عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي

 

فصل في أحكام البغاة على أمير المؤمنين عليه السلام

 

الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 226 - 231

ظاهر مذهب الإمامية أن الخارج على أمير المؤمنين عليه السلام والمقاتل له كافر، بدليل إجماع الفرقة المحقة على ذلك، وإجماعهم حجة لكون المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ داخلا فيهم، وأن المحاربين له كانوا منكرين لإمامته ودافعين لها، ودفع الإمامة عندهم وجحدها كدفع النبوة وجحدها سواء، بدلالة قوله صلى الله عليه وآله "من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية".

وروي عنه عليه السلام أنه قال لعلي: "حربك يا علي حربي وسلمك سلمي" وحرب النبي كفر بلا خلاف، فينبغي أن يكون حرب علي مثله، لأنه عليه السلام أراد حكم حربي، وإلا فمحال أن يريد أن نفس حربك حربي لأن المعلوم خلافه.

فإن قيل: لو كان ذلك كفر لا جري عليهم أحكام الكفر من منع الموارثة والمدافنة والصلاة عليهم وأخذ الغنيمة واتباع المدبر والإجازة على المجروح والمعلوم أنه عليه السلام لم يجر ذلك عليهم، فكيف يكون كفرا.

قلنا: أحكام الكفر مختلفة كحكم الحربي والمعاهد والذمي والوثني، فمنهم من تقبل منهم الجزية ويقرون على دينهم، ومنهم من لا يقبل، ومنهم من يناكح وتؤكل ذبيحته ومنهم من لا تؤكل عند المخالف. ولا يمتنع أن يكون من كان متظاهرا بالشهادتين وأن حكم بكفره حكمه مخالف لأحكام الكفار، كما تقول المعتزلة في المجبرة والمشبهة وغيرهم من الفرق الذين يحكمون بكفرهم وإن لم تجر هذه الأحكام عليهم، فبطل ما قالوه.

فأما من خالف الإمامة فمنهم: من يحكم عليهم بالفسق، ومنهم من يقول هو خطأ مغفور، ومنهم من يقول إنهم مجتهدون وكل مجتهد مصيب.

فمن حكم بفسقهم من المعتزلة وغيرهم منهم من يدعي توبة القوم ورجوعهم. ونحن نبين فساد قولهم.

والذي يدل على بطلان ما يدعونه من التوبة أن الفسق معلوم ضرورة، وما يدعونه من التوبة طريقه الآحاد، ولا نرجع عن المعلوم إلى المظنون.

وأيضا فكتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أهل الكوفة والمدينة بالفتح يتضمن فسق القوم وأنهم قتلوا على خطاياهم وأنهم قتلوا على النكث والبغي، ومن مات تائبا لا يوصف بذلك، والكتب معروفة في كتب السير.

وروي أيضا أنه لما جاءه ابن جرموز برأس الزبير وسيفه تناول سيفه وقال عليه السلام: "سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ولكن الحين ومصارع السوء".

ومن كان تائبا لا يوصف مصرعه بأنه مصرع سوء.

وروى حبة العرني قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: "والله لقد علمت صاحبة الهودج أن أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبي الأمي وقد خاب من افترى".

وروى البلاذري بإسناده إلى جويرة بن أسماء قال بلغني أن الزبير لما ولى اعترضه عمار بن ياسر وقال: "أبا عبد الله والله ما أنت بجبان ولكني أحسبك شككت. فقال: هو ذاك".

والشك خلاف التوبة، لأنه لو كان تائبا لقال تحققت أن صاحبك على الحق وأنا على الباطل، وأي توبة لشاك.

وأما طلحة فقتل بين الصفين، متى تاب، وكتاب أمير المؤمنين عليه السلام يدل على إصراره.

وروي عنه أنه قال حين يجود بنفسه. "ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي" وذلك دليل الاصرار.

وروي عن علي عليه السلام أنه مر عليه وهو مقتول "فقال: أقعدوه، فأقعدوه فقال: كانت سابقة ولكن الشيطان دخل منخرك وأوردك النار".

وأما إصرار عائشة فكتاب أمير المؤمنين عليه السلام وما روي من المحاورة بين عبد الله بن العباس وبينها وامتناعها من تسميته بأمرة المؤمنين دليل واضح على الاصرار.

وروى الواقدي أن عمارا دخل عليها وقال: "كيف رأيت ضرب بنيك على الحق. فقالت: استبصرت من أجل أنك غلبت. فقال: أنا أشد استبصارا من ذلك، والله لو ضربتمونا حتى تبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنكم على الباطل. فقالت عائشة: هكذا يخيل إليك، اتق الله يا عمار أذهبت دينك لابن أبي طالب".

