ومن ذات الشمال إلى ذات اليمين، قال: وأوحى الله تعالى إلى الشمس فكانت تزاور عن كهفهم ذات اليمين إذا طلعت، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، فلما رجع الملك " دقيانوس " من عيده سأل عن الفتية فقيل له: إنهم اتخذوا إلها غيرك وخرجوا هاربين منك فركب في ثمانين ألف فارس وجعلوا يقفوا آثارهم حتى صعد الجبل وشارف الكهف فنظر إليهم مضطجعين فظن أنهم نيام، فقال لأصحابه: لو أردت أن أعاقبهم بشئ ما عاقبتهم بأكثر مما عاقبوا به أنفسهم فأتوني بالبنائين فأتي

 

 

/ صفحة 153 /

بهم فردموا عليهم باب الكهف بالجبس والحجارة ثم قال لأصحابه: قولوا لهم يقولوا لإلهم الذي في السماء إن كانوا صادقين يخرجهم من هذا الموضع .

 فمكثوا ثلثمائة و تسع سنين، فنفخ الله فيهم الروح وهموا من رقدتهم لما بزغت الشمس، فقال بعضهم لبعض: لقد غفلنا هذه الليلة عن عبادة الله تعالى قوموا بنا إلى العين، فإذا بالعين قد غارت والأشجار قد جفت فقال بعضهم لبعض: أنا من أمرنا هذا لفي عجب مثل هذه العين قد غارت في ليلة واحدة، ومثل هذه الأشجار قد جفت في ليلة واحدة، فألقى الله عليهم الجوع فقالوا: أيكم يذهب بورقكم هذه إلى المدينة فليأتنا بطعام منها ولينظر أن لا يكون من الطعام الذي يعجن بشحم الخنازير وذلك قوله تعالى: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما .

 أي أحل وأجود وأطيب فقال لهم تمليخا: يا إخوتي لا يأتيكم أحد بالطعام غيري ولكن أيها الراعي ادفع لي ثيابك وخذ ثيابي .

 فلبس ثياب الراعي ومر وكان يمر بمواضع لا يعرفها وطريق ينكرها حتى أتى باب المدينة، فإذا عليه علم أخضر مكتوب عليه: لا إله إلا الله عيسى روح الله صلى الله على نبينا وعليه وسلم فطفق الفتى ينظر إليه ويمسح عينيه ويقول: أراني نائما فلما طال عليه ذلك دخل المدينة فمر بأقوام يقرؤن الانجيل واستقبله أقوام لا يعرفهم حتى انتهى إلى السوق فإذا هو بخباز فقال له: يا خباز ما أسم مدينتكم هذه ؟ قال: أفسوس .

 قال وما اسم ملككم ؟ قال: عبد الرحمن .

 قال تمليخا: إن كنت صادقا فإن أمري عجيب إدفع إلي بهذه الدراهم طعاما وكانت دراهم ذلك الزمان الأول ثقالا كبارا فعجب الخباز من تلك الدراهم .

 فوثب اليهودي وقال: يا علي إن كنت عالما فأخبرني كم كان وزن الدرهم منها ؟ فقال: يا أخا اليهود: أخبرني حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم وزن كل درهم عشرة دراهم وثلثا درهم فقال له الخباز: يا هذا إنك قد أصبت كنزا فاعطني بعضه وإلا ذهبت بك إلى الملك .

 فقال تمليخا ما أصبت كنزا وإنما هذا من ثمن ثمر بعته بثلاثة دراهم منذ ثلاثة أيام وقد خرجت من هذه المدينة وهم يعبدون دقيانوس الملك .

 فغضب الخباز وقال: ألا ترضى أن أصبت كنزا أن تعطيني بعضه ؟ حتى تذكر رجلا جبارا كان يدعي الربوبية قد مات منذ ثلثمائة سنة وتسخر بي ثم أمسكه واجتمع الناس ثم إنهم أتوا به إلى الملك وكان عاقلا عادلا فقال لهم: ما قصة هذا الفتى ؟ قالوا: أصاب كنزا .

 فقال له الملك: لا

 

 

/ صفحة 154 /

تخف فإن نبينا عيسى عليه السلام أمرنا أن لا نأخذ من الكنوز إلا خمسها فادفع إلي خمس هذا الكنز وامضي سالما .

 فقال: أيها الملك تثبت في أمري ما أصبت كنزا وإنما أنا من أهل هذه المدينة فقال له: أنت من أهلها ؟ قال: نعم .

 قال أفتعرف فيها أحدا ؟ قال: نعم .

 قال: فسم لنا فسمى له نحوا من ألف رجل فلم يعرفوا منهم رجلا واحدا قالوا: يا هذا ما نعرف هذه الأسماء، وليست هي من أهل زماننا، ولكن هل لك في هذه المدينة دارا ؟ فقال: نعم أيها الملك، فابعث معي أحدا، فبعث معه الملك جماعة حتى أتى بهم دارا أرفع في المدينة وقال: هذه داري ثم قرع الباب فخرج لهم شيخ كبير قد استرخا حاجباه من الكبر على عينيه وهو فزع مرعوب مزعور فقال: أيها الناس ما بالكم ؟ فقال له رسول الملك: إن هذا الغلام يزعم أن هذه الدار داره فغضب الشيخ والتفت إلى تمليخا وتبينه وقال له: ما أسمك ؟ قال: تمليخا بن فلسين .

 فقال له الشيخ: أعد علي .

 فأعاد عليه فانكب الشيخ على يديه ورجليه يقبلهما وقال: هذا جدي ورب الكعبة وهو أحد الفتية الذين هربوا من " دقيانوس " الملك الجبار إلى جبار السموات والأرض ولقد كان عيسى عليه السلام أخبرنا بقصتهم وإنهم سيحيون .

 فأنهى ذلك إلى الملك وأتى إليهم وحضرهم فلما رأى الملك تمليخا نزل عن فرسه وحمل تمليخا على عاتقه فجعل الناس يقبلون يديه ورجليه ويقولون له: يا تمليخا ما فعل بأصحابك ؟ فأخبرهم إنهم في الكهف .

 وكانت المدينة قد وليها رجلان ملك مسلم وملك نصراني فركبا في أصحابهما وأخذا تمليخا فلما صاروا قريبا من الكهف قال لهم تمليخا: يا قوم إنى أخاف أن إخوتي يحسون بوقع حوافر الخيل والدواب وصلصلة اللجم والسلاح فيظنون أن " دقيانوس " قد غشهم فيموتون جمعيا فقفوا قليلا حتى أدخل إليهم فأخبرهم .

 فوقف الناس ودخل عليهم تمليخا فوثب إليه الفتية واعتنقوه وقالوا: الحمد لله الذي نجاك من " دقيانوس " .

 فقال: دعوني منكم ومن " دقيانوس " كم لبثتم ؟ قالوا: لبثنا يوما، أو بعض يوم .

 قال: بل لبثتم ثلثمائة وتسع سنين .

 وقد مات " دقيانوس " وانقرض قرن بعد قرن وآمن أهل المدينة بالله العظيم وقد جاءكم .

 فقالوا له: يا تمليخا ! تريد أن تصيرنا فتنة للعالمين ؟ قال: فماذا تريدون ؟ قالوا: ارفع يدك ونرفع أيدينا فرفعوا أيديهم وقالوا: أللهم بحق ما أريتنا من العجائب في أنفسنا إلا قبضت أرواحنا ولم يطلع علينا أحد .

 فأمر الله ملك الموت فقبض أرواحهم وطمس الله باب الكهف

 

 

/ صفحة 155 /

وأقبل الملكان يطوفان حول الكهف سبعة أيام فلا يجدان له بابا ولا منفذا ولا ملكا فأيقنا حينئذ بلطيف صنع الله الكريم وأن أحوالهم كانت عبرة أراهم الله إياها .

