عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي

 

فصل في الكلام في الوعد والوعيد وما يتصل بهما

 

· الوعد عبارة عن الإخبار بوصول نفع إلى الموعود له والوعيد عبارة عن الإخبار بوصول ضرر إليه والمستحق بالافعال ستة أشياء مدح وذم وثواب وعقاب وشكر وعوض

· المدح عبارة عن القول المتضمن لعظم حال الممدوح

· الذم هو القول المنبي عن اتضاع حال المذموم

· الثواب هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والاجلال

· العقاب هو الضرر المستحق

· الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم

· العوض هو النفع المستحق الخالي من تعظيم وتبجيل

الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 107 - 135

الوعد عبارة عن الإخبار بوصول نفع إلى الموعود له، والوعيد عبارة عن الإخبار بوصول ضرر إليه. والمستحق بالافعال ستة أشياء مدح وذم وثواب وعقاب وشكر وعوض.

فالمدح عبارة عن القول المتضمن لعظم حال الممدوح، ولا يصير مدحا إلا بثلاثة شروط: أحدها أن يقصد به التعظيم، وثانيها أن يكون اللفظ موضوعا للتعظيم في تلك اللغة، وثالثها أن يكون عالما بعظم حال الممدوح.

والظن والاعتقاد لا يقوم [مقام العلم في ذلك، لأن المدح لا يكون إلا مستحقا ولا يصح] ذلك إلا مع العلم بالإعظام، إما بأن يكون ثابتا نحو من يمدحه ويعلم من حاله ما يقتضي تعظيمه نحو الأنبياء والمعصومين، أو يكون مشروطا كمدح من غاب عنا بشرط بقائه على الحال الموجبة لتعظيمه.

والفعل لا يسمى مدحا حقيقة ويجوز أن يسمى بذلك مجازا. والتعظيم يدخل في القول والفعل حقيقة كقيام الإنسان لغيره مع القصد إلى تعظيمه أو تقبيل رأسه. والمدح لا يكون إلا خبرا يحتمل الصدق أو الكذب: كقولك فلان عالم فاضل مع القصد إلى تعظيمه.

والذم هو القول المنبي عن اتضاع حال المذموم وشروط كونه ذما مثل شروط المدح سواء من القصد إلى ذلك والعلم بحاله وإن كان اللفظ موضوعا له، وما يرجع إلى الفعل يسمى ذما مجازا. والاستخفاف والإهانة يكونان بالقول والفعل، لأن من لا يقوم لمن يجب أن يقام له يسمى مستخفا به.

والثواب هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والاجلال، فبكونه نفعا يتميز مما ليس بنفع، وبكونه مستحقا يتميز من التفضل، وبمقارنة التعظيم والتبجيل يتميز من العوض.

والعقاب هو الضرر المستحق، ومن شروطه أن يقارنه استخفاف وإهانة، فبكونه ضررا يتميز من النفع، وكونه مستحقا يتميز من الألم الذي يفعل لمصلحة، ويتميز أيضا بمقارنة الاستخفاف له والإهانة له.

والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، ولا يكون كذلك إلا بالقصد. والشكر حقيقة ما يرجع إلى اللسان، وقد يسمى ما يرجع إلى القلب من التفرقة بين المحسن والمسئ شكرا، وهو مجاز.

والعوض هو النفع المستحق الخالي من تعظيم وتبجيل، فبكونه نفعا يتميز من الألم، وبكونه مستحقا من النفع المتفضل به، وبكونه خاليا من تعظيم وتبجيل يتميز من الثواب على ما بيناه. ويستحق المدح بفعل الواجب والندب وبالامتناع من القبيح وبإسقاط الحقوق المستحقة كإسقاط العقاب من الله تعالى، وكذلك من أسقط دينه عن غيره استحق المدح.

ولا يستحق المدح إلا بهذه الأربعة أشياء، لأن فعل المباح والقبيح لا مدخل له في استحقاق المدح. ولا يستحق المدح بفعل الواجب إلا إذا فعل لوجه وجوبه أو لوجوبه، لأنه لو فعله ساهيا لما استحق المدح، ولو فعله اتباعا للشهوة لما استحق عليه المدح أيضا. والندب لا يستحق به المدح إلا إذا فعل لكونه ندبا، ومتى فعل لنفع عاجل أو شهوة لم يستحق المدح.

فعلى هذا لا يصح فعل الواجب والندب على الوجه الذي يستحق به المدح إلا ممن كان عالما بوجوبه أو وجه وجوبه وبكونه ندبا أو وجه كونه ندبا. والقبيح لا يستحق المدح بتركه إلا إذا كان تركه لكونه قبيحا، ولا بد من أن يكون عالما بالقبيح أو وجه القبيح حتى يصح منه تركه لذلك.

وكلما يستحق به المدح يستحق به الثواب، بشرط حصول المشقة فيه أو في سببه أو ما يتصل به، لأن الواطي لزوجته يستحق المدح والثواب، وإن كان فعل لذة لكن قصر النفس عليه والتزام النفقة والمؤنة عليه فيه مشقة.

ولولا المشقة لجاز أن يستحق المدح والثواب على فعل اللذات والمنافع، والمعلوم خلافه. وأيضا لو لم يعتبر حصول المشقة في استحقاق الثواب للزم أن يستحق القديم تعالى الثواب إذا فعل الواجب أو التفضل ولم يفعل القبيح، وذلك باطل.

والدليل على أن الفعل الشاق من الواجب والندب يستحق به الثواب هو أنه لا فرق في العقول بين الالزام المشاق وبين إدخال المضار، فلما كان إلزام المضار لم يحسن إلا للنفع ولا بد في ذلك النفع من أن يكون عظيما وافرا حتى يحسن إلزام المشاق لأجله ولا يجوز أن يكون ذلك النفع مدحا ولا عوضا لأن نفس المدح ليس بنفع وإنما ينتفع بالسرور الذي يتبعه، وما يتبعه من السرور لا يبلغ الحد الذي مقابل ما في فعل الواجب والامتناع من القبح من المشاق العظيمة، وذلك معلوم ضرورة. على أن السرور هو اعتقاد وصول المنافع إليه في المستقبل، سواء كان علما أو ظنا أو اعتقادا، ومتى رفعنا المنافع عن أوهامنا فلا سرور يعقل.

وأما العوض هو خال من تعظيم وتبجيل، ويحسن الابتداء بمثله، ومن حق ما يستحق على الطاعة أو يقارنه التعظيم، على أن من حق العوض أن يستحق بفعله من يستحق عليه العوض.

وهذا لا يصح ههنا، لأن الطاعة من فعلنا والثواب يستحق عليه تعالى. ولا يجوز أن يكون المستحق عوضا، وإذا كان الملزم للواجب وجاعله شاقا هو الله تعالى وجب أن يستحق الثواب عليه دون غيره.

وإذا ثبت استحقاق الثواب فليس في العقل ما يدل على أنه يستحق دائما، وإنما يرجع في ذلك إلى السمع، وأجمعت الأمة على أن الثواب يستحق دائما لا خلاف بينهم فيه. وكل دليل يستدل به على دوام الثواب عقلا فهو معترض، قد ذكرنا الاعتراض عليه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا. وجملته أنهم قالوا الثواب يستحق بما يستحق به المدح، وإذا كان المدح يستحق دائما وجب في الثواب مثله. وقوى ذلك بأن قالوا ما أزال المدح أزال الثواب، فدل على أن جهة الاستحقاق واحدة، فإذا كان أحدهما دائما وجب أن يكون الآخر مثله.

