عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني

 

 

-13-

ابن الرومي المتوفى 283

 

يا هـــــند لم أعشق ومثلي لا يرى * عــشق النســـــاء ديانـــة وتحرجا

لكـــــن حـــــبي للوصي مخـــــيـــم * في الصدر يسرح في الفؤاد تولجا

فهـــــو السراج المستنير ومن به * سبـــب النجاة من العذاب لمن نجا

وإذا تـــــركت له المحــــبة لم أجد * يـــــوم القــيامة من ذنوبي مخرجا

قـــــل لي : أأتــرك مستقيم طريقه * جهــلا وأتبع الطريق الأعوجا؟!؟!

وأراه كـــــالتبر المصفـــى جوهرا * وأرى ســـــواه لناقديـــــه مبهرجا

ومحـــــله من كـــــل فضـــــل بـين * عــــال محل الشمس أو بدر الدجا

قـــــال النـــــبي لــــه مقالا لم يكن * يــوم (الغدير) لسامعيه ممجمجا :

مـــــن كنت مــــولاه فذا مولى له * مثـــــلي وأصبح بالفخــــار متوجا

وكذاك إذ منـــــع البـــتول جماعة * خـــــطبوا وأكـــــرمه بهـا إذ زوجا

ولـــــه عجــــائب يوم سار بجيشه * يـــــبغي لقصر النهروان المخرجا

ردت عــــليه الشمس بعد غروبها * بـــــيضاء تلمــع وقدة وتأججا (1)

* (الشاعر) *:

 أبو الحسن علي بن عباس بن جريح (2) مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر البغدادي الشهير بابن الرومي.

 مفخرة من مفاخر الشيعة، وعبقري من عباقرة الأمة، وشعره الذهبي الكثير الطافح برونق البلاغة قد أربى على سبائك التبر حسنا وبهائا، وعلى

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  (1) مناقب ابن شهر آشوب 1 ص 531 ط ايران.

 (2) كذا في فهرست ابن النديم، وتاريخ الخطيب، وكثير من المعاجم. وفي مروج الذهب : سريج. وفي معجم المرزباني : جورجس. وفي تاريخ ابن خلكان : قبل : جور جيس. وفي بعض المعاجم : جرجيس.

 

/ صفحة 30 /

كثر النجوم عددا ونورا، برع في المديح والهجاء والوصف والغزل من فنون الشعر فقصر عن مداه الطامحون، وشخصت إليه الأبصار، فجل عن الند كما قصر عن مزاياه العد.

 وله في مودة ذوي القربى من آل الرسول صلوات الله عليه وعليهم أشواط بعيدة، واختصاصه بهم ومدائحه لهم ودفاعه عنهم من أظهر الحقايق الجلية، وقد عده ابن الصباغ المالكي المتوفى 855 في فصوله المهمة ص 302، والشبلنجي في نور الأبصار 166 من شعراء الإمام الحسن العسكري صلوات الله عليه.

 وكان مجموع شعره غير مرتب على الحروف : رواه عنه المسيبي علي بن عبيد الله ابن المسيب، ومثقال غلام ابن الرومي في مائة ورقة، ورواه عن مثقال أبو الحسن علي بن العصب الملحي، وكتب أحمد بن أبي قسر الكاتب من شعره مائة ورقة، وخالد الكاتب كذلك، فرتبه الصولي على الحروف في مائتي ورقة، جمع شعره أبو الطيب وراق بن عبدوس من جميع النسخ فزاد على كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت.

 وللخالديين : أبي بكر محمد وأبي عثمان سعيد كتاب في أخبار شعر المترجم (1) وانتخب ابن سينا ديوانه وشرح مشكلات شعره كما في (كشف الظنون) 1 ص 498، وعن ابن سينا :

 أن مما كلفني استادي في الأدب حفظ ديوان ابن الرومي فحفظته مع عدة كتب في ستة أيام ونصف يوما.

 ويروي بعض شعره أبو الحسين علي بن جعفر الحمداني، وإسماعيل بن علي الخزاعي، وأبو الحسن جحظة الذي مدحه ابن الرومي بقصيدة توجد في ديوانه 168.

 تجد ذكره والثناء عليه في فهرست ابن النديم 235، تاريخ بغداد 12 ص 23، معجم الشعراء 289، 453، أمالي الشريف المرتضى 2 ص 101، مروج الذهب 2 ص 495، العمدة لابن رشيق 1 ص 56، 61، 91، معالم العلماء لابن شهر آشوب، وفيات الأعيان 1 ص 385، مرآة الجنان لليافعي 2 ص 198، شذرات الذهب 2 ص 188، معاهد التنصيص 1 ص 38، كشف الظنون 1 ص 498، روضات الجنات 473، نسمة السحر فيمن تشيع وشعر، دائرة المعارف للبستاني 1 ص 494، دائرة المعارف الإسلامية

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  (1) راجع فهرست ابن النديم ص 235 و 241.

 

/ صفحة 31 /

1 ص 181، الأعلام للزركلي 2 ص 675، الشيعة وفنون الاسلام 105، مجلة الهدى العراقية الجزء السادس ص 223 - 227. وعني بجمع آثاره وكتابة أخباره وروايتها جمع منهم :

 1 - أبو العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن عمار المتوفى 319، قال ابن المسيب لما مات ابن الرومي عمل كتابا (1) في تفضيله ومختار شعره وجلس يمليه على الناس. كما في فهرست ابن النديم 212، ومعجم الأدباء 1 ص 227.

 2 - أبو عثمان الناجم، ترجمه في كتاب مقصور عليه.

 3 أبو الحسن علي بن عباس النوبختي المتوفى 327، جمع أخباره في كتاب مفرد كما في معجم المرزباني 295، ومعجم الأدباء 2295. وأفرد من كتاب المتأخرين الأستاذ عباس محمود العقاد كتابا في ترجمته في 392 صفحة ونحن نأخذ منه ما هو المهم ملخصا بلفظه قال : قد أدرك ابن الرومي في حياته ثمانية خلفاءهم : الواثق. المتوكل. المنتصر. المستعين. المعتز. المهتدي. المعتمد. المعتضد المتوفى بعد ابن الرومي.

أثنى عليه العميدي صاحب (الابانة) وابن رشيق صاحب (العمدة) وقال : أكثر المولدين اختراعا وتوليدا فيما يقول الحذاق :

 أبو تمام وابن الرومي. وأطراه ابن سعيد المغربي المتوفى 673 في كتابه : عنوان المرقصات والمطربات.

 ويظهر أن أبا عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من أدباء القرن الرابع توسع في ترجمته إما في كتابه : حماسة المحدثين. أو في كتاب مقصور عليه.

ولكن أخباره هذه ذهبت كلها ولم تبق منها أثر إلا متفرقات في الكتب لا تفني في ترجمة وافية ولا شبيهة بالوافية فنحن ننقلها كما هي :

 ولد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب 221 ببغداد في الموضع المعروف بالعقيقة (2) ودرب الختلية في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن منصور (3 ).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ينقل الحموي عنه ترجمة أحمد بن محمد بن عمار في معجم الأدباء.

(2) في معجم الشعراء : في الجانب الغربي بالعتيقة. وهذا هو الصحيح.

 (3) أخذه من أبي عثمان الخالدي.

 

/ صفحة 32 /

كان ابن الرومي مولى لعبد الله بن عيسى ولا يشك أنه رومي الأصل فإنه يذكره ويؤكده في مواضع من ديوانه واسم جده مع هذا : جريح. أو : جرجيس. اسم يوناني لا شبهة فيه، فلا ينبغي الالتفات إلى من قال : إنه سمي بابن الرومي لجماله في صباه.

وكان أبوه صديقا لبعض العلماء والأدباء منهم : محمد بن حبيب الرواية الضليع في اللغة والأنساب، فكان الشاعر يختلف إليه لهذه الصداقة، وكان محمد بن حبيب يخصه لما يراه من ذكاءه وحدة ذهنه، وحدت الشاعر عنه فقال :

 إنه كان إذا مر به شئ يستغربه ويستجيده يقول لي : يا أبا الحسن ضع هذا في تامورك.

 وقد علمنا أن أمه كانت فارسية من قوله : الفرس خؤلي والروم أعمامي.

 وقوله : فلم يلدني أبو السواس ساسان.

 بعد أن رفع نسبه إلى يونان من جهة أبيه، وربما كانت أمه من أصل فارسي ولم تكن فارسية قحا لأبيها وأمها وهذا هو الأرجح لأن علمه بالفارسية لم يكن علم رجل نشأ في حجر أم تتكلم هذه اللغة ولا تحسن الكلام بغيرها، وماتت أمه وهو كهل أو مكتهل كما يقول في رثائها :

أقــــول : وقــــد قالوا : أتبــــكي لفاقد * رضاعا وأين الكهل من راضع الحلم؟!