 فقال المسلم: على ديني ماتوا وأنا أبني على باب الكهف مسجدا .

 وقال النصراني: بل ماتوا على ديني فأنا أبني على باب الكهف ديرا .

 فاقتتل الملكان فغلب المسلم النصراني فبنى على باب الكهف مسجدا، فذلك قوله تعالى: قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا وذلك يا يهودي ! ما كان من قصتهم، ثم قال علي كرم الله وجهه لليهودي: سألتك بالله يا يهودي أوافق هذا ما في توراتكم ؟ فقال اليهودي ما زدت حرفا ولا نقصت حرفا يا أبا الحسن ! لا تسمني يهوديا أشهد أن لا إله الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإنك أعلم هذه الأمة م - قال الأميني: هذه هي سيرة أعلم الأمة، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان والقصة ذكرها أبو إسحاق الثعلبي المتوفى 427 / 37 في كتابه " العرائس " ص 232 - 239 .

 

-47-

رأي الخليفة في الزكاة

عن حارثة قال: جاء ناس من أهل الشام إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: إنا قد أصبنا أموالا وخيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور .

 قال: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله .

 واستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم علي رضي الله عنه فقال علي: هو حسن إن لم يكن جزية راتبة دائبة يؤخذون بها من بعدك .

 وعن سليمان بن يسار: إن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة الجراح رضي الله عنه: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة .

 فأبى، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب: فأبى، فكلموه أيضا فكتب إليه عمر بن الخطاب إن أحبوا فخذها منهم وارددها عليهم وارزق رقيقهم .

 قال مالك: أي ارددها على فقرائهم (1) .

 وقال العسكري في أولياته، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 93: إن عمر أول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) موطأ مالك 1 ص 206، مسند أحمد 1 ص 14 ؟ سنن البيهقي 4 ص 118، مستدرك الحاكم 1: 401 ذكر الحديث الأول وصححه هو والذهبي، مجمع الزوائد 3 ص 69، ذكر الحديث الأول فقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات .

 

 

/ صفحة 156 /

من أخذ زكاة الخيل .

 قال الأميني: ظاهر الرواية الأولى إن الخليفة لم يكن يعلم بعدم تعلق الزكاة بالخيل والرقيق ولذا أناط الحكم بما فعله صاحباه من قبله، ولم يكن يعلم أيضا ما فعلاه إلى أن استشار الصحابة فأشار مولانا أمير المؤمنين عليه السلام إلى عدم الزكاة، واستحسن أن يؤخذ منهم برا مطلقا لولا أنه يكون بدعة متبعة من بعده يؤخذ كجزية، لكن الخليفة لم يصخ إلى تلك الحكمة البالغة، ولا اتبع من سبقه، فأمر بأخذها وردها عليهم أو على فقرائهم .

 وما علم في الرواية الثانية أن حب صاحب المال لا يثبت حكما شرعيا، وقد نبهه الإمام عليه السلام بأنها تكون جزية، هكذا سبق الخليفة في عمله حتى جاء قوم من بعده وجعلوه أول من أخذ الزكاة على الخيل، واعتمدوا على عمله فوقع الشجار بينهم وبين من اتبع السنة النبوية في عدم تعلق الزكاة بالخيل .

 

-48-

رأي الخليفة في ليلة القدر

عن عكرمة قال: قال ابن عباس: دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر فقلت لعمر: إني لأعلم وإني لأظن أي ليلة هي، قال: وأي ليلة هي ؟ قلت: سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر قال: ومن أين تعلم ؟ قال: قلت: خلق الله سبع سموات، وسبع أرضين، وسبعة أيام، وإن الدهر يدور في سبع، وخلق الانسان فيأكل ويسجد على سبعة أعضاء، والطواف سبع، والجبال سبع، فقال عمر رضي الله عنه لقد فطنت لأمر ما فطنا له .

 عن ابن عباس قال: كنت عند عمر وعنده أصحابه فسألهم فقال: أرأيتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: التمسوها في العشر الأواخر وترا، أي ليلة ترونها ؟ فقال بعضهم ليلة إحدى .

 وقال بعضهم: ليلة ثلاث .

 وقال بعضهم: ليلة خمس .

 وقال بعضهم: ليلة سبع، فقالوا وأنا ساكت فقال: مالك لا تتكلم ؟ فقلت: إنك أمرتني أن لا أتكلم حتى يتكلموا فقال: ما أرسلت إليك إلا لتتكلم فقلت: إني سمعت الله يذكر السبع فذكر سبع سموات ومن الأرض مثلهن، وخلق الانسان من سبع، ونبت الأرض سبع،

 

 

/ صفحة 157 /

فقال عمر رضي الله عنه: هذا أخبرتني ما أعلم أرأيت ما لم أعلم قولك (نبت الأرض سبع) قال: قال الله عز وجل: إنا شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا، وعنبا، وقضبا، وزيتونا، ونخلا، وحدائق غلبا قال: فالحدائق الغلب الحيطان من النخل والشجر، وفاكهة، وأبا - قال: فالأب ما أنبت الأرض مما تأكله الدواب والأنعام (1) ولا يأكله الناس قال: فقال عمر رضي الله عنه لأصحابه: أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه ؟ والله إني لأرى القول كما قلت (2) .

 نعم: لقد عجز الخليفة أيضا عن عرفان ما قاله الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه، والأب ذلك الذي أعيي الخليفة ورأى علمه تكلفا كما مر في الحديث السادس ص 99، وأنا لا أدري ماذا قال الغلام ؟ ولماذا راق الخليفة قوله ؟

 

-49-

ضرب الخليفة بالدرة لغير موجب

أخرج ابن عساكر عن عكرمة بن خالد قال: دخل ابن لعمر بن الخطاب عليه و قد ترجل ولبس ثيابا حسانا فضربه عمر بالدرة حتى أبكاه، فقالت له حفصة: لم ضربته قال رأيته قد أعجبته نفسه فأحببت أن أصغرها إليه (3) .

 قال الأميني: أنا لا أناقش في عرفان الخليفة إعجاب نفس ابنه إياه وهو خلة قائمة بالنفس، ولا أباحث في اجتهاده في تعزير الولد، ولا أبحث عن إمكان ردع الولد عن عجبه - مهما سلم - بطرق معقولة غير التعزير والضرب بالدرة، بل أسائل الحافظين كيف وسعهما عد مثل هذه القصة من مناقب الخليفة ومن شواهد سيرته الحسنة ؟ .

 وألطف من هذه قصة الجارود سيد ربيعة وقد أخرجه ابن الجوزي قال: إن عمر كان قاعدا والدرة معه والناس حوله إذ أقبل الجارود العامري فقال رجل: هذا سيد ربيعة .

 فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال: مالي و لك يا أمير المؤمنين ؟ ! قال: مالي ولك لقد سمعتها .

 قال: وسمعتها، فمه ؟ قال: خشيت أن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) بينه المولى سبحانه في الكتاب العزيز بقوله في ذيل الآية: متاعا لكم ولأنعامكم (2) مسند عمر ص 87، مستدرك الحاكم 1 ص 438 وصححه، سنن البيهقي 4 ص 313، تفسير ابن كثير 4 ص 533، الدر المنثور 6 ص 374، فتح الباري 4 ص 211 .

 (3) تاريخ الخلفاء ص 96.

 

 

/ صفحة 158 /

تخالط القوم ويقال، هذا أمير - وفي لفظ: خشيت أن يخالط قلبك منها شئ - فأحببت أن أطأطئ منك (1) .