وهذا غير صحيح، لأنا لا نسلم أن جهة الاستحقاقين واحدة. ألا ترى أن القديم يستحق المدح بفعل الواجب والتفضل وإن لم يستحق الثواب، ولو فعل أحدنا الواجب على وجه لا يشق عليه لاستحق المدح وإن لم يستحق الثواب، أن الثواب يستحق بالمشقة والمدح يستحق بوجه الوجوب، فكيف يستحقان على وجه واحد.

ومتى قيل المشقة شرط والوجه هو كونه واجبا أو ندبا، قيل بعكس ذلك ولقائل أن يقول: الوجه هو المشقة وكونه واجبا شرط.

ثم يقال: ولم إذا تساويا في الشرط والوجه وجب أن يتساويا في الدوام، لأنه إذا جاز أن يتساويا في هذين مع اختلافهما في الجنس جاز أن يختلفا أيضا في الدوام والانقطاع.

وقولهم (ما أزال أحدهما أزال الآخر) لا نسلمه، لأن عندنا لا يزيل ما يستحق منها شئ على وجه على ما نبينه في بطلان التحابط. وهذا أقوى دليل استدلوا به، وما عداه من أدلتهم ذكرناها بحيث أومأنا إليه لا نطول بذكره ههنا.

وأما الذم فإنه يستحق بفعل القبيح والاخلال بالواجب، لأن ما عدا ذلك من أفعال المكلف من الواجب والندب والمباح لا يستحق به ذم على حال. ولا يستحق فاعل القبيح والمخل بالواجب الذم إلا بعد أن يكون متمكنا من التحرز منه، بأن يكون عالما بقبح القبيح ووجوب الواجب، أو متمكنا من العلم بقبحه. وفي الناس من قال لا يستحق الذم إلا على فعل، وادعوا أن من أخل بواجب لا بد أن يكون فاعلا لترك قبيح يستحق به الذم، لأنهم حدوا الواجب بأنه ما له ترك قبيح.

وهذا غير صحيح، لأن حد الواجب هو ما يستحق بالاخلال به الذم على بعض الوجوه، لأن قبح الترك تابع لوجوب الوجوب فوجوب الواجب هو الأصل.

وما ذكروه يؤدي إلى أن يتعلق وجوبه بقبح تركه وقبح تركه يتعلق بوجوبه وفي ذلك تعلق كل واحد منهما بصاحبه. على أن في الواجبات ما لا ترك له أصلا. ولا يدخل الترك أيضا في فعل الله تعالى وإن كان الوجوب يدخلها. على أنه قد يعلم الواجب واجبا من لا يعلم أن له تركا قبيحا، لأنا نعلم وجوب رد الوديعة على من طولب بها ومتى لم يردها استحق الذم مع التمكن وإن لم يعلم أنه فعل تركا، وإن علمناه أنه فاعل ترك علمناه بدليل وكان يجب أن من لا يعلم أنه فعل الترك أن لا يذمه، والمعلوم خلافه.

وللترك والمتروك له شروط: منها أن يكون القادر عليها واحدا والوقت الذي يفعلان فيه واحدا، أو يكونا مفعولين بالقدرة ويكونا ضدين مبتدأين. وذلك أن تقول حد الترك ما ابتدئ بالقدرة بدلا من ضد له يصح ابتداؤه على هذا الوجه.

فيكون قولنا (بدلا من ضده) مغنيا عن أن نشرط فيه كون الوقت واحدا لأن مع تغاير الوقت لا يوصف بالبدل، لأن الفعل الواقع في وقت لا يمنع من وقوع فعل في وقت آخر وإن تضادا، ومن شأن الترك والمتروك أن لا يدخلا في الوجود.

وقولنا (ابتدئ بالقدرة) يغني عن شرط أن يكون مباشرا، لأنه لا يبتدئ بالقدرة إلا المباشر، وأغنانا عن أن نقول ما ابتدئ بالقدرة في محلها، لأن القدرة لا يبتدئ بها الفعل إلا في محلها، وأغنى ذلك عن أن نقول والمحل واحد، لأن قولنا بدل لا يصح إلا والمحل واحد والجملة واحدة، فما يتضاد على المحل فكالأكوان والألوان، وما يتضاد على الحي فكالإرادة والكراهة، لأن أحدنا لو فعل إرادة في جزء من قلبه لكانت بدلا من ضدها من الكراهة وتركا لها وإن كانت في محل آخر من أخرى القلب. ولا اعتبار بأن تكون القدرة واحدة على الترك والمتروك، لأنا قلنا ما ابتدئ بالقدرة ولم نقل بقدرة واحدة، لأن القدرة التي يفعل بها الإرادة في جزء [من قلبه غير القدرة التي يفعل بها الكراهة في جزء آخر] من القلب وإن كانت الإرادة تركا للكراهة.

وعلى هذا التقدير لا يدخل الترك في أفعال الله تعالى، لأنا شرطنا فيه الابتداء بالقدرة. ولا يدخل أيضا فيه المتولدات، لأنا شرطنا في الترك والمتروك أن يكونا مبتدأين.

ويدل أيضا على أن الاخلال بالواجب يستحق به الذم أن العقلاء يذمون من لم يفعل الواجب مع التمكن وإن لم يعلموا أنه فعل تركا له، فيجب أن يكون ذلك كافيا في حسن الذم، لأن العلم بحسن الشيء أو قبحه تابع للعلم بماله حسن أو قبح جملة أو تفصيلا فلولا أن كونه غير راد الوديعة جهة يستحق بها الذم لما حسن ذمه عند العلم بما ذكرناه، ولو وجب أن يكونا عالمين بحسن الذم وإن لم يعلم جهته، وذلك باطل نبين ذلك أنا إذا علمناه فاعلا لقبيح وجه يستحق به الذم وكذلك في كونه مخلا بواجب سواء.

ويدل أيضا على ذلك أنه يحسن من كل عاقل أن يعلق الذم بأن القادر لم يفعل ما وجب عليه، لأن من لم يرد الوديعة مع حصول شروط وجوبها يذمونه ويقولون أنه لم يرد الوديعة، فلولا أن كونه غير راد لها جهة يستحق بها الذم لما قالوا ذلك، كما لا يحسن أن يعلقوا الذم بوجه لا يستحق به ذلك من كونه عرضا وحالا في محل وغير ذلك. ويدل أيضا على ذلك أنا لو فرضنا أن القديم تعالى لم يفعل الواجب من الثواب والعوض واللطف لا يستحق به الذم، يتعالى عن ذلك.

ولا يجوز الترك عليه على ما مضى، فيجب أن يكون الاخلال بالواجب جهة يستحق بها الذم كفعل القبيح، لأن جهات استحقاق القبح لا تختلف باختلاف الفاعلين على ما يقوله المجبرة من نسبتهم القبائح إلى الله تعالى مع نفيهم عنه استحقاق الذم، ومتى لم يراعى هذا الأصل أدى إلى الفساد.