هــــي الأم يــــا للناس جــــزعت فقدها * ومــــن يــــبك أمّــــاً لــــم تذم قط لا يذم

وكانت أمه تقية صالحة رحيمة كما يؤخذ من أبياته في رثائها.

 * (قال الأميني) * :

 أمه حسنة بنت عبد الله السجزي كما في معجم المرزباني، وسجز بلدة من بلاد الفرس من أرباض خراسان فهي فارسية قح.

 أخوه وشقيقه محمد المكنى بأبي جعفر وهو أكبر من المترجم وتوفي قبله وكان تتفجع بذكراه ورثاه، ومات أخوه وهو يعمل في خدمة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أحد أركان بيت بني طاهر، ويظهر من ديوان المترجم إنه كان أديبا كاتبا أيضا.

 ولم يبق لابن الرومي بعد موت أخيه أحد يعول عليه من أهله أو من يحسبون في حكم أهله إلا أناس من مواليه الهاشميين العباسيين كانوا يبرونه حينا ويتناسونه أحيانا، و كان لعهد الهاشميين الطالبيين أحفظ منه لعهد الهاشميين العباسيين كما يظهر مما يلي. أما ابن عمه الذي أشار إليه في قوله :

 

/ صفحة 33 /

لي ابن عم يجر الشر مجـــتهدا * إلي قــــدما ولا يصـــلي له نارا

يجني فاصلي بما يجني فيخذلني * وكـــــلما كان زندا كنت مسعارا

فلا ندري أهو ابن عم لح ؟ ! أو ابن عم كلالة ؟ ! ومبلغ ما بينهما من صلة المودة ظاهر من البيتين.

 أولاده:

 رزق ابن الرومي ثلاثة أبناء وهم : هبة الله. محمد. وثالث لم يذكر اسمه في ديوانه. ماتوا جميعا في طفولتهم ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والد أبناءه، وقد سبق الموت إلى أوسطهم محمد فرثاه بدالية مشهورة يقول فيها :

توخى حمام الموت أوسط صبيتي * فللــه كيف أختار واسطة العــقد؟!

على حين شمت الخير في لمحـاته * وآنســـت مـــــن أفعاله آية الرشد

ومنها في وصف مرضه :

لقــــد قــــل بــــين المهـــــد واللحد لبثه * فلــــم ينس عـهد المهد أو ضم في اللحد

ألــــح عــــليـه النــــزف حــــتى أحـــاله * إلى صفرة الجادي (1) عن حمرة الورد

وظــــل عــــلى الأيــــدي تســـاقط نفسه * ويذوي كما يذوي القضيب من الرند(2)

ويذكر فيها أخويه الآخرين :

محــــمد ؟ مــا شيئ توهم سلـوة * لقـــــلبــي إلا زاد قــلبي من الوجد

أرى أخــــويك الباقيــــين كـليهما * يكـــونان للأحزان أورى من الزند

إذا لعــــبا في ملعــــب لك لــــذعا * فؤادي بمثل النار عن غير ما عمد

فمـــــا فيهـما لي سلوة بل حزازة * يهيجـــانها دوني وأشقى بها وحدي

أما ابنه هبة الله فقد ناهز الشباب على ما يفهم من قوله في رثاءه:

يــا حسرتا فارقتني فننا * غضا ولم يثمر لي الفنن

ابني ؟ إنك والعزاء معا * بالأمس لف عليكما كفن

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجادي : الزعفران.

(2) يذوى من ذوى النبات وذوى: ذبل ونشف ماؤه. الرند : نبات من شجر البادية طيب الرائحة يشبه الآس ).

 

/ صفحة 34 /

وفي الديوان أبيات يرثي بها ابنا لم يذكر اسمه وهي :

حماه الكرى هــــم ســــرى فتــأوبا * فبــــات يــــراعي النجم حتى تصوبا

أعيــــني جودا لــي فقد جدت للثرى * بأكــــثر مــما تمنعــــان وأطيــــبــــا

بني الذي أهــــديته أمــــس للثــرى * فلله ما أقــــوى قــــناتي وأصــــلــبا

فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى * إذا فــــترت عنه الــــدموع تلهــــبــا

وهي على الأرجح رثاؤه لأصغر أبناءه الذي لم يذكر اسمه ولا ندري هل مات قبل أخيه أو بعده ؟ ! ؟ ! ولكن يخيل إلينا من المقابلة بين هذه المراثي أن الأبيات البائية كانت آخر ما رثى به ولدا لأنها تنم عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقد البنين حتى جمدت عيناه ولم يبق عنده من البكاء إلا الأسى الملتهب في الضلوع، وإلا العجب من أن يكون قد عاش وصلبت قناته لكل هذه الفجايع، وقد كان رثاؤه لابنه الأوسط صرخة الضربة الأولى، ففيها ثورة لاعجة تحس من خلل الأبيات، ثم حل الألم المرير محل الألم السوار في مصيبته الثانية، فوجم وسكن واستعبر، ثم كانت الخاتمة فهو مستسلم يعجب للحزن كيف لم يقض عليه، ويحس وقدة المصاب في نفسه ولا يحسه في عينيه، ولقد غشيت غبرة الموت حياته كلها، وماتت زوجته بعد موت أبنائه جميعا فتمت بها مصائبه وكبر عليه الأمر... إلخ .

تعليمه :

ذلك كل ما استطعنا أن نجمعه من الأخبار النافعة عن نشأة الشاعر وأهله ولا فائدة من البحث في المصادر التي بين أيدينا عن أيام صباه وتعليمه ومن حضر عليهم و تتلمذ لهم من العلماء والرواة فإن هذه المصادر خلو مما يفيد في هذا المقام إلا ما جاء عرضا في الجزء السادس من (الأغاني) حيث يروي ابن الرومي عن أبي العباس ثعلب عن حماد بن المبارك عن الحسين بن الضحاك.

 وحيث يروي في موضع آخر عن قتيبة عن عمر السكوني بالكوفة عن أبيه عن الحسين بن الضحاك، فيصح أن تكون الرواية هنا رواية تلميذ عن أستاذ، لأن ثعلبا ولد سنة مائتين فهو أكبر من الشاعر بإحدى و عشرين سنة، أما قتيبة (والمفهوم أنه أبو رجاء قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي المحدث العالم المشهور) فجائز أن يكون ممن أملوا عليه وعلموه لأنه مات وابن الرومي

/ صفحة 35 /

يناهز العشرين.

 وقد مر بنا أنه كان يختلف إلى محمد بن حبيب الراوية النسابة الكبير، وسنرى هنا أنه كان يرجع إليه في بعض مفرداته اللغوية فيذكر شرحها في ديوانه معتمدا عليه قال بعد قوله :

وأصدق المدح مدح ذي حسد * ملاءن من بغضه ومن شنف

قال لي محمد بن حبيب :

 الشنف ما ظهر من البغضة في العينين وأشار إليه بعد بيت آخر وهو :

بانوا فبان جميل الصبر بعدهم * فللدموع مــــن العــينين عينان

إذا فسر كلمة (عينان) فروى عن ابن حبيب أنه قال :

 عان الماء يعين عينا وعينانا إذا ساح.

 فهؤلاء ثلاثة من أساتذة ابن الرومي على هذا الاعتبار ولا علم لنا بغيرهم فيما راجعناه وحسبنا مع هذا أن الرجل كيفما كان تعليمه وأيا كان معلموه قد نشأ على نصيب واف من علوم عصره، وساهم في القديم والحديث منها بقسط وافر في شعره فلو لم يقل المعري : إنه كان يتعاطى الفلسفة. والمسعودي : إن الشعر كان أقل آلاته. لعلمنا ذلك من شواهد شتى في كلامه، فهي هناك كثيرة متكررة لا يلم المتصفح ببعضها إلا جزم باطلاع قائلها على الفلسفة ومصاحبة أهلها واشتغاله بها، حتى سرت في أسلوبه وتفكيره، وما كان متعلم الفلسفة في تلك الأيام يصنع أكثر من ذلك ليتعلمها أو ليعد من متعلميها، فأنت لا تقرأ لرجل غير مشتغل أو ملم بالفلسفة والقياس المنطقي والنجوم كلاما كهذا الكلام .

لما تؤذن الدنيا به من صروفها * يكــــون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يــــبكيه منهــــــا وأنها * لأرحـــب مما كان فيه وأرغد؟!

وذكر شواهد كثيرة على إلمامه بالعلوم ومعرفته بمصطلحاتها غضضنا الطرف عنها اختصارا.