 م وأخرج ابن سعد عن سعيد قال: دخل معاوية على عمر بن الخطاب وعليه حلة خضراء فنظر إليه الصحابة فلما رأى ذلك عمر قام ومعه الدرة فجعل ضربا بمعاوية ومعاوية يقول: الله الله يا أمير المؤمنين ! فيم فيم ؟ فلم يكلمه حتى رجع فجلس في مجلسه فقالوا له: لم ضربت الفتى ؟ وما في قومك مثله .

 فقال: ما رأيت إلا خيرا وما بلغني إلا خير ولكني رأيته وأشار بيده يعني إلى فوق فأردت أن أضع منه ما شمخ (2)] ما عساني أن أقول ؟ ما عساني ما عساني ؟ ...

 

-50-

جهل الخليفة بالسنة المشهورة

أخرج مسلم في صحيحه عن عبيد بن عمير: أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثا فكأنه وجده مشغولا فرجع فقال عمر: ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ ائذنوا له .

 فدعي به فقال: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: إنا كنا نؤمر بهذا .

 قال: لتقيمن على هذا بينة أو لأفعلن (3) فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا .

 فقام أبو سعيد فقال: كنا نؤمر بهذا .

 فقال عمر: خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني عنه الصفق بالاسواق (4) .

 وأخرج في صحيح آخر: قال أبي بن كعب: يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: سبحان الله إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت . وفي لفظ: قال أبو سعيد قلت: أنا أصغر القوم . قال النووي في شرحه: فمعناه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) سيرة عمر لابن الجوزي ص 178، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 112، كنز العمال 2 ص 167 .

 (2) تاريخ ابن كثير 8 ص 125، الإصابة 3 ص 434 .

 (3) وفي لفظ: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك . وفي لفظ الطحاوي: والله لأضربن بطنك وظهرك أو ليأتيني بمن يشهد لك .

 (4) صحيح مسلم 2 ص 234 في كتاب الآداب، صحيح البخاري 3 ص 837 ط الهند، مسند أحمد 3 ص 19، سنن الدارمي 2 ص 274، سنن أبي داود 2 ص 340، مشكل الآثار 1 ص 499 .

 

 

/ صفحة 159 /

أن هذا حديث مشهور بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا حتى يحفظه وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 قال الأميني: من لي بمخبر عن أن الذي ألهاه الصفق بالاسواق حتى عن ناموس مشتهر هتف به صاحب الرسالة العظمى، وعرفته الصحابة أجمع كبارا وصغارا، وعضده الذكر الحكيم كيف يكون أعلم الصحابة في زمانه على الإطلاق كما زعمه صاحب الوشيعة ؟ .

 ثم ما الموجب إلى ذلك الارهاب لمحض أن الرجل روى فيما ارتكبه سنة ؟ وهل التثبيت يستدعي ذلك الوعيد بالأيمان المغلظة ؟ أو يستحق به الراوي أن يزرى به في الملأ العام ؟ أو في مجرد التحري والطلب مقنع وكفاية ؟ وليس على الخليفة أن يكون عذابا على الأمة كما رآه أبي .

 

-51-

إجتهاد الخليفة في البكاء على الميت

عن ابن عباس قال: لما ماتت زينب (1) بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألحقوها بسلفنا الخير عثمان بن مظعون فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال: مهلا يا عمر دعهن يبكين، وإياكن ونعيق الشيطان .

 إلى أن قال: وقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها .

 مسند أحمد 1 ص 237، 335، مستدرك الحاكم 3 ص 191 وصححه وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: سنده صالح، مسند أبي داود الطيالسي ص 351، الاستيعاب في ترجمة عثمان بن مظعون ج 2 ص 482، مجمع الزوائد 3 ص 17 .

 وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 4 ص 70 عن ابن عباس قال: بكت النساء على رقية (بنت رسول الله) رضي الله عنها فجعل عمر رضي الله عنه ينهاهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه يا عمر .

 قال: ثم قال: إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من العين والقلب فمن الرحمة، وما يكون من اللسان واليد فمن الشيطان - قال: وجعلت فاطمة رضي الله عنها تبكى على شفير قبر رقية فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدموع على وجهها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) توفيت زينب سنة ثمان من الهجرة فحزن عليها رسول الله حزنا عظيما *

 

 

/ صفحة 160 /

باليد .

 أو: قال: بالثوب .

 وأخرج النسائي وابن ماجة عن أبي هريرة أنه قال: مات ميت في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن يا عمر فإن العين دامعة، والقلب مصاب، والعهد قريب (1) قال الأميني: لا أدري ما الذي حدا عمر إلى التسرع إلى ضرب تلكم النسوة الباكيات وصاحب الشريعة ينظر إليهن من كثب، ولو كان بكائهن محظورا كان هو الأولى بالمنع والرد، ومن أين علم الحظر في بكائهن ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالفه ؟ وهلا راجعة في أمرهن لما هم بهن تأدبا ؟ وما هذه الفظاظة الدافعة له إلى ما فعل ؟ وكيف مد يده إلى تلكم النسوة حتى أخذ بها النبي الأعظم ودافع عنهن ؟ والمجتمعات هناك بطبع الحال حامة رسول الله وذوات رحمة ونسوته، وغير أني لا أعلم أن الصديقة الفاطمة التي كانت من الباكيات في ذلك اليوم هل كانت بين تكلم النسوة المضروبات أو لا ؟ وعلى أي فقد جلست إلى أبيها وهي باكية .

 وكانت للخليفة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرأى منه ومشهد مواقف لدة هذه لم يصب فيها قط، ومنها ما حدث به سلمة بن الأزرق إنه كان جالسا عند ابن عمر بالسوق فمر بجنازة يبكى عليها قال: فعاب ذلك ابن عمر وانتهرهن قال فقال سلمة: لا تقل ذلك يا أبا عبد الرحمن فأشهد على أبي هريرة لسمعته يقول: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة و أنا معه ومعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونساء يبكين عليها فزبرهن عمر وانتهرهن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: دعهن يا عمر فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد حديث .

 قالوا: أنت سمعته يقول هذا ؟ قال: نعم، قال ابن عمر: فالله ورسوله أعلم مرتين (2) وأخرج الحاكم (3) بإسناد صححه وأقره الذهبي عن أبي هريرة قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جنازة ومعه عمر بن الخطاب فسمع نساء يبكين فزبرهن عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عمر دعهن فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب .

 وعن أبي هريرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) عمدة القاري 4 ص 87 .

 (2) السنن الكبرى للبيهقي 4 ص 70، مسند أحمد 2 ص 408 .

 (3) المستدرك 1 ص 381 .

 

 

/ صفحة 161 /

النبي صلى الله عليه وسلم: دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب (1) وعن عمرو بن الأزرق قال: توفي بعض كنائن مروان فشهدها الناس وشهدهم أبو هريرة ومعها نساء يبكين فأمرهن مروان بالسكوت، فقال أبو هريرة دعهن فإنه مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة معها بواك فنهرهن عمر رحمه الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن يا بن الخطاب فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد حديث . مسند أحمد 3 ص 333 .

 وقال أبو هريرة: أبصر عمر امرأة تبكي على قبر فزبرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعها يا أبا حفص فإن العين باكية، والنفس مصابة، والعهد قريب (2) .

 وينبأنا التاريخ عن أن الخليفة لم تجده تلكم النصوص وبقي على اجتهاده والسوط بيده يردع به ويزجر مستندا إلى ما اختلقته يد الإفك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يخالف العقل والعدل والطبيعة من أنه قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي .

 قال سعيد بن المسيب: لما مات أبو بكر بكي عليه فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي .

 فأبوا إلا أن يبكون، فقال عمر لهشام بن الوليد: قم فأخرج النساء .

 فقالت عائشة: أخرجك .

 فقال عمر: أدخل، فقد أذنت لك .