وأما العقاب فيستحق بما يستحق به الذم من فعل القبيح والاخلال بالواجب بشرط أن يكون فاعل القبيح أو المخل بالواجب اختاره على ما فيه منفعته ومصلحته من فعل الواجب أو الاخلال بالقبيح. واعتبرنا هذا الشرط لئلا يلزم أن يستحق القديم تعالى العقاب إن فرضناه فاعلا للقبيح أو مخلا بالواجب، يتعالى الله عن ذلك.

ومن شرط من يستحق منه العقاب أن يكون عالما بقبح القبيح ووجوب الواجب أو متمكنا من العلم بذلك، لأن مع كل واحد من الأمرين يمكنه التحرز منه، والعقل لا يدل عندنا على استحقاق العقاب وإنما نعلم ذلك سمعا، وأجمع المسلمون على أن القبيح يستحق به العقاب وإن اختلفوا في دوامه وانقطاعه.

وقال أكثر أهل العدل أن العقل دال على استحقاق فاعل القبيح والاخلال بالواجب العقاب، قالوا: لأن الله تعالى أوجب علينا الواجبات على وجه يشق علينا مع إمكان تعديه من المشقة وغرضنا للمشقة للثواب العظيم، ومجرد النفع لا يحسن له إيجاب الفعل وإنما يؤثر في إيجابه حصول الضرر في الاخلال به فيجب من ذلك أن يكون فاعلا لقبيح، والاخلال بالواجب مستحقا لضرر عليه وهو العقاب.

وإنما قلنا أن مجرد النفع لا يكفي في إيجاب الفعل، لأن النوافل لا يحسن إيجابها وإن كان في فعلها ثواب لأنه لم يكن في الاخلال بها ضرر، وكذلك المكاسب والتجارات لا يحسن إيجابها لمجرد النفع ويحسن ذلك إذا كان في تركها ضرر.

وهذا ليس بجيد، لأن لقائل أن يقول: إنه يكفي في حسن الايجاب وجه وجوب الأفعال، لأنه تعالى بالايجاب فعلمنا وجوب الأفعال علينا وإنما يجب علينا لوجه وجوبها، فالإيجاب إنما حسن لهذه الوجوه بأعيانها، فأما جعل الفعل شاقا فبإزائه الثواب والايجاب إنما حسن لوجه الوجوب.

والنوافل إنما لم يحسن إيجابها لأنه ليس لها وجه وجوب كما أن للواجبات وجه وجوب معقول يجب لأجلها، نحو كونها ردا للوديعة وقضاء الدين وما أشبه ذلك.

والتجارات مثل النوافل لا وجه لوجوبها فلذلك لم يحسن إيجابها. والواحد منا وإن أوجب على غيره ما ليس له وجه وجوب نحو أن يهدده بالقتل إن لم يدفع ماله إليه، فيجب عليه الدفع وإن لم يكن له وجه وجوب إنما كان كذلك لأنه لم تثبت حكمته، والحكيم تعالى لا يحسن منه إيجاب ما ليس له وجه وجوب، فبان الفرق بينهما.

فإن قيل: لو لم يستحق العقاب لكان مغرى بالقبيح مع حصول شهوته، وإنما ينزجر لمكان العقاب، والذم لا ينزجر به العقلاء حتى يتركوا له المشتهيات العاجلة.

قلنا: يخرج من الاغراء بتجويزه استحقاق العقاب على فعل القبيح والاخلال بالواجب دون القطع عليه، كما يخرج بالتجويز عن الاغراء في زمان مهلة النظر، لأنه لا طريق له هناك إلى القطع على استحقاق العقاب.

وقيل أيضا إنه يخرج عن الاغراء بفوت المنافع إذا فعل القبيح، لأنه يعلم أنه يفوته الثواب بفعل القبيح والاخلال بالواجب، وفوت المنافع يجري مجرى حصول المضار في باب الزجر.

والمستحق للعقاب هو الله تعالى دون العباد، لإجماع الأمة على أن الله تعالى هو المستحق، مع إنا بينا أن نفس استحقاق العقاب لا يعلم عقلا وكيف يعلم من المستحق له، ولو استحق بعضنا على بعض العقاب لكان ذلك عاما في العقلاء وكان يجب أن يستحق عقاب فاعل القبيح جميع العقلاء وكل من يمكن خلقه حتى لا يستقر على قدر.

وليس لأحد أن يقول يختص الاستحقاق بالمساء إليه، وذلك أن العقاب إنما يستحق لكونه قبيحا كما يستحق الذم لذلك، وإذا كان استحقاق الذم شائعا وجب أن يكون استحقاق العقاب شائعا، وقد بينا فساده.

على أن العقاب يستحق بما ليس باساءة من القبائح كالجهل والعبث والكذب وغير ذلك، فلا يمكن في ذلك الاختصاص. واعتماد المخالف في ذلك على أن ولي الدم يستحق القود وهو عقاب، باطل لأن طريق ذلك الشرع، واستيفاء الولي لذلك بمنزلة استيفاء الإمام وإن لم يكن الإمام مستحقا لعقابه بلا خلاف. ثم كيف يستحق الولي العقاب والجناية إلى غيره، وإسقاط ولي الدم حقه من القود لا يدل على أنه حقه لأن طريق ذلك أيضا السمع.

وإذا بينا أن استحقاق العقاب لا يعلم عقلا فما لا يعلم دوامه عقلا أولى وأحرى لأن الدوام كيفية، وإذا كان نفس الاستحقاق لا يعلم فكيفيته أولى بذلك.

ومتى حملوا العقاب على الذم في دوامه فالكلام عليه مثل الكلام على دوام الثواب حين حملوه على استحقاق المدح سواء، وقد تكلمنا عليه فالطريقة واحدة.

ومتى قالوا لو جاز انقطاع العقاب للحق المعاقب راحة إذا تصور ذلك، ومثل ذلك قالوا في الثواب أنه يتبعض على المثاب إذا تصور انقطاعه، وإنا نتكلم عليه عند الكلام في الاحباط إنشاء الله.

 

 

· المعاصي على ضربين كفر وغير كفر فالكفر يستحق به العقاب الدائم وما ليس بكفر ليس على دوامه دليل

· لا تحابط عندنا بين الطاعة والمعصية ولا بين المستحق عليها من ثواب وعقاب

· متى ثبت استحقاق الثواب فإنه لا يزيله شيء من الأشياء

· العقاب إذا ثبت استحقاقه فلا يزيله شيء من الأشياء إلا التفضل

والمعاصي على ضربين كفر وغير كفر، فالكفر يستحق به العقاب الدائم إجماعا لا خلاف بين الأمة فيه، وما ليس بكفر ليس على دوامه دليل بل دل الدليل على انقطاعه على ما سنبينه إنشاء الله.

ولا تحابط عندنا بين الطاعة والمعصية ولا بين المستحق عليها من ثواب وعقاب، ومتى ثبت استحقاق الثواب فإنه لا يزيله شيء من الأشياء، والعقاب إذا ثبت استحقاقه فلا يزيله شيء من الأشياء عندنا إلا التفضل.

ومن خالفنا يقول الثواب يزول بالندم على الطاعة والعقاب كثيرة يوفي على الثواب. والعقاب يزول بالتفضل وبالندم الذي هو التوبة، وتكثر الطاعة إذا زاد ثوابها على العقاب الحاصل.