 رسائل ابن الرومي :

وقد وردت في أبياته الهمزية إشارة إلى حذقه في الكتابة ومشاركته في البلاغة المنثورة تعززها إشارة مثلها في هذا البيت :

 

/ صفحة 36 /

ألــــم تــــجدوني آل وهب لمدحكــم * بشعري ونثري أخطلا ثم جاحضا؟!

فلا بد أنه كان يكتب ويمارس الصناعة النثرية إلا ما استجمعناه من منثوراته لا يعدو نبذا معدودة موجزة، منها :

 رسالة إلى القاسم بن عبيد الله يقول فيها متنصلا .

1 ـ ترفع عن ظلمي إن كنت بريئا، وتفضل بالعفو إن كنت مسيئا، فوالله إني لأطالب عفو ذنب لم أجنه، وألتمس الاقالة مما لا أعرفه، لتزداد تطولا وازداد تذللا، وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واش يكيدها، وأحرسها بوفاءك من باغ يحاول إفسادها، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظي منك بقدر ودي لك ومحلي من رجائك بحيث أستحق منك. والسلام.

2 ـ رسالة كتبها يعود صديقا : أذن الله في شفائك، وتلقى داءك بدوائك، ومسح بيد العافية عليك، ووجه وفد السلامة إليك، وجعل علتك ماحية لذنوبك، مضاعفة لثوابك.

3 ـ كتب إلى صديق له قدم من (سيراف) (1) فأهدى إلى جماعة من إخوانه ونسيه :

 أطال الله بقاءك وأدام عزك وسعادتك وجعلني فداءك، لولا أنني في حيرة من أمري وشغل من فكري لما افترقنا، وشوقي علم الله فغالب، وظمأي فشديد، وإلى الله الرغبة في أن يجعل القدرة على اللقاء حسب المحبة أنه قادر جواد.

 ومكاننا من جميل رأيك أيدك الله يبعثنا على تقاضي حقوقنا قبلك، وكريم سجاياك وأخلاقك يشجعنا على إمضاء العزم في ذلك، وما تطولت به من الايناس يؤنسنا بك و يبسطنا إليك، وآثار يديك تدلنا عليك، وتشهد لنا بسماحتك، والله يطيل بقاءك و يديم لنا فيك وبك السعادة.

 وبلغني أدام الله عزك أن سحائب تفضلك أمطرت منذ أيام مطرا عم إخوانك بهدايا مشتملة على حسن وطيب، فأنكرت على عدلك وفضلك خروجي منها مع دخولي في جملة من يعتدك ويعتقدك وينحوك ويعتمدك، وسبق إلى قلبي من ألم سوء الظن برأيك أضعاف ما سبق إليه من الألم بفوت الحظ من لطفك، فرأيت مداوات قلبي من ظنه، وقلبك من سهوه، واستبقاء الود بيننا بالعتاب الذي يقول فيه القائل : (ويبقى

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  (1) سيراف : مدينة جليلة على ساحل بحر فارس، منها إلى شيراز ستون فرسخا.

 

/ صفحة 37 /

الود ما بقي العتاب) وفيما عاتبت كفاية عند من له أذنك الواعية وعينك الراعية.

4 ـ وقال في تفضيل النرجس على الورد :

 النرجس يشبه الأعين والمضاحك، والورد يشبه الخدود، والأعين والمضاحك أشرف من الخدود، وشبيه الأشرف أشرف من شبيه الأدنى، والورد صفة لأنه لون والنرجس يضارعه في هذا الاسم، لأن النرجس هو الريحان الوارد أعني أنه أبدا في الماء، والورد خجل، والنرجس مبتسم، وانظر أدناهما شبها بالعيون فهو أفضل.

 هذه نماذج من منثوراته لا نعرف غيرها فيما بين أيدينا، وخليق بمن يكتب بهذا الأسلوب أن يعد في بلغاء الكتاب وإن لم يعد في أبلغهم، على أن ابن الرومي لم يكن يحسب نفسه إلا مع الشعراء إذا اختلفت الطوائف، فإنه يقول عن نفسه وهو يمدح أبا الحسين كاتب ابن أبي الإصبع :

ونحن معاشر الشعراء تنمى * إلــــى نســـب من الكتاب دان

وإن كــــانوا أحـــق بكل فضل * وأبلــــغ باللسان وبالبــــيــان

أبــــونا عــــند نسبتـــنا أبوهم * عــــطارد السمــــاوي المكان

أما حظه من علوم العربية والدين فمن المفضول أن نتعرض لإحصاء الشواهد عليه في كلامه، لأنه أبين من أن يحتاج إلى تبيين.

 وندر في قصائده المطولة أو الموجزة قصيدة تقرأها ولا تخرج منها وأنت موقن باستبحار ناظمها في اللغة وإحاطته الواسعة بغريب مفرداتها وأوزان اشتقاقها وتصريفها وموقع أمثالها وأسماء مشاهرها، وما يصحب ذلك من أحكام في الدين ومقتبسات من أدب القرآن، فليس في شعر العربية من تبدو هذه الشواهد في كلامه بهذه الغزارة والدقة غير شاعرين اثنين :

 أحد هما صاحبنا والثاني المعري، وقد كان يمدح الرؤساء والأدباء أمثال عبيد الله بن عبد الله، وعلي بن يحيى، وإسماعيل بن بلبل فيفسر غريب كلماته في القرطاس الذي يثبت فيه قصايده كأنه كان يشفق أن تفوتهم دقايق لفظه وأسرار لغته ثم يعود إلى الاعتذار من ذلك إذا أنس منهم الجفوة والتغير.

لـــم أفــسر غريبها لك لكن * لامرئ يجهل الغريب سواكا

لغيرك لا لك التفسيــــر أنـى * يفــــسر لابن بجدتها الغريب

/ صفحة 38 /

وكانوا لشهرته باللغة وعلم أسرارها ولطيف نكاتها يختلقون له الكلمات النافرة يسألونه عنها ليعبثوا به أو يعجزوه، وقصة (الجرامض) إحدى هذه المعابثات التي تدل على غيرها من قبيلها، فقد سأله بعضهم في مجلس القاسم بن عبيد الله : ما الجرامض ؟ ! فارتجل مجيبا :

وسألت عن خبر الجرامض * طالبــــا عــــلم الجــــرامض

وهـــو الخزا كل والغوامض * قــــد تــــفسر بالغــــوامــض

وهــــو السلجــــكل شئـت إذ * لك أم أبــــيت بـفرض فارض

وكلها كلمات من مادة الجرامض لا معنى لها ولا وجود، وإذا صح استقراؤنا وكان من أساتذته أمثال ثعلب وقتيبة فضلا عن الأستاذية الثابتة لابن حبيب فلا جرم يصير ذلك علمه بالغريب والأنساب والأخبار، هؤلاء كلهم من نخبة النخبة في هذه المطالب، ولا سيما إذا أعانهم تلميذ ذو فطنة متوقدة الفهم وذاكرة سريعة الحفظ كهذا التلميذ، فقد مر بك أنه كان يحفظ الأبيات الخمسة من قراءة واحدة فهب في الرواية بعض مبالغة التي تتعرض لها أمثال هذه الروايات فهو بعد سريع الحفظ و هذا مما يعينه على تحصيل اللغة وتعليق المفردات.

 عاش ابن الرومي حياته كلها في بغداد لا يفارقها قليلا حتى يعود سريعا وقد نازعه إليها الشوق وغلبه نحوها حنين، وكانت بغداد يومئذ عاصمة الدنيا غير مدافع، و كان صاحب صنيعة ومالك دارين وثراء وتحف موروثة منها قدح زعم أنه كان للرشيد ووصفه في شعره لما أهداه إلى علي بن المنجم :

يحيى قدح كان للرشيد اصطفاه * خــــلف مـــن ذكوره غير خلف

كفم الحب في الحلاوة بل أحلى * وإن كــــان لا يــــناغـي بحرف

صيـغ من جوهر مصفى طباعا * لا عــــلاجا بكــــيمياء مصـــف

تنفــــذ العــــين فـيه حتى تراها * أخــــطأته مــن رقة المستشف

كهــــواه بــــلا هــــباء مـشوب * بضــــياء أرقــــق بذاك وأصف

ثم استوعب الكلام في البحث عن مزاجه وأخلاقه ومعيشته وما كانت تملكه يده وذكرى مطايباته ومفاكهاته وهجاؤه وفشله وطيرته من ص 102 - 203 فشرع

/ صفحة 39 /

في بيان عقيدته (وهناك مواقع للنظر) وقال :

عقيدته :

تقدم في الكلام عن الحالة الدينية في القرن الثالث للهجرة أنه كان عصرا كثرت فيه النحل والمذاهب وقل فيه من لا يرى في العقايد رأيا يفسر به إسلامه و ويخلصه بين جماعة الدارسين وقراء العلوم الحديثة.