 فدخل فقالت عائشة: أمخرجي أنت يا بني ؟ فقال: أما لك فقد أذنت لك .

 فجعل يضربهن امرأة .

 امرأة، وهو يضربن بالدرة حتى خرجت أم فروة وفرق بينهن (3) .

 وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج 1 ص 60: إن أول من ضرب عمر بالدرة (4) أم فروة بنت أبي قحافة - حين مات أبو بكر - كيف صفحت عائشة عن قول النبي - إن صح به النبأ - ولم تقبله من الخليفة ؟ و لماذا سمح الخليفة عائشة بإذن البكاء على أبيها دون غيرها ورفع اليد عن تعميم ذلك الحكم البات ؟ ولماذا أبت الصحابة إلا أن يبكوا على أبي بكر بعد نهي الخليفة ؟ و لماذا رضوا بأن يعذب فقيدهم ببكاءهم ؟ ولماذا حكمت الدرة في النساء امرأة امرأة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) سنن ابن ماجة 1 ص 481 .

 (2) أخرجه الطبري في تهذيبه كما في كنز العمال 8 ص 117 .

 (3) أخرجه ابن راهويه وصححه السيوطي راجع كنز العمال 8 ص 119 .

 وذكره ابن حجر في الإصابة 3 ص 606 .

 (4) يعني أيام خلافته وكم ضرب قبلها بالدرة من أناس . وأما بعدها فحدث عنه ولا حرج.

 

 

/ صفحة 162 /

بالضرب وعفت عن الرجال ؟ إن هي إلا مشكلات غير أنها لا تخفى على الباحث النابه .

 ومن مواقف تلك الدرة القاضية على الباكيات ما أخرجه الحافظ عبد الرزاق عن عمرو بن دينار قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين فجاء عمر ..

 فكان يضربهن بالدرة فسقط خمار امرأة منهن فقالوا: يا أمير المؤمنين خمارها .

 فقال: دعوها فلا حرمة لها .

 وكان يعجب من قوله: لا حرمة لها (1) .

 ونحن أيضا نتعجب من قوله: لا حرمة لها .

 وسيرة الخليفة حقا جلها معجبات قولا وفعلا لو لم يكن كلها .

 وأما حديث عمر: إن الميت يعذب ببكاء الحي .

 فقد كذبته عائشة فيما أخرجه الحاكم في المستدرك 1 ص 381 وقال: إتفق الشيخان على إخراج حديث أيوب السختياني عن عبد الله بن أبي مليكة مناظرة عبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس في البكاء على الميت ورجوعهما فيه إلى أم المؤمنين عائشة وقولها: والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت يعذب ببكاء أحد .

 ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الكافر يزيده عند الله بكاء أهله عذابا شديدا، وإن الله هو أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أخرى .

 صورة مفصلة :

قال عبد الله بن أبي مليكة: توفيت ابنة - هي أم أبان - لعثمان رضي الله عنه بمكة وجئنا لنشهدها قال وحضرها ابن عمر وابن عباس وإني لجالس بينهما فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهي النساء عن البكاء (2) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه .

 فقال ابن عباس: قد كان عمر رضي الله عنه يقول بعض ذلك ثم حدث قال: صدرت مع عمر من مكة حتى كنا بالبيداء إذا هو يركب تحت ظل سمرة فقال: إذهب وانظر إلى هؤلاء الركب، قال: فنظرت فإذا هو صهيب فأخبرته قال: ادعه لي .

 فرجعت إلى صهيب فقلت: ارتحل فألحق أمير المؤمنين فلما أصيب عمر دخل صهيب رضي الله عنهما يبكي يقول: وا أخاه وا صاحباه فقال: عمر رضي الله عنه يا صهيب ! تبكي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) كنز العمال 8 ص 118 .

 (2) كان عبد الله على سيرة أبيه في المسألة .

 وقد كان نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أباه عن رأيه بمرأى منه ومشهد .

 فضرب عن تلكم النصوص النبوية صفحا وسلك مسلك أبيه، ومن يشابه أبه فما ظلم .

 

 

/ صفحة 163 /

علي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه .

 قال ابن عباس: فلما مات عمر رضي الله عنه ذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فقالت: رحم الله عمر والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يعذب المؤمن ببكاء أهله عليه .

 ولكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه .

 قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) قال .

 وقال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكى .

 قال ابن أبي مليكة: فوالله ما قال ابن عمر شيئا (1) .

 وعن عمرة: إنها سمعت عائشة رضي الله عنها وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي.

 فقالت عائشة رضي الله عنها: أما إنه لم يكذب ولكنه أخطأ أو نسي، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية وهي يبكي عليها أهلها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها (2) .

 وفي لفظ مسلم: رحم الله أبا عبد الرحمن سمع شيئا فلم يحفظ .

 في لفظ أبي عمر: وهم أبو عبد الرحمن أو أخطأ أو نسي .

 وعن عروة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه فذكر ذلك لعائشة فقالت وهي تعني ابن عمر: إنما مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبر يهودي فقال: إن صاحب هذا ليعذب وأهله يبكون عليه ثم قرأت: ولا تزر وازرة وزر أخرى (3) .

 وعن القاسم بن محمد قال: لما بلغ عائشة رضي الله عنها قول عمر وابن عمر قالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذوبين ولكن السمع يخطي (4) .

 وقال الشافعي في اختلاف الحديث (5): وما روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) اختلاف الحديث للشافعي في هامش كتابه الأم 7 ص 266، صحيح البخاري في أبواب الجنائز، صحيح مسلم 1 ص 342، 343، مسند أحمد 1 ص 41، سنن النسائي 4 ص 18، سنن البيهقي 4 ص 73، مختصر المزني هامش كتاب الأم 1 ص 187 .

 (2) صحيح البخاري أبواب الجنائز، اختلاف الحديث للشافعي 7 ص 266، الموطأ لمالك 1 ص 96، صحيح مسلم 1 ص 344، سنن النسائي 4 ص 17، سنن البيهقي 4 ص 72 .

 (3) سنن أبي داود 2 ص 59، سنن النسائي 4 ص 17 .

 (4) صحيح مسلم 1 ص 343، مسند أحمد 1 ص 42، السنن الكبرى 4 ص 73 .

 (5) طبع في هامش كتابه الأم 7 ص 267 .

 

 

/ صفحة 164 /

أن يكون محفوظا عنه صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب ثم السنة .

 فإن قيل: فأين دلالة الكتاب قيل: في قوله عز وجل: ولا تزر وازرة وزر أخرى .

 وأن ليس للانسان إلا ما سعى .

 وقوله: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .

 وقوله: لتجزى كل نفس بما تسعى .

 وعمرة أحفظ عن عائشة من ابن أبي مليكة، وحديثها أشبه الحديثين أن يكون محفوظا، فإن كان الحديث على غير ما روى ابن أبي مليكة من قول النبي: إنهم ليبكون عليها وأنها لتعذب في قبرها .

 فهو واضح لا يحتاج إلى تفسير لأنها تعذب بالكفر وهؤلاء يبكون ولا يدرون ما هي فيه، وإن كان الحديث كما رواه ابن أبي مليكة فهو صحيح لأن على الكافر عذابا أعلى فإن عذب بدونه فزيد في عذابه فبما استوجب، وما ينل من كافر من عذاب أدنى من أعلى منه وما زيد عليه من العذاب فباستيجابه لا بذنب غيره في بكائه عليه .

 فإن قيل: يزيده عذابا ببكاء أهله عليه ؟ قيل: يزيده بما استوجب بعمله ويكون بكاؤهم سببا لا أنه يعذب ببكائهم .

 فإن قيل: أين دلالة السنة ؟ قيل: قال رسول الله لرجل: ابنك هذا ؟ قال نعم قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه .

 فأعلم رسول الله مثل ما أعلم الله من أن جناية كل امرئ عليه كما عمله له لا لغيره ولا عليه .

 م - ويكذب الخليفة بكائه على النعمان بن مقرن لما جاءه نعيمه فخرج ونعاه إلى الناس على المنبر ووضع يده على رأسه يبكي (1) ويكذبه وقوفه على قبر شيخ واعتناقه إياه وبكائه عليه (2) وكم وكم له من مواقف لدة ما ذكر) .

 وقبل هذه كلها بكاء النبي الأقدس والصحابة والتابعين لهم بإحسان على موتاهم فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي على ولده العزيز - إبراهيم - ويقول: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون (3) .

 وهذا هو صلى الله عليه وآله وسلم يبكي على ابنه طاهر ويقول: إن العين تذرف، وإن الدمع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) الاستيعاب في ترجمة النعمان 1 ص 297 .

 (2) راجع مآمر في الجزء الخامس ص 155 .

 (3) سنن أبي داود 3 ص 58، سنن ابن ماجة 1 ص 482 .

 

 

/ صفحة 165 /

يغلب، وإن القلب يحزن، ولا نعصي الله عز وجل (1) .

 وهذا هو صلى الله عليه وآله وسلم لما أصيب حمزة رضي الله عنه وجاءت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها تطلبه فحالت بينها وبينه الأنصار فقال صلى الله عليه وآله وسلم: دعوها فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا نشجت نشج، وكانت فاطمة عليها السلام تبكي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما بكت يبكي وقال: لن أصاب بمثلك أبدا (2) .

 ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحد بكت نساء الأنصار على شهدائهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لكن حمزة لا بواكي له فرجعت الأنصار فقلن لنسائهم: لا تبكين أحدا حتى تبدأن بحمزة قال: فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميتا إلا بدأن بحمزة (3) .

 وهذا هو صلى الله عليه وآله وسلم ينعي جعفرا وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وعيناه تذرفان (4) .

 وهذا هو صلى الله عليه وآله وسلم زار قبر أمه وبكا عليها وأبكى من حوله (5) وهذا هو صلى الله عليه وآله وسلم يقبل عثمان بن مظعون وهو ميت ودموعه تسيل على خده (6) وهذا هو صلى الله عليه وآله وسلم يبكي على ابن لبعض بناته فقال له عبادة بن الصامت: ما هذا يا رسول الله ؟ قال: الرحمة التي جعلها الله في بني آدم وإنما يرحم الله من عباده الرحماء (7) وهذه الصديقة الطاهرة تبكي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: يا أبتاه من ربه ما أدناه، يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه (8) وهذه هي سلام الله عليها وقفت على قبر أبيها الطاهر وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينها وبكت وأنشأت تقول:

ماذا عـــــلى من شــــم تربة أحمد * أن لا يشــم مدى الزمان غواليا ؟

صبـــــت عـــــلي مصــائب لو أنها * صبت على الأيام صرن لياليا (9)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) مجمع الزوائد 3 ص 18 (2) إمتاع المقريزي ص 154 .

 (3) مجمع الزوائد 6 ص 120 .

 (4) صحيح البخاري كتاب المناقب في علامات النبوة في الاسلام، سنن البيهقي 4 ص 70 .

 (5) سنن البيهقي 4 ص 70، تاريخ الخطيب البغدادي 7 ص 289 .

 (6) سنن أبي داود 2 ص 63، سنن ابن ماجة 1 ص 445 .

 (7) سنن أبي داود 2 ص 58، سنن ابن ماجة 1 ص 481 .

 (8) صحيح البخاري باب: مرض النبي ووفاته، مسند أبي داود 2 ص 197، سنن النسائي 4 ص 13، مستدرك الحاكم 3 ص 163، تاريخ الخطيب 6 ص 262 .

 (9) راجع الجزء الخامس من كتابنا هذا ص 147 .

 

 

/ صفحة 166 /

وهذا أبو بكر بن أبي قحافة يبكي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويرثيه بقوله:

يا عين فابكي ولا تسأمي * وحق البكـــاء على السيد

وهذا حسان بن ثابت يبكيه صلى الله عليه وآله وسلم ويقول:

ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت * عــيون ومثلاها من الجفن أسعد

ويقول:

يبـــكون من تبكي السماوات يومه * ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد

ويقول:

يا عين جودي بدمع منك إسبال * ولا تملـــــن مـــن سح وإعوال

وهذا أروى بنت عبد المطلب تبكي عليه صلى الله عليه وآله وسلم وترثيه بقولها:

ألا يا عين ! ويحك أسعديني * بدمعــك ما بقيت وطاوعيني

ألا يا عين ! ويحك واستهلي * عــلى نور البلاد وأسعديني

وهذه عاتكة بنت عبد المطلب ترثيه وتقول:

عــــيني جودا طوال الدهر وانهمرا * سكـــــبا وسحـــــا بدمـع غير تعذير

يا عين فاسحنفري بالدمع واحتفلي * حتـــــى الممات بسجــل غير منذور

يا عـــين فانهملي بالدمع واجتهدي * للمصطفـــــى دون خــلق الله بالنور

وهذه صفية بنت عبد المطلب تبكي عليه وترثيه صلى الله عليه وآله وسلم وتقول:

أفاطـــــم بكـّــــي ولا تسـأمي * بصحبـــــك ما طـــلع الكوكب

هو المرء يبكى وحق البكاء * هو الماجـــــد السيـــد الطيب

وتقول:

أعــيني ! جودا بدمع سجم * يبادر غـــــربا بمـــا منهدم

أعيني ! فاسحنفرا وأسكبا * بوجـــــد وحزن شديد الألم

وهذه هند بنت الحارث بن عبد المطلب تبكي عليه وترثيه وتقول:

يا عين جودي بدمع منك وابتدري * كمـــا تــنـــــزل ماء الغيث فانثعبا

وهذه هند بنت أثاثة ترثيه وتقول:

ألا يا عين ! بكي لا تملي * فقد بكر النعي بمن هويت

 

 

/ صفحة 167 /

وهذه عاتكة بنت زيد ترثيه وتقول:

وأمست مراكبه أوحشت * وقـــــد كان يركبها زينها

وأمست تبكــي على سيد * تـــــردد عــــبرتها عينها

وهذه أم أيمن ترثيه صلى الله عليه وآله وسلم وتقول:

عـــــين جـــودي فإن بـذلك للدمــ * ــع شفـــــاء فاكثـــري من بكاء

بدمـــــوع غـــــزيرة منــــك حتى * يقضي الله فيك خير القضاء (1)

م - وهذه عمة جابر بن عبد الله جاءت يوم أحد تبكي على أخيها عبد الله بن عمر وقال جابر: فجعلت أبكي وجعل القوم ينهوني ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينهاني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكوه أو لا تبكوه فوالله ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى دفنتموه .

 الاستيعاب في ترجمة عبد الله ج 1 ص 368) هذه سنة النبي الأعظم المتبعة بين الصحابة يعارضها حديث الخليفة: إن الميت يعذب ببكاء الحي . فالقول به يخص به وبابنه عبد الله . فالحق أحق أن يتبع .

 

-52-

إجتهاد الخليفة في الأضحية

عن حذيفة بن أسيد قال: رأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وما يضحيان عن أهلهما خشية - مخافة - أن يستن بهما فحملني أهلي على الجفاء بعد أن علمت السنة حتى إني لأضحي عن كل .

 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9 ص 265، والطبراني في الكبير، والهيثمي في المجمع 4 ص 18 من طريق الطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح، وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 3 ص 45 نقلا عن ابن أبي الدنيا في الأضاحي، والحاكم في الكنى، وأبي بكر عبد الله بن محمد النيسابوري في الزيادات ثم قال: قال ابن كثير: إسناده صحيح .