والذي يدل على بطلان التحابط أنه لا تنافي بين الطاعة والمعصية ولا بين المستحق عليهما من الثواب والعقاب ولا ما يجري مجراه التنافي، والشئ ينافي غيره لتضاد بينهما أو ما يجري مجرى التضاد. وإنما قلنا لا تضاد بين الطاعة والمعصية لأنهما قد ثبت أنهما من جنس واحد، بل نفس ما يقع طاعة كان يجوز أن يقع معصية.

ألا ترى أن قعود الإنسان في دار غيره غصبا معصية، وهو من جنس قعوده فيها بإذنه، وهو جنس مباح، وهما من جنس واحد. وكذلك لا تضاد بين المستحق عليهما لمثل ذلك بعينه، لأن الثواب من جنس العقاب، بل نفس ما يقع ثوابا كان يجوز أن يقع عقابا، لأن الثواب هو النفع الواقع على بعض الوجوه، ولا شئ يقع نفعا إلا وكان يجوز أن يقع ضررا وعقابا، بأن يصادف نفارا. ولو كان بينهما تضاد على تسليمه لما تنافى الثواب والعقاب وهما معدومان، لأن الضد الحقيقي لا ينافي ضده في حال عدمه، لأن السواد والبياض قد يجتمعان في العدم.

والتحابط عندهم بين المستحقين من الثواب والعقاب، وهما لا يكونان إلا وهما معدومان، لأنهما إذا وجدا خرجا عن كونهما مستحقين. وإن شئت قلت: قد ثبت استحقاق الثواب على الطاعة، فلا وجه يقتضي إزالته، فيجب أن يكون ثابتا على ما كان، فإن ادعوا أن بينهما تنافيا تكلمنا عليه فيما بعد. وأيضا فالقول بالاحباط يؤدي إلى من جمع بين الاحسان والإساءة أن يكون عند العقلاء بمنزلة من لم يحسن ولم يسئ إذا تساوى المستحقان من المدح والذم أو يكون بمنزلة من لم يحسن إذا كان المستحق علي الإساءة أكثر أو بمنزلة من لم يسئ إن كان المستحق على الطاعة أكثر، والمعلوم خلافه.

وقولهم (إن من شأن الثواب أن يقارنه تعظيم وإجلال ومن شأن العقاب أن يقارنه استخفاف وإهانة، ومعلوم ضرورة استحالة تعظيم أحدنا لغيره مع استحقاقه به في حالة واحدة إذا كان الذام والمادح واحدا والمذموم والممدوح واحدا والوقت واحدا، وإذا تعذر فعله تعذر استحقاقه لأن الاستحقاق تابع لصحة الفعل) باطل، لأنا نخالف في استحالة ذلك، فلا يمكن ادعاء الضرورة فيه.

وإن ادعوا أنه معلوم بدليل فينبغي أن يذكروه. ثم لا يخلو ما ادعوا تنافيه من المدح والذم والتعظيم والاستحقاق أن يريدوا ما يرجع إلى اللسان أو ما يعتقد بالقلب، فإن كان الأول فمعلوم أنه جائز، لأنه لا يمتنع أن يمدح أحدنا غيره بلسانه على فعل ويذمه على فعل آخر بما يكتب بيده، ولو خلق له لسانان لتأتي أن يمدح بأحدهما ويذم بالآخر.

فعلم أنه متى تعذر فلفقد آلة الكلام، ولذلك لا يصح أن يمدح زيدا أو يذم عمرا في حالة واحدة وإن جاز اجتماع ذلك في الاستحقاق لما قلناه من فقد الآلة. وإن أرادوا ما يرجع إلى القلب ففيه الخلاف.

والمعلوم عندنا خلافه، لأنا نجد من نفوسنا صحة اجتماع اعتقاد المدح على فعل مع استحقاقه الذم على فعل آخر ولا تعذر في ذلك. اللهم إلا أن يريدوا أنه لا يصح اجتماع الاستحقاقين على فعل واحد بوجه واحد، فيكون ذلك صحيحا لكنا لا نقول ذلك.

وكل ما يسأل على هذا ويفرع عليه فقد استوفيناه في شرح الجمل، وهو مستقصى أيضا في مسألة الوعيد للمرتضى رحمة الله عليه.

واعتمادهم أيضا على أن من حق الثواب والعقاب أن يكونا صافيين من كل شوب فلو استحقا في حالة واحدة وفعلا في حالة واحدة خرجا عن الصفة اللازمة لهما وإن فعلا على البدل فمثل ذلك، لأن أيهما قدم على الآخر فالمفعول به منتظر لوقوع الآخر، وذلك يوجب نفي الخلوص ويقتضي الشوب، لأنه إن كان في عقاب وعلم انقطاعه استراح إلى ذلك، وإن كان في ثواب وتصور انقطاعه تنغص عليه، وإذا امتنع فعلهما امتنع استحقاقهما أيضا. باطل، لأن أول ما نقوله إنا لا نعلم بالعقل أن من شرط الثواب أو العقاب أن يكون خالصا صافيا، وإنما علمنا ذلك بالسمع، وقد علمنا بالاجماع أنه لا يمتزج الثواب والعقاب، وعلمنا بالاجماع أن الثواب لا يتعقبه عقاب.

فأما العقاب فلا دلالة على أنه لا يتلوه ثواب إلا في الكفار، فإنهم أجمعوا على أنه لا يتلو عقابهم ثواب، وأما فساق أهل الصلاة فليس على ذلك دلالة.

ثم ليس الأمر على ما قالوه من أنه إذا تلا العقاب الثواب أن تلحقه راحة لأنه يجوز أن يلهيه الله عن ذلك ويشغله عن الفكر فيه، لأن ما هو فيه من أليم العقاب وعظيم موقعه يشغل بعضه عن الفكر في العاقبة، ولو علم انقطاعه لما اعتد بذلك مع ما فيه من أنواع العقاب، وجرى ذلك مجرى ما يقوله من أن أهل النار يعرفون الله ضرورة ويسقط عنهم مشاق النظر لكن لا يعتد به، وكذلك يعلمون أولادهم وأعزاهم في الثواب وحصول أعدائهم في النار ومع ذلك لا يعتد بسرورهم في ذلك.

وكل شيء يقولون في ذلك فهو قولنا فيما قالوه بعينه. وقولهم (ما استحال فعله استحال استحقاقه) إن أرادوا استحال استحقاقه على الوجه الذي يستحيل فعله كان صحيحا، وإنما يستحيل فعل الثواب والعقاب على وجه الجمع، ونحن لا نقول ذلك ولا يستحقان كذلك. وإن أرادوا أن ما يصح فعله على البدل يستحيل استحقاقه على الجمع. فباطل، لأنه لا يصح أن يكون القادر قادرا على الضدين وإن كان يستحيل فعلهما على الجمع وإنما يصح فعل كل واحد منهما بدلا من صاحبه.

وليس لهم أن يقولوا: كيف يكون معاقبا في حال هو فيها يستحق الثواب. لأن ذلك ليس بأبعد من أن يكون مستحقا للثواب في حال هو فيها مكلف وميت وتراب وفي القبر وإلى أن يحييه الله، لأن الثواب يستحق عقيب الطاعة وإن تأخر إلى زمان الفعل بأوقات كثيرة.