وروى الطبري في تاريخه أنه لما انتهى قتل أمير المؤمنين عليه السلام إلى عائشة قالت:

فألقت عصاها واستقر بها النوى       كما قر عينا بالإياب المسافر

ثم قالت:من قتله؟ فقيل: رجل من مراد. فقالت:

فإن يك تائبا فلقد نعاه       غلام ليس في فيه تراب

وهذا كله صريح بالاصرار وفقد التوبة.

وروي عن ابن عباس أنه قال لأمير المؤمنين عليه السلام حين أبت عائشة الرجوع إلى المدينة: دعها في البصرة ولا ترحلها. فقال عليه السلام: "إنها لا تألو شرا ولكني أردها إلى بيتها".

وروى محمد بن إسحاق أنها وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة لم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين عليه السلام، وكتبت إلى معاوية وأهل الشام مع الأسود بن البحتري تحرضهم عليه.

ونظائر ذلك كثيرة ذكرنا منها في كتاب تلخيص الشافي لا نطول بذكره ههنا، فأي توبة مع ما ذكرناه.

وأما من نفى عنهم الفسق فما قدمناه من الأدلة يفسد قولهم. وما تدعيه المعتزلة من الأخبار في توبة طلحة والزبير وعائشة فهي كلها أخبار آحاد لا يلتفت إليها، وليس أيضا فيها تصريح بالتوبة.

وأدل الدليل على عدم التوبة أنهم لو تابوا لسارعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام والدخول في عسكره والجهاد معه.

فمما تعلقوا به رجوع الزبير عن الحرب، ونفس الرجوع ليس بدليل التوبة لأنه يحتمل غير التوبة، وقد قيل إنه لما لاحت له أمارات الظفر لأمير المؤمنين عليه السلام وأيس من الظفر رجع، وقال قوم إنه رجع ليتوجه إلى معاوية.

وقيل: إنه لما انصرف وبخه ابنه فقال: حلفت ألا أقاتله. فقال: كفر عن يمينك، فأعتق مملوكا له ورجع إلى القتال.

وما روي من قوله "ما كان من أمر قط إلا عرفت أين أضع قدمي إلا هذا الأمر فإني لا أدري أمقبل أنا أم مدبر" فليس فيه دليل التوبة، بل هو صريح في الشك المنافي للتوبة.

وما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال "بشر قاتل ابن صفية بالنار" لا يدل على توبته أيضا، لأنه يجوز أن يستحق قاتله النار لأمر سوى قتله، كما قال النبي صلى الله عليه وآله لقرمان رجل قاتل الكفار يوم أحد وأبلي معه صلى الله عليه وآله "قرمان رجل من أهل النار" لعله أحرى.

وقيل السبب في ذلك أن ابن جرموز خرج مع الخوارج يوم النهروان فقتل في جملتهم.

وما روي عن طلحة أنه قال حين أصابه السهم:

ندمت ندامة الكسعى لما       رأت عيناه ما فعلت يداه

لا يدل أيضا على التوبة بل يدل على عدمها، لأنه جعل ندامته غير نافعة له كما أن ندامة الكسعى لم تنفعه، وقصته في ذلك مشهورة. وقوله حين يجود بنفسه "اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى" دليل الاصرار أيضا، لأنه أقر بأنه سبب قتل عثمان وكان ينسبه إلى علي عليه السلام، وذلك خلاف ما أقربه على نفسه.

وما يروى من حديث البشارة أن النبي صلى الله عليه وآله قال "عشرة من أصحابي في الجنة وطلحة والزبير منهم" لا يدل على توبتهم أيضا، لأنه خبر واحد ضعيف مقدح في سنده. وأدل دليل على فساده أن النبي عليه السلام لا يجوز أن يقول لمن ليس بمعصوم "أنت في الجنة لا محالة" لأن في ذلك إغراء بالقبيح. وقيل: إن راويه سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة، فلا يقبل خبره لأنه يشهد لنفسه.

فأما ما روي من بكاء عائشة وتلهفها وتمنيها أنها كانت مدرة أو شجرة وقولها "لئلا أكون شهدت ذلك اليوم أحب إلي من أن يكون لي من رسول الله صلى الله عليه وآله عشرة أولاد كعبد الرحمن بن الحارث بن هشام" لا يدل على التوبة، لأن مثل ذلك قد يقوله من ليس بتائب كما حكى الله عن مريم "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا".

وقد يقول مثل هذا من أراد أمرا لم يبلغه وفاته غرضه ويتحسر عليه فيتمنى الموت عند ذلك ويود أنه لم يتعرض له لئلا يشمت به، ولا يدل جميع ذلك على التوبة.

واستيفاء ذلك ذكرناه في غير موضع.