 وقال الشافعي في كتاب " الأم " 2 ص 189: قد بلغنا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يضحيان كراهية أن يقتدى بهما فيظن من رآهما إنها واجبة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع طبقات ابن سعد ص 839 - 855، سيرة ابن هشام 4 ص 346 .

 

 

 

/ صفحة 168 /

وفي مختصر المزني هامش كتاب " الأم " 5 ص 210: قال الشافعي: بلغنا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يرى إنها واجبة .

 وعن الشعبي: أن أبا بكر وعمر شهدا الموسم فلم يضحيا .

 كنز العمال 3 ص 45 .

 قال الأميني: هل وقف الرجلان على شئ من الحكمة لم يقف عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضحى وأمر بها وحض عليها وأكد وتركها سنة متبعة ؟ وخفي عليه ما عرفاه من اتخاذ الأمة ذلك من الطقوس الواجبة ؟ أو أن الرجلين كانا أشفق على الأمة منه صلى الله عليه وآله وسلم فأحبا أن لا يبهضاها بنفقة الأضاحي ؟ أو أنهما خشيا أن يكون ذلك بدعة في الدين بظن الوجوب ؟ لكنه حجة داحضة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين فعل وأمر كان ذلك مشفوعا ببيان عدم وجوبه، وعرفت ذلك منه الصحابة، وعلى هذا كان عملهم وتلقاه منهم التابعون وهلم جرا إلى يومنا الحاضر، ولو كان ما حسباه مطردا لزم ترك المستحبات كلها، ثم إن احتمال مزعمة الوجوب كان أولى أن ينشأ من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله، فإن السنة سنته، والدين ما صدع به، لكنه لم ينشأ لما شفعه من البيان، فهلا فعلا كما فعل وهما خليفتاه ؟

م - والعجب العجاب أن الخليفة الثاني هاهنا ينقض السنة الثابتة للصادع الكريم خشية ظن الأمة الوجوب، ويسن لها ما لا أصل له في الدين كزكاة الخيل وصلاة التراويح، إلى أحداث أخرى كثيرة، وهو في ذلك كله لا يخشى ولا يكترث ولا يبالي) .

 

-53-

الخليفة في إرث الزوجة من الدية

عن سعيد بن المسيب إن عمر الخطاب رضي الله عنه كان يقول: الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى أخبره الضحاك بن سفيان إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته فرجع إليه عمر رضي الله عنه .

 وفي لفظ آخر: إن عمر بن الخطاب قال: ما أرى الدية إلا للعصبة لأنهم يعقلون عنه فهل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا، فقال الضحاك الكلابي وكان استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعراب: كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من

 

 

/ صفحة 169 /

دية زوجها .

 فأخذ بذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (1) .

 قال الأميني: كأن الخليفة كان غافلا عن إحدى ثلاث أو عنها جمعاء:

1 - الآية الكريمة من القرآن وهي قوله تعالى: فدية مسلمة إلى أهله (2) و الزوجة من الأهل بنص قوله تعالى: لننجينه وأهله إلا امرأته . سورة العنكبوت 32 . وقوله تعالى: إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك . سورة العنكبوت 33. وقوله تعالى: فأنجيناه وأهله إلا امرأته (3) والاستثناء في المقامات يدل على دخولها فيما خرجت منه به، وعرف الجميع أن الاستثناء متصل لا محالة كما نص عليه ابن حجر في فتح الباري .

 وقوله تعالى: عن زليخا زوجة عزيز مصر: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا (4) وقوله تعالى: إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا . سورة النمل 7 . وقوله تعالى: فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا . القصص 29 .

 وقوله تعالى عن النبي موسى عليه السلام: فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا(5). وما كانت معه عليه السلام إلا زوجته وهي حامل أو أنها ولدت قبيل ذلك .

 2 - ألسنة النبوية وهي ما كتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عامله على الأعراب الضحاك بن سفيان (6) .

 3 - لغة العرب وأعظم ما يستفاد منه استقراءها على إطلاق الأهل على الزوجة الآيات الكريمة المذكورة ثم ما مر من مكاتبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم من أنه أعطى الآهل حظين والأعزب حظا، وقال صفوان بن عمرو: أعطاني - رسول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) كتاب الأم للشافعي 6 ص 77، كتاب الرسالة له ص 113، اختلاف الحديث له هامش كتاب الأم 7: 20، سنن أبي داود 2 ص 22، مسند أحمد 3 ص 452، صحيح الترمذي 1 ص 265 وصححه، سنن ابن ماجة 2 ص 142، سنن البيهقي 8 ص 134، تيسير الوصول 4 ص 8، تاريخ الخطيب 8 ص 343 .

 (2) سورة النساء . آية 90 .

 (3) سورة النمل . آية 57 .

 (4) سورة يوسف . آية 25 .

 (5) سورة طه . آية 11 .

 (6) توجد مصافا على ما ذكر من المصادر في كثير من جوامع الحديث وكتب الفقه.

 

 

/ صفحة 170 /

الله - حظين وكان لي أهل ثم دعى عمار فأعطى له حظا واحدا (1) .

 ويرى محمد بن الحسن فيمن أوصى لأهل فلان: إن القياس يستدعي حصر الوصية إلى زوجاته لكنه ترك القياس وعممها إلى كل من كان في عياله (2) وقال أبو بكر: الأهل إسم يقع على الزوجة وعلى جميع من يشتمل عليه منزله قال الله تعالى: إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك (3) وفي معاجم اللغة: الآهل الذي له زوجة .

 وعيال، وسار بأهله أي بزوجته و أولاده، وأهل الرجل وتأهل: تزوج، والتأهل: التزوج، وفي الدعاء: آهلك الله في الجنة إيهالا .

 أي زوجك فيها (4) ولئن راجعت معاجم اللغة تزدد وثوقا بذلك .

 إذا عرفت هذا فلا يذهب عليك أن إطلاق الأهل على الزوجة بقرينة إضافته إلى الرجل لا ينافي وجود معان أخرى له يستعمل فيها بقرائن معينة أو صارفة، فأهل الرجل عشيرته وذوو قرباه ومنه قوله تعالى: فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، وأهل الأمر ولاته، وأهل البيت سكانه، وأهل المذهب من يدين به ومنه قوله تعالى في قصة نوح: إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم .

 " الأنبياء 76 " زبدة المخض: أن موضوع الأهل كلما له صلة من إحدى النواحي بالمضاف إليه، فتعين المراد القرائن المحتفة به كما في آية التطهير، فالمراد بها محمد وعلي وفاطمة و الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين، وقد اجتمعوا تحت الكساء فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه بمنحة القداسة لهم وسماهم أهل بيته فنزل قوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .

 حتى أن أم سلمة استأذنته في أن تدخل معهم فأذن لها بعد نزول الآية، واستحفته صلى الله عليه وآله وسلم عن دخولها في مفاد الآية الكريمة فقال: إنك على الخير .

 إيعازا إلى قصر هذه المنحة عليهم، وتفصيل هذه الجملة مذكور في الصحاح والمسانيد .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) سنن أبي داود 2 ص 25، سنن البيهقي 6 ص 346، تيسير الوصول 1 ص 253 النهاية 4 ص 64 .

 (2) أحكام القرآن للجصاص 2 ص 277 .

 (3) أحكام القرآن للجصاص 2 ص 277 .

 (4) نهاية ابن الأثير 1 ص 64، قاموس اللغة 3 ص 331، لسان العرب 13 ص 31، تاج العروس 7 ص 217 .

 

 

/ صفحة 171 /

 

-54-

رأي الخليفة في تحقق البلوغ

عن ابن أبي مليكة: إن عمر كتب في غلام من أهل العراق سرق فكتب: أن أشبروه فإن وجدتموه ستة أشبار فاقطعوه .