وقولهم (معلوم ضرورة قبح الذم على الإساءة الصغيرة نحو كسر قلم لمن له إحسان عظيم وإنعام جليل نحو تخليص النفس من الهلاك والإغناء بعد الفقر والإعزاز بعد الذل، ولم يقبح ذلك إلا لبطلانها في جنب ذلك الاحسان، بدلالة أنها لو انفردت عنه لحسن ذمه على كسر القلم، وإذا ثبت ذلك في المدح والذم ثبت مثله في الثواب والعقاب). غير مسلم، لأن عندنا يجوز أن يذم بالإساءة الصغيرة وإن استحق المدح بالاحسان الكثير.

ألا ترى أنه لو ندم هذا المسيء بالإساءة الصغيرة على إحسانه الكثير لحسن ذمه على الإساءة الصغيرة فلو كان الحبط لما حسن ذلك، لأن ما انحبط لا يرجع عند المخالف.

وإذا قالوا (معلوم ضرورة أن حال هذا المسيء منفردا من الاحسان بخلاف حاله إذا قارنه الاحسان العظيم).

قلنا: ذلك صحيح، لأنه إذا انفرد بالإساءة استحق الذم لا غير وإذا جمع بينهما استحق المدح والذم، فافترق الحالتان.

على أنه يحسن ممن أحسن إليه بعض الناس وأساء إليه بالإساءة، لا يظهر مزية إحداهما على الأخرى أن يمدحه على إحداهما ويذمه على الأخرى، بأن يقول أحسنت إلي بكذا وكذا ويمدحه ويشكره ثم يقول لكنك أسأت إلي بكذا وكذا ويعنفه ويبكته. وذلك يدل على اجتماع الاستحقاقين.

وإذا اجتمعا في بعض المواضع علم فساد القول بالاحباط وحمل عليه المواضع المشتبهة. على أنا نعلم أنه يحسن فعل الثواب عقيب الطاعة، ولا يدل ذلك على سقوطه.

ومتى قالوا أن ذلك لا يحسن لما قلنا، وكذلك كثير استحقاق المدح مانع من نفي استيفاء القليل من الذم وإن لم يسقط.

وكذلك نعلم أن من كان له على غيره مائة ألف دينار وله عليه ربع شعير يحسن منه أن يطالبه بالربع من الشعير مع كون المال العظيم عليه ولا أحد يقول إن ذلك يسقط.

ألا ترى أنه لو وفاه ماله حسن منه أن يطالب بالربع من الشعير فعلم أنه ثابت. وكذلك لو كافأه هذا المحسن على إحسانه وقام بشكره حق القيام حسن أن يذمه على كسر قلمه، فدل على أنه لم يسقط.

وتعلقهم بالظواهر نحو قوله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات} وقوله {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} وقوله {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إلى قوله {أن تحبط أعمالكم} وقوله {لئن أشركت ليحبطن عملك} لا يصح لأن الظواهر يجب أن تبنى على أدلة العقول، وقد بينا بطلان التحابط.

فلو كان لهذه الآيات ظواهر لوجب حملها على ما يطابق ذلك، وكيف ولا ظاهر لشيء منها بل هي شاهدة لمذهبنا، لأن الاحباط والبطلان في جميعها يتعلق بالأعمال دون المستحق عليها، والمخالف يقول التحابط بين المستحق عليها. ونحن يمكننا حملها على ظاهرها، لأن معنى قوله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات} إن من استكثر من فعل الحسنات دعاه ذلك إلى الامتناع من القبائح وكانت لطفا له، وهذا يوافق الظاهر لا يحتاج معه إلى تقدير الحرى فيه.

وأما باقي الآيات فالوجه فيها أن نقول: إبطال العمل وإحباطه عبارة عن إيقاعه على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب، ألا ترى أن أحدنا لو ضمن لغيره عوضا على نقل شيء من موضع إلى موضع بعينه فنقله إلى موضع غيره فإنه لا يستحق الأجرة وجاز أن يقال: أحبطت عملك وأبطلته لأنك أوقعته على خلاف الوجه المأمور به به ولم توقعه على الوجه الذي تستحق عليه الأجرة.

وليس أحد يقول أنه يستحق أجرة فأبطلها، بل المراد ما ذكرناه. ولما كانت الصدقة متى قصد بها وجه الله تعالى استحق بها الثواب، ومتى فعلها لوجه المن والأذى لم يستحق جاز أن يقال إنه أبطلها، وكذلك من رفع صوته إجابة للنبي عليه السلام ومسارعة إلى إجابته استحق به الثواب ومتى رفعه استخفافا به وعصيانا منه جاز أن يقال إنك أبطلته، وكذلك من عبد الله مخلصا استحق الثواب فمتى أضاف إلى ذلك عبادة غيره جاز أن يقال أبطلت عملك.

فبان بجميع ذلك أنه لا متعلق للقوم في الآيات في صحة التحابط والعقاب متى استحق، فإنه يحسن التفضل بإسقاط من غير توبة. يدل على ذلك أنه قد ثبت بأوائل العقول حسن الاحسان وإيصال المنافع إلى الغير، ومن أحسن الاحسان إسقاط المضار المستحقة، بل ربما كان إسقاط المضمرة أعظم من إيصال المنفعة، فدافع حسن أحدهما كدافع الآخر.

وأيضا فقد ثبت أن العقاب حق لله تعالى إليه قبضه واستيفاؤه، لا يتعلق بإسقاطه إسقاط حق لغيره منفصل منه، فوجب أن يسقط [بإسقاطه كالدين فإنه يسقط] بإسقاط صاحبه لاختصاصه بهذه الأوصاف. وإنما قلنا (حق لله) لئلا يلزم حق عليه من الثواب والعوض.

وقلنا (إليه قبضه واستيفاؤه) لأن كل حق ليس لصاحبه قبضه ليس له إسقاطه كالطفل والمجنون لما لم يكن لهما استيفاؤه لم يكن لهما إسقاطه، والواحد منا لم يكن له استيفاء ثوابه وعوضه في الآخرة لم يسقطا بإسقاطه، فعلم بذلك أن الاسقاط تابع للاستيفاء، فمن لم يملك أحدهما لم يملك الآخر.

وقلنا (لا يتعلق بإسقاطه إسقاط حق لغيره منفصل عنه) احترازا من سقوط الدم المستحق على القبيح لقبحه بإسقاطنا، لأن هذا الذم تابع للعقاب، فلا يجوز زواله مع ثبوت العقاب، فلو سقط بإسقاطنا لسقط العقاب [وهو حق لغيرنا. وراعينا الانفصال لأن الذم يسقط بإسقاط العقاب] لأنه تابع له، فهو كالحقوق المتعلقة بالدين من الأجل والخيار وغيرهما عند سقوط الدين، ولا يسقط العقاب بإسقاط الذم، لأن العقاب ليس بتابع للذم.

على أن الذم ليس بحق خالص لنا، بل هو حق علينا، لما فيه من المصلحة في الدين ونحن متعبدون به، ولأنه يردع المفعول به عن القبيح فكأنه حق له فلم يخلص كونه حقا لنا.