 فابن الرومي واحد من هؤلاء القراء لا ننتظر أن تمر به هذه المباحث التي كان يدرسها ويحضر مجالسها ويسمع من أهلها بغير أثر محسوس في تفسير العقيدة، فكان مسلما صادق الاسلام، ولكنه كان شيعيا معتزليا قدريا يقول بالطبيعتين، وهي أسلم النحل التي كانت شايعة في عهده من حيث الإيمان بالدين.

 وقد قال المعري في رسالة الغفران : إن البغداديين يدعون أنه متشيع و يستشهدون على ذلك بقصيدته الجيمية ثم عقب على ذلك فقال : ما أراه إلا على مذهب غيره من الشعراء.

 ولا ندري لماذا شك المعري في تشيعه لأنه على مذهب غيره من الشعراء، فإن الشعراء إذا تشيعوا كانوا شيعة حقا كغيرهم من الناس، وربما أفرطوا فزادوا في ذلك على غيرهم من عامة المتشيعين، وإنما نعتقد أن المعري لم يطلع على شعره كله فخفيت عنه حقيقة مذهبه ولولا ذلك لما كان بهذه الحقيقة من خفاء.

 على أن القصيدة الجيمية وحدها كافية في إظهار التشيع الذي لا شك فيه، لأن الشاعر نظمها بغير داع يدعوه إلى نظمها من طمع أو مداراة، بل نظمها وهو يستهدف للخطر الشديد من ناحية بني طاهر وناحية الخلفاء، فقد رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين ابن زيد بن علي الثائر في وجه الخلافة ووجه أبناء طاهر ولاة خراسان، وقال فيها يخاطب بني العباس ويذكر (ولاة السوء) من أبناء طاهر :

أجــــنوا بني العــــباس مـن شنآئكم * وأوكوا على ما في العياب وأشرجوا

وخــــلوا ولاة السوء منكـــم وغيهم * فــــأحرى بهم أن يغرقوا حيث لججوا

نظــــار لكــــم أن يرجع الحق راجع * إلــــى أهله يـوما فتشجوا كما شجوا

على حــــين لا عــــذري لمعــتذريكم * ولا لكــــم مــــن حجــــة الله مخــرج

/ صفحة 40 /

فــــلا تلحقوا الآن الضغــــــاين بينكم * وبيــــنهم إن اللــــواقح تــــنـــــتـــج

غــــررتم لــــئن صــــدقتم أن حـــالة * تــــدوم لــــكم والـــدهر لونان أخرج

لعــــل لهــــم في منطوى الغيب ثائرا * سيسمو لكم والصبح في الليل مولج

فماذا يقول الشيعي لبني العباس أقسى وأصرح في التربص بدولتهم وانتظار دولة العلويين من هذا الكلام ؟ ! فقد أنذر بني العباس بزوال الملك وكاد يتمنى أو تمنى لبني علي يوما يهزمون فيه أعداءهم، ويرجعون فيه حقهم، ويطلبون تراثهم، وينكلون بمن نكل بهم، وهواه ظاهر من العلويين لا مداجاة فيه كهوى كل شيعي في هذا المقام.

 على أنه كان أظهر من هذا في النونية التي تمنى فيها هلاك أعدائهم ولام نفسه على التقصير في بذل دمه لنصرتهم :

إن يـوالي الدهر أعــــداء لكــم * فلهــــم فــــيه كمــــين قــد كمن

خلعــــوا فــــيه عــذار المعتدي * وغــــدوا بـــين اعتراض وأرن

فاصبـــروا يهــــلكهم الله لــــكم * مثل ما أهــــلك أذواء اليــــمـن

قــــرب النصــــر فـلا تستبطئوا * قرب النصر يقيــــنا غــــير ظـن

ومـــن التقصير صوني مهجتي * فعل من أضحى إلى الدنيا ركـن

لا دمي يسفــــك فــــي نصرتكم * لا ولا عــــرضي فيــــكم يمـتهن

غــــيــر أني باذل نــــفسي وإن * حقن الله دمــــي فيــــما حــــقـن

 ليت إنــــي غــرض من دونكم * ذاك أو درع يقــــيكــــم ومجـــن

أتلقى بجــــبــيني مــــن رمــــي * وبنحري وبصــــدري مــن طعن

إن مبــــتاع الــــرضي من ربه * فيــــكم بالنفس لا يخــشى الغبن

وليس يجوز الشك في تشيع من يقول هذا القول ويشعر هذا الشعور، فإنه يعرض نفسه للموت في غير طائل حبا لبني علي وغضبا لهم وإشهارا لهم لعاطفة لا تفيده و لا تفيدهم، وقد كان لا يذكر يحيى بن عمر إلا بلقب الشهيد كما ذكره في القصيدة الجيمية وفي خاطرة أخرى مفردة نظمها في هذين البيتين :

كـــستــــه القــــنا حـلة من دم * فـــأضحت لدى الله من ارجوان

جــــزته معــــانــــقة الــــــــدار * عين معانقة القاصرات الحسان

/ صفحة 41 /

وبعض هذا يكفي في الدلالة علي تشيعه للطالبيين واتخاذه التشيع مذهبا في الخلافة كمذهب الشعراء أو غير الشعراء ولا سيما التشيع المعتدل الذي يقول أهله بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، ويستنكرون لعن الصحابة الذين عارضوا عليا في الخلافة، ومعظم هؤلاء من الزيدية الذين خرجوا في جند يحيى بن عمر لقتال بني العباس، فهم لا يقولون في نصرة آل علي أشد مما قال ابن الرومي، ولا يتمنون لهم أكثر مما تمناه.

 ويلوح لنا أن ابن الرومي ورث التشيع وراثة من أمه وأبيه لأن أمه كانت فارسية الأصل فهي أقرب إلى مذهب قومها الفرس في نصرة العلويين، ولأن أباه سماه عليا وهو من أسماء الشيعة المحبوبة التي يتجنبها المتشددون من أنصار الخلفاء، ولا حرج على أبي الشاعر أن يتشيع وهو في خدمة بيت من بيوت العباسيين، لأن مواليه كانوا أناسا بعيدين من الخلافة وولاية العهد وهما علة البغضاء الشديدة بين العباسيين والعلويين، وقد اتفق لبعض الخلفاء وولاة العهد أنفسهم أنهم كانوا يكرمون عليا وأبناءه كما كان مشهورا عن (المعتضد) الخليفة الذي أكثر ابن الرومي من مدحه، كما كان مشهورا عن (المنتصر) ولي العهد الذي قيل :

 إنه قتل أباه (المتوكل) جريرة ملاحاة وقعت بينهما في الذب عن حرمة علي وآله (ثم قال بعد استظهار تشيع بني طاهر ص 207 - 209) :

 وإن أحق عقيدة أن يجد المرء فيها لعقيدة تجرؤه إذا خاف، وتبسط له العذر والعزاء إذا سخط من صروف الحوادث، وتمهد له الأمل في مقبل خير من الحاضر، وأدنى منه إلى كشف الظلمات ورد الحقوق، وكل أولئك كان ابن الرومي واجده على أوفاه في التشيع للعلويين أصحاب الإمامة المنتظرة في عالم الغيب على العباسيين أصحاب الحاضر الممقوت المتمنى زواله، فلهذا كان متشيعا في الهوى، متشيعا في الرجاء، وكان على مذهب غيره من الشعراء وعلى مذهب غيره من سائر المتشيعين.

 أما الاعتزال فابن الرومي لا يكتمه ولا يماري فيه، بل يظهره إظهار معتز به حريص عليه فمن قوله في ابن حريث:

معــــتزلي مســر كفر * يبدي ظهورا لها بطون

أأرفض الاعتزال رأيا * كــــلا لأنــي بــه ضنين

/ صفحة 42 /

لو صح عندي له اعتقاد * مــــا دنت ربي بمـا يدين

وكان مذهبه في الاعتزال مذهب القدرية الذين يقولون بالاختيار وينزهون الله عن عقاب المجبر على ما يفعل، وذلك واضح من قوله يخاطب العباس بن القاشي و يناشده صلة المذهب :

إن لا يكــــن بيــــننا قـــربى فآصرة * للــــدين يقــــطع فـيها الــوالد الولدا

مقالة العـدل والتوحــــيد تجمعــنــــا * دون المضـاهين من ثنى ومن جحدا

وبين مستطــــرفي غــــي مــــرافقة * ترعى فكيف اللذان استطرفا فارشدا

كن عند أخلاقك الزهر التي جعـــلت * عــــليك مــوقوفة مقصــــورة أبــــدا

ما عذر (معتزلي) مــــوسر منعـــت * كفاه معـــتزلياً  مقــــترا صــــفدا ؟ !