 فشبر فوجد ستة أشبار تنقص أنملة فترك .

 وعن سليمان بن يسار: إن عمر أتي بغلام سرق فأمر به فشبر فوجد ستة أشبار إلا أنملة فتركه .

 أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، ومسدد، وابن المنذر في الأوسط كما في كنز العمال 3 ص 116 .

 قال الأميني: الذي ثبت من الشريعة في تحقق البلوغ هو الاحتلام الثابت بصحيح قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيمن رفع عنه القلم: والغلام حتى يحتلم .

 أو نبات الشعر في العانة الثابت بالصحاح، أو السن المحدود كما في صحيحة عبد الله بن عمر (1) ولا رابع لها يعد حدا مطردا، وأما المساحة بالأشبار فهو من فقه الخليفة ومحدثاته فحسب، ولعله أبصر بمواقع فقاهته .

 

-55-

تنقيص الخليفة من الحد

عن أبي رافع: أن عمر بن الخطاب أتي بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة، فبعث به إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال: إذا أصبحت غدا فاضربه الحد فجاء عمر وهو يضربه ضربا شديدا فقال: قتلت الرجل كم ضربته ؟ قال: ستين، قال: أقص عنه بعشرين . قال أبو عبيدة في معناه: يقول اجعل شدة هذا الضرب قصاصا بالعشرين التي بقيت من الحد فلا تضربه إياها . (السنن الكبرى 8 ص 317، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 133).

 قال الأميني: انظر إلى الرجل كيف يتلون في الحكم فيضعف يوما حد الشارب وهو الأربعون - عند القوم - فيجلد ثمانين (2) ثم يرق المحدود في يوم آخر فينقص منه عشرين، ويتلافي شدة الكيف بنقيصة الكم بعد تسليم الشارب إلى رجل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) راجع في أحاديث الباب السنن الكبرى 5 ص 54 - 59 .

 (2) راجع الحديث السادس والعشرين ص 113 .

 

 

/ صفحة 172 /

يعرفه بالشدة، والكل زائد على الناموس الإلهي الذي جاء به النبي الأقدس، وفي الحديث يؤتى بالرجل الذي ضرب فوق الحد فيقول الله: لم ضربت فوق ما أمرتك ؟ فيقول: يا رب غضبت لك، فيقول: : أكان لغضبك أن يكون أشد من غضبي ؟ ويؤتى بالذي قصر فيقول: عبدي لم قصرت ؟ فيقول: رحمته .

 فيقول: أكان لرحمتك أن تكون أشد من رحمتي ؟ (1).

 وكم لهذا الحديث من نظائر أخرجه الحفاظ راجع كنز العمال 3 ص 196 .

 

-56-

أبا حسن لا أبقاني الله لشدة لست لها

عن ابن عباس قال: وردت على عمر بن الخطاب واردة قام منها وقعد وتغير و تربد وجمع لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعرضها عليهم وقال: أشيروا علي .

 فقالوا: جميعا: يا أمير المؤمنين أنت المفزع .

 فغضب عمر وقال: اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم .

 فقالوا: يا أمير المؤمنين ما عندنا مما تسأل عنه شئ .

 فقال: أما والله إني لأعرف أبا بجدتها وابن بجدتها وأين مفزعها وأين منزعها، فقالوا: كأنك تعني ابن أبي طالب ؟ فقال عمر: لله هو، وهل طفحت حرة بمثله وأبرعته ؟ انهضوا بنا إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين أتصير إليه ؟ يأتيك .

 فقال هيهات هناك شجنة من بني هاشم، وشجنة من الرسول، وأثرة من علم يؤتى لها ولا يأتي، في بيته يؤتى الحكم . فاعطفوا نحوه . فألفوه في حائط وهو يقرأ: أيحسب الانسان أن يترك سدى .

 ويرددها ويبكي فقال عمر لشريح: حدث أبا حسن بالذي حدثتنا به .

 فقال شريح: كنت في مجلس الحكم فأتى هذا الرجل فذكر أن رجلا أودعه امرأتين حرة مهيرة (2) وأم ولد فقال له: أنفق عليهما حتى أقدم .

 فلما كان في هذه الليلة وضعتا جميعا إحداهما ابنا والأخرى بنتا وكلتاهما تدعي الابن وتنتفي من البنت من أجل الميراث فقال له: بم قضيت بينهما ؟ فقال شريح: لو كان عندي ما أقضي به بينهما لم آتكم بهما، فأخذ علي تبنة من الأرض فرفعها فقال: إن القضاء في هذا أيسر من هذه .

 ثم دعا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) البيان والتبيين 2 ص 20 .

 (2) المهيرة من النساء: الحرة الغالية المهر ج مهائر .

 

 

/ صفحة 173 /

بقدح فقال لإحدى المرأتين: احلبي، فحبلت فوزنه ثم قال للأخرى: احلبي .

 فحلبت فوزنه فوجده على النصف من لبن الأولى فقال لها: خذي أنت ابنتك، وقال للأخرى: خذي أنت ابنك، ثم قال لشريح: أما علمت أن لبن الجارية على النصف من لبن الغلام ؟ وأن ميراثها نصف ميراثه ؟ وأن عقلها نصف عقله ؟ وأن شهادتها نصف شهادته ؟ وأن ديتها نصف ديته ؟ وهي على النصف في كل شئ .

 فأعجب به عمر إعجابا شديدا ثم قال: أبا حسن لا أبقاني الله لشدة لست لها ولا في بلد لست فيه ؟ كنز العمال 3 ص 179، مصباح الظلام للجرداني 2 ص 56 .

 

-57-

الخليفة ومولود عجيب

عن سعيد بن جبير قال: أتي عمر بن الخطاب بامرأة قد ولدت ولدا له خلقتان بدنان وبطنان وأربعة أيد ورأسان وفرجان هذا في النصف الأعلى، وأما في الأسفل فله فخذان وساقان ورجلان مثل ساير الناس فطلب المرأة ميراثها من زوجها وهو أبو ذلك الخلق العجيب فدعا عمر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشاورهم فلم يجيبوا فيه بشئ فدعا علي بن أبي طالب فقال علي: إن هذا أمر يكون له نبأ فاحبسها واحبس ولدها واقبض مالهم وأقم لهم من يخدمهم وأنفق عليهم بالمعروف .

 ففعل عمر ذلك ثم ماتت المرأة وشب الخلق وطلب الميراث فحكم له علي بأن يقام له خادم خصي يخدم فرجيه ويتولى منه ما يتولى الأمهات ما لا يحل لأحد سوى الخادم، ثم إن أحد البدنين طلب النكاح فبعث عمر إلى علي فقال له: يا أبا الحسن ما تجد في أمر هذين إن اشتهى أحدهما شهوة خالفه الآخر، وإن طلب الآخر حالة طلب الذي يليه ضدها حتى إنه في ساعتنا هذه طلب أحدهما الجماع ؟ فقال علي: الله أكبر إن الله أحلم وأكرم من أن يري عبدا أخاه وهو يجامع أهله ولكن عللوه ثلاثا فإن الله سيقضي قضاء فيه ما طلب هذا عند الموت فعاش بعدها ثلاثة أيام ومات، فجمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشاورهم فيه قال بعضهم: اقطعه حتى يبين الحي من الميت وتكفنه وتدفنه، فقال عمر: إن هذا الذي أشرتم لعجب أن نقتل حيا لحال ميت، وضج الجسد الحي فقال: الله حسبكم تقتلوني وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأ القرآن

 

 

/ صفحة 174 /

فبعث إلى علي فقال: يا أبا الحسن احكم فيما بين هذين الخلقين فقال علي: الأمر فيه أوضح من ذلك وأسهل وأيسر، الحكم: أن تغسلوه وتكفنوه وتدعوه مع ابن أمه يحمله الخادم إذا مشى فيعاون عليه أخاه فإذا كان بعد ثلث جف فاقطعوه جافا ويكون موضعه حيا لا يألم، فإني أعلم إن الله لا يبقي الحي بعده أكثر من ثلث يتأذى برائحة نتنه وجيفه .