فإن اختصرت ذلك فقلت العقاب حق لله إليه قبضه واستيفاؤه يتعلق باستيفائه ضرر فوجب أن يسقط بإسقاطه كالدين، ولا يلزم على ذلك الثواب والعوض والمدح والشكر، لأنه لا ضرر في جميع ذلك باستيفائه. ولا يلزم الذم لأنه ليس بضرر حقيقي، ولأنه حق للفاعل والمفعول به على ما مضى بيانه.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون فيه وجه من وجوه القبح، فلا يحسن بإسقاطه؟ قلنا: وجوه القبح معقولة، أما الظلم أو الكذب أو العبث أو المفسدة أو الاغراء بالقبيح، وكل ذلك منتف ههنا، فوجب أن يكون حسنا.

وإنما قلنا (ليس بمفسدة ولا إغراء بالقبيح) لأن العفو إنما يقع في الآخرة ولا تكليف هناك ولا مفسدة فيه.

وليس لأحد أن يقول: في الأطماع به إغراء. وذلك أن هذا باطل، لأن في المكلفين من إذا ارتفع طمعه في العفو كان أقرب إلى ارتكاب القبائح وفيهم من يكون بخلافه، فالأحوال مختلفة.

ومتى قالوا: إنه متى طمع خرج من كونه مزجورا. قيل: هذا لا يجوز، لأن الزجر حاصل بتجويز عقابه، وكيف لا يكون مزجورا. ولو أخرجه ذلك عن كونه مزجورا لكان في زمان مهلة النظر وتجويزه أن لا يستحق العقاب أصلا مغرى بالقبائح ولا يكون مزجورا والمعلوم خلافه، ويلزم أن يكون غير مزجور إذا طمع في العفو بالتوبة، وكل ذلك باطل.

 

 

· العقاب يسقط بالعفو

· التوبة تسقط العقاب تفضلا من الله تعالى

فإذا ثبت أن العقاب يسقط بالعفو فالعفو أن يقول: أسقطت عقاب زيد وسمحت بعقابه. فيسقط ويقبح مؤاخذته بعد ذلك ويجري مجرى المطالبة بالدين بعد الابراء والاسقاط.

وأما التوبة فإنها تسقط العقاب عندها تفضلا من الله تعالى، وأجمع المسلمون على سقوط العقاب عند التوبة، ولولا السمع لما علمنا ذلك، [وإنما نعلم بالعقاب أن التوبة يستحق بها الثواب لأنها طاعة والطاعة يستحق بها الثواب].

وإنما قلنا أنها لا تسقط العقاب عقلا أنها لو أسقطت لم يخلو أن يسقط بكثرة المستحق عليها من الثواب أو لوجه آخر، فإن كان الأول فقد أفسدناه من حيث أفسدنا القول بالاحباط، وإن كان إسقاطها من حيث كانت بدلا للجهود -على ما يقولونه- فما الدليل على ذلك، لأنا لا نسلم.

ومتى حملوا التوبة على الاعتذار وأن الاعتذار يقبح معه المؤاخذة فنحن نخالف في الاعتذار كما نخالف في التوبة.

ومتى قيل: لو لم يسقط العقاب لقبح تكليف الفاسق المستحق للعقاب، لأن التكليف إنما يحسن تعريضا.

والفاسق مع استحقاقه للعقاب لا يجوز أن يستحق الثواب، فيجب له أن يكون له طريق إلى إسقاط عقابه لينتفع بالثواب الذي عرض له، فليس ذلك إلا التوبة. وإذا فعلها اجتمع له استحقاقان معا، والعقل غير مانع منه، وقد بيناه فيما مضى.

ولو صح لكم أنهما لا يجتمعان لصح ما قلتم، ولو صح لكم في التوبة فلا ينبغي أن يبنى الشئ على نفسه.

ولو سلمنا أنه لا بد أن يكون له طريق إلى الانتفاع بما كلف فعله فقد فعل الله له ذلك، بأن بين بالسمع أنه يعفو عند التوبة، فمن أين أن ذلك بحكم العقل.

ولو خلينا والعقل لما أوجبنا التوبة ولكن لما أجمعت الأمة على وجوب التوبة قلنا بوجوبها وعلمنا أن لنا فيها مصلحة ولطفا، ولولا السمع لما علمناه. فإذا ثبت أن بالسمع يعلم زوال العقاب عند التوبة فيجب أن نقول التوبة التي يسقط العقاب بها ما أجمعت الأمة على سقوط العقاب عندها دون المختلف فيه، والذي أجمعت عليه هو أنه إذا ندم على القبيح لكونه قبيحا وعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح فإنه لا خلاف بين الأمة أن هذه التوبة يسقط العقاب عندها. وأما غيرها ففيه خلاف، لأن التوبة من القبيح لوجه القبح أو عظم المستحق عليه فيه خلاف بين الأمة، والخلاف في ذلك فرع على وجوب سقوط العقاب عندها عقلا، وقد بينا ما في ذلك.

 

 

· من جمع بين الإيمان والفسق فإنا لا نقطع على عقابه بل يجوز العفو عنه وأن يسقط الله عقابه تفضلا

· في الشفاعة

فأما من جمع بين الإيمان والفسق فإنا لا نقطع على عقابه بل يجوز العفو عنه وأن يسقط الله عقابه تفضلا.

وإنما قلنا ذلك لأنا دللنا على حسن العفو عنه من حيث عدمنا الدليل المانع منه، وليس في السمع ما يمنع أيضا منه، لأنا سبرنا أدلة السمع أيضا فلم نجد فيها ما يمنع منه، فيجب أن يكون التجويز باقيا على ما علمناه بالعقل، ولا يلزم على ذلك الشك في عقاب الكفار، لأن السمع منع منه.

والمسلمون أجمعوا على أن الكفار معاقبون لا محالة، ومعلوم ذلك من دينه عليه السلام، فلذلك قلنا به.

وأيضا فلا خلاف بين الأمة أن للنبي عليه السلام شفاعة وأنه يشفع، والشفاعة حقيقتها في إسقاط المضار المستحقة، فوجب من ذلك القطع على جواز العفو عن مستحق العقاب من أهل الضلالة، بل على وقوع ذلك بجماعة غير معينين من حيث علمنا وقوع شفاعته وأنها حقيقة في إسقاط المضار دون زيادة المنافع.

والذي يدل على حقيقتها ما قلناه أنها لو كانت حقيقة في زيادة المنافع لكان الواحد منا إذا سأل الله تعالى أن يزيد في كمالات النبي عليه السلام ورفع درجاته أن يكون شافعا فيه، وأحد من المسلمين لا يطلق ذلك لا لفظا ولا معنى.

وليس لأحد أن يقول: إنما لم يطلق ذلك لأن الشفاعة يراعى فيها الرتبة كما يراعى في الأمر والنهي، وذلك أن الخطاب على ضربين: أحدهما يعتبر فيه الرتبة، والآخر لا يعتبر فيه الرتبة. فما يعتبر فيه الرتبة يعتبر بين المخاطب والمخاطب دون ما يتعلق به الخطاب، لأن الواحد منا يقول لغلامه الق الأمير والق الحارس ويكون أمرا في الحالين، وإن كان من يتعلق به الأمر أحدهما عال الرتبة والآخر دني الرتبة، وكذلك لو اعتبر في الشفاعة الرتبة لوجب اعتبارها بين السائل والمسؤول دون من تناوله الشفاعة.

وليس لهم أيضا أن يقولوا: إنما لم يطلق ذلك لأنا لا نعلم أن سؤالنا فيه مجاب على كل حال. وذلك أن هذا باطل بقولهم (شفاعة مقبولة) و (شفاعة مردودة)، [فيسمونها شفاعة سواء قبلت أو ردت. وأيضا وكل خطاب يعتبر فيه الرتبة] لا يدخل بين الإنسان وبين نفسه كالأمر والنهي، ويصح أن يكون الإنسان شافعا لنفسه كما قال الشاعر: (فهل لأنفس ليلى شفيعها) وإنما يدخل بين الإنسان وبين نفسه ما لا يعتبر فيه الرتبة أصلا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله حين قال لبريرة: تصالحي زوجك وارجعي إليه. فقالت له: أتأمرني يا رسول الله. فقال: لا وإنما أنا شافع. فبين أنه شافع إلى بريرة وإن كانت دونه، فدل على أن الشفاعة لا يعتبر فيها الرتبة أصلا.

وأما تناولها لإسقاط المضار فلا خلاف أنها حقيقة في ذلك، ولو سلمنا أنها حقيقة في الأمرين فخصصناهما بإسقاط الضرر بقوله: "أدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". وفي خبر آخر: "أعددت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".

وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول، فلا يمكن أن يقال أنه خبر واحد. وليس لهم أن يحملوا الخبر على زيادة المنافع لمن تاب لأمرين: أحدهما أنا بينا أن حقيقة الشفاعة في إسقاط المضار، الثاني أنه لا يخلو أن يشفع فيهم بعد التوبة، فلا يمكنهم الانتفاع بالمنافع مع أنهم في النار.

وإن كان بعد التوبة فلا يسمون أهل الكبائر كما لا يسمى من تاب من كفره كافرا، فعلم أن المراد ما قلناه في إسقاط الضرر.

ولا يعارض ذلك قوله تعالى {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} وقوله {وما للظالمين من أنصار} وقوله {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقوله {ولا تقبل لهم شفاعة} من وجوه: أحدها أن العموم لا صيغة له على مذهب كثير من أصحابنا، فمن أين أنه أراد العموم دون الخصوص، والكلام في ذلك مذكور في مواضع كثيرة لا نطول بذكره ههنا.

فعلى هذا تكون الآيات مختصة بالكفار، وقد سمى الله تعالى الشرك ظلما في قوله {إن الشرك لظلم عظيم}. على أنه نفى في الآية الأولى شفيعا مطاعا، ونحن لا نقول ذلك ولم ينف شفيعا مجازا. ولا يمكن الوقف على قوله {ولا شفيع يطاع}، لأن ذلك خلاف جميع القراء.

ثم لا يمكن البدأة بقوله (يطاع) لأن الفعل لا يدخل على الفعل بعده قوله (يعلم)، وإن قدر يطاع الذي يعلم كان ذلك تركا للظاهر، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى تقدير.

والآية الثانية إنما نفي فيها أن يكون للظالمين أنصار، والنصرة غير الشفاعة، لأن النصرة هي الدفع عن الغير على وجه الغلبة، والشفاعة هي مسألة يقترن بها خضوع وخشوع.

وقوله {لا يشفعون إلا لمن ارتضى} فمعناه ارتضى أن يشفع فيه، ونظيره قوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقوله {لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}، وليس هذا تركا للظاهر، لأن المرتضى محذوف بلا خلاف، فهم يقدرون إلا لمن ارتضى أفعاله ونحن نقدر إلا لمن ارتضى أن يشفع فيه، واستوى التقديران وسقطت المعارضة بها.

على أن الفاسق الملي يجوز أن يكون مرتضى، بمعنى ارتضى إيمانه وكثير من طاعاته، كما يقول (هذا البناء مرتضى عندي) يريدون في البناء دون غيره من أفعاله.

وقوله {ولا تنفعها شفاعة} متروك الظاهر، لأن عند الجميع ههنا شفاعة نافعة مقبولة، فإن منعوا من نفعها في إسقاط الضرر منعنا نفعها في زيادة المنافع. أو نقول: لا تقبل الشفاعة ولا تنفع الشفاعة للنفس الكافرة. فأما حسن رغبتنا في أن يجعلنا الله تعالى من أهل شفاعة النبي عليه السلام فهو كرغبتنا في أن يجعلنا من التوابين والمستغفرين، فكما لا تكون الرغبة في التوبة والاستغفار رغبة في فعل الكبائر [فكذلك الرغبة في الشفاعة لا تكون رغبة في الكبائر]، ولا فرق بينهما.

والوجه في الأمرين هو الرغبة في الشفاعة والتوبة. والاستغفار إن اتفق منا أو وقع ما يحتاج معه إلى التوبة والشفاعة فذلك جائز مشروط.

ومتى قالوا: السمع منع من جواز العفو في آي كثيرة من القرآن نحو قوله تعالى {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها} وقوله {ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا} و {من يعمل سوءا يجز به} و {إن الفجار لفي جحيم} وما أشبه ذلك من الآيات.

قلنا: لنا في ذلك ثلاثة أوجه من الكلام:

(أحدها) أن نبين أن العموم لا صيغة له، بل الظاهر أنه يحتمل الخصوص والعموم، فإذا احتمل ذلك جاز أن يراد بها الكفار دون فساق أهل الصلاة، والكلام في ذلك ذكرناه في شرح الجمل وغير ذلك لا نطول بذكره ههنا.

(والثاني) أن يعارض هذه الآيات بآيات مثلها تتضمن القطع على الغفران، كقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقوله {إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} وقوله {إن الله يغفر الذنوب جميعا} وغير ذلك.

(وثالثها) أن نبين أن الآيات متروكة الظاهر وانهم شرطوا فيها كبير المعصية وعدم التوبة، فإذا شرطوا هذين الشرطين شرطنا شرطا ثالثا، وهو من لا يعفو عنه ابتداءا أو بالشفاعة ويسلم باقي عمومها.

ووجه المعارضة بقوله {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أنه تعالى لم ينف غفران الشرك على كل حال، بل نفى أن يغفره تفضلا، فكأنه قال لا يغفر أن يشرك به تفضلا بل استحقاقا، فيجب أن يكون المراد بقوله {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أي يغفره بغير استحقاق بل تفضلا، لأن موقع الكلام الذي يدخله النفي والاثبات وينظم إليه التعظيم والدون أن يخالف الثاني الأول.

ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول القائل (أنا لا أركب إلى الأمير إلا إذا ركب إلي وأركب إلى من هو دونه وإن لم يركب إلي) وكذلك إذا قال (لا أتفضل بالكثير من مالي وأعطي اليسير إذا استحق علي) وإنما يحسن أن يقول (وأعطي اليسير تفضلا من غير استحقاق).

على أن قوله {ويغفر ما دون ذلك} يقتضي عمومه أنه يغفر كل ما دون الشرك صغيرا كان أو كبيرا تاب منه أو لم يتب، لأن عموم ما يقتضي ذلك على مدعاهم وليس لهم أن يخصوا عموم هذه الآية لتسلم عموم آياتهم، لأنا نعكس ذلك فنخص عموم آيات الوعيد بالكفار لتسلم آيات العفو.

والشبهة إنما دخلت في الآية في أعيان المغفور لهم دون الغفران، وإنما كانت تكون في الغفران لو قال يغفر ما دون ذلك إن شاء، والأمر بخلافه. ونحن لا نقطع على أنه يغفر لكل أحد بل ذلك متعلق بمشيئته.

على أنه تعالى علق الغفران في الآية بالمشيئة، وظاهر ذلك أنه تفضلا، لأن الواجب لا يتعلق بالمشيئة، لأنه لا يجوز أن يقول القائل: أنا أرد الوديعة إن شئت. ويجوز أن يقول: أنا أتفضل إن شئت.

والآية الثانية الوجه فيها أنه تعالى أخبر أنه يغفر الذنوب على ظلمهم، ومعناه في حال كونهم ظالمين. ويجري ذلك مجرى قولهم: لقيت فلانا على أكله وأوده على عذره. ومتى شرطوا فيها التوبة كان ذلك تركا للظاهر.

والآية الثالثة تقتضي أنه يغفر جميع الذنوب إلا ما أخرجه الدليل من الكفر والتوبة ليس لها ذكر في الآية، فمن شرطها فقد ترك الظاهر.

وقوله {وأنيبوا إلى ربكم} كلام مستأنف لا يجب أن يشرط ذلك في الآية الأولى، لأن عطف المشروط على المطلق لا يقتضي أن يصير مشروطا.

وأما الطريقة الثالثة فهي أن يقال: إنما شرطتم التوبة وكبر المعصية، لأن التوبة تسقط العقاب وعظم الطاعة أيضا يسقط صغير المعصية، فما اقتضى هذين الشرطين اقتضى شرط العفو، وكلامنا مع من يحسن العفو عقلا فأما من منع منه وقال لا يحسن العفو عقلا فقد مضى الكلام عليه، وإذا كان العفو جائزا عقلا مسقطا للعقاب وجب أن يشرط أيضا كما شرطنا الشرطين الآخرين.

وليس لهم أن يقولوا: العقل يقتضي إسقاط العقاب بالتوبة وزيادة الثواب، وليس في العقل ما يدل على حصول العفو، وذلك أن العقل كما اقتضى سقوط العقاب بالثواب وزيادة الثواب كذلك يقتضي سقوطه عند العفو، كما يجوز أن يعفو مالك العقاب [يجوز أن لا يعفو، وكذلك يجوز أن يختار العاصي التوبة و] يجوز أن لا يختارها.

وكذلك القول في عظم الطاعة، فينبغي أن يقابل بين وقوع التوبة ووقوع العفو وبين الجواب في حصولها وحصول العفو، فإنهما سواء لا ترجيح لأحدهما على الآخر.

ومتى قالوا عموم آيات الوعيد يدل على أنه تعالى لا يختار العفو. قلنا: هلا منع ذلك من اختيار العاصي التوبة المسقط للعقاب أو عظيم الطاعة، لأنكم إنما تمنعون بالظاهر اختيار العفو ليسلم وقوع العقاب، وهذا بعينه قائم في التوبة وزيادة الثواب، فيبغي أن تقولوا الظواهر تمنع من وقوعها.

وقد فرغنا ما يسأل على ذلك في شرح الجمل، وفيما قلناه ههنا كفاية إنشاء الله. فإن قيل: القول بجواز العفو يؤدي إلى أن لا يقام حد لا في السرقة ولا في الزنا على وجه العقوبة.

وذلك ينافي قوله {جزاءا بما كسبا نكالا من الله} وقوله {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} فبين أنه عذاب ونكال، ولو كان عقابا لبطل ذلك. قلنا: لا يقطع أحد من السراق نكالا على وجه القطع والثبات، بل إنما يقطعه بشرط كونه مستحقا للعقاب، ومتى فرضنا العفو عنه قطعناه امتحانا ولا بد لكل أحد من ذلك، لأن شروط استحقاق العقاب ليست معلومة بالظاهر، لأنه يحتاج أن يكون السارق عاقلا والشبهة مرتفعة ولا أن يكون ثابتا فيما بينه وبين الله تعالى وأن يكون الشهود صادقين أو إقراره صحيحا، لأنه متى لم يحصل له ذلك أو بعضه فإنما يقطعه امتحانا وكذلك إذا فرضنا حصول العفو فإنما يقطعه امتحانا، ومتى فرضنا حصول جميع الشرائط وارتفاع العفو قطعناه عقوبة فلا بد من الشرط.

ولا يمكن القطع على إقامة الحد عقوبة على القطع والثبات إلا في الكفار وعلى ما بيناه من بطلان التحابط من كفره بعد إيمانه فإنه يدل على أن ما كان أظهره لم يكن إيمانا، لأنه لو كان إيمانا لاستحق عليه الثواب الدائم، وإذا كفر استحق على كفره العقاب الدائم بالاجماع وكان يجتمع الاستحقاقان، وذلك خلاف الإجماع.

فإذا علم بذلك أن ما أظهره لم يكن إيمانا ولا يمكن أن يقال لم لا يجوز أن يقال إنما أظهره من الكفر لم يكن كفرا ليسلم له الإيمان، لأن إظهار الإيمان ليس بإيمان بلا خلاف وإظهار الكفر اختيار كفر بلا خلاف. وفي أصحابنا من أجاز أن يكفر المؤمن كفرا لا يوافي به. وهذا ليس بصحيح لأن هذا يؤدي إلى تجويز أن يكون من الكفار المرتدين من يستحق نهاية التعظيم والتبجيل بما كان أظهره من الإيمان، وذلك خلاف الإجماع.

فإذا الصحيح أن المؤمن لا يكفر أصلا بل لا كفر يوافي به ولا بكفر لا يوافي به. فأما الكافر فإنه يجوز أن يؤمن، لأن الإيمان يسقط عقاب الكفر إجماعا سواء قلنا أنه دائم أو منقطع. ولا يحتاج أن يقسم بأن يقول: الكفر الذي يوافي به يستحق عليه العقاب الدائم المنقطع، لأن مع حصول الإجماع على سقوط عقابه بالإيمان والتوبة من الكفر لا يحتاج إلى ذلك.

فإذا ثبت فقوله {إن الذين آمنوا ثم كفروا} معناه إن الذين أظهروا الإيمان ثم كفروا. وجاز أن يسمى من أظهر الإيمان مؤمنا كما قال {فإن علمتموهن مؤمنات} يعني من أظهر الإيمان منهن، وقوله {فتحرير رقبة مؤمنة} يعني على الظاهر.

فعلى هذا من أظهر الكفر أو الفسق مختارا بلا تقية ولا أمر يحتمل التأويل قطعنا على كونه كافرا وفاسقا، وليس كذلك من أظهر الإيمان أو الطاعة، لأنه يجوز أن يكون في باطنه بخلافه.

وإذا ثبت ذلك فكل من كان مظهرا للكفر قطعنا على ثبوت عقابه وإن كان فاسقا مصرا قطعنا على ارتفاع التوبة عنه وجوزنا أن يكون الله تعالى أسقط عقابه تفضلا وإن لم نقطع به ونذمه عليه بشرط عدم العفو.

ومتى غاب عنا من قطعنا على عقابه وذمه من الكفار والفساق فإنا نذمه بشرط عدم التوبة وعدم العفو، ومن غاب من الفساق نذمه بشرط عدم التوبة وعدم العفو، ويشترط الأمرين في خبره. وليس ههنا من يقطع على ثبوت ثوابه بإظهار الإيمان والطاعة إلا من أدل دليل على عصمته وأمنا فعل القبيح والاخلال بالواجب من جهته.