أيــــزعم القــــدر المحتوم أثبطه ؟ ! * إن قــــال ذاك فــــقد حــل الذي عقدا

أم ليس مستأهلا جدواه صـاحبه ؟ ! * أنى ؟ ! وما جار عن قــصد ولا عندا

أم ليس يمكنــــه مــا يرتضيه له ؟ ! * يكفي أخا من أخ ميسور مــــا وجدا

لا عــــذر فيمــا يريني الرأي أعلمه * للمـرء مثــــلك ألا يــــأتي الســــددا

فواضح من كلامه هذا أنه (معتزلي) وأنه من أهل العدل والتوحيد وهو الاسم الذي تسمى به القدرية لأنهم ينسبون العدل إلى الله فلا يقولون بعقوبة العبد على ذنب قضى له وسبق إليه، ولأنهم يوحدون الله فيقولون :

 إن القرآن من خلقه و ليس قديما مضاهيا له في صفتي الوجود والقدم، وقد اختاروا لأنفسهم هذا الاسم ليردوا به على الذين سموهم القدرية ورووا فيهم الحديث (القدرية مجوس هذه الأمة) فهم يقولون : ما نحن بالقدرية لأن الذين يعتقدون القدر أولى بأن ينسبوا إليه، إنما نحن من أهل العدل والتوحيد لأننا ننزه الله عن الظلم وعن الشريك.

 وواضح كذلك من كلامه أنه يعتقد حرية الانسان فيما يأتي من خير وشر، ويحتج على زميله بهذه الحجة فيقول له : لم لا تثيبني ؟ ! إن قلت : إن القدر يمنعك ؟ ! فقد حللت ما اعتقدت من اختيار الانسان في أفعاله، وإن قلت : إنك لا تريد ؟ ! فقد ظلمت الصداقة وأخللت بالمروءة. وله عدا هذا أبيات صريحة في اعتقاد (الاختيار) وخلق الانسان لأفعاله كقوله :

 

/ صفحة 43 /

لولا صروف الاختيار لأعنقوا * لهوى كما اتثقت جمال قــطار

وقوله :

أنــــى تكون كــــذا وأنـت مخير * متصرف في النقض والإمرار؟!

وقوله :

الخــــير مصنــوع بصانعه * فمتى صنعت الخير أعقبكا

والشــــر مفعـــــول بفاعله * فمتى فعلت الشر أعطــبكا

إلا أنه كان يقول بالقدر في تقسيم الأرزاق وأن :

الــرزق آت بلا مطالبة * سيان مدفوعهُ ومجتذبه

ويقول :

أمــــا رأيت الفــــجاج واسعـــة * والله حيا والرزق مضمونا ؟!؟!

* (قال الأميني) * :

 هذا في الرزق الذي يطلبك لا في الرزق الذي تطلبه كما فصله الحديث، ولا تناقض عند القدرية في هذا، لأنهم يقولون بالاختيار فيما يعاقب عليه الانسان ويثاب لا فيما يناله من الرزق وحظوظ الحياة أما القول بالطبيعتين فأوضح ما يكون في قوله :

فينــــا وفيــــك طبــــيعــة أرضية * تهــــوي بــــنا أبــــدا لشــــر قرار

هبطت بآدم قبــــلنا وبــــزوجــــــه * مــــن جــــنة الفردوس أفضل دار

فتعوضا الدنيا الــــدنية كـــاسمها * مـــن تلكم الجــــنات والأنــــهــــار

بئســــت لعــــمر الله تـــلك طبيعة * حــــرمت أبــــانا قــــرب أكـــــــرم

جار واستأسرت ضعفى بنيه بعده * فهــــم لهــــا أســــرى بغـير إسـار

لكــــنها مـــأسورة مقــــصــــورة * مقهورة السلطــــان فــــي الأحرار

فجسومهم مـــن أجلها تهوي بهم * ونفوسهم تسمــــو سمــــو النـــار

لولا منـازعة الجــــسوم نفوسهم * نفــــزوا بســــورتها مــــن الأقطار

أو قصــــروا فتــــناولوا بأكـــفهم * قــــمر السمــــاء وكـــــل نجم سار

* (قال الأميني) *:

 لقد عزى الكاتب هاهنا إلى المترجم هنات لا مقيل لها في مستوى الحقيقة، ومنشأ ذلك بعده عن علم الأخلاق وعدمه تعقله معنى الشعر، فحبسه

/ صفحة 44 /

منافيا للتوحيد الذي جاء به نبي الاسلام، لكن العارف بأساليب الكلام، العالم بما جبل به الانسان من الغرايز المختلفة لا يكاد يشك في صحة معنى الشعر، وهو يعرب عن إلمام ابن الرومي بالأخلاق، والمتكفل لتفصيل هذه الجملة كتب الأخلاق وما يضاهيها، ولخروج البحث عن موضوع الكتاب ضربنا عنه صفحا.

 قال : وابن الرومي كان مفطورا على التدين لأنه كان مفطورا على التهيب والاعتماد على نصير، وهما منفذان خفيان من منافذ الإيمان والتصديق بالعناية الكبرى في هذا الوجود، ومن ثم كان مؤمنا بالله خوفا من الشك، مقبلا على التسليم بسيطا في تسليمه بساطة من يهرب من القلق ويؤثر السكينة على أي شئ، وبلغ من بساطته أنه كان ينكر على الحكماء الذين يشكون في حفظ أجساد الأتقياء بعد الموت و يحسبونه من فعل الدواء والحنوط، فقال لابن أبي ناظرة حين تذوق بعض الأجساد ليعلم ما فيها من عوامل البقاء :

يا ذائق الموتى ليعلم هل بقوا * بعــــد التقــــادم منهــــم بدواء

بينت عن رعة وصدق أمانـــة * لــــولا اتهامك خــالق الأشياء

أحسبت أن الله ليــــس بقـــادر * أن يجعل الأموات كالاحــياء؟!

وظننت ما شــــاهدت من آياته * بلطيفة من حيلة الحكــــماء؟!

ومات وهو يقول في ساعاته الأخيرة :

ألا أن لقــــــاء اللـــــــ * ـــــــه هول دونه الهول

وما كانت الطير عنده إلا شعبة من ذلك التهيب الديني الغريزي، فهو يتفلسف ويرى الآراء في الدين ولكن في حدود من الشعور لا في حدود من التفكير، ولهذا كان الفنان ولم يكن الفيلسوف.

 * (قال الأميني) * :

 الطيرة ليست من شعب الدين، ولا يركن إليها أي خاضع له وملأ مسامعه قول الصادع به صلى الله عليه وآله وسلم :

 لا طيرة ولا حام. وإنما هي بين ضعف النفس غير المتقوية بنور اليقين والتوكل على الله في ورد وصدر، ولذا كانت شايعة في الجاهلية ونفاها الاسلام.

 قال : وليس من الاجتراء أنه قال بالاختيار ورأى له في الدين رأيا غير ما اصطلح

/ صفحة 45 /

عليه السواد فإنه كان يحيل الذنب على الانسان وينفي الظلم عن القدر في العقاب و الثواب، ويتصور الله على أحسن ما يتصور المتفلسف مثله إلهه؟؟، فكأنما جاءه هذا الرأي من محاباة عالم الغيب لا من الاجتراء عليه، وإنما دفع به إلى رأي المعتزلة مخاوف الشكوك التي كانت تخامره، فلا يستريح حتى يسكن فيها إلى قرار، وينتهي فيها إلى بر الأمان، ولذلك كان يأوي إلى الأصدقاء يكاشفهم بما في صدره ويستعين بهم على تفريج غمته.

ويدمج أسبــــاب المــــودة بـيننا * مـودتــــنا الأبرار مـــن آل هاشم

وإخلاصنا التوحــــيد لله وحـــــده * وتذييبنا ؟ ؟ عن دينه في المقاوم

بمعرفــــة لا يقــــرع الشك بابها * ولا طعـــن ذي طعن عليها بهاجم

وأعـــمالنا التفكير في كل شبهة * بها حجة تعــــيي دهــــاة التـراجم

يبيت كلانا في رضى الله ماحضا * لحجــــته صــــدرا كثير الهماهــم

بيد أن الإيمان شئ وأداء الفرايض الدينية شئ آخر، فقصارى الإيمان عنده أنه يؤمنه بقرب آل البيت وتنزيه ربه والاطمينان إلى عدله ورحمته، ثم يدع له سبيله يلعب ويمرح كلما لذ له اللعب والمرح، ولا أهلا بالصيام إذا قطع عليه ما اشتهى من لذة وأرب.

فـــلا أهلا بمانع كل خير * وأهلا بالطعام وبالشراب

بل لا حرج عليه إذا قضى ليلة في السرور أن يشبهها بليلة المعراج:

رفعتنا السعود فيها إلى الفوز * فكــــانت كليلــــة المعـــــــراج

ذلك أنه كان في تقواه طوع الاحساس الحاضر، كما كان في كل حالة من حالاته يلعب، فلا يبالي أن يتماجن حيث لا يليق مجون، ويستحضر التقوى والخشوع فلا يباريه أحد من المتعبدين، ويخيل إليك أنك تستمع إلى متعبد عاش عمره في الصوامع حين تستمع إليه يقول :

تـــتجــــافى جنوبهم * عن وطئ المضاجع

كــــلهم بين خــــائف * مستجــــير وطــامع

تــــركوا لــذة الكرى * للعــــيون الهـواجع

ورعــوا أنجم الدجى * طالعــــا بعـــد طالع

/ صفحة 46 /

لـــــو تراهم إذا هم * خـــــطروا بالأصابع

وإذا هـــــم تـأوهوا * عـــند مـــر القوارع

وإذا باشروا الثرى * بالخـــدود الضوارع

واستهلت عيونهــم * فائضـــــات المدامع

ودعوا : يا مليكنــا * يا جـــــميل الصنائع

اعف عنا ذنـــــوبنا * للوجــــوه الخواشع

اعف عنا ذنوبــــنا * للعيون الـــــدوامـــع

أنت إن لم يكن لنا * شافع خـــــير شــافع

فأجيبوا إجـــــابــة * لم تقع في المسامع:

ليس ما تصنعونه * أوليـــــائي بــــضائع

أبذلوا لي نفوسكم * إنهـــــا فــــي ودائعي

وله من طراز هذا الشعر الخاشع كثير لا تسمعه من ابن الفارض ولا محيي الدين.

* (قال الأميني) *:  ليس ما ارتئاه ابن الرومي في باب الاختيار نتيجة مخامرة الشبه والشكوك كما يراه (المترجم) وإنما هي وليدة البرهنة الصادقة، وإنه لم يعط القدر حقه محاباة له، لكن الحجج الدامغة ألجأته إلى ذلك، وكذلك ما يقوله في باب الأرزاق فهي تقادير محضة غير أن الانسان كلف بتحري الأسباب الظاهرية جريا على النواميس الإلهية ؟ ؟ المطردة في النظام العالمي الأتم، وهذه مسائل كلامية لا يروقنا الخوض فيها إلا هنالك.

 وأما اعتماد ابن الرومي على العدل والرحمة وتنزيه ربه فهو شأن كل مؤمن بالله عارف بكمال قدسه وصفاته الجلالية، وليس قرب أهل البيت الطاهر عليهم السلام إلا نتيجة مودتهم التي هي أجر الرسالة بنص من الذكر الحكيم، وإنما مثلهم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق، وهم عدل الكتاب وقد خلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بعده وقال :

 ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، فأحر بهم أن يكون القرب منهم مؤمنا للانسان نشأته الأخرى، وأما ما عزاه إليه من مظاهر من المجون فهي معان شعرية لا يؤاخذ بها القائل، وكم للشعراء الاعفاء أمثالها.

/ صفحة 47 /

هجاؤه :

أخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجائين هما أشهر الهجائين في أدب العصور الإسلامية عامة : أحدهما ابن الرومي.

 والآخر دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء و الأمراء وهاجي الناس جميعا ؟ ؟ وقال :

إني لأفتح عيني حين أفتحها * عــلى كثير ولكن لا أرى أحدا

وقد جمع المعري بينهما في بيت واحد وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه فقال :

لو أنصف الدهر هجا أهله * كـــــأنه الرومي أو دعــــبل

وليس للمؤرخ الحديث أن يضيف إسما جديدا إلى هذين الاسمين فإن العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهما في قوة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة، و كلاهما مع هذا نوع فذ في الهجاء يظهر متى قرن بالآخر.

 فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب (لا يهمنا ما ذكره في دعبل ).

 أما ابن الرومي فلم يكن مطبوعا على النفرة من الناس، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الأدب، ولكنه كان فنانا بارعا أوتي ملكة التصوير ولطف التخيل والتوليد وبراعة اللعب بالمعاني والأشكال، فإذا قصد شخصا أو شيئا بهجاء صوب إليه (مصورته) الواعية فإذا ذلك الشئ صورة مهيأة في الشعر تهجو نفسها بنفسها، وتعرض للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع؟؟ الأشكال في المرايا المعقوفة والمحدبة، فكل هجوه تصوير مستحضر لأشكاله، أو لعب بالمعاني على حساب من يستثيره.

 وابن الرومي يسلب مهجوه الفطنة والكياسة والعلم ويلصق به كل عيوب الحضارة التي يجمعها التبذل والتهالك على اللذات، فإذا حذفت من هجوه كل ما أوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة فقد حذفت منه شر ما فيه ولم يبق منه إلا ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.

 وكان لصاحبنا فنا واحدا من الهجاء لا ترتاب في أنه كان يختاره ويكثر منه ولو لم تحمله الحاجة وتلجأه النقمة إليه، ونعني به فن التصوير الهزلي والعبث بالإشكال المضحكة والمناظرة الفكاهية والمشابهات الدقيقة، فهو مطبوع على هذا كما يطبع المصور على نقل ما يراه وإعطاء التصوير حقه من الاتقان والاختراع، و

/ صفحة 48 /

ما نراه كان يقع عنه في شعره ولو بطلت ضروراته وحسنت مع الناس علاقاته، لكن هذا الفن أدخل في التصوير منه في الهجاء، وهو حسنة وليس بسيئة، وقدرة تطلب وليس بخلة تنبذ، وأنت لا يغضبك أن ترى ابنك الذي تهذبه وتهديه ماهرا فيه خبيرا بمغامزه وخوافيه، وإن كان يغضبك أن تراه يشتم المشتوم ويهين المهين، ويهجو من يستهدف غرضه للهجاء، لأنك إذا منعته أن يفطن إلى الصور الهزلية وأن يفتن في إدراك معانيها وتمثيل مشابهاتها ومنعت ملكة فيه أن تنمو وأبيت على حاسته الصادقة فيه أن تصدقه وتفقه ما تقع عليه، أما إذا منعت الهجاء وبواعثه فإنك تمنع خلقا يستغنى عنه، وميلا لا بد له من التقويم.

 ذلك هو فن ابن الرومي الذي لا عذر له منه ولا موجب للاعتذار، فأما ما عدا ذلك من هجاؤه فهو مسوق فيه لا سائق، ومدافع لا مهاجم، ومستثار عن عمد في بعض الأحيان لا مستثير، وإنك لتقرأ له قوله :

ما استب قط اثنان إلا غلبا * شرهـــــما نفـــسا وأما وأبا

فلا تصدق أن قائله هو ابن الرومي هجاء اللغة العربية وقاذف المهجوين بكل نقيصة لكن الواقع هو هذا، والواقع كذلك أنه كان يسكن إلى رشده أحيانا فيتسأم الهجاء ويعافه ويود الخلاص منه حتى لو كان مهجوا معدوا عليه ويعتزم التوبة عن الهجاء مقسما :

آليـــــت لا أهجـــــو طوال * الـــدهر إلا من هجـــــاني

لا بـــــل ســـأطرح الهجاء * وإن رمـــــاني من رماني

أمـــــن الخـــــلايق كلــهم * فليـــــأخذوا منـــــي أماني

حـــــلمي أعــــز علي من * غضبي إذا غضبي عراني

أولـــــى بجـــــهلي بعد ما * مكنـــــت حلمي من عناني

وهذا أشبه بابن الرومي لأنه في صميمه خلق مسالما سهلا، ولم يخلق شريرا مطويا على الشكس والعداوة، بل هو لو كان شريرا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء، أو هو لو كان أكبر شرا لكان أقل هجاء، لأنه كان يأمن من جانب العدوان فلا يقابله بمثله، وما كان الهجاء عنده كما قلنا إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشف عن

/ صفحة 49 /

الكيد والنكاية وما شابههما من ضروب الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتقائه، وكثير من الأشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان، وكثير من الناس يذمون ويتسخطون لأنهم على ذلك مطبوعون.

 ومن قرأ مراثي ابن الرومي في أولاده وأمه وأخيه وزوجته وخالته وبعض أصدقائه علم منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم والأنس بالأصدقاء و الأخوان، فمراثيه هي التي تدل عليه الدلالة المنصفة وليست مدائحه التي كان يميلها الطمع والرغبة أو أهاجيه التي كان يميلها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس، ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار، والأخ الشفيق، والوالد الرحيم، والزوج الودود، والقريب الرؤف، والصديق المحزون، ولا يكون الرجل كذلك ثم يكون مع ذلك شريرا مغلق الفؤاد مطبوعا على الكيد والإيذاء وإذا اختلف القولان بينه وبين أبناء عصره فأحجى بنا أن نصدق كلامه هو في أبناء عصره قبل أن نصدق كلامهم فيه، لأنهم كانوا يستبيحون إيذاءه ويستسهلون الكذب عليه لغرابة أطواره، وتعود الناس أن يصدقوا كل ما يرمى به غريب الأطوار من التهم والأعاجيب، في حين أنه كان يتحاشى عن تلك التهم، ويغفر الاساءة بعد الاساءة مخافة من كثرة الشكاية و علما منه بقلة الانصاف.

أتـــــاني مقــال من أخ فاغتفرته * وإن كـــان فيما دونه وجه معتب

وذكرت نفسي منه عند امتعاضها * محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب

ومثلي رأى الحـــسنى بعين جلية * وأغضى عن العوراء غير مؤنب

فيا هاربا من سخطـنا متـــــنصلا * هـــــربت إلــى أنجى مفر ومهرب

فعــذرك مبســـــوط لدينا مـــــقدم * وودك مقـبول بـــــأهل ومرحـــــب

ولو بلغــــتــني عنك أذني أقمتها * لدي مقـــــام الكـــــاشح المتـــكذب

ولست بتقليـــب اللسان مصارما * خليلي إذا ما القـــــلب لم يتــــــقلب

فالرجل لم يكن شريرا ولا ردئ النفس ولا سريعا إلى النقمة، فلماذا إذن كثر هجاؤه واشتد وقوعه في أعراض مهجويه ؟ ! نظن أنه كان كذلك لأنه كان قليل الحيلة

/ صفحة 50 /

طيب السريرة خاليا من الكيد والمراوغة والدسيسة وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل عصره، فكان مستغرقا في فنه يحسب أن الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرئاسة، لأنه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الكتاب والرواة ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف ويحظون بالزلفى عند الأمراء والخلفاء، وقد كان هو شاعرا كاتبا، وكان خطيبا واسع الرواية مشاركا في المنطق والفلك واللغة، وكل ما تدور عليه ثقافة زمان، أو كما قال المسعودي :

 كان الشعر أقل أدواته..

 وكان الشعر وحده كافيا لجمع المال وبلوغ الآمال، فماذا بعد أن يعرف الناس إنه شاعر وإنه كاتب وإنه راوية مطلع على الفلسفة والنجوم ؟ ! إلا أن تجيه الوزارة ساعية إليه تخطب وده، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون علمه، ولا يبلغون في البلاغة مكانه، ألم يصل ابن الزيات إلى الوزارة بكلمة واحدة فسرها للمعتصم وفصل له تفسيرها وهي كلمة (الكلاء) التي يعرفها عامة الأدباء ؟ ! بلى، وابن الرومي كان يعرف من غرايب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا أدباؤه، فما أولاه إذن بالوزارة ؟ وما أظلم الدنيا ؟ إذ هي ضنت عليه بحقه من المناصب والثراء.

 فإذا لم تكن الوزارة فهل أقل من الكتابة أو العمالة لبعض الوزراء والكتاب المبرزين ؟ ! فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فهل غبن أصعب على النفس من هذا الغبن ؟ ! وهل تقصير من الزمان ألام من هذا التقصير ؟ ! ونبوءة أبيه ورجاؤه في مستقبله وقوله:

 (أنت للشرف) أيذهب هذا كله هباء لا يقبض منه اليدين على شئ ؟ ! تلك النبوءات التي تنطبع على أفئدة الصغار بمثل النار، ولا تزال غرارة الطفولة وأحلام الصبا تزخرفها وتوشيها وتعمق في الضمير أغوارها، أيأتي الشباب وهي محو لغو مطموس لا يبين أولا يبين منه إلا ما ينقلب إلى الأضداد وتترجمه الأيام بالسقم والفقر والكساد ؟ ! وكيف يمحى ؟ ! إلا وقد محى القلب الذي طبعت فيه، وكيف ينعكس معناه ؟ ! إلا وقد انعكس في القلب كل قائم والتوى فيه كل قويم، ذلك صعب على النفوس وليس بالسهل إلا على من يلهو به وهو بعيد. وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرة بعد مرة ويوما بعد يوم :

مالي أسل من القراب وأغمد؟! * لم لا أجرد ؟ ! والسيوف تجــرد

/ صفحة 51 /

لم لا أجرب في الضرائب مرة * يا للرجـــال وأنــــني لمهنــد؟!

ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله، لأنه لم يكن يدري أن فضائله كلها لا تساوي فتيلا بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين الناس، وإن الحيلة وحدها قد تغني عن فضائله جميعا ولو كان صاحبها لا ينظم شعرا، ولا ينظر في كتب الفلسفة و الرواية والنجوم.

 حسن إذن تدع الوزارة والولاية والعمالة بعد يأس مضيض يسهل علينا هنا أن نسطره في كلمة عابرة ولكنه لا يسهل على من يعالجه ويشفي بمحنته في ساعة من ساعات حياته، ندع الوزارة والولاية والعمالة ونقنع بالمثوبة من الوزراء والولاة والعمال إن كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون ؟ !. لا.

 لأن الحيلة لازمة في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كل غرض من أغراض المعاش ولا سيما في ذلك الزمان الذي شاعت فيه الفتن والسعايات، وما كانت تنقضي منه سنة واحدة بغير مكيدة خبيئة تؤدي بحياة خليفة أو أمير أو وزير، وربما كانت مصانعة الحجاب والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان و اللعب بمغامز النفوس الخفية وإضحاك هؤلاء، وهؤلاء، أجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة شعره وغزارة علمه.

 وبسط الكلام في الموضوع إلى ص 235 فقال :

 هو وشعراء عصره :

عاصر ابن الرومي في بيئته كثير من الشعراء أشهرهم في عالم الشعر الحسين بن الضحاك، ودعبل الخزاعي، والبحتري، وعلي بن الجهم، وابن المعتز، وأبو عثمان الناجم.

 وليس لهؤلاء ولا لغيرهم ممن عاصروه وعرفوه أو لم يعرفوه أثر يذكر في تكوينه غير اثنين فيما نظن هما : الحسين بن الضحاك، ودعبل الخزاعي

* (قال الأميني) *

 وكان بين ابن الرومي والشاعر المفلق ابن الحاجب محمد بن أحمد صلة ومودة وجرت بينهما نوادر منها : أن ابن الحاجب سأله ابن الرومي زيارته في يوم معلوم فصاروا إليه فلم يجدوه فقال ابن الرومي فيه شعرا أوله :

 

/ صفحة 52 /

نجاك يا بن الحاجب الحاجب * وليـــــس ينـجو مني الهارب

وأجابه ابن الحاجب بأبيات توجد في معجم المرزباني 453.

 قال : فكان ابن الرومي معجبا بالحسين بن الضحاك يروي شعره ويستملح أخباره ويذكرها لأصحابه، وكان ابن الرومي يافعا يحضر مجالس الأدب ويتلقى دروسه و الحسين في أوج شهرته يتناشد أشعاره أدباء الكوفة وبغداد ومدن العراق (ثم ذكر بعض ما رواه ابن الرومي من شعر ابن الضحاك نقلا عن الأغاني) فقال :

 وقد مات الحسين بن الضحاك وابن الرومي في التاسعة والعشرين ولم نر في تاريخه ولا في تاريخ الحسين ما يشير إلى تلاقيهما في بغداد حيث عاش ابن الرومي معظم حياته، أو في غير بغداد حيث كان يرحل ابن الضحاك.

 أما دعبل فابن الرومي عارضه في موضعين أحدهما القصيدة الطائية التي نظمها دعبل حين اتهم خالدا بسرقة ديكه وإطعامه لضيوفه وقال في مطلعها :

أســـــر المــؤذن خالد وضيوفه * أسر الكمي هفا خلال الماقط(1)

ولآخر في قصيدة لدعبل مطلعها :

أتيت ابن عمرو فصادفته * مريـــض الخلايق ملتائها

وكان دعبل فيما عدا ذلك متشيعا لآل علي غاليا في تشيعه (2) فجذب ذلك كله نفس ابن الرومي الفتى نحوه وحبب إليه محاكاته ومجاراته، وربما كانت الرغبة في مجاراته إحدى دواعيه إلى الهجاء، ومات دعبل وابن الرومي في الخامسة والعشرين ولا نعلم أنهما تعارفا أو كان بينهما لقاء.

 وأما البحتري وأبو عثمان الناجم فالثابت أن ابن الرومي كان على معرفة و صحبة معهما، عرف البحتري في بيت الناجم وكان هذا صديقا له بقي على صداقته إلى يوم موته.

 * (قال الأميني) * لابن الرومي قصيدة في البحتري وأدبه وشعره توجد منها أبيات في ثمار القلوب للثعالبي ص 200 و 342.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  (1) راجع من كتابنا ج 2 ص 379 ط ثاني.

 (2) عزو باطل لا يشوه به قدس تشيع مثل دعبل.

 

/ صفحة 53 /

وأما علي بن الجهم المتوفى 249 فقد كان بينه وبين ابن الرومي برزخ واسع من اختلاف المذهب في الدين والشعر، فابن الرومي متشيع، وابن الجهم ناصب يذم عليا وآله (ولا يلتقي الشيعي والناصب) كما يقول ابن الرومي.

 وكان ابن الجهم شديد النقمة على المعتزلة وعلى أهل العدل والتوحيد منهم خاصة يهجوهم ويدس لهم ويقول في زعيمهم أحمد بن أبي داود :

مــا هذه البدع التي سميتها * بالجهل منك العدل والتوحيدا

وابن الرومي كما مربك من هذه الجماعة، فمذهبه في الدين ينفره ابن الجهم ولا يرغبه في مجاراته، ولو تشابها فيما عدا ذلك من المزاح والنزعة، لقد يهون هذا الفارق ويسهل على ابن الرومي الإغضاء عنه، وهو ناشئ يتلمس القدوة، ويخطو في سبيل الشهرة، ولكنك تقره شعر ابن الجهم في فخره ومزاحه فيخيل إليك أنك تقرأ كلام جندي يتنفج أو يعربد لخلوه من كل عاطفة غير عواطف الجند يقضون أوقاتهم بين الفجر و الضجيج واللهو والسكر، وليس بين هذه الطبيعة وطبيعة ابن الرومي مسرب للقدوة أو للمقاربة في الميل والاحساس.

 وأما ابن المعتز فقد ولد في سنة سبع وأربعين ومأتين فلما أيفع وبلغ السن التي يقول فيها الشعر كان ابن الرومي قد جاوز الأربعين أو ضرب في حدود الخمسين، ولما بلغ واشتهر له كلام يروى في مجالس الأدباء كان ابن الرومي قد أوفى على الستين وفرغ من التعلم والاقتباس، ولو انعكس الأمر وكان ابن المعتز هو السابق في الميلاد لما أخذ منه ابن الرومي شيئا، أو لكان أفسده سليقته بالأخذ عنه، لأن ابن المعتز إنما امتاز بين شعراء بغداد في عصره بمزاياه الثلاث وهي : البديع. والتوشيح. والتشبيه بالتحف والنفائس. وابن الرومي لم يرزق نصيبا معدودا من هذه المزايا ولم يكن قط من أصحاب البديع أو أصحاب التشبيهات التي تدور على الزخرف، وتستفيد نفاستها من نفاسة المشبهات.

 تاريخ وفاته :

قال ابن خلكان: توفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث و

/ صفحة 54 /

ثمانين. وقيل : وسبعين ومأتين ودفن في مقبرة باب البستان.

 والذين جاؤا بعد ابن خلكان تابعوه في هذا الشك ولا مسوغ لهذا الشك بأمور (1) الأول قوله :

طربت ولم تطرب على حين مطرب * وكيـف التصابي بابن ستين أشيب؟!

فبملاحظة تاريخ ولادته المتسالم عليه بين أرباب المعاجم يوافق ستين مع سنة 281 فهو لم يمت في سنة 276 على التحقيق.

 ولا يظن أن الستين هنا تقريبية لضرورة الشعر فإنه ذكر الخمس والخمسين في موضع آخر حيث قال.

كبرت وفي خمس وخمسين مكبر * وشبت فألحاظ المها عنك نفر (2)

الثاني : ما في مروج الذهب (ج 2 ص 488) للمسعودي من أن قطر الندى بنت خمارويه وصلت إلى مدينة السلام ابن الجصاص في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ففي ذلك يقول ابن الرومي.

يا سيد العرب الذي زفت له * باليمن والبركات سيدة العجم

 (قال الأميني) * قال الطبري في تاريخه 11 ص 345 : كان دخولهم بغداد يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم سنة 282.

 الثالث : مقطوعاته التي نظمها الشاعر في العرس الذي احتفل به الخليفة سنة اثنتين وثمانين.

 * (قال الأميني) * ومما ينفي الشك عن عدم وقوع وفاة المترجم سنة 270 قصيدته التي يمدح بها المعتضد بالله أبا العباس أحمد في أيام خلافته وقد بويع له في شهر رجب بعد عمه المعتمد سنة 279 قال فيها :

هنيـــــئا بني العـباس إن إمامكم * إمام الهدى والبأس والجود أحمد

كمـــــا بأبي العباس أنشئ ملككم * كـــــذا بأبي العــــــباس أيضا يجدد

قال العقاد : وأما التاريخين الآخرين :

 أي سنة ثلاث وأربع وثمانين فعندنا تاريخ اليوم والشهر من أولاهما وليس عندنا مثل ذلك من الثانية وهذا مما يرجح وفاته في سنة ثلاث وثمانين دون أربع وثمانين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نحن نذكر ملخصها.

(2) ذكر الخمس والخمسين في هذا البيت لا ينافي تقريبية الستين في سابقه.

 

/ صفحة 55 /

* (قال الأميني) * لم نعرف وجه الترجيح يذكر تاريخ اليوم والشهر لمجرده مع قطع النظر عما ذكره بعد من مضاهاة التاريخ بقوله :

 ويقوي هذا الترجيح أن مضاهاة التواريخ تثبت لنا أن جمادي الأخرى من سنة ثلاث وثمانين بدأت يوم جمعة فيكون يوم الأربعاء قد جاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى في تلك السنة كما جاء في تاريخ الوفاة، وقد ضاهينا هذا اليوم على التاريخ الأفرنجي فوجدناه يوافق الرابع عشر من شهر يونيو، أي يوافق أبان الصيف في العراق، وابن الرومي مات في الصيف كما يؤخذ من قول الناجم أنه دخل عليه في مرضه الذي مات فيه وبين يديه ماء مثلوج فيجوز لنا على هذا أن نجزم بأن أصح التواريخ الأول و هو : يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادي الأولى سنة ثلاث وثمانين.

 شهادته :

الأقوال بعد ذلك مجمعة على موت ابن الرومي بالسم وأن الذي سمه هو القاسم بن عبيد الله أو أبوه قال ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج 1 ص 386) :

 إن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه و فلتات لسانه بالفحش فدس عليه ابن فراش فأطعمه خشكنامجه مسمومة وهو في مجلسه فلما أكلها أحس بالسم فقام فقال له الوزير :

 إلى أين تذهب ؟ ! فقال : إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال له : سلم على والدي. فقال له : ما طريقي على النار.

 وقال الشريف المرتضى في أماليه (ج 2 ص 101) : إنه قد اتصل بعبيد الله ابن سليمان بن وهب أمر علي بن العباس الرومي وكثرة مجالسته لأبي الحسين القاسم فقال لأبي الحسين : قد أحببت أن أرى ابن روميك هذا فدخل يوما عبيد الله إلى أبي الحسين وابن الرومي عنده فاستنشده من شعره فأنشده وخاطبه فرآه مضطرب العقل جاهلا فقال لأبي الحسين بينه وبينه :

 إن لسان هذا أطول من عقله، ومن هذه صورته لا تؤمن عقار به عند أول عتب ولا يفكر في عاقبته، فأخرجه عنك.

 فقال : أخاف حينئذ أن يعلن ما يكتمه في دولتنا ويذيعه في تمكننا. فقال : يا بني ؟ إني لم أرد بإخراجك له طرده فاستعمل فيه بيت أبي حية النميري :

 

/ صفحة 56 /

فقلن لها سرا : فديناك لا يرح * سليمـــــا، وإلا تقـتليه فألممي

فحدث القاسم بن فراس بما جرى وكان أعدى الناس لابن الرومي وقد هجاه بأهاج قبيحة فقال له : الوزير أعزه الله أشار بأن يغتال حتى يستراح منه وأنا أكفيك ذلك. فسمه في الخشكنانج فمات. قال الباقطاني : والناس يقولون : ما قتله ابن فراس وإنما قتله عبيد الله.

 ثم ضعف الرواية الأولى بأن عبيد الله بن سليمان مات سنة 288 بعد وفات ابن الرومي فلا معنى لقول القاسم له :

 سلم على والدي. ووالده بقيد الحياة .

 واستشكل في الرواية الثانية بأن عبيد الله كانت له سوابق معرفة مع ابن الرومي فلا يتم ما فيها من طلبه رؤيته.

 وأنت ترى أن التضعيف الثاني ليس في محله إذ الرؤية المطلوبة لعبيد الله كما يظهر من نفس الرواية رؤية اختبار لا مجرد رؤية حتى تنافي التعارف والاجتماع قبلها، فيحتمل عندئذ أن عبيد الله هو القائل : سلم على والدي. لا ابنه، والله العالم.