 ففعلوا ذلك فعاش الآخر ثلثة أيام ومات فقال عمر رضي الله عنه: يا ابن أبي طالب فما زلت كاشف كل شبهة وموضح كل حكم . (كنز العمال 3 ص 179) .

 

-58-

اجتهاد الخليفة في حد أمة

عن يحيى بن حاطب قال: توفي حاطب فاعتق من صلى من رقيقه وصام وكانت له أمة نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم ترعه إلا بحبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر رضي الله عنه فحدثه فقال: لأنت الرجل لا تأتي بخير .

 فأفزعه ذلك فأرسل إليها عمر رضي الله عنه فقال: أحبلت ؟ فقالت: نعم من مرغوش بدرهمين .

 فإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه قال: وصادف عليا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فقال: أشيروا علي وكان عثمان رضي الله عنه جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد، فقال: أشر علي يا عثمان ؟ فقال: قد أشار عليك أخواك .

 قال: أشر علي أنت .

 قال أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه .

 فقال: صدقت صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه .

 فجلدها عمر مائة وغربها عاما (1) .

 وقال الشافعي في الأم 1 ص 135: فخالف عليا وعبد الرحمن فلم يحدها حدها عندهما وهو الرجم، وخالف عثمان أن لا يحدها بحال، وجلدها مائة وغربها عاما .

 وقال البيهقي في السنن: قال الشيخ رحمه الله: كان حدها الرجم فكأنه رضي الله عنه درأ عنها حدها للشبهة بالجهالة وجلدها وغربها تعزيرا .

 قال الأميني: أنا لا أقول: إن الأمر في المسألة دائر بين أمرين إما ثبوت الحد وهو الرجم، وإما درأه بالشبهة وتخلية الحامل سبيلها، والقول بالفصل رأي خارج عن نطاق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) كتاب الإمام للشافعي 1 ص 135، اختلاف الحديث للشافعي هامش الأم 7 ص 144 سنن البيهقي 8 ص 238، وذكر أبو عمر شطرا منه في العلم ص 148 .

 

 

/ صفحة 175 /

الشرع . وإنما أقول: إن ما رآه البيهقي من كون الجلدة والتغريب تعزيرا لا يصحح الرأي بل يوجب مزيد الاشكال إذ ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (1) وفي صحيح آخر قوله: لا يجلد فوق عشرة أسواط فيما دون حد من حدود الله (2) .

 وقوله: لا يحل لأحد أن يضرب أحدا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (3) .

 وقوله: لا تعزروا فوق عشرة أسواط (4) .

 وقوله: من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين (5) .

 وقوله: لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (6) .

 وقوله: لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله (7) .

 فهل الخليفة قد خفيت عليه هذه كلها ؟ أو تعمد في الصفح عنها، وجعلها دبر أذنيه ؟

 

-59-

نهي الخليفة عما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

عن أبي هريرة قال: كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو بكر وعمر في نفر فقام من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقطع دوننا فقمنا وكنت أول من فزع فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا للأنصار لقوم من بني النجار فلم أجد له بابا إلا ربيعا فدخلت في جوف الحائط - والربيع: الجدول - فدخلت منه بعد أن احتفزته فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبو هريرة ؟ قلت: نعم .

 قال: ما شأنك ؟ قلت: كنت بين أظهرنا فقمت وأبطأت فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا وكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفزته كما يحتفز الثعلب والناس من ورائي فقال: يا أبا هريرة إذهب بنعلي هاتين فمن لقيته وراء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) صحيح البخاري في الجزء الأخير باب كم التعزير والأدب، سنن أبي داود 2 ص 242، صحيح مسلم في الحدود 2 ص 52 .

 (2) مستدرك الحاكم 4 ص 382 .

 (3) سنن الدارمي 2 ص 176 .

 (4) سنن ابن ماجة 2 ص 129 .

 (5) السنن الكبرى للبيهقي 8 ص 327 .

 (6) السنن الكبرى للبيهقي 8 ص 328، وأخرجه ابن مندة وأبو نعيم كما في الإصابة 2 ص 423 .

 (7) صحيح البخاري في باب كم التعزير والأدب في الجزء الأخير .

 

 

/ صفحة 176 /

هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة .

 فخرجت فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هذان النعلان ؟ قلت: نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما وقال: من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة فضرب عمر في صدري فخررت لإستي وقال: إرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بالبكاء راجعا فقال رسول الله: ما بالك ؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بما بعثتني به فضرب صدري ضربة خررت لإستي وقال: إرجع إلى رسول الله، فخرج رسول الله فإذا عمر فقال: ما حملك يا عمر ! على ما فعلت ؟ فقال عمر: أنت بعثت أبا هريرة بكذا ؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فيتركوا العمل خلهم يعملون، فقال رسول الله: فخلهم (1) قال الأميني: إن التبشير والانذار من وظايف النبوة كتابا وسنة واعتبارا وأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين، وإن كان في التبشير تثبيط عن العمل لكان من واجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يبشر بشئ قط وقد بشر في الكتاب الكريم بمثل قوله تعالى: و بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (2) وقوله: وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم (3) ووردت بشارات جمة في السنة النبوية في الترغيب في الشهادة بالله وذكر لا إله إلا الله (4).

م - وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن ينادي في الناس: إن من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة) (5) وأي تثبيط هناك ولازم التوحيد الصحيح العمل بكل ما شرعه الإله الواحد ؟ ولا سيما هتاف الرسالة في كل حين يسمع المستخفين بالوعيد المزعج والعذاب الشديد مشفوعا بعداته الكريمة لمن يعمل الصالحات، والجنة يشتاق إليه الموحدون، أخرج أحمد عن ابن مطرف قال: حدثني الثقة إن رجلا أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن التسبيح والتهليل فقال عمر بن الخطاب: مه أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 فقال: مه يا عمر .

 وأنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل أتى على الانسان حين من الدهر .

 حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) سيرة عمر لابن الجوزي ص 38، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 108، 116، فتح الباري 1 ص 184 .

 (2) سورة الأحزاب آية 47 .

 (3) سورة يونس آية 2 (4) راجع الترغيب والترهيب للحافظ المنذري 2 ص 160 - 165 .

 (5) تهذيب التهذيب 1 ص 424 .

 

 

/ صفحة 177 /

النبي صلى الله عليه وسلم: مات شوقا إلى الجنة (1) .

 وهكذا يجب أن تسير الأمة إلى الله بين خطتي الخوف والرجاء، فلا التهديد يدعها تتوانى عن العمل، ولا الوعد يأمنها من العقوبة إن تركته، وهذه هي الطريقةالمثلى في إصلاح المجتمع، والسير بهم في السنن اللاحب، سنة الله في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلا، غير أن الخليفة قد يحسب أن خطته أمثل من هذه، فانتهر أبا هريرة حتى خر لإسته، ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدؤب على ما قال وأمر به وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .

 وليس من المستطاع أن يخبت إلى اعتناء النبي بهاتيك الهلجة بعد أن صدع بما صدع عن الوحي الإلهي، لكن الدوسي يقول: قال: فخلهم .

 وأنا لا أدري هل كذب الدوسي، أو أن هذا مبلغ علم الخليفة وأنموذج عمله ؟ .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) الدر المنثور 6 ص 